الفصل الثانى

لئن عرفت أوروبا طاغور شاعرًا خياليًّا رائع المعاني، ناصع الألفاظ، طاهر النفس، عفيف الفؤاد، فحكم له أدباؤها بالتفوق والسبق وأنالوه جُعلًا من الأصفر الرنان، وأجلَّه ملوكها، فزانوا صدره بوسام، وشرَّفوا اسمه بلقب سام، فإن الهند عرفته من قبل تقيًّا ورعًا قِدِّيسًا، ومعلمًا وواعظًا إلهيًّا، ومغنيًا وخطيبًا روحيًّا، إذا تكلم أذاب قلوبهم بعذوبة صوته، وإذا خطب حرك نفوسهم بسحر بيانه، حتى إذا رتل قصيدته أشجاهم فأبكاهم، أو أطربهم فطار بألبابهم في سماء الخيال، فرفعوه عن مراتبهم وأنزلوه منزلة النبي الشاعر، وتخذتْه طائفة ملكًا غير متوَّج على القلوب والنفوس دون الرءوس. وقد علمت من أمره أنه إذا دخل الهيكل الكبير في كلكتة ليخطب ويرتل، ضاق المقام على رحبه بالحضور، وغصت طرقاته وأبوابه بالوفود. وهو موسيقار ماهر وأستاذ، بل حجة في فن الغناء. وإذا نظم القصيدة صنع لها اللحن، فأصبحت أنشودة وأغنية معًا. فإذا قلنا قصائده أردنا أغانيه، وإذا قرأناها فزنا بمعانيها وفاتتنا ألحانها. وهي إما دينية روحية تستنزل السماء إلى الأرض، ومنها المجموعة التي سماها غيتا نجلي أي «قرابين الأغاني»، أو دنيوية غرامية ترفع الأرض إلى السماء، ومنها أشعار «البستاني» هذه. وقد قال عن نفسه: إن الله أرادني شاعرًا مغنيًا، فهو كذلك يعبده ويسبحه طول حياته:

لقد آذَنَتْ شمسُك بالمغيب، واشتعل رأسك شيبًا؛ فحسبك غناءً وإنشادًا، بل آن لك أن تُصغيَ وتصيخ إلى «داعي الغد» فتقول: «لبيك».

الشاعر: هو ذا المساء، وهأنذا مصغٍ ومصيخٌ؛ أتريَّث طارقًا أفتح له. وهأنذا أرصد وأترقب، لعلَّ قلبين هائمين يلتقيان، فأزف إليهما آيَ التهنئة؛ أو لعل توءمين من العيون الساجية يتسولان نغمًا شجيًّا يحرك سكونهما ويترجم عنهما. ومن للقلوب وعواطفها، وللعيون وأسرارها، إذا أنا تبوأت من ساحل الحياة صخرةً صماء ولبثت شاخصًا إلى أكمة الموت وما وراءها؟

تلك غُرَّة جبين السماء تأفلُ وتتوارى، وذاك لَهَب النضد١ يخمد شيئًا فشيئًا على ضِفَّة النهر المتهادي؛ وهذه جوفةٌ من بنات آوى تصوب أصواتها وتُصَعِّدها في عرصة الدار المهجورة، على ضياء الهلال الضئيل. فإذا اتفق أن أخًا قرويًّا درج من كوخه، ومر هذا القبيل، ليُحدِّق في الليل، ويتفرَّس فيه، ثم أطرق مصغيًا إلى ثرثرة الظلام، فمن له بخِلٍّ يقف به فيهمس في أذنه بأسرار الحياة، إذا أنا اعتصمت بمنزلي وأوصدت أبوابي، حتى كأني أعالج قيود البشرية وسلاسل الإنسانية لأتملص منهما وأخلص نجيًّا؟

وما عليَّ إن نَصَلتْ لِمَّتي من خضابها، ومُسخت السوداءُ بيضاءَ؟ وما شأن فحمة صارت رمادًا؟ وها أنا اليوم فتًى وكهل معًا، أصحب الصبية والشيوخ على حدٍّ سوًى.

وهنالك ثغور لا تغيب عنها البسمات؛ وعيونٌ لا يكاد يُبرق لها طَرْف. وهنالك دموع تترقرق في عين الشمس، وعبرات تبلل أجنحة الظلام. فالمسعَدون الضاحكون، والتاعسون الباكون، كلهم له فيَّ مرامٌ أو إليَّ حاجة. وعز عليَّ وقت أقضيه، أو أقتله وأقضي عليه، بالنظر إلى الموت، أو إلى ما وراء الحياة.

وإذ إنني عشت الطفولة، والشباب، والكهولة جميعًا فهبني مسانًّا لكل ناعم الظفر، ولكل محدودب الظهر! وما عليَّ أن «وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا».

هوامش

(١) النَّضد، من «نضَّد المتاع أي بالغ في ترتيبه وحسن رصفه» كلمة استُعيرت للوقود أو الحطب يرصف وتوضع عليه الجثة لتحرق، وأول عهدي بها في تعريب «إلياذة» هوميروس؛ إذ إن اليونان في جاهليتهم كانوا كالهنود من أول عهدم إلى اليوم، يحرقون موتاهم ولا يدفنون. ونريد بالهنود غير المجوس وهم دون عشر المليون، وغير المسلمين، وهم نحو تسعين مليونًا، من سكان الهند. فإن المجوس وهم عبدة النار، الذين نزحوا من بلاد فارس على إثر فتحها، لا يدنسون معبودهم بجيفة قذرة من نطفة مذرة، بل يرمون موتاهم إلى النسور، وكواسر الطيور، في مكان معد لذلك يسمونه بما تعريبه «برج السكينة». أما المسلمون فكإخوانهم في سائر الأقطار، وكالنصارى واليهود يكفنون الميت ويدفنونه.
ولكل مدينة هندية عظيمة مَحرقة أو محرقات. وبكل محرقة نضدان أو ثلاثة. وحوض الماء أو الصهريج، يستحمُّ فيه أهل الميت على أثر الفراغ من إحراق الجثة، من مقتضيات المحرقة ومكملاتها. ولذلك فالقرويون يجعلون محرقتهم على ضفة النهر، أو على مقربة من الماء، ليقضوا فرض الوضوء هذا، وهو من واجباتهم الدينية، ولا يخفى ما في إنعاش الجسم على هذه الصورة من الحكمة في التخفيف عن ذوي الفقيد من حرقة الحزن ولوعة الأسى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤