الفصل الثامن

لعمري ما أدري كيف استطعت لهذه الأغنيَّة تعريبًا، وأنا لا أزال أحار في معانيها غير متوثِّق من مغازيها. إلا أنني استلطفتها، وهزني ما أنستهُ بها من الطرب، فنظمت ما ترى عفوًا وحسبما اتفق لي. ولذلك حُق علي إنصاف الشاعر، ونقل كلماته ترجمة حرفيَّة، حتى إذا كنتُ أخرجت مراده على غير وجهه كان للقارئ أن يتبينَّه بنفسه ويتبصَّر فيه.

ولا تسألني عما يعني بقوله: وإن حُق عليكِ الجنون وهممت بالطَّفرْ إلى الموت فتعالي إلى بحيرتي. وهبه من المعاني بكرًا أزفَّها إلى لب كل لبيب ينتجها ما يشاء. أما سائر القصيدة ففيه ما فيه من التشابيه والاستعارات الحسنة ما نكتفي بهذه الإشارة إليه. وللهنود أعياد ومواسم يخرجون فيها إلى النهر أو البحر أو الحوض العظيم الذي يكون بجانب الهيكل، ويدخلون الماء معًا مئات، بل ألوفًا من الرجال والنساء، ثم إن سكان القرى والفقراء من أهل المدن لا يزالون يستقون من الأنهار والغدر القريبة من العمران.

ولا يزال بنفسي أشياءُ من تعريب هذه القصيدة، فإنني غير راض عنها، ولعل في ترجمتها النثرية بعض الغنى.

الترجمة النثرية

إذا شاقَك عمل تعملينه وشئت أن تملئي إبريقك فتعالي إلى بحيرتي. إن ماءها ليحفُّ بقدميك ويثرثر لهما بسره. هو ذا ظل الشؤبوب العتيد الانهمار فوق الرمال، وتلك غيوم متهادية فوق أعالي الأشجار، وكأنها كثيف الشَّعر فوق حاجبيك. إني لعليم بوقعات خطاك؛ لأنها خافقة في قلبي. الا هلمي وتعالي إلى بحيرتي إن أزمعت لإبريقك ملئًا.

وإن راقك ووددت التكاسل واللهو عن العمل وحلا لك إطفاء الإبريق على وجه الماء، فهلمي إلى بحيرتي. إن ضفَّتها لمخضرة بالأعشاب، وقد نبت عليها من ألوان الزهر ما لا يُحصى. هنالك تنطلق أفكارك من سود عيونك كما تتطاير العصافير من وكناتها. أما حجابك فيسقط إلى قدميك. هلمي إلى بحيرتي إن لم يكن لك نُدحة عن شيء من التكسل.

ثم إن بدا لك أن تغوصي في الماء، فتعالي إلى بحيرتي وهلمي إليها. أما إزارك فخلِّيه على الشاطئ، فإن الماء الأزرق كفيل بسَترك عن العيون. ويشرئبُّ الموج ويتطاول ليقبِّل عنقك ويهمس في أذنيك. فهلمي إلى بحيرتي إن لم تري لك بدًّا من غوصة في المياه.

وإن حُق عليك الجنون وهممتِ بطفرة إلى حتفك، فما لك إلا بحيرتي. هلمي إليها وتعالي. إنها باردة ولا يُسبر لها غور. إنها لمظلمة حتى كأنها نوم بلا أحلام. والليل والنهار سيَّان في دركها البعيد، والغناء صمتٌ فيه. فهلمي إلى بحيرتي إن أزمعت على حتفك غوصًا.

إذا ملِلتِ الكَسَلْ
واشتقتِ لهْوَ العَمَلْ
فعنكِ خلِّي المَللْ
وبادري بالعَجَلْ
إلى بحيرتي
الماءُ يهفو إِلى
إِبريقِكِ البارقِ
والسرَّ يُلقي على
خلخالِكِ النَّاطقِ
ها ذاك ظِلُّ الحيا
ظلُّ الغمام الهَتُونْ
حيَّا فتاةَ الحَيا
حيَّا ظلال الجفونْ
وَقعَ الخطى خَفِّفي
فوق الرُّبى والوِهادْ
أو خالِفي تُعرَفي
فَوَقعُها في الفؤادْ

•••

وإن مَلِلتِ العَمَلْ
واشتقتِ شغلَ الكَسَلْ
فعنكِ خلِّي الملَلْ
وبادري بالعَجَلْ
إلى بحيرتي
إبريقُك الأصفَرُ
يطفو على الأزرق
وعشبُها الأخضرُ
والزَّهر في الرَّونقِ
تطيِّرين الفِكَرْ
والعين في سُكرها
على جناح النظرْ
كالطير من وكرها
تُرخينَ عنك الوشاحْ
حتى لجينِ الحجالْ
وكلُّ شيءٍ مُباحْ
على عيون الخيالْ
وإنْ مَلِلت الدِّعابْ
فوقَ الحصى والتُّرابْ
فعنكِ فارمي النقابْ
وبادري يا كَعابْ
إلى بحيرتي
زبرجديُّ الرِّداء
أَلقيهِ عن خصرِكِ
فمثلُ لونِ السماء
ماءٌ إلى نحرِك
والموجُ طوعَ الصِبَّا
بالرَّفقِ واللُّطفِ
يُنمي أسرَّ النبا
همسًا إِلى الشِّنفِ

•••

وإِن أردتِ الجنونْ
«وفي الجنون فنونْ»
واشتقتِ طعمَ المنونْ
فبادري بالسُّكونْ
إلى بحيرتي
بحيرتي باردةْ
ولا قرارٌ لها
غرَّارةٌ جامدةْ
لم تعهدي مثلَها
النورُ فيها ظلامْ
نومٍ بلا حِلْمِ
وبدؤها والختامْ
جهلٌ بلا عِلمِ
كالليل ضاع النهارْ
في عمقِها الداجي
ودورُها والقرارْ
سكونها السَّاجي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤