الثعلب الأزرق

قصة تمثيلية وضعها الكاتب المَجَريُّ فرانسوا هرزج، وصاغها في الفرنسية الكاتب الفرنسي «رينيه سوسيه»

يقول النقاد الفرنسيون لهذه القصة: إنها وُضعت منذ خمس عشرة سنة فلقيت فوزًا عظيمًا في بودابست، ثم ترجمت إلى لغات مختلفة، فأُعجبت بها الجماهير في فينا وبرلين وروما ولندن وأمريكا، ولكنها لم تمثل في باريس إلا هذا العام.

والنقاد الفرنسيون يجمعون، أو يكادون يجمعون، على أنها قصة جيدة، متقنة الوضع، بديعة التنسيق والتأليف، ولكن هذه القصة لم تُنقل إلى الفرنسية كما وضعها صاحبها، وإنما صاغها الكاتب الفرنسي صيغة جديدة، فجعل أشخاصها فرنسيين، وأجرى حوادثها في ضاحية من ضواحي باريس، ولاءم بين نظامها وبين الذوق الفرنسي في التمثيل، ومن هنا يتفاوت النقاد الفرنسيون في تقدير ما ينال المؤلف والصائغ من حظ في الإحسان والإجادة، ثم من حظ في الثناء والتقريظ، فمنهم من يضيف جمال القصة إلى المؤلف المجريِّ، ويأسف أسفًا كثيرًا أو قليلًا لأن الصائغ الفرنسي لم يكن أمينًا في الترجمة والنقل، ومنهم من يضيف هذا الجمال إلى الصائغ الفرنسي، ويرى أنه قد أحسن الإحسان كله حين غيرها وعرضها على الفرنسيين في هذه الصيغة الجديدة التي تلائم ذوق باريس.

وقد يكون من العسير علينا أن نحكم في قضية كهذه؛ لأننا نجهل الأصل المجريَّ، ولم نُوفَّق لترجمة ألمانية أو إنجليزية لنوازن بين الأصل وبين الصيغة الفرنسية لهذه القصة، لا سيما أن النقاد الفرنسيين يحدثوننا بأن الكاتب الفرنسي قد غيَّرها تغييرًا شديدًا، وبدَّل أشخاصها تبديلًا باعد بينها وبين الأصل إلى حد ما.

على أن النقاد مهما يختلفوا فيما بينهم متفقون على أن الكاتب المجريَّ نفسه متأثر في قصته هذه وفي غيرها من القصص التمثيليَّة بالأدب الفرنسي، وهم يذكرون تأثره بموباسان، وهنري بيك، وماريفو، فهي إذن في رأيهم قصة فرنسية عادت إلى فرنسا.

ومهما يكن من شيء فإن من المحقق أن هذه القصة على جمالها ودقة موضوعها، وعلى ما فيها من قوة في التصوير لا تخلو من شيء غير قليل من ضعف التأليف، فأنت حين تقرؤها لا تستطيع أن تنسى أنك تقرأ قصة وُضعت للتمثيل بحيث لا يستطيع جمالها الفني أن يشغلك عن تأليفها، وعما تكلَّف الكاتب فيها من هذه الحيل التي يتكلفها أصحاب التمثيل للملاعب، فحركات الأشخاص مثلًا حين يدخلون ويخرجون، وحين يذهبون ويجيئون، وحين يظهرون ويستخفون ليست حركات طبيعية، وإنما هي في كثير من الأحيان حركات متكلفة، نرى تكلفها ونحسه، حتى ليخيل إلينا أن هؤلاء الأشخاص قد اتصلوا بحبل أو سلك يجذبه شخص خفي ليظهروا حين يجب أن يظهروا، وليستخفوا حين يجب أن يستخفوا، وما هكذا يكتب أفذاذ الكتاب في التمثيل؛ أذلك عيب الكاتب أم ذلك أثر الصائغ؟ هذا شيء لا نستطيع الفصل فيه كما قدمنا.

وموضوع القصة نفسه مطروق، سُبق الكاتب إليه غير مرة، سبق إليه في قصص مختلفة، منها المضحك، ومنها المحزن، ومنها ما هو بين بين، ولكن هذا كله لا يمنع أن هذه القصة جيدة، يجد قارئها لذة قويَّة، ويضطر إلى أن يقف عند بعض فصولها وقفة التفكير والتأمل، وليس أدل على ذلك من هذا الفوز العظيم الذي ظفرت به في عواصم أوروبا وأميركا.

وليس في هذا شيء من الغرابة، فقد يُطرق الموضوع الواحد مرات ومرات دون أن يحول ذلك بينه وبين الحدَّة وقوة التأثير في نفوس الأفراد والجماعات، ذلك حين يكون الموضوع نفسه قويًّا قوة لا تذهب بها الأيام، ولا يعمل فيها تغيير الظروف، وحين يكون الموضوع شائعًا مألوفًا، نشهده في مواطن كثيرة، وفي ظروف مختلفة.

ولست في حاجة إلى أن أذكرك بهذه الموضوعات الخالدة التي تناولها الشعر القصصي اليوناني، وأخذها عنه الشعر التمثيلي اليوناني فزادها قوة وتأثيرًا، ثم أخذها عنه التمثيل الحديث، والقصص الحديث في فرنسا وألمانيا وإنجلترا فلم يزدها إلا قوة وقوة على الأخذ بمجامع النفوس كما يقولون.

والموضوع الذي طرقه كاتبنا من هذه الموضوعات التي إن لم تكن شائعة مألوفة في بعض البيئات التي قلما يختلط فيها الرجال والنساء، فهي شائعة مألوفة في كثير من البيئات الأوروبية، وهو موضوع يسير جدًّا: زوجان لم يصل بينهما الحب، ولا ما يشبه الحب، وإنما قامت صلاتهما الزوجية على المنفعة أو على المصادفة ليس غير، فهما يعيشان عيشة هادئة وادعة، لولا أن لهما صديقًا قد اتصل بهما، وقويت بينه وبينهما الصلة، فهو يلازمهما لا يستطيع أن يقضي يومًا دون أن يراهما، لا يستطيعان هما أيضًا أن يحتملا الحياة إذا لم يرياه.

وهو خيِّر ليس بالشرير، ولا بصاحب المجون والدعابة، ولكنه على ذلك صاحب قلب يخفق، ونفس تحب، فلا يستطيع إلا أن يحب صديقته وامرأة صديقه، وهو يخفي على نفسه هذا الحب، ويصوره في صورة الصداقة والمودة الخالصة، وربما كان صديقه مثله مخدوعًا أو ربما لم يكن مخدوعًا، وربما خدعت المرأة نفسها، وربما عرفت حقيقة الأمر، وأحبت هذا الصديق، ولكنها تجاهد هذا الحب، وتنتصر عليه، تسلك إلى ذلك ما تستطيع أن تسلكه من طريق، ولعلهم يستطيعون جميعًا أن يعيشوا مطمئنين إلى هذا الحال الغامضة الواضحة معًا، هم سعداء، أو هم يحسبون أنفسهم سعداء، ولعلهم يستطيعون أن ينفقوا حياتهم كلها في مودة كلها صفوٌ مطرد، لولا أن يعرض لهم من الظروف ما يزيل الغشاوة عن الأبصار، ويشق الغلاف عن القلوب، فيروا … وهم إذا رأوا قد يسعدون وقد يشقون.

هذا الموضوع مألوف في البيئات الأوروبية، تنشأ عنه في كثير من الأحيان ألوان من التعقيد في حياة الأسر، وصلات الأصدقاء، منها ما ينتهي إلى السلام والدعة، ومنها ما ينتهي إلى الشر والنكر، وقد طرقه كاتبنا هذا فصوَّره تصويرًا حسنًا مؤثِّرًا، ولكنه لا يخلو — كما قلنا — من تكلف، ومن غلو أحيانًا.

وأنا — كالنقاد الفرنسيين — شديد الإعجاب بشخصية هذه المرأة التي تدور القصة حولها، أو قل بقدرة الكاتب على اختراع هذه الشخصية الغريبة التي استطاعت أن تقاوم مهارة الصائغ الفرنسي، فاحتفظت بشيء غير قليل من طبيعتها المجريَّة، فهي غامضة أحيانًا أشد الغموض، وهي واضحة أحيانًا أشد الوضوح، وهي ضاحكة مغرقة في الضحك، ولكنها في الوقت نفسه تكفكف عبراتها، وتمسح دموعها مسحًا رقيقًا.

ولست أدري إلى أي حد وُفق الكاتب والصائغ في شخصية الزوج، فأنا أفهم ألا يخلو الرجال ولا سيما العلماء من ضعف وسذاجة، ولكني أرى أن الكاتب قد صور هذا الزوج تصويرًا اعتمد فيه على خياله أكثر مما اعتمد فيه على الحقائق الواقعة.

•••

نحن في سان كلو؛ ضاحية من ضواحي باريس، في بيت تظهر عليه النعمة والثروة، وفي غرفة يظهر عليها الترف ولين الحياة، كما يظهر عليها الجد والعمل، ونحن نجد في هذه الغرفة رجلًا قد جلس إلى مائدة بين الكتب والأوراق، وهو يتحدث ويتحدث لا يكاد يقف ولا يستريح، هذا الرجل هو العالم النباتي «فرانسوا دوجلي»، وهو يتحدث إلى مصوِّره الذي اتخذه ليصور له أنواع النبات في كتاب يهيئه للنشر، ولا نكاد نسمعه يتحدث حتى نتمثل العالم بما فيه من عيوب وخلال، فهو يتكلم مندفعًا في موضوعه لا يلوي على شيء، ولا يثنيه عن الحديث شيء، وهو يتكلم لأن الموضوع يلذُّ له لا لأنه يريد أن يفيد سامعه، وسامعه متبرِّم به يريد أن يخلص منه ليدرك القطار الذي سينقله إلى باريس، وهو يحتال في هذا التخلص فلا يُوفق له إلا بعد مشقة شديدة، وهو يخلص وقد استيأس من إدراك القطار.

فإذا انصرف هذا المصور، وخرج الأستاذ من غرفته لحظات، أقبلت إلى هذه الغرفة فتاة ظريفة، حسنة الصورة، متجملة ظاهرة الرغبة في أن تعجب الأستاذ وتقع من نفسه، تدخل، فما أسرع ما تهوي إلى علبة الحلوى فتزدرد منها شيئًا، وتخفي شيئًا آخر في حقيبتها، ثم تقف منتظرة أن يعود الأستاذ، فإذا عاد وتحدث إليها عرفنا أنها كاتبته التي تنسخ له ما يهيئ من فصول كتابه.

وهو يتلقاها مبتسمًا لها مبتهجًا بلقائها، يسألها عما كتبت، فإذا هي قد أتمت عملها على أحسن وجه، فيقدم إليها بعض الحلوى فترفض معتذرة بأنها لا تحب الحلوى، فإذا قدم إليها السجارة اعتذرت بأنها لا تدخن، ثم يتركها لحظة وقد ترك سجارته على المائدة، فما أسرع ما تهوي إليها فتزدرد منها جرات، ثم تردها حيث كانت، ويعود الأستاذ فيستأنف معها الحديث، وإذا هي تظهر له رسمًا من عملها فيه صورة نبات، فلا يكاد الأستاذ يراه حتى يُفتن به، وحتى يعلن إليها رغبته في أن تكون مصورته، وأن تضع له هي صور الكتاب، وهي سعيدة مغتبطة تصفق بيديها، وتكاد تقبل الأستاذ فرحًا وابتهاجًا، ولا تسل عن سعادتها حين يعلن إليها الأستاذ أنها ستقيم معه منذ غد، فتكتب له وتصور وتنسخ على الآلة الكاتبة.

وهما في هذا الحديث وإذا رجل يقبل، وهو «جان دي فيلييه» صديق الأسرة وخليطها، كان قد سافر يقضي الصيف في الألب، ولكنه استثقل السفر فعاد إلى باريس، وهو سعيد بهذه العودة؛ لأنه سيرى صديقيه، وسيأخذ مكانه بينهما كدأبه في كل يوم، وهو يسأل صاحبه عن امرأته، فيحدثه هذا بأنها ذهبت إلى باريس تصيد الثعلب الأزرق؛ لأنها مفتونة به، ولن تستريح حتى تظفر بهذا الصيد، ولكنها لا تصيده من الغابات ولا من الحقول، وإنما تصيده من المتاجر، فهي لا تلتمس الثعلب، وإنما تلتمس فرو الثعلب، وهي تخرج في طلبه كل يوم إذا أصبحت، ولا تعود إلا إذا أقبل المساء، وهو يدعها وما هي فيه من صيد؛ لأنه مشغول ببحثه عن النبات.

ويمضيان في الحديث حتى يصلا إلى لون من الطعام يحبه هذا الرجل الذي أقبل، وإذا الفتاة الكاتبة المصورة تزعم أنها تحسنه، وتعِد بعمله إذا كان الغد، فلا تسل عن ابتهاج الأستاذ بهذه الفتاة النادرة الكاتبة المصورة الطاهية معًا، ويتم الاتفاق بينهم على أن تهيئ لهم الفتاة من الغد هذا اللون من ألوان الطعام، ثم تتركهما يتحدثان.

والرجل يقص على صاحبه أنه رأى سيارة الراقص المعروف «ريالتو»، فأعجبته، ولن يستريح حتى يشتريها منه، وقد ذهب ليتحدث إليه في ذلك، فلقي خادمه يحمل زجاجات الشمبانيا، وألوانًا من الطعام، ولكن الخادم أنبأه أن سيده غائب، فانطلق وهو يعلم أن سيده مشغول بإحدى السيدات لا يستطيع أن يستقبله، ذلك أن «ريالتو» هذا أستاذ رقص، وهو أجنبي جميل الطلعة، تُفتن به تلميذاته عادة.

ثم يمضي «جان» في حديثه فيقول: إنه انصرف من بيت الراقص إلى الغابة، فما هي إلا أن رأى الراقص في سيارته ومعه امرأة لم يرَ منها إلا ساقها وحذاءها، وقد استقرت في نفسه صورة هذا الحذاء، فهو يصفه ويحقق وصفه حتى يُسئم صاحبه، و«جان» هذا موسيقي بارع، فهو يجلس إلى «البيانو» ويأخذ في الإيقاع، وقد انصرف عنه صديقه إلى عمله.

وهما في هذه الحال إذ تقبل الزوجة «سسيل»، وكأنها قد سمعت إيقاع البيانو فعرفت وجود صديقها، فدخلت في رفق، ووقفت إلى جانبه، وأخذت ترافقه مغنية وهو يوقع، فيلتفت، ثم تكون التحيات، ثم الحديث، ثم تقع منه نظرة على ساقها وحذائها وإذا هو صعق، أو كالصعق؛ لأنه عرف الساق، وعرف الحذاء، وهو يعود فيصف الحذاء مرة أخرى لصاحبه، ويذكر الراقص، وتسمع سسيل هذا فتضطرب قليلًا، ثم تخفي من أمرها ما تستطيع، وهي تبالغ في الإخفاء، وهو يبالغ في الوصف والإعادة والتكرار حتى يسأم الزوج فينصرف إلى عمله، ويدعهما يتحدثان كدأبهما دائمًا، فإذا خلا بعضهما إلى بعض كان بينهما حوار ينتهي بأن يتهم «جان» صاحبته بالإثم، وهي تدفع عن نفسها، وتغلو في الدفاع، وهو يتهمها ويسرف في الاتهام، حتى يفسد الأمر بينهما أو يكاد، ونحسن نحن في هذا الحوار أن الصلة بين هذين الصديقين ليست صلة مودة وصداقة، وإنما هي صلة حب يخفيها كل منهما على نفسه، وعلى صاحبه، ثم يدور الحوار، ويشترك فيه الزوج مرة أخرى، فيذكر أمر الكاتبة المصورة، ومهارتها في الطهي، وما تقرر من إعداد هذا اللون إذا كان الغد، وإذا «جان» يعلن أنه سيدعو الراقص «ريالتو» ليتناول معهم العشاء، وليذوق من هذا اللون البديع.

وكان المعقول أن يبقى «جان» حتى يتناول العشاء معهما، ولكنه ضيق الصدر، فهو ينصرف ويترك الزوجين لما بينهما من شأن.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فنحن في غد ذلك اليوم، وقد دنا الليل أو كاد، والزوجان ينتظران مقدم «جان»، ومقدم الراقص، و«سسيل» مضطربة محزونة تدخن فتسرف في التدخين، وزوجها يحاول أن يتعرف من أمرها فلا يظفر منها بشيء، وهو يعتذر إليها لأنه منصرف عنها إلى علمه ونباته، وهي لا تكاد تسمع له، فإن سمعت فلا تكاد تجيبه، وقد أقبل «جان» فتلقَّاه الزوج مبتهجًا، وتتلقاه الزوجة محزونة مضطربة، فإذا خلا بعضهما إلى بعض كان بينهما حوار كحوار أمس فيه اتهام ودفاع، ثم فيه ما يشبه الاعتراف، ثم فيه ثورة الصديق، ولكن الراقص قد أقبل، فيتلقاه الزوج و«جان» و«سسيل» لقاء مختلفًا؛ هذا مبتهج، وهذه مضطربة منكرة، و«جان» يدبر في نفسه أمرًا، فأما الراقص نفسه فقد أقبل لا يقدِّر شيئًا، ولا يفكر في شيء، وهو يتكلم ويمضي في كلامه، مثنيًا على الزوج مرة، وعلى الزوجة مرة أخرى، وعلى صديقهما مرة ثالثة، وعلى البيت مرة رابعة، حتى إذا فرغ من هذا الحديث الطويل المضحك التفت إليه «جان» وأخذ يذكر حب النساء له، وكلفهن به، والرجل ينكر ذلك في ضعف ورفق، ولكن «جان» يلحُّ ويذكر حظه عند هذه، وحظه عند تلك، ويسرف في هذا، وهو في أثناء الحديث يرقب الراقص مرة، و«سسيل» مرة أخرى، وكل شيء على وجه «سسيل» يثبت اضطرابها وتورطها.

وقد خرج الأستاذ لبعض شأنه، وخلا الثلاثة إلى أنفسهم، فإذا الراقص قد عرف المكيدة، وإذا «سسيل» تطلب إليه أن ينصرف، فيتردد فتلحُّ، وتطرده طردًا فينصرف، وقد ثبت كل شيء، ولم يبقَ شك في أنها قد أثمت معه.

ويعود الأستاذ، فإذا لم يرَ الراقص سأل أين هو؟ فيقال إنه انصرف، ويتكلف «جان» تأويل هذا الانصراف فلا يحفل الأستاذ بهذا، ولكن جان نفسه يريد أن ينصرف؛ فيُدهش الأستاذ لذلك، ويسأل في شيء من الغفلة: «ماذا يحدث؟» فتجيبه امرأته في دعة وهدوء: «يحدث أني قد خنتك.» فيتلقى هذا الخبر في دهش هادئ، ويحاول أن يتبين الأمر، فتتركه امرأته معلنة إليه أن «جان» سيخبره بكل شيء؛ لأنه كشف كل شيء.

فإذا خلا إلى «جان» لم يتردد هذا في أن يخبره بكل شيء في غضب وحقد وثورة لا يعدلها إلا هدوء الزوج ودعته واطمئنانه، والزوج يرثي لامرأته، ويشفق عليها، ولا يؤثم إلا نفسه، فهو قد انصرف من امرأته إلى العلم، وتركها مهمَلة لا يحفل بها، فليس غريبًا أن تُفتتن هذه المرأة، ثم يثور الزوج ولكن لا على امرأته ولا على نفسه، بل على صديقه؛ ذلك لأن صديقه قد سافر وأهمل «سسيل» وتركها وحدها، وكان من الحق عليه أن يبقى معها، وأن يرعاها ويحوطها، فإذا أنكر الصديق عليه هذا القول ولفته إلى أن هذا واجب عليه هو، أجابه: «أنت تعلم أني مشغول بالنبات.»

و«جان» يغريه ويذكي في نفسه نار الحفيظة، ينصح له مرة بالطلاق، وأخرى بمبارزة الراقص، والأستاذ يسمع هذا كله في هدوء وسخرية، ثم يجيب بحديث له قيمته، يمثل ذكاء وفطنة، وبصرًا بالأمر، وإذعانًا للقضاء، فالأستاذ يعلم حق العلم مصدر هذا الغيظ وهذه الحفيظة، وهو يقدر حب هذا الصديق لامرأته، ولا يتردد في أن يقول له: «إن كنت محفظًا فلأنها خانتني مع غيرك لا معك.» بل لا يتردد في أن يقول له: «لوددتَ لو كنت أنت الآثم، فأنت صديق الأسرة تخفي مساوئها على الناس، وتخفيها علي أنا، فتضعني بمعزل عن هذه الأمور المنكرة التي تنغص عليَّ الحياة، وتصرفني عما أنا فيه من عمل وبحث.»

وتُقبل «سسيل» وقد تهيأت للخروج، فإذا سألها زوجها إلى أين تريد أن تذهب؟ أعلنت إليه أنها ذاهبة إلى بيت عمها تنتظر فيه الطلاق، ثم تطلب إليه أن يرافقها إلى هذا البيت، فليس ينبغي أن تخرج وحدها، فيقبل، وبينما هما يتهيئان للخروج تلتفت إلى «جان» قائلة: «لقد أردت المأساة فهذه هي المأساة، ولقد أردت أن تؤلمني فقد ظفرت، ولكن قد آن أن تألم أنت، وستألم كثيرًا.»

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت سنة على ذلك اليوم، وتغير كل شيء في بيت الأستاذ، وقد تزوج الأستاذ، وقد تزوج الأستاذ من كاتبته ومصورته، ونحن نراها في أول الفصل تنهر الخدم، وتتصرف تصرف السيدة المسيطرة، وتدخل على زوجها فإذا هو منكب على كتبه، فتتحدث إليه في رفق، ولكن في سلطان وتغلُّب، وهو مذعن مطيع، ولكن على كره.

وهي تطلب إليه الانتقال إلى باريس إذا أقبل الشتاء، فيدافعها قليلًا، فتلح، فيستسلم، ثم تعلن إليه أن لديها من العمل ما يمنعها من أن تعينه بالكتابة والتصوير، وأنها ستلتمس له الكاتب والمصور.

ثم يعلن إليها الأستاذ أنه قد وصلت إليه أخبار من «سسيل»؛ فيظهر عليها الحنق والموجدة، وتهمُّ بالنيل من هذه المرأة، فيمنعها الأستاذ من ذلك، وينبئها بأن «سسيل» قادمة الآن لتتفق معه على زيادة الراتب الذي فرضه لها، فتأبى إلا أن تذودها عن البيت، ولكن الأستاذ قد وجد الحل الملائم، فسيأتي «جان» وسيستقبل «سسيل»، وسيتفق معها على كل شيء على حين يخرج الزوجان لبعض شأنهما.

وقد أقبل «جان» وعهد إليه صديقه بقضاء هذه المهمة فيأبى ثم يقبل، ونحن نرى أنه قد تألم كثيرًا، وقد تغيرت حاله حتى أنكره الأصدقاء.

وقد خرج الزوجان وتركاه وحده يتردد في الغرفة ذاهبًا جائيًا، ثم يجلس إلى «البيانو» ويأخذ في الإيقاع الذي كان يوقعه في الفصل الأول.

ومن هنا تحسن القصة حقًّا، وتخلص من التكلف والتصنع، وترقى إلى الخيال البديع المؤثر.

هو إلى البيانو في إيقاعه، وإذا «سسيل» قد أقبلت، فتقف كما كانت تقف، وترافق كما كانت ترافقه، ويحس بها فيلتفت وقد بلغ التأثر منه ومنها أقصى مبلغ، وكأنهما قد نسيا كل شيء لحظة، وخُيل إليهما أنهما في عهدهما القديم، ثم يفيقان فيبتادلان أسئلة وأجوبة قصارًا، ثم يعرض عليها ورقة تركها زوجها القديم لتمضيها، فتقرأ فإذا هو يعلن أن يزيد راتبها على أن تعيش عيشة امرأة شريفة، فتمضي معلنة في سخرية أنها تؤجر على الشرف في حين يؤجر غيرها على الإثم.

ونحن نحس أنها لا تملك نفسها من التأثر والاضطراب، وأن صاحبها لا يملك نفسه أيضًا، وقد أمضت وخرجت متعجلة؛ لأنها مدعوة إلى الشاي، فنسيت أحد قفازيها، فيهوي إليه «جان» ويحمله إلى فمه يقبله باكيًا، وكأنها ذكرت ما نسيت فتعود غير منتظرة، فترى … فتطلب قفازها، فيدفعه إليها، ثم تطلب إليه الورقة التي أمضتها، فإذا دفعها إليها مزقتها تمزيقًا، فإذا سألها عن ذلك أخبرته أنها ليست في حاجة إلى هذا الراتب، وأنها مخطوبة، وأنها ستتزوج من رجل غني.

فقدِّر أنت وقع هذا في نفس «جان»، وهي تريد أن تمضي ولكنها لا تستطيع، وهي تتحدث إلى «جان» حديثًا قصيرًا فيه إبهام وغموض، وفيه جلاء ووضوح، ولكنها لا تلبث أن تفاجئ «جان» بأنها تعلم ما في نفسه حق العلم، وتقدر أن تألم ألمًا لا حد له، وهي تعلم من أمره كل شيء، وهو يعلم كذلك كل شيء، وقد أجلسته في المكان الذي تعوَّد الجلوس فيه من قبل، وجلست أمامه كما كانت تفعل، وأخذت تتحدث إليه لينة مرة عنيفة مرة أخرى، معلنة إليه أنها أحبته منذ ست سنين حين كانت خطبًا لزوجها، ولو قد دعاها في ذلك اليوم لأسرعت إليه، ولكنه لم يفعل إيثارًا لمودة صاحبه، وهي مازالت تحبه، وترى زوجها صديقًا ليس غير، وهي لم تخن زوجها وإنما خانته هو، وإذا هو ينكر أن تكون قد خانته، ويزعم أنه كان مخطئًا كذابًا، وهي تؤكد له أنه لم يخطئ ولم يكذب، فيجيبها بأنها إن كانت آثمة فهو يحب الإثم، ويكره الفضيلة، وإن كانت كاذبة فهو يحب الكذب، ويكره الصدق.

وينتهي بهما هذا الحوار إلى شيء من الذهول، يدفع كل منهما إلى صاحبه، وإذا هما قد اعتزما السفر معًا، واستئناف حياة جديدة فيها الحب الصريح الذي لا تكلف فيه، ولا غشاء عليه، ولكنها تذكر أنها تعرف من أمره ومن خلقه ما تعرف، وأنها تؤثر أن يكون الزواج بينهما قبل السفر، فلن يعيشا خليلين، فيفيق عند هذا ويذكِّرها بخطبها الغني، وما أنبأته به من الزواج، فتضحك وتعلن إليه أنه هو خطبها، وأنه سيكون زوجها، وأنها قدَّرت ذلك كله منذ رأته، وهما يتهيئان للخروج وإذا الأستاذ قد أقبل ومعه امرأته الجديدة، فيُدهش وتُدهش امرأته، ولكنها تقبل على «سسيل» لتحييها كارهة، وهي تلتمس لها اسمًا تدعوها به فلا تجد، فتجيبها «سسيل» أن انتظري أيامًا فستدعينني «مدام دي فيلييه»، فانظر إلى ابتهاج الأستاذ وإلى قوله: «لقد أضعتما الوقت في انتظار هذا اليوم، وما كان أحراكما أن تصلا إليه منذ أمد بعيد.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤