اعرف نفسك

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»

ومن ذا الذي يعرف نفسه حقًّا؟ ومن ذا الذي يثق بما تطويه نفسه من دخيلة، وبما يستره ضميره من خصلة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يوجه أهواءه وميوله وعواطفه وشهواته كما ينبغي؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يوفق بين نفسه وبين واجبه حقًّا؟ أليس الإقدام الصحيح على شيء من الأشياء ينبغي أن يكون نتيجة للعلم الصحيح بهذا الشيء؟ ألست إذا أقدمت على الشيء وأنت تعلمه حقًّا استطعت أن تتجنب الخطأ وتتنكب الضلال؟ بلى! ولكن العلم الصحيح بالأشياء ليس ميسورًا وليس متاحًا لك في كل وقت. ألا ترى إلى آراء الناس كيف تتغير بالقياس إلى الأشياء العادية، فهم يرونها خيرًا ثم يرونها شرًّا، ثم يعودون فيترددون، ثم ينالهم شيء من الإهمال وعدم الاكتراث، هو الاعتراف بالعجز عن فهم الأشياء وتعرف حقائقها؟

ليس العلم الصحيح بالأشياء ميسورًا، ومن هذا تورط الناس في الأغلاط وتخبطوا في الظلمات. والأمر ليس واقفًا عند جهل الناس بحقائق الأشياء، وإنما هو يتعداه إلى ما هو شر منه، فأنت لا تعرف صاحبك كما ينبغي أن تعرفه، وأنت لا تتبين دخيلة خليطك وعشيرك كما ينبغي أن تتبينها، ومن هنا تقع بينك وبينه الخصومات ويسوء بينك وبينه الظن، ومن هنا تناله بالمكروه حين تريد به الخير، وينالك بالسوء حين يريد إليك الإحسان؛ لأن كلًّا منكما يجهل صاحبه، ولو قد عرف أحدكما الآخر لما كانت بينكما خصومة ولما ساء بينكما الظن، ولما وقع بينكما خلاف. بل لا يقف الأمر عند هذا الحد، فأنت تجهل الأشياء والناس، تجهل نفسك، تجهلها جهلًا قويًّا مظلمًا، يدفعك إلى أمور لو عرفت نفسك لما اندفعت إليها، تقدم ولو عرفت نفسك لأحجمت، ترضى ولو عرفت نفسك لأبيت، وهل تستطيع أن تفسر الندم إلا بأنه شعورك بأنك أقدمت على الشيء وأنت تجهل هذا الشيء وتجهل ما يمكن أن يكون بينه وبين نفسك من صلة؟ أفتظن أن ذلك الحكيم الذي كتب على معبد «دلف» هذا المثل اليوناني القديم: «اعرف نفسك بنفسك.» قد أخطأ أو قال غير الصواب؟ أفتظن أن سقراط حين اتخذ هذا المثل أساسًا لفلسفته، وجعله أساسًا لكل فلسفة خلقية بعده قد أخطأ أو أقدم على غير الحق؟ كلا! نحن نجهل الأشياء؛ ولذلك نتعلم. ولذلك أنشأنا العلم.

ونحن نجهل الناس ونجهل أنفسنا؛ ولذلك نبحث عن الناس ونبحث عن أنفسنا، ونحاول أن نضع الشرائع والقوانين، وأن نؤسس الفلسفة الإنسانية وأن نؤسس علم الأخلاق، وأن نبحث عن الطريق التي تنظم الصلات بيننا وبين أمثالنا.

ليس هذا كله إلا اعترافًا بأننا نجهل، أو محاولة للتخلص من هذا الجهل، ولكننا مغرورون! ننكر هذا الجهل ولا نشعر به، فيخيل إلينا أنا نعلم كل شيء، ويخيل إلينا أن علمنا بأنفسنا هو أشد أنواع العلوم صحة وأقربها إلى الصواب، فيقول أحدنا: إني أعرف هذا الشيء كما أعرف نفسي، ولو أنه فكر قليلًا لاستيقن أن هذه المعرفة لا تغني شيئًا، ولا تدل إلا على الجهل، فهو يجهل نفسه ويجهلها الجهل كله، فإذا كان حظه من العلم بالأشياء كحظه من العلم بنفسه فويل له من هذا العلم.

إلى هذه النظرية قصد الكاتب في هذه القصة، فأثبتها في وضوح وجلاء، ولكنه أثبت إلى جانبها نظرية أخرى ليست أقل منها شأنًا ولا أدنى منها خطرًا. أنت تجهل نفسك ولكن ما السبيل إلى أن تعلم هذه النفس؟ أتظن أنك تستطيع أن تصل إلى هذا العلم بالنقد والبحث وبالتحليل والإمعان في التحليل؟

لقد نقد من قبلك سقراط وأتباع سقراط، وأمعن الفلاسفة وعلماء الأخلاق في النقد وفي التحليل، وتأسس علم النفس وانتهى بأصحابه إلى النتائج الباهرة. ولكن النفس الإنسانية ما زالت غامضة، وما زال كل واحد منا يجهل نفسه حقًّا، ومهما تقرأ من فلسفة سقراط وأتباعه ومن فلسفة القدماء والمحدَثين على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم فلن تعلم من أمر نفسك شيئًا.

فشل إذن سقراط حين زعم أن أحسن وسيلة إلى العلم بالنفس إنما هي أن تعرف أنت نفسك بنفسك. فشل سقراط وفشل من قبله ومن بعده. فقد بحثت الإنسانية عن نفسها، وبحثت عنها كثيرًا، فلم تهتدِ من أمرها إلى شيء. لن تعرف نفسك بنفسك، وإنما الوسيلة الصحيحة إلى أن تعرف نفسك إنما هي هذه الحوداث الجسام التي تلم بك من حيث لم تحتسب، والتي تصيبك على غير استعداد، فإذا هي قد هزت نفسك هزًّا عنيفًا، فألقت عليها في غير اختيار ولا إرادة هذه الألوان المختلفة، وهذه الضروب المتباينة من زينة الحضارة وبهرجها، ومما كلفتك الحضارة، وما كلفك العلم، وما كلفتك نظم الحياة المختلفة من مظاهر لم تخترها، ولم تسعَ إليها، وإنما اضطررت إليها اضطرارًا، واصطنعتها وأنت لا تعلم كيف اصطنعتها.

ما الشرف؟ وما الفضيلة؟ وما حسن المعاملة بين الناس؟ وما ضروب الأدب والتلطف؟ وما هذه العقائد الكثيرة التي قامت عليها أوضاعنا الاجتماعية؟ لم تلبس على هذا النحو دون غيره؟ ولم تأكل على هذا النحو دون غيره؟ ولم تلقى صاحبك على هذا النحو دون غيره؟ أتستطيع أن تقول إنك اخترت شيئًا من ذلك أو ابتكرت؟ كلا! ولكنك رأيت الناس يسلكون في الحياة هذه الأنحاء فسلكتها معهم، ومهما تجاهد ومهما تبحث فلن تستطيع أن تتخلص منها جملة، يجب إذن أن تكلف الحوادث الجسام تخليصك منها ولو لحظة لترى نفسك كما هي ولو مرة في العمر كما يقولون.

إن الذين لم تصبهم الحوادث الجسام، ولم تنزل بهم هذه النوائب التي تخرجهم عن أطوارهم يقضون حياتهم، ولما يعرفوا من أنفسهم شيئًا، اعرف نفسك ولكن لا بنفسك، بل بالتأمل حين تنزل بك الحوادث، وهذه الحوادث لن تنزل بك متى أردت، ولن تصيبك متى أحببت، وقد لا يوفقك الله إلى أن تعرف نفسك، فيكفي أن تشعر بأنك تجهل نفسك، وأن تعرف عجزك عن العلم بنفسك، وأن تتروى كثيرًا قبل أن تقدم، وقبل أن تحكم، وقبل أن تعمل.

•••

«سيبران» قائد من قواد الجيش الفرنسي، وهو رجل من الأشراف، محافظ، مستمسك كل الاستمساك بما ورث في طبقته من نظم الحياة وطرق التفكير، تغيرت الحياة من حوله ولم يتغير، أو لم يشعر بأنه تغير، فهو ضيق العقل، أو محدود الفكر يقرب في هذا الضيق إلى شيء من الوحشة، فقد امرأته وأراد أن يتزوج من جديد، فتخير أن يتزوج فتاة متقدمة في السن قد جاوزت الخامسة والعشرين، على أن تكون فقيرة من أسرة شريفة قد حسنت تربيتها، وفيها من الذكاء وحسن الخلق ما يضمن له شيخوخة هادئة مطمئنة، بعيدة عما يسيء إلى الشرف والكرامة، أو يدخل التنغيص والألم بين الزوجين، بحث عن هذه الفتاة فوجدها، واقترن بها، واسمها «كلاريس».

وقد عاش معها خمس سنين فأحبها حبًّا جمًّا، وكلف بها كلفًا لا حد له، ولكنه أحبها كما يستطيع هو أن يحب، فأخذها بما ألف من ضروب الشدة، وألوان المحافظة، وكلفها حياة قاسية خالية من كل ابتسامة، بريئة من كل لين، وهو يعتقد أنه يؤدي واجبه وأكثر من واجبه؛ لأنه قد حال بينها وبين البؤس وضمن لها حياة مطمئنة، وكان لها وفيًّا في صلاته الزوجية، هو مقتنع بحظه، مطمئن إلى سيرته، ولكن امرأته ليست كذلك، فهي تشعر بأن زوجها قد أحسن إليها، وبأنه قد وفى لها، وبأنه يحبها، ولكنها تشعر بأنها لا تحبه، وأن عواطفها وأهواءها لا تجد في نفس زوجها هذا الصدى الذي كانت تنتظر أن تجده، هي تعيش عيشة راضية من الجهة المادية، ولكن قلبها قد حرم كل عزاء، هي شقية ولكنها رضيت هذا الشقاء، فهي وفية لزوجها، مكبرة له، ولكنها تشعر بأنها بائسة، ويتردد على هذا البيت ضابط مختص، هو «بافايل»، كان يتيمًا فقد أمه، ثم مات أبوه في ثورة، وكان «سبيران» يعمل في قمع هذه الثورة، فرأت زوجه الأولى هذا اليتيم فتبنته، وقامت على تربيته مع ابنها الوحيد «جان»، وجهل هذا الفتى من أمره كل شيء حتى ماتت أمه الثانية، فعرف الصلة التي تجمع بينه وبين القائد، وكان وفيًّا لهذه المرأة التي كفلته، فأنكر زواج القائد من غيرها. يعرف «كلاريس» ويتحدث إليها حتى أحبها، وكلف بها، ثم شعر بأنها شقية تعسة فلم يزده ذلك إلا حبًّا لها، وعطفًا عليها، وقد نزل على هذا البيت ضيف من أسرة القائد هو «دنسيير» ومعه زوجه «أنا»، وهذان الزوجان مؤتلفان يحب كل منهما صاحبه حبًّا شديدًا.

•••

فإذا كان الفصل الأول من القصة رأيت كلاريس جالسة إلى مكتبها وقد دخل عليها الضابط «بافايل»، وتكلف علة لهذه الزيارة حين كان يجب أن يذهب إلى مكتبه، وأخذا يتحدثان فتفهم من حديثهما كل ما قدمت لك، ولكنك لا تكاد تشعر بأن بينهما حبًّا، وهما يتحدثان إذ يدخل الخادم فينبئ بأن «دنسيير» قد أقبل، وهو يبحث عن زوجه «أنا»، فلا يكاد «بافايل» يسمع هذا حتى ينصرف في عجل واضطراب، فتلاحظ «كلاريس» هذا ولكنها لا تفهمه، ويدخل زوجها القائد فينبئها بأن حادثًا قد حدث؛ ذلك أنه كان يمشي في الصباح مع «دنسيير»، فلما قاربا منزل «بافايل» أبصرا امرأة تخرج منه، وتبيناها فإذا هي «أنا»، وقد رأتهما فأعرضت عن الطريق، وانطلقت تعدو في الغابة، وتبعها زوجها فلم يظفر بها؛ لأنها كانت أسرع منه عدوًا، ولكنه عاد ومعه أحد قفازيها، فلم يكن عنده شك في أن زوجه كانت في هذا المنزل، واستنتجا من ذلك أنها ذهبت إليه لموعد كان بينها وبين صاحبه، فإذا سمعت «كلاريس» هذا فهمت اضطراب الضابط وانصرافه في عجل، وأحسست منها شيئًا من الغيرة قويًّا، ولكنه خفي، ثم تقبل «أنا» وينصرف القائد، فإذا سألتها «كلاريس» لم تحاول أن تخفي من أمرها شيئًا، ومن الواضح أن «كلاريس» قد لقيتها في شيء من العنف، وأنكرت عليها ما تورطت فيه، فتنصرف ويعود القائد فتنبئه زوجه بأن الأمر كما كان قد افترض، وتظهر سخطها على هذا الضابط الذي كان يظهر لها مظهر الرجل التقي، والذي كانت تعطف عليه، وترثي له حينما هو منافق يستمتع بلذاته، متكتمًا مستترًا، ثم يقبل «دنسيير»، فإذا خلا إلى صاحبه القائد، وتحدث إليه أحسست أنه يشعر بشيء من الرفق والعطف على زوجه، ويود لو عفا عنها، واستأنف معها الحياة، ولكنه لا يجد من القائد إلا سخطًا واشمئزازًا، بل لا يجد منه إلا ازدراء وسخرية، ينبئه القائد في لفظ عنيف بأنه إنْ يعفُ عن زوجه فقد جاوز السنة والخلق، والعادة الموروثة، وهو مضطر إلى أن يقطع الصلة بينه وبينه ضنًّا بكرامة امرأته أن ينالها الأذى، فيقتنع «دنسيير» لأن الكرامة والشرف والحق والواجب، كل ذلك يقضي عليه بأن يطرد الخائنة ويطلقها، وينصرف على أن يذهب إلى باريس ليكلف محاميه أمر الطلاق، وأما القائد فبعث في طلب الضابط.

•••

فإذا كان الفصل الثاني رأيت هذا الضابط ينتظر قدوم القائد، فيقدم هذا ويكون بينه وبين الضابط حديث عنيف، يقسم الضابط فيه أنه لم يأتِ إثمًا، ولم يقترف منكرًا، ويكذبه القائد ويلح في إهانته حتى يكاد يخرجه عن طوره، ثم يصدر إليه الأمر أن يكتب إلى الوزير كتابًا يطلب فيه أن يرسل إلى إحدى المستعمرات القاصية، فيأتمر الضابط؛ لأنه يريد أن يخلص من حياته بجوار هذا القائد، يجلس ليكتب، وينصرف القائد وتدخل «كلاريس»، فتسأله في سخرية عما فعل، وعما قال، ولكن الحديث لا يكاد يتصل بينهما حتى يظهر أنه بريء، وأنه لم يقترف إثمًا، ولم يأت نكرًا، وأن كل ما فعل هو أنه نزل عن بيته حينًا من الأحيان لصديقه ابن القائد، وكان هذا الصديق قد طلب إليه ذلك ليخلو بصاحبته الخائنة، هو إذن بريء، ولكنه لم يتهم صاحبه، ولم يتهم أحدًا؛ لأنه لا يرى لنفسه الحق في أن يتهم أحدًا، وهو سعيد بهذه النتيجة، فسيفارق القائد، وسيخلص من حياة قاسية لا يجد فيها إلا شقاء وبلاء، فإذا سمعت «كلاريس» هذا الحديث وآمنت به ذهبت غيرتها، وعادت إليها الثقة، وأخذها شيء من الغبطة بأن هذا الضابط لم يخنها، وحاولت أن تقنع الضابط بالبقاء، وأن يبرئ نفسه أمام القائد، ولكن هذا الضابط أبى كل الإباء، ثم يريد أن يعلل إباءه فيعلن إلى صاحبته أنه يحبها، ويحبها من زمن طويل، وأنه أصبح لا يستطيع صبرًا على هذا الجوار، وعلى هذا الحرمان، فلا تكاد تسمع إعلان هذا الحب حتى يملكها تأثر شديد، فترى في نفسها أنها هي أيضًا تحب هذا الضابط، وأنها كانت تجهل هذا الحب أو تخفيه على نفسها، وأنها قد علمت به وأخذت تراه رأي العين في الوقت الذي لم يبقَ فيه بد من أن تفارق حبيبها هذا، تحس ذلك وتتحدث بشيء منه إلى الضابط، ولكنها حين تتحدث إليه بما تحس تغير في نفسه كل شيء، فقد كان يريد السفر ويرضاه؛ لأنه كان يائسًا من حبها إياه، أما الآن وقد أحس هذا الحب ورآه فقد ذهب اليأس، وخلفه الأمل والرجاء، وإذن فلم يسافر؟ ولم يمحو سعادته بيده؟ لن يسافر وسيبرئ نفسه، وسيبقى وسيذوق لذة هذا الحب.

أما «كلاريس» فتجزع لذلك وتندم على أنها قد أظهرت من أمرها ما كان يجب أن يظل خفيًّا، وتلح عليه أن يسافر؛ لأنها لا تريد ولا تستطيع أن تؤمن لهذا الحب، ولا أن تخون زوجها، ولا أن تتورط فيما كانت تنكر على صاحبتها، وهنا موقف عنيف مؤثر بين هذين العاشقين، قد تصارحا بالحب، ولكن بينهما أمرًا يحتم عليهما الفراق، بينهما عهد الزواج والحرص على الوفاء، تلح في أن يسافر فلا يستطيع لها مقاومة، فينصرف على أن يظل متهمًا لنفسه، وعلى ألا يراها بعد اليوم. أما هي فتستلقي وقد ناءت بها خيبة الأمل؛ ذلك أنها كانت قد اطمأنت إلى شقائها، ورضيت حظها من الحياة، أما الآن وقد أحست أن أحدًا من الناس يحبها وأنها تحبه أيضًا، وأنها ربما لم تخلق إلا له، وربما لم يخلق إلا لها، فقد مر الأمل بنفسها، ورأت من سلطان القضاء ما يحول بينها وبين الاستمتاع بهذا الأمل، وهي في هذا اليأس إذ تقبل «أنا» فإذا المرأتان تتحدثان على نحو جديد من الحديث، وإذا أنت لا ترى من «كلاريس» عنفًا ولا قسوة، وإنما ترى منها لينًا وعطفًا؛ ذلك لأنها قد شاركت صاحبتها في الحب، وإن لم تشاركها في الإثم، هي مثلها فمن الحق أن تعطف عليها، ويقبل «جان» الذي اقترف الإثم، وقد علم بكل شيء، فيعلن إليهما أنه يحتمل تبعة عمله، وأنه سيبرئ صاحبه من هذه التهمة، فتجزع لذلك كلاريس؛ لأن معنى هذه البراءة أن يبقى «بافايل»، وإذا بقي فسينتصر الحب، وستتورط هي فيما تورطت فيه صاحبتها، وهي لا تريد ذلك ولا ترضاه، تحاول أن تقنع «جان» بالعدول عن هذا الأمر، فيأبى ويلح في أنه سيعلن الأمر إلى أبيه، ويقبل أبوه وتنصرف «أنا»، يأخذ القائد في قراءة الكتاب الذي سطره الضابط للوزير، ولكن ابنه ينبئه بأن يريد أن يتحدث إليه، فإذا استمع له عرف الحق، فغضب غضبًا شديدًا، وأنزل بابنه ضروبًا من اللوم والتأنيب، ولكن ابنه ينبئه بأنه سيصلح ما أفسده، سيتزوج «أنا» بعد أن يحكم بالطلاق.

هنا تنشأ في نفس الأب عاطفة جديدة، ابنه يريد أن يتزوج من هذه المرأة التي خانت زوجها! أليس في هذا نزول عن الشرف؟ أليس فيه عدول عن السنة والكرامة؟! كلا! لن يكون هذا الزواج، ولكن ابنه يعلن إليه أنه سيكون مهما يستتبع من نتيجة، فسيخاصم أباه، وسيحتمل ما ينشأ عن هذه الخصومة؛ لأنه لن يترك صاحبته وحيدة بعد الطلاق، يطرده أبوه مغضبًا، فينصرف الفتى ويبقى القائد وزوجه فيتحدثان، وترى من هذا الحديث أن القائد كان يجهل نفسه حقًّا، هو ساخط ممتعض، ولكن مصدر سخطه وامتعاضه إنما هو أن ابنه سيتزوج من امرأة خائنة، فيهين الشرف ويسيء إلى الكرامة، فإن هذه المرأة التي خانت زوجها الأول تستطيع أن تخون زوجها الثاني، ولعلها لم تخن زوجها الأول لأول مرة فهو يفكر في نفسه، ويفكر أن يعاقب ابنه بما كان يريد أن يعاقب به الضابط، فقد عبثت إذن عاطفة البنوة بعواطف الشرف، والمحافظة على القديم. تتحدث إليه زوجه بهذا كله، وتتبين أنه قد عدل عن رأيه، وغير منهجه، وأنه مضطر إلى أن ينصح لقرينه بالعفو عن زوجه؛ لأنه بين اثنتين: إما أن يصلح بين الزوجين، ويرضى عن الخائنة، وإما أن يرى ابنه زوجًا لهذه الخائنة، ويشعر القائد بصحة هذا، وبأنه مضطرب منقطع الحجة، فيعلن عجزه وينصرف ليعتذر إلى الضابط، فتسأله زوجه: أتطلب إليه أن يبقى؟ «سآمره بالبقاء، وبهذا أعتذر إليه حقًّا.» ينصرف وتبقى «كلاريس» شاعرة بأن عاشقها سيبقى، متألمة لهذا بل جزعة له؛ ذلك لأنها كانت في أول الأمر قد رأت الأمل، وطمعت فيه، ثم حال بينها وبينه الواجب، فاطمأنت إلى الحرمان والشقاء، وهي الآن ترى أن صاحبها سيبقى، وإلى أن الحرب ستكون عنيفة في نفسها بين الأمل والسعادة من جهة، وبين الواجب والوفاء من جهة أخرى.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد اجتمع الخائنان وهما يتحدثان، وتشعر من هذا الحديث أن كلاريس قد عملت عملها، وأنها جادة في أن توفق بين الزوجين حتى لا يقع الطلاق، وحتى لا يكون هذا الزواج الجديد، وحتى يضطر الضابط إلى السفر، تشعر بهذا كله لأنك ترى «أنا» تنبئ صاحبها بأنها لا تريد أن تكون مصدر خلاف بينه وبين أبيه، وبأنها تؤثر أن يتم لها العفو من زوجها، فإذا سمع صاحبها هذا اطمأن إليه، وظهرت رغبته فيه، فتغضب «أنا»، تغضب لأنها كانت تود لو وجدت من صاحبها الذي أغواها بالإثم شيئًا من الحب لها، والكلف بها، والرغبة في أن يكون زوجها حقًّا، فإذا هي لا تجد منه إلا اطمئنانًا إلى هذا الحل الجديد، هو إذن لم يحبها وإنما أغواها، وهي إذن لم تحبه وإنما خضعت له، أو فتنت به، تغضب وتلقي إليه بهذا الغضب، فيحاول أن يدفع عن نفسه أنهما كانا متحابين، فلا يفلح إلا في إظهار أنهما كانا مخدوعين، خدعتهما الشهوة والهوى، ينصرف الفتى وتقبل «كلاريس»، فإذا علمت بما تم بينهما اطمأنت إليه، ونصحت لصاحبتها بأن تصلح من شأنها، وتستعد لأن تلقى زوجها فتستعطفه وتترضاه، وتنصرف «أنا»، ثم يقبل الضابط فرحًا مبتهجًا؛ لأن القائد قد طلب إليه البقاء، فسيبقى إذن، ولم يكن يستطيع إلا ذلك؛ فهو بريء، وهو يحبها وهي تحبه، وهما يستطيعان أن يسعدا، فمن الحمق أن يتكلفا الشقاء، ويسعيا إليه. أما هي فتلح عليه في السفر، ولكن في غير طائل، سيبقى إذن، فلا بد من احتماله، وهي أضعف من أن تقاوم هذا الحب، ولكنها لا تريد أن تكون خائنة، وهي إذا قبلت هذا الحب وأذعنت له فستنبئ زوجها، وستفارقه فقيرة كما دخلت بيته فقيرة، ولن تفعل شيئًا من شأنه أن يزري بشرف هذا الرجل، ولكنها لا تستطيع أن تقطع في شيء من ذلك، فهي تريد أن تفكر وأن تتروى، تريد ألا تقضي إلا بعد أناة وحزم، وهي عاجزة عن ذلك إذا لم يفارقها صاحبها حينًا لتستطيع أن تفكر في هدوء واطمئنان، يجب إذن أن ينقطع عنها أسابيع أو أشهرًا، يأبى! ولكنها تأمره بذلك وتلح فيه، فيذعن، ولكن على أن تمنحه شيئًا يمكنه من الصبر، على أن تمنحه قبلة! يلح في ذلك فترضى، وإنه ليقبلها إذ يدخل القائد، فإذا هو يصيح: ويل للشقيين! افترق العاشقان، وأقبل القائد على خصمه يريد أن يقتله، ثم بدا له فألقى سلاحه؛ لأنه أحس أن القتل ليس من اليسر والسهولة بحيث كان يظن، يطرد خصمه فينصرف.

فإذا خلا إلى زوجه أخذ يؤنبها في غيظ وحنق، ولكنها تجيبه بأنها لم تخنه، ولم تأتِ من الإثم إلا ما رأى، وبأنها كانت ولا زالت معتزمة ألا تستمتع بلذات الحياة إلا بعد أن تقطع الصلة بينها وبينه، وهي تنتهز هذا الفرصة لتعلن إليه أنها مفارقة إياه، وأنها ستخرج من هذا البيت كما دخلته، ولكن زوجها لا يكاد يسمع هذا حتى يأخذه الضعف، فإذا هو يتلمس من زوجه أن تعتذر، يريد أن يعفو، ويلتمس سبيلًا للعفو، أما هي فلا تريد عفوًا، وإنما تريد خلاصًا، وهنا يقع بينهما حديث مؤلم، تذكر شقاءها وحرمانها، وأنها لا تحبه، ولا تطمئن إليه، وإنما كانت تخضع له خضوع الأسير، وهو ينكر ذلك ويسألها: فما بالك لم تنبئيني؟ ثم يبدو له فيشعر بأنه هو الملوم، فقد كان من الحق عليه ألا يكون أثرًا ولا ظالمًا، وأن يتلمس بنفسه حاجات زوجه ولذاتها، وما ينقصها، فإذا عرفه وفاها حظها منه. يشعر بأنه قد شغل بنفسه عن زوجه، وبأن ظلمه هذا وأثرته هما مصدر الشقاء، وإذا هو مستعطف ضارع، يطلب إليها أن تبقى، وإذا الضعف قد أخذ من هذا الرجل العنيف مأخذه، فتهدج صوته، ثم انهملت عبرته، ثم هو يجثو يطلب إليها ألا تتركه وحيدًا، ثم ينبئها في صدق وإخلاص أنه مغير خطته، وأنه يؤثر الموت على الوحدة، وما سيتبعها من أحاديث الناس، وإذا هو ينتظر منها كلمة ليعيش أو ليموت!

أما هي فقد رقت له، وعطفت عليه، فأشارت إليه أنها باقية، ويدخل هذا الوقت «دنسيير»، وقد عاد من باريس، ونظم أمر الطلاق فينبئها بذلك، فإذا صاحبه القائد قد تغير كل التغير! الطلاق! وماذا تصنع هذه البائسة إذا أصبحت وحيدة؟ وهل فكرت في هذا؟ فإذا ذكر له قرينه ما كان قد لقيه به من عنف وغيظ، وما كان قد نصح له به في شدة وحزم، وأنه قد تغير الآن، اعترف بأنه تغير، وبأنه في حديثهما الأول كان مندفعًا وراء العاطفة، أما الآن فقد فكر وتروى، وهو أقرب إلى العفو والمغفرة منه إلى السخط والغيظ، وتنضم إليه زوجه في هذا، فما تزال بالرجل حتى تقنعه بالعفو عن زوجه، ولم يكن هذا الإقناع عسيرًا؛ فقد كان الرجل يريد هذا العفو لولا ما بين له القائد، وما نصح له به. يقنعانه بالعفو، ويعمد القائد إلى هذا الكتاب الذي كتبه الضابط إلى الوزير يطلب فيه أن ينقل إلى إحدى المستعمرات، يعمد إلى هذا الكتاب فيأمر بحمله إلى البريد، ثم ينصرف «دنسيير»، ويبقى الزوجان، فيقول القائد: لو أنه عفا أمس عن زوجه بعد ما اقترفت هذا الإثم لرأيت عفوه دناءة وانحطاطًا.

فتسأله زوجه: أكنت أمس خيرًا منك اليوم؟ فيجيب: لم أكن أعرف نفسي حقًّا!

كلاريس: ومن ذا الذي يعرف نفسه؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤