سعادة اليوم

قصة تمثيليَّة للكاتب الفرنسي «أدمون جبرو»

وليس ينبغي أن يخدعك هذا العنوان فتقدِّرَ أنك ستقرأ تحليل قصَّة خُلُقيَّة اجتماعية تعرض للسعادة، وتصور الناس لها في هذا العصر، فليس بين القصة التي نلخصها في هذا الفصل وبين هذا الموضوع صلة ما، وإنما «سعادة اليوم» اسم أداة من هذه الأدوات التي تُتخذ في الدور، نستطيع أن نطلق عليها هذا الاسم العامي المبتذل «المكتب»، ونريد به هذه المائدة التي تتخذ للكتابة، وفيها أدراج كثيرة تحفظ فيها السيدات أوراقهن وما لهن من هذه الأدوات الدقيقة المتنوعة. «فسعادة اليوم» في هذه القصة ليست شيئًا غير هذا. هو لفظ أُطلق في عصر من العصور الفرنسية، وفي طبقة من الطبقات الفرنسية على هذه الأداة الشائعة. وقد أعطت هذه الأداة الشائعة اسمها لهذه القصة؛ لأنها كانت تحتوي سرًّا من أسرار أسرة، فكُشف هذا السر، وكان مصدر طائفة من الأحداث والانفعالات، عبثت بطائفة من القلوب والنفوس عبثًا عرضه علينا الكاتب في قوة ودقة ومهارة خليقة بالإعجاب.

ولعلك لم تنسَ بعد هذه القصة البديعة التي حدثتك عنها في الشهر الماضي، قصة الفؤاد المقسم، ولعلك لم تنسَ بعد هذه العواطف المختلفة التي تتنازع القلوب، وتعبث بالنفوس فيما رأيت من قوة وعنف، فقصتنا في هذه المرة تشبه تلك القصة من هذه الناحية، فهي قصة جهاد عنيف بين عواطف قويَّة حادَّة تتنازع قلبًا كريمًا بريئًا من الشر والإثم، ولكنه في الوقت نفسه متأثر أشد التأثر بالحياة الاجتماعية، وما توارث الناس من عادة ورأي وحكم، وما تواضعوا عليه من خُلُق ونظام. هي قصة نفسية؛ لأنها تعرض عليك نفسًا إنسانيَّة في ظرف من هذه الظروف الحرجة العسيرة التي تكشف عن دخائل الإنسان، وتجرِّده، أو تكاد تجرِّده، من كل هذه اللفائف التي تلفُّه بها الحياة الاجتماعية. وهي قصة اجتماعية؛ لأن هذه النفس التي يعرضها عليك الكاتب إنما تألم وتحس ما تحس من عذاب، وتخضع لما تخضع له من حرب وجهاد بحكم الأوضاع الاجتماعية المتناقضة، وبحكم الأحداث الاجتماعية التي تحدث في حياة الناس من حين إلى حين، فتكونهم كما تحب لا كما يحبون، وتصورهم كما تريد لا كما يريدون. وهي قصة خُلُقية أيضًا؛ لأن هذه النفس حين تتألم وتشعر بالعذاب مضطرة إلى أن تُظهر شيئًا من الجلد والقوة على المقاومة، وهي لا تقاوم عبثًا وإنما تقاوم فرارًا من شر، وحرصًا على خير، ونفورًا من الأذى، ورغبة في البر.

وهي بعد هذا كله قصة لم تنسَ المثل الأعلى الذي يضعه الأفراد والجماعات أمامهم حين يحبون، وحين يختلفون في أمورهم المتباينة، هي هذا كله، وهي إلى هذا كله نموذج اللفظ المختار المنتقَى، والحوار الدقيق اللطيف، والمعاني الجيدة التي فكر فيها صاحبها فأحسن التفكير، ونسقها فأجاد التنسيق. وقد يستطيع هذا الفصل من فصول التمثيل الفرنسي أن يغتبط بعض الاغتباط، فهو غني بهاتين القصتين، وهو خير من فصول أخرى سبقته، ولم يظهر فيها كما رأيت في الشهر الماضي إلا لون من هذا القصص التمثيلي الفاتر الذي لا يمثل شيئًا، ولا يدل على شيء.

ولأعرض عليك أشخاص هذه القصة كما تعودت أن أفعل بإزاء القصص الأخرى، فقد يكون هذا العرض أيسر سبيل إلى فهمها وتذوقها، ولكني حائر لا أدري بأي هؤلاء الأشخاص أبدأ، فالظاهر أن لهذه القصة بطلًا ممتازًا تدور حوله، ولكن أشخاصها جميعًا أبطال ممتازون، وما أرى في حقيقة الأمر إلا أن لكل واحد منهم حياته القوية المؤثرة الممتازة. أأبدأ بهذا الشاب الذي تدور القصة كلها حوله، والذي يظهر أنه البطل الممتاز فيها، والذي يظهر في الوقت نفسه أنه ضحيَّة أبيه وأمه وعصره؟ ولم لا! فلا بد من أن نبدأ بواحد من هؤلاء الأبطال، فليكن هذا الشاب.

•••

جان بليسيه؛ شاب قد ناهز من عمره الثلاثين، جميل المنظر، قوي، عذب الخلق، حلو الحديث، رقيق القلب، ولكنه في الوقت نفسه بطل من أبطال الحرب الكبرى، أدركته ولمَّا يكد يدع المدرسة، فدخلها جنديًّا، ولكنه أبلى فأحسن البلاء، وتقلَّب في مراتب هذه الخدمة العسكرية العاملة، وذاق آلامها ولذاتها جميعًا، حتى انتهى به الأمر إلى أن أصبح ذا مرتبة عالية في فرقة الطيران، وقد أحسن البلاء في هذا اللون من ألوان الحرب، وجرَّ عليه ذلك خطوبًا وألوانًا من الشرف، فرأى الموت وصافحه أو كاد، واضطر إلى المستشفى، وتحلَّى صدره بالأوسمة المختلفة، ثم انجلت عنه غمرة الحرب فإذا هو يعود إلى حيث يقيم أبواه في أحد الأقاليم الفرنسية، ويعيشان عيشة ثروة ونعمة وعمل وهدوء؛ يعيشان في قصر فخم من قصور العصور الوسطى، اشترته الأسرة حين أثرت، ولكن هذا القصر وما حوله من الأرض الواسعة مهمَلان أو كالمهملَين؛ لأن رئيس الأسرة منصرف عنهما إلى مهنة الطب التي يحبها ويَكلَف بها، فإذا عاد الشاب إلى أسرته أسرعت ففكرت في أن تكل إليه تدبير هذه الثروة على أن يكون ذلك عمله في حياته، وأسرعت فاختارت له فتاة حسناء لتكون زوجه، وظهر اطمئنان الفتى إلى هذا النوع من الحياة، فعُني بالقصر والأرض، وشغف بالفتاة، وشغفت به الفتاة أيضًا، وأخذا يستقبلان الحياة في ابتسام وبهجة، لولا «سعادة اليوم» التي حدثتك عنها في أول الفصل، والتي ستُظهر لهذا الفتى أن نشاطه وسروره وابتهاجه للعمل في هذه الحياة السلميَّة ليست طبيعية، وإنما هي علَّة يتعلَّل بها كارهًا، وإنما حياته الحقيقيَّة في الحرب. وهذا الشاب من أبوين مختلفين أشد الاختلاف في الطبقة والتربية؛ فأمُّه من أسرة شريفة بعيدة في الشرف، تحفظ نسبها في القرون الوسطى، وتذكر ما كان لأجدادها من بلاء في تاريخ فرنسا، ومن مكانة في قصور ملوكها، وأمُّ هذا الفتى قد ورثت عن أسرتها الشريفة هذه كلَّ خلالها، فهي مترفة، مهذبة، رقيقة ممتازة، وقد أورثت هذه الخلال كلها ابنها الشاب.

أما أبوه فمن طبقة أخرى، من هذه الطبقة التي كانت مهضومة مظلومة قبل الثورة، والتي اكتسبت الحرية بعد الثورة، وجدَّت فأضافت إلى الحرية ثروة وقوة، واستئثارًا بالحكم، وفيها خلالها، فهي نشيطة عاملة صريحة، شريفة الخلق، وفيها عيوبها أيضًا، فهي غليظة خشنة، قليلة الحظ من التهذيب والرقة والامتياز، لا تتنزَّه عن صغائر تعافها الأرستقراطية، كان جدُّ هذا الفتى يعمل في البريد، ولكنه جدَّ حتى أثرى، وأحسن تربية ابنه حتى أصبح ابنه وزيرًا في الإمبراطورية الثالثة، وترك هذا الوزير ابنًا أحسن تربيته، فهو طبيب، وهو أبو هذا الشاب.

وهذا الشاب متأثر — كما قلنا — بما ورث عن أمه، نافر أشد النفور من أخلاق أبيه. فهو لا يكاد يحتمل أباه منذ رجع من الحرب. وهو يألم لهذا ولكنه لا يجد إلى اتقائه سبيلًا. وأبوه يألم له أيضًا، ولكنه يروِّض نفسه على هذا الألم، وقد علمته الحياة أن يروض نفسه على الألم. فقد نشأ — كما رأيت — ابنًا لهذا الوزير، وأدركته حرب السبعين، وما تبعها من الهزيمة فتركت في نفسه ما تركت في نفوس الفرنسيين جميعًا من هذه الآثار المؤلمة التي يمثلها ضعف العزيمة والاستسلام، ثم الطمع والشك.

وكان أبوه ضخم الثروة، فزوَّجه من امرأته الشريفة الفقيرة، وجد هذا الرجل في مهنة الطب حتى أحبها علمًا وعملًا، واتخذها سبيلًا إلى البر بالفقراء، والإحسان إلى البائسين، وهو شديد الإعجاب بأسرته وجدِّها ونشاطها، لا يكره مع ذلك أن يزدري الأشراف وخمولهم وكبرياءهم. ولكن الحياة كانت تدخر له ألمًا هو الذي جعله بطلًا، كما أنه أسبغ البطولة على امرأته أيضًا. وليس من الخير أن نتعجل فنكشف لك عن هذا الألم، فهو قوام الشطر الأول من القصة.

فلنَدَعْ هذه الأسرة، ولنذكر الشخص الرابع من أشخاص القصة، وهو «جرمين داجوزون» خطيبة جان، فهي فتاة جميلة فتانة، ولكنها فقيرة، هي من أسرة نبيلة، ولكن أباها كان سيِّئ السيرة والخلق، وأمها كانت تعسة سيئة الحال، فأما أبوها فقد مات، وأما أمها فقد بقي لها من هذه الحياة السيئة ضرب من الاضطراب العقلي والخلقي، يمثله الغرور والشره، والتكلف، وما إلى هذه الأخلاق مما يجعل الإنسان موضع السخرية والإشفاق في وقت واحد، ولكن الفتاة لم تتأثر بشيء من هذا، وإنما نشأت نبيلة ذكية القلب، جلدة، قويَّة الإرادة، قادرة على المقاومة، ولكنها رقيقة محبة أيضًا، ولم تكد تعرف هذا الفتى حتى أحبته حبًّا قويًّا عنيفًا، ولكنه شريف ممتاز، يشبه حب الفتى لها.

هؤلاء هم الأشخاص، لم أعرض عليك من أمرهم إلا ما يمكن أن يُعرف قبل أن تحدث حوادث القصة، فتكشف من نفسياتهم عما كان مخبوءًا.

•••

فإذا كان الفصل الأول، فنحن في أعلى القصر، في هذه الغرف التي تُتخذ ملقًى للأدوات العتيقة بعد أن يُستغنى عنها، ويُزهد فيها، فتُترك في هذه الغرف مهملة وديعة في أيدي الزمان، يفنيها قليلًا قليلًا، وتُهمل معها هذه الغرف قد أُغلقت أبوابها من دون هذا المتاع، كما تُغلق المقابر دون ما تودع من أجسام الموتى. وقد صعد جان إلى إحدى هذه الغرف، ففتح أبوابها ونوافذها للهواء والضوء، وأخذ يتفقد ما فيها من متاع في إعجاب وشغف، وما هي إلا أن أخذ ينسق من هذه الغرفة وما فيها مكانًا يستقبل فيه خطيبته وأمها وأبويه لتناول الشاي. وكانت هذه الفكرة قد خطرت لخطيبته حين علمت بأن في أعلى القصر أدوات قديمة من متاع القرون الوسطى، فأقبل الفتى يهيِّئ لها هذه الغرفة وهو يحاور في ذلك خادمه حوارًا لذيذًا خفيفًا، فهو كَلِف بهذا المتاع القديم؛ لأنه يمثل حياة آبائه، ولكن خادمه منصرف عن هذا المتاع لأنه عتيق، قد عمل فيه الفناء، ولأنه يُؤْثِرُ الجديد الذي لم ينلْه البِلى. وانظر إلى الغرفة قد نُسِّقت تنسيقًا حسنًا، وإلى طاقات الزهر قد وُضعت في هذه الآنية القديمة، ثم انظر إلى الفتاة قد أقبلت، فما تكاد تنظر إلى هذه الأشياء حتى تُفتن بها، وتمضي في الإعجاب والثناء. وما كان أخلقها أن تمضي في ذلك إلى غير حد لولا أنها تحب صاحبها، وصاحبها يحبها، وخلوتهما ضيقة محدودة، فلا بد من أن يتحدثا في الحب، ولا بد من أن يتبادلا هذه القبل التي يفتن الخطيبان في انتهاز الفرص لها.

وهما يتحدثان في حبهما في خفة ورشاقة وجد أيضًا، ونحن نحس أننا لسنا أمام حب فاتر أو نزق، وإنما هو الحب القوي الحاد الذي لا يكاد يدخل القلب حتى يملأه ويستأثر به، ويندفع منه إلى جميع الملكات والعواطف والحواس فيخضعها لسلطانها، هذا الحب الذي كله ثقة وأمل، ورغبة واحترام وطمأنينة، وهما في هذا الحديث، وفي هذا الحب، وإذا الأسرة قد أقبلت، فلا ألخص لك ما يدور من حوار حول المتاع، ثم حول الشاي، فقد تستطيع أن تستغني عن هذا كله، وإنما ألاحظ أن الأب قد أقبل فرحًا مبتهجًا، فتغنى مع الفتاة بعض أغاني الأقاليم، وكانت الفتاة بهذا مبتهجة، وأمها كذلك، وامرأته أيضًا، إلا الفتى فقد غاظه ذلك، وضاق به ذرعًا، ولم يستطع أن يخفي ضيقه، بل عرض باللوم لأبيه، وقَبِل الشيخ هذا اللوم في ألم وغيظ وحزن وسخرية. وانقضى الشاي بين الضحك والحزن، تتقيه أم الفتى ما استطاعت.

ثم يعلن الشيخ إلى الفتاة أن في القصر غرفًا كهذه الغرف فيها متاع أقدم من هذا المتاع وأجمل، فترغب الفتاة في أن ترى، ويُقبل الشيخ على أن يُظهرها على هذا المتاع. وينصرفون جميعًا إلا الخطيبين تخلَّفا فيما يظهر ليختلسا كلمة أو قبلة، والفتاة تدعو صاحبها إلى أن يتبعها إلى حيث ترى المتاع، وهو يأبى ويتعلل، وما هي إلا أن تفهم من تعلله أنه لا يريد أن يرافق أباه، وأنه ضيق الذرع بأبيه وطبقة أبيه، وما لهذه الطبقة من عادة، وما فيها من عيب، وأنه شديد الإعجاب بأمه وطبقة أمه، وما فيها من ترف ولين ورقة، وانظر إليه وقد كشف هذا المتاع القديم الذي كان يسمى «سعادة اليوم»، فهو يُظهر الفتاة على محاسنه، وما فيه من رشاقة فنية، وهو يوازن لها بين هذه الأداة الرشيقة التي تمثل ذوق أمه وأسرتها الشريفة، وبين تلك الأدوات الغليظة التي يمتلئ بها القصر، والتي تمثل ذوق هذه الطبقة الوسطى التي سادت بعد الثورة.

وقد تركته الفتاة، فعمد إلى هذا المتاع، وأخذ ينظر في أدراجه، ويستنشق رائحتها في شغف وفتنة؛ لأن هذا المتاع قد كانت أمه تستخدمه في شبابها، فهو إنما يتنسَّم شباب أمه، وقد جذب إليه درجًا فتنسمه، ثم حاول أن يردَّه فيستعصي عليه كأن شيئًا يعترض دونه، فينظر فإذا حزمة من الورق، فيسرع إليها متلهفًا، ويتردد ثم يفضُّها، فإذا رسائل تُنثر، فيسرع إلى هذه الرسائل يجمعها ويخفيها في جيبه، ولكنه يسمع صوتًا فيبالغ في السرعة، ثم ينهض فينصرف، وقد أقبل أبوه فرآه موليًا، ونظر فإذا رسالتان على الأرض قد أخطأهما الفتى، فيسرع إليهما فيدسهما في جيبه.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أيام على ما قدمت لك، والقوم مجتمعون في غرفة المائدة بعد العشاء، ومعهم الخدم جميعًا كأنهم في حفل منزلي، والشيخ قائم أمام نار الموقد المتأججة يشتوي فيها بنفسه الشاه بلوط، أو «الكاستنيا» — كما يسمونه الآن — وهو يقصُّ على الفتاة وأمها من عادات الإقليم وأحاديثه ما يضحكهما ويلذُّهما، وهم جميعًا مبتهجون إلا الشاب فقد تنحَّى وانصرف إلى كتاب كأنه ينظر فيه، وإلا أم الفتى فهي قلقة لما تشاهد من ضيق ابنها، وسوء الحال بينه وبين أبيه. وقد انتهى عبث الجماعة إلى آخره، وأعلن الشيخ أن ستجمع طائفة من هذا الشاه بلوط الذي يشتوي، تخرج من الجمر، ثم يوضع عليها غطاء ما، ثم تجلس عليها أصغر الحاضرين سنًّا، وقد قبلت الفتاة، والخدم مبتهجون، وأمها مترددة متكلفة، ولكن الفتى يترك كتابه وينهى خطيبته عن هذا العبث فتأبى، فيلحُّ فتزداد إباء، فيبالغ في الإلحاح فتغضب، ويفسد الأمر بينهما بعض الشيء، وتنصرف غير حافلة بأمها ونذيرها، وقد أعلنت أن خطيبها يجب أن يعرفها حق المعرفة، وأن يعلم قبل أن يتخذها له زوجًا أن لها إرداة، وأنها قد تغلو في هذه الإرادة أحيانًا. وقد فسد الحفل، وانقلب السرور شيئًا يشبه الحزن.

ومضى كل إلى مضجعه، ويظل المسرح خاليًا حينًا، ثم إذا الشاب قد أقبل إلى المكتبة يلتمس فيها شيئًا، فيستخرج مجمعًا للصور، وينظر فيه كأنه يبحث عن صورة بعينها، حتى إذا انتهى إليها اختلسها ودسَّها في جيبه، وما يكاد يفرغ من هذا حتى يحس صوتًا، فيرد مجمع الصور، ويُظهر أنه يأخذ كتابًا، وقد أقبل أبوه، فيسأله ماذا يصنع، فيجيب الفتى أنه قد امتنع عليه النوم فأقبل يلتمس كتابًا يستعين به على الأرق، يجيب الشيخ: وهذه حالي، فلنتحدث قليلًا.

وما يكادان يبتدئان الحديث حتى يصل الشيخ إلى ما كان يريد، فهو يريد أن يتعرف من شأن ابنه مصدر هذا الضيق الذي ظهر عليه منذ أيام، والذي أقلق أمه، ونغَّص عليها الحياة، أو قُل إن الشيخ يعرف مصدر هذا الضيق، ولكنه يريد أن يتحدث فيه إلى الفتى. أما الفتى فيتكلف الجواب، ويحتال في اتقاء الشيخ، ويعلن إليه أنه ضيق الذرع بهذه الحياة التي يحياها بعد الحرب، والتي لا عمل فيها، وأنه يريد أن يعمل وأن يكسب، وألا يكون مدينًا بحياته لأحد. أما الشيخ فلا تخدعه هذه المحاولة، وما هي إلا أن يصل إلى عرضه في صراحة، فيعلن إلى الفتى أنه قد عثر بطائفة من الرسائل، ولكنه نسي منها اثنتين ويدفعهما إليه، وأنه قد قرأ هذه الرسائل وعرف ما عرف من أمرها، وأن هذه الرسائل هي التي تنغص عليه حياته، فإذا أظهر الفتى شيئًا من الدهش أنبأه الشيخ في هدوء وألم مبتسمًا بأنه يعرف ما في هذه الرسائل منذ ثلاثين سنة، ثم يقص على الفتى القصص.

فليس الفتى ابنه، وإن كان ابنه أمام القانون وأمام الناس وأمامه هو أيضًا؛ ذلك أنه قد كان تزوج من امرأته دون أن تحبه كما يتزوج أصحاب الثروة من الفقيرات في غير حب ولا كلف، فلما لم يجد من امرأته حبًّا ولا حنانًا ولا هيامًا زهد فيها، وانصرف عنها إلى اللهو والعبث، وفرحت هي بهذا الزهد والانصراف، وفي ذات ليلة لقي صديقًا له كان رفيقه في المدرسة، وكان من الأشراف، وكان قد أحب امرأته، وكانت قد أحبته، وكانا يريدان الزواج، ولكن الفقر حال بينهما وبينه، فلأمر ما حرص صاحبنا على أن يستأنف الصلة بينه وبين صديقه القديم. وانظر إليه يتهم نفسه أشنع التهم في لطف ورقة وكرم أيضًا. انظر إليه يحدث الفتى بأنه اجتهد في أن يتردد صديقه على بيته، وتتجدد الصلة بينه وبين حبيبته القديمة لأمر لا يكاد يتبينه، وربما كان منه أنه أحب أن يثير في نفس امرأته حبها القديم لهذا الرجل لعلها تتورط في شيء من الإثم، فيتخذ ذلك حجة عليها، وعذرًا لنفسه من آثامه الكثيرة. ومهما يكن من شيء فقد كان ما لم يكن منه بد، وأثمت المرأة، وكان الفتى نتيجة هذا الإثم، فأما أبوه فقد ندم وألح عليه الندم حتى التحق بجيش من جيوش المستعمرات الأفريقية، وجاهد حتى اشترى خطيئته بالموت. وأما أمه فقد لقيت في الحمل آلامًا ثقالًا، وتعرضت في الوضع لخطر الموت، ووقف زوجها بين الأمانة لمهنته كطبيب يجب أن ينقذ المريضة، والانتقام لنفسه كزوج يريد أن يقتل الخائنة، فوفى لمهنته وأنقذ المريضة، حتى إذا تم لها الشفاء لم يجد في نفسه القدرة على استئناف الانتقام فصفح وعفا، وندمت زوجه وثابت، وكانت بينهما مودة استحالت حبًّا قويًّا شريفًا استفاد منه الطفل، فنشأ بين قلبين يحبًّانه، ويعطفان عليه.

وقد سمع الفتى هذا القصص، ولكنه بطل من أبطال الحرب قد تعود الهول وتجشَّمه، وتعوَّد المكروه وصبر نفسه عليه، فهو يألم ولكنه يكظم ألمه. وهو بين أمرين يتنازعان قلبه ونفسه؛ السخط على أمه وأبيه لأنهما وضعاه في هذه المنزلة الكريهة، والبِر بهذه الأم التي لقيت في سبيله ما لقيت من ألم، وتعرضت في سبيله لما تعرضت له من خطر، وهذا الشيخ الذي كان يظنه أباه، والذي كان ينكره ويضيق به، والذي ظهر الآن أنه ليس منه في شيء؛ أيحبه لأنه نشأه وترباه كما ينشئ الأب ابنه في مودة وحنان وحب، أم يبغضه لأنه ليس منه في شيء، ولأنه هو الذي عرَّض أمه للإثم والخطيئة، وهو الذي اضطر أمه إلى أن تلده في غير رضا الأخلاق والقانون؟ وأبوه! أيحبه لأنه أبوه أم يبغضه لأنه ورَّط أمه في الإثم، وجنى عليه هذا الوجود المنكر؟ وخطيبته! ماذا يصنع بها؟ أيمضي في حبها، ويكتمها ما عرف من أمره، فهو إذن يغشها ويدلس عليها، أم يظهرها على كل شيء، وإذن فإلى أي حال ينتهي حبه وكبرياؤه وكرامته؟

وهذه الثروة الضخمة التي يكلها إليه الشيخ أيقبلها وليست له، أم يردها، وإذن ماذا يصنع؟ فأنت ترى إلى هذا الموقف المعقد، وإلى ما فيه من حرج.

وموقف الشيخ! أتظنه يخلو من الحرج؟ كلا! فقد عفا عن امرأته، وقد استطاعت امرأته أن تمحو ما في نفسه من موجدة، وهو يحب امرأته ويريد أن يحميها من كل مكروه، وقد كان هذا يسيرًا ما خفيت القصة على الفتى، ولكن الفتى قد عرف القصة، ووقف الشيخ منه في صراحة موقف الغريب فماذا يصنع؟ وكيف يعصم امرأته من احتقار ابنها وسخطه؟ وهو كان أحب الفتى، واتخذه ابنًا حقًّا، وقد ظهرت خبيئة الأمر فما له بشيء هذا الفتى؟ ومع ذلك فلم يأثم الرجل، ولم يقترف خطيئة، وإنما تكلف اتهام نفسه ليخفف عن امرأته، وليعطف الشاب على أمه، ما خانها، ولا تعمد إغواءها وتوريطها في الإثم، ومهما يكن من شيء فهو لا يطلب الآن إلا أن تجهل امرأته أن ابنها قد ظهر على جلية الأمر، وهو يائس أو كاليائس من حب هذا الفتى، وقد ضحى بنفسه مرة، فلم لا يضحِّي مرة أخرى على أنه قد لقي من حب امرأته ما عزَّاه عن تضحيته الأولى، فلعله يلقى من إحسانه إلى الناس، ومن حب الفتاة ما يعزيه عن التضحية الثانية.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى أسبوعان على ما كان في الفصل الثاني، ونحن نرى الشيخ في عيادته يستقبل المرضى، ويطبُّ لهم، ولكنه متعب قد ظهر عليه السأم والضيق، حتى إذا انصرف آخر مرضاه دعا الخادم فيأمرها بأن تذهب إلى الصيدلي، وتطلب إليه أن يحتال في ألا تدفع إليه إحدى مرضاه ثمن الدواء، فهو كثير وهي فقيرة، ولكنها عزيزة النفس لا تقبل الصدقة، فليخدعها الصيدلي إذن، وليخيل إليها أن الدواء رخيص، وليُضف قيمته الحقيقية إلى حساب الطبيب.

وانظر إلى امرأة الطبيب، قد أقبلت محزونة تشكو إلى زوجها ضيق ابنها، وانصرافه عنها وعن خطيبته، وتلتمس لذلك العلل والأسباب، وتخبر زوجها بأن الرسائل متصلة منذ أيام بين ابنها وبين وزارة الحرب، وهي مشفقة من ذلك، والشيخ يعزيها في مودة وحب، ولكنه لا يظفر من تعزيتها بشيء، وهي تطلب إليه أن يتحدث إلى الفتى ويعظه لعله يكشف من أمره شيئًا، ولعله يرده إلى حب أمه وخطيبته، والرفق بهما، فيتردد ثم يذعن، وتنصرف امرأته وترسل إليه الفتى!

وما هي إلا أن يتحدثا حتى نعلم أن الفتى قد طلب إلى وزارة الحرب عملًا، فعرضت عليه بعثة في الصين حيث الحرب قائمة فقبل، ومهما يفعل الشيخ، ومهما يحتل، ومهما يتلطف للفتى، فلن يغير رأيه وعزمه، والموقف هنا بديع مؤثر حقًّا، اللين حينًا والاستعطاف، والعنف حينًا والنذير، والفتى ثابت لا يتزحزح عن موقفه قيد شعرة، ولم يتزحزح عن موقفه وهو ابن الحرب قد كونته كما أرادت لا كما أراد! لقد أنفق من عمره أربع سنين في قتل وتدمير، يقتل النساء والأطفال والشيوخ والشبان، لا رأي له في ذلك ولا إرادة، ويواجه الموت يتقيه مرة، ويرسله على الناس مرة أخرى، فكيف تريده على أن يكون كغيره من أبناء السلم! إنه يعلم حق العلم أنه يُمزق قلب في هذه الصورة! فليكن مصدر ألم، وليكن مصدر موت، فكذلك أرادت الجماعة أن يكون. وقد أيس منه الشيخ، وأقبلت أمه يائسة أيضًا تسأله: أحق ما أنبأتني به خطيبتك من أنك مرتحل إلى الصين؟ يجيبها: نعم! فما أشد تأثير هذا الموقف بين الفتى وأمه تستبقيه ضارعة فلا يحفل. تحاول أن تعرف السر الذي يضطره إلى هذا فلا تفلح، وهي تفترض الفروض وتتوسل إلى الفتى بخطيبته، ثم يُخيل إليها أنه لا يحب هذه الفتاة فتجتهد في صرفه عنها. ويكون بينهما حوار بديع مؤلم، نتمثل فيه نحن إلى أي حد نسيت هذه المرأة إثمها، وانصرفت عن خطيئتها، وإلى أي حد أثر هذا الإثم في نفس الشاب، وأفسد عليه أمره.

وينصرف الشاب وقد أيأس الشيخين من نفسه، ولكن أمه قد عرفت الآن أنه قد ظهر على جلية الأمر! فانظر إليها منتحبة بين ذراعي زوجها، وهو يعزيها وينبئها بأنه قد اتهم نفسه ما استطاع ليخفف عنها الوزر أمام ابنها. فإذا رآها تسرف في البكاء خيل إليه أنها تبكي ندمًا لما تذكر من إساءتها إليه، ولكنه لا يلبث أن يتبين أنها إنما تبكي على ابنها لا عليه، فليُضحِّ بنفسه مرة ثالثة!

أليس يحب هذه المرأة، أليس يحب هذا الفتى، فلْيُعزِّ هذه وليجتهد في إمساك ذاك، ولكن ليس إلى إمساك الفتى من سبيل.

•••

فنحن في الفصل الرابع وقد أخفق الشيخ وامرأته والفتاة في صرف الفتى عن عزيمته، ونحن في طولون ثغر فرنسا الحربي حيث يأخذ الفتى سنته الحربية إلى الصين. وقد أقبل الجماعة يودِّعونه. ونحن في أحد المطاعم المطلة على البحر حيث السفينة، وحيث يستطيع المودعون أن يروا السفينة حين تقلع، ويتبعوها بأبصارهم حتى تغيب. وأنا أعفيك من هذا الحوار اللذيذ الطويل بين الشيخ وصاحب المطعم، وأنتهي مسرعًا إلى هذا الموقف البديع بين العاشقين، فقد التقيا وتعاهدا على الحب والأمانة والوفاء. وأعلن كل منهما إلى صاحبه خبيئة نفسه، ولكن انظر إلى الفتاة تطلب إلى صاحبها أن يرفق بأمه فقد أثمت كارهة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم لنفسه العصمة من الإثم! وأن يحب الشيخ ولو قليلًا فقد كان زوجًا برًّا، وأبًا رحيمًا، وما ذنبه في كل ما كان!

فإذا سأل الفتى صاحبته كيف عرفت سره؟ أجابته: لقد أخبرتني به أمك، واتخذتني سبيلًا إلى استعطافك، وحملك على الرفق، وانظر إلى الفتى وقد تأثر بهذا كله؛ بمكان أمه من نفسه، ومكان هذا الشيخ الخير البريء، ومكان هذه الفتاة الطاهرة المحبة تستعطفه على هذين البائسين، وقد أقبل الشيخان، فالفتى رفيق بهما ما استطاع، يُظهر لأمه من العطف والمودة ما يملؤها رضا، ويقبِّل الشيخ ولكن دون أن يقول له شيئًا، والشيخ يرضى بهذه القبلة وهو واجم؛ لأنه كان ينتظر كلمة مودة لم يظفر بها.

وقد أقبل ضابط من السفينة يتعجَّل الفتى، فيودِّع القوم جميعًا، ولكنه لا يقول للشيخ هذه الكلمة التي كان ينتظرها، وقد مضى نحو السفينة وهم جميعًا يتبعونه بأبصارهم إلا الشيخ فهو على كرسيه واجم محزون، ولكن القوم يسمعون من الفتى صوتًا لا يتبيَّنونه، ثم لا يلبثون أن تبينوا، فإذا الفتى يدعو أباه، وإذا هم جميعًا يدفعون الشيخ دفعًا إلى النافذة حيث يرى الفتى، ويسمعه يدعوه بهذه الكلمة التي كان ينتظرها «إلى اللقاء يا أبت!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤