الفصل التاسع

أجل، لو كنا ننقل فصلًا علميًّا، أو فقرة تاريخية، أو نبذة سياسية، لكبحنا من جماح القلم في التعريب، والتزمنا الأصل التزامًا. ولكنها خواطر شعرية قد لا يُرى بأس شيء من التصرف في تعريبها. ولعلنا جاوزنا حد المتسامَح به من التصرف في تعريب هذه القصيدة وليشفع بها وبنا إردافنا إياها بترجمة نثرية طبق الأصل:

وصحبتُ الطريق أمشي الهوينا
ولماذا؟ والله لستُ لأدري

•••

ربَّة النور آذنت بزوالٍ
وتهادَتْ ما بين ظهرٍ وعصر
وتغنَّى في الخيزُران نسيمٌ
فانثنى الخيزرانُ خصرًا لخصر
وترامتْ أيدي الظلال طِوالًا
حَوْل نورٍ يهمُّ عنها بفرِّ
والشحارير١ أنهكتها الأغاني
فانطوى في سكونها أيُّ سرِّ

•••

رُبَّ كوخٍ بضِفَّةِ النهر أرختْ
فوقه الدَّوح ظلها سِتْرَ خدر
ضمَّ عذراء كاعبًا كلَّمتْها
أُمُّها فانثنتْ تميسُ لأمر
تتلاقى خمسٌ لطافٌ بخمسٍ
من يديها؛ يا حسن الطف عشر
وعلى المعصمين يروي سوارٌ
لسوارٍ أخبارَ عقدٍ بنحر
ولدى الكوخ قمتُ أُصغِي وأشجَى
ولماذا والله لستُ لأدري

•••

كان يوم تنفَّس الكون فيهِ
عن عبيرٍ وعن أريج ونَشر
وترامَتْ من دوحة «الهمب» للأر
ض نِضارٌ ما بين نظمٍ ونثر
واشرأبَّت من جانب النهر شوقًا
موجةٌ خِلتُها لواعج صدر
قَبَّلتْ جرَّةَ النحاس فكانتْ
مثل ذَوْبِ اللجين أو نَثر تبر
ذاك يوم ذكراه تُؤنس قلبي
ولماذا والله لستُ لأدري

•••

مالت الشمسُ للمغيبِ وطالَتْ
وارفاتُ الظلال من بعد قُصر
والعذارى مثل السكارى حيارى
رُحْنَ يرقبنَه بذاهب صبر
زورقًا إنْ حللنَ فيهِ تثنَّى
عطفه حاكيًا مُرنَّح خمر
وإلى برِّهنَّ أُبْن ظِباءً
فوق ماءٍ وظِلتُ وحدي ببرِّي
وصحبتُ الطريق أمشي الهوينا
ولماذا والله لستُ لأدري

الترجمة النثرية

وذات يوم، بعد الظهر، صبحتُ الطريق — ولا أدري لماذا — وكان الخيزران يتثنى على أيدي الرياح. وكانت الظلال تتشبَّث بأقدام النور المسرع (إلى الغروب) والشحارير قد تعبت مما صدحت وغنَّت. ورحتُ أصحبُ الطريق ماشيًا على غير ما هدى (ولا أدري لماذا).

وكان على ضفة النهر كوخ تظلله شجرة. وفلانة تعمل عملًا، ولأساورها نغمات ترن في الزاوية. ووقفت إلى ذلك الكوخ، وما أدري لماذا.

ومنذ سنين كان يوم من شهر آذار (مارس) الذي يتنفَّس فيه الربيع، وكانت أزهار «الهمب» (شجرة المنجو) تتساقط على التراب. واشرأبَّت موجة من النهر ولثَمت الإناء النحاسي الذي كان مُلقى على درجة الرصيف. إنني لا أزال أذكر ذلك اليوم من شهر آذار ذي النسيم العليل، وما أدري لماذا (أذكره).

ها الظلال يشتد اسودادها وهو ذا القطيع عائد إلى حظيرته. وقد اكفهرَّ النور فوق المرج الأخضر، وقد وقف القرويُّون ينتظرون الزورق (لينقلهم إلى العدوة الأخرى)، وأنا أعود أدراجي وما أعلم لماذا.

هوامش

(١) نصيب الشحرور من الشعر السنسكريتي (وشعر سائر اللغات الهندية من بنات السنسكريتية) هو نصيب البلبل من شعر الأوروبيين والفرس، ونصيب الحمام من شعر العرب. أما البلبل عند الفرس فهو عاشق الورد، وإليك قول «عمر الخيام»:
وليالي داود ليست تعود
والمغني رهن الفنا والعودُ
وقم انظر فاليوم أزهر عود
فوقه بلبل يغني لورد
شَفَّه السقم من غرام ووجد
يا حبيبًا في وجنتيه اصفرار
عاشت الخمر لا ذبلت اكتئابًا
وعند العرب أن الحمام يبكي وينوح لفقد ولد كان له يُدعى «هديل»، ذهب ولم يعد. وهو عند الفرس أشبه بغراب العرب لما يستدلُّون من وجوده في مكان على خرابه واندثاره بعد ما كان آهلًا عامرًا. ومنه قول عمر الخيام أيضًا:
رُبَّ قصر ناجت ذراه السماكا
وتراءت قِبابه أفلاكا
وملوك كانت تخرُّ هناكا
وتُمِرُّ الجياه بالأعتاب
باحترام العبَّاد في المحراب
وهناك اليوم الحمامُ ينادي
يوسفًا والغراب يدعو الغرابا
وكان ولد الحمام عند الفرس يقال له «يوسف» لا هديل.
أما الشحرور عند شعراء الهند فهو «رسول الربيع» أو «رائده» لأنه أكثر ما يُسمع صوته في ذلك الفصل. وعندهم أن انطلاق لسانه دليل على عودة الربيع.
قال قاليدس على لسان أحد الأشخاص في روايته، يريد أن الربيع لم يعد في ذلك العام؛ لأن الطبيعة كانت محزونة تشاطر الملك همه وتقاسمه غمه:
إن يكن قد نوَّر الهمب فهل
كلَّل النَّوارَ من زغب فزانَهْ
ذاكما الديْسمُ في أكمامه
لابث مُحتبس سال أوانهْ
وانظر الشحرور في أفنانه
بعد فصل القرِّ لم يُطلق لسانَه
غصَّ بالألحان لا يخرجها
مطربات واغتدى العيُّ بيانَه
وقال في موضع آخر وقد حسب الشحرور ناطقًا بلسان الأشجار:
أنصتوا واسمعوا جوابًا شجيًّا
في حفيف جادت به الأخوات
ذاك صوت الشحرور وهو لسان
أنطقته البواسقُ المائسات
ومن أسمائه السنسكريتية «بارا بريتا» أي الربيب؛ لأن أنثاه قد تضع بيضها في وكنة الغراب لينقف فيها. وهي إنما تلجأ إلى هذه الحيلة ليخلو لها الجو، وتبقى طليقة تصدح وتغني. ويساعدها على إخفاء مكرها كون فرخ الشحرور إذا نقف من البيضة كفرخ الغراب، وإذا ظهر ريشه فهو أسود كريشه. على أن صوت هذا الطائر وقد سمعناه ليس بأجمل من صوت البلبل وإن أشبهه وكان صفيرًا. ولكن الشعراء في كل واحد يهيمون، وقد هام شعراء الهند في الشحرور وصوته هيام غيرهم في البلبل والحمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤