الأمر للقدر

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»

أما هذه المرة فسأدع ما يكتبه أصحاب التمثيل، وما تشغل به الملاعب في هذه الأيام إلى كاتب مات منذ سنين، وانصرفت الملاعب انصرافًا مؤقتًا عن قَصصه التمثيلي، وإن كانت عقول الناس وأذهانهم لم تنصرف عنه بعد، ولا يُنتظر أن تنصرف عنه قبل زمن طويل، وهو بول هرفيو.

ولست أدري لم تركت ما كان بين يدي من القصص التمثيلية الكثيرة التي ظهرت في هذا العام أو في العام الماضي وعدت إلى بول هرفيو أستعرض قصصه، وأتخيَّر من بينها قصة أجعلها موضوع الحديث في هذا الشهر، أو قل إنني أعرف السبب الذي صرفني عن الكُتَّاب الأحياء المنتمين إلى هذا الكاتب، وهو أني أحبه، وأُعجب به ولا أعرف حدًّا لحُبي إياه وإعجابي به، أحبه فأقرأ قصصه، ثم أعيد قراءتها المرة بعد المرة، فلا أسأم ولا أملُّ، بل أجد فيها كلما أعدت قراءتها لونًا من اللذة جديدًا، وفنًّا من الإعجاب طريفًا، وإذا كان هناك شيء يصح أن أتساءل عنه فهو هذا الحب الذي لا حدَّ له، والذي يزداد قوة كلما أمعنت في قراءة هذا الكاتب، لقد حلَّلت طائفة من قصصه، وكتبت عنه غير مرة، ومع ذلك فأنا راغب في أن أعود إليه، وأن أستأنف الحديث عنه، لا أجد في ذلك مشقة، ولا أخشى أن يجد القارئ في العودة إليه مشقة أيضًا، أذلك لأن فلسفة بول هرفيو في قصصه التمثيلية هي أشد أنواع الفلسفة الخلقية اتصالًا بمزاجي الشرقي، وملاءمته لحياتي الشرقية؟ فالشرقي — سواء رضي أم كره — قدري مطمئن إلى أن هناك سلطانًا قويًّا قاهرًا يصرفه ويسيطر عليه، كما يصرف الأشياء من حوله ويسيطر عليها، هو مقتنع بهذا القدر، مطمئن إليه، مستسلم له، وحياته العملية كلها متأثرة بهذا الاطمئنان والاستسلام، كما أن حياته العقلية والشعورية متأثرة بهما تأثُّرًا شديدًا، تختصره هذه الجملة التي يرددها المسلمون عن اقتناع وإيمان واطمئنان، والتي كدت أستعيرها عنوانًا لهذه القصة: «لا حول ولا قوة إلا بالله.»

ثم إن فلسفة بول هرفيو في الأخلاق، وفهمه للحياة يمثلان هذا النوع من القدريَّة التي يؤمن بها الشرقيون، ويذعنون لها إذعانًا كوَّن أمزجتهم تكوينًا، فأنت حين تقرأ قصة من قصص بول هرفيو لا تكاد تمضي في القراءة حتى تحس أن الكاتب جاد في أن يزيل عن نفسك طائفة من الغشاوات التي تختلف كثافة ورِقَّة، والتي تخيل إليك أن لك من الأمر شيئًا، وأنك تستطيع أن تصرِّف حياتك وحياة الناس، وأن تؤثر في الأشياء من حولك بهذه الإرادة التي تمتلكها، وما يزال الكاتب يزيل هذه الغشاوات غشاوة غشاوة، وما تزال أنت تمضي معه متخففًا من أثقالها شيئًا فشيئًا، واجدًا لذة غريبة في التخلص من هذه الغشاوات، ومواجهة الحياة كما هي، حتى ينتهي بك الكاتب إلى آخر القصة، وإذا أنت مقتنع معه بأن إرادتك ليست شيئًا، وأن ما كنت تحسبه لنفسك من قوة وبأس وسلطان لا يزن شيئًا أمام هذه القوى العظيمة الخارجية التي تصرِّفك وتسيطر عليك، وتخضعك لسلطانها، سواء أردت أم لم ترد.

لا يبحث بول هرفيو عن طبيعة هذه القوة، ولا يعنيه أن يحددها ولا أن يصفها، ولا أن يتعمق فيما بعد الطبيعة ليتبين كنهها، وليتبين ما بينها وبين القوى الأخرى من صلة، كل ذلك لا يعنيه، وإنما الذي يعنيه هو أن يلاحظ وجود هذه القوى، وتأثيرها في حياة الناس، وإكراهها الناس على أن يسلكوا طرقًا ما كانوا ليسلكوها لو أنهم أحرار، ويصطنعوا أمورًا ما كانوا ليصطنعوها لو أن لهم إرادة أو اختيارًا، لتكن هذه القوة دينية، أو لتكن هذه القوة طبيعية، أو لتكن هذه القوة اجتماعية، أو لتكن هذه القوة مزاجًا مؤتلفًا من هذه الألوان كلها، فطبيعتها لن تغير من الحقيقة الواقعة شيئًا.

والحقيقة الواقعة هي أن هذه القوة تأخذ علينا الطرق، وتطيف بنا من كل ناحية، وتضطرنا إلى ما نأتي من الأمر في حياتنا الفردية والاجتماعية فيما بيننا وبين أنفسنا، وفيما بيننا وبين الناس من صلة.

وإذا كان هذا حقًّا فخليق بنا أن نخفف من هذا الغرور الذي يملؤها، ويخيل إلينا أنا شيء مذكور، وأن نرى أنفسنا كما نحن ضعافًا مسيرين لا حظَّ لنا من قوة، ولا قدرة لنا على المقاومة، ثم إذا كان هذا حقًّا كنا خليقين أن نلائم بينه وبين حكمنا على الأشياء، وحكمنا على الناس، فنقصد في المدح والذم، ونعتدل في اللوم والإطراء، ولا نسرف في تقدير التبعات، ولا نسرف بعد ذلك في تقديرنا ما يلائم هذه التبعات من مقاومة باللوم حينًا وبالعقوبة حينًا آخر، وإذا كان هذا حقًّا فخليق بنا أيضًا أن نستقبل الحياة راضين مطمئنين، لا ساخطين ولا ثائرين، وما قيمة السخط الذي لا يجدي؟ وما قيمة الثورة التي لا تغني؟ وفيم نضطرب وفيم نثور ونحن مضطرون آخر الأمر إلى أن نذعن ونستسلم، أليس الرضا بما لا بد منه خير من هذه المقاومة العنيفة التي ليست في حقيقة الأمر إلا جهدًا ضائعًا وضربًا من ضروب اللغو.

فأنت ترى أن هذه الفلسفة التي تظهر في أول الأمر سوداء مسرفة في التشاؤم والاستسلام ليست أقل من غيرها دعوة إلى الخير، وترغيبًا فيه، واتصالًا بما ألف الناس من قواعد الأخلاق، فهي تأمر كما تأمر غيرها بالإحسان والصفح، والاعتدال في اللوم والذم، والاعتدال في الحمد والثناء، ثم هي تأمر كما تأمر غيرها بالرضا، واستقبال الحياة في طمأنينة، وابتسام عن علم بها، وحسن رأي فيها.

ألهذه الفلسفة المتصلة بمزاجنا الشرقي أحبُّ هذا الكاتب، وأمعن في حبه؟ أم أنا أحبه لأنه متصل بهذه الطائفة من الكُتاب والشعراء القدماء الذين أثروا في الأدب الإنساني كله آثارًا خالدة لا سبيل إلى أن تزول؟ فقَصص بول هرفيو ليس جميلًا لما فيه من فلسفة فحسب، بل هو جميل لأنه يتصل بالقصص اليوناني التمثيلي في تصوُّره للحياة، وفي تصويره لهذه الحياة، كما يتصل بهذا القصص التمثيليِّ القديم في إيثاره للجمال الفني، يلائم فيه بين الألفاظ والمعاني ملاءمة تبهرك بما فيها من جلال، يظهر في الألفاظ كما يظهر في المعاني كما يظهر في الأغراض التي يرمي إليها، وكما يظهر في الصور المختلفة التي يتخذها وسيلة إلى هذه الأغراض. وأنت حين تقرؤه مضطر إلى أن تفكر في إيسكولوس، يضطرك إلى ذلك هذا الجلال الذي يسبغه بول هرفيو على قصته كما كان يسبغه إيسكولوس، كما يضطرك إلى ذلك رأي بول هرفيو في القضاء، فهو بعينه رأي إيسكولوس في القضاء لا يفرق بينهما إلا أن إيسكولوس كان وثنيًّا يؤمن بآلهته الوثنيين، وبخضوعهم لهذا القضاء كما يخضع له الناس، وكان يتصور هذا القضاء تصورًا وثنيًّا يونانيًّا لم يتأثر بفلسفة الفلاسفة ولا بعلم العلماء ولا بالحضارة الراقية المسرفة في الرقيِّ، أما بول هرفيو فابن القرن التاسع عشر، لم يكن وثنيًّا، وإنما هو خلاصة كل هذه الحضارة الفرنسية، وما انتهى إليها من آثار الأمم القديمة، وما عمل فيها من فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ثم ما شهد من ازدحام الناس وتنافسهم في جميع ألوان الحياة، فقضاؤه ليس أقل عنفًا ولا سلطانًا من قضاء إيسكولوس، ولكنه قضاء متحضِّر مهذب، يلائم القرن التاسع عشر.

فلسفة بول هرفيو وفنه، واتصاله من هاتين الناحيتين بسلسلة الممثلين اليونانيين، والممثلين الفرنسيين في القرن السابع عشر، ثم تعرضه للمسائل العويصة الدقيقة، ومحاولته أن يجد لها حلًّا في القضاء والقدر، كل هذا حبب إليَّ هذا الكاتب، ورغَّبني في ترديد قراءته، وترديد الحديث عنه.

وهذه القصة التي أريد أن أحدِّثك عنها الآن هي آخر ما قدم إلى الملاعب قبيل الحرب، وقد أجمع النقاد على اختلاف أهوائهم وميولهم الفنية على الإعجاب بها والثناء عليها، وذهب بعضهم في ذلك إلى أبعد حد ممكن فوصفها بأنها آية من آيات الفن، ولست أذهب هذا المذهب ولا أغلو هذا الغلوَّ؛ فقد قرأت من قصص بول هرفيو التمثيلي ما أعجبني وراقني، وأثَّر في نفسي تأثيرًا أبلغ من تأثير هذه القصة، ولكني على ذلك أرى أن هذه القصة تلخص مذهبه الفلسفي تلخيصًا وافيًا أكثر مما تلخصه قصة أخرى من قصصه التمثيلية، وكأنه كان يحسن أن هذه القصة ستكون آخر قصصه، وكأنه كان يريد لهذا أن يعرض فيها مذهبه كاملًا صريحًا، وقد دفعه إلى ذلك ولا سيما في المنظر الأخير من هذه القصة.

وقد وضعت هذه القصة لملعب أجنبي، فقد يقال إن الكاتب لقي بعض الممثلين في إسبانيا، ورغب إليه هؤلاء الممثلون في أن يأذن لهم بترجمة شيء من قصصه التمثيلي فرضي، ثم وعدهم بأن يضع لهم قصة خاصة ثم عاد إلى باريس فوضع هذه القصة القصيرة، وأرسلها إلى إسبانيا، فما أسرع ما نُقلت إلى الإسبانية، ومُثلت في مدريد، بينما كان الأصل الفرنسي يُمثل في باريس، ولهذه الخاصة أثر ظاهر في القصة، فقد يلاحظ القارئ في بعض الأشخاص حرارة وحِدة وشعورًا غاليًا بالشرف تلائم المزاج الفرنسي، ومن غريب الأمر أن بعض النقاد الفرنسيين شهد تمثيلها في إسبانيا، وشهد تمثيلها في فرنسا، وأراد أن يقارن بين التمثيلين فاستخلص من هذه المقارنة أن القصة الفرنسية شيء والقصة الإسبانية شيء آخر، لا من حيث المعاني والأغراض؛ فقد كانت الترجمة دقيقة صحيحة، ولكن من حيث الأثر الذي يتركه تمثيلها في النفوس، فالتمثيل الإسباني عاطفة كله فتظهر فيه الحدة والحرارة، ويظهر فيه الشعور قويًّا عنيفًا، بينما التمثيل الفرنسي مزاج معتدل من العقل والشعور، فالحدة فيه لا تكاد تظهر، وإنما يظهر هذا التأثير الشديد الذي يلطفه التفكير كما يظهر فيه هذا الحزن العميق الذي لا حظَّ فيه لإسراف الدموع، ولا لإسراف الصوت أيضًا.

وأنت حين تقرأ هذه القصة تعجب بالألفاظ إعجابًا شديدًا، وذلك شأنك حين تقرأ آثار بول هرفيو كلها، وتعجب أيضًا بالمعاني التفصيلية، ولكنك تحس في أول الأمر شيئًا من البطء ومن الهدوء الذي لا يخلو من إسراف، ويخيَّل إليك أن الكاتب يطيل في غير جدوى، وتساءل نفسك إلى أين يريد أن ينتهي، ولكنك لا تكاد تفرغ من الفصل الأول حتى يكون الكاتب قد انتهى بك إلى عقدة شديدة، وشوَّقك إلى أن تعرف كيف تحل هذه العقدة، فأنت في حاجة إلى أن تمضي في القراءة، ولكن هذه العقدة ليست من الغرابة والطرافة بحيث تحول شوقك إلى شيء من الكلف غريب تشعر به أمام الحوادث الحادة، إنما أنت مشوق إلى أن تعرف كيف تنتهي هذه القصة، والكاتب في الفصل الثاني هادئ مطمئن، يسير معك في رفق ولين حتى يسئمك في بعض الأحيان، ولكن هذا الفصل لا يكاد ينتصف حتى ينقطع كل هدوء، وينتهي كل رفق، ويستحيل الأمر استحالة تامة، فإذا الحوادث يتبع بعضها في سرعة شديدة وعنف غريب، وإذا أنت قد فقدت هدوءك، وثُرت كما يثور الكاتب، وإذا شوقك إلى الفراغ من القصة قد استحال إلى شهوة عنيفة فأنت تعيش مع الأشخاص عيشة حادة مضطربة، وأنت تحس في الوقت نفسه الغشاوات تسقط عن نفسك شيئًا فشيئًا، وأنت ترى نفسك بعد هذا كله فجأة قد وقعت أمام إثم عظيم فيه القتل، وفيه السرقة، وفيه الكذب، وفيه شهادة الزور، ولا أثر للإرادة الإنسانية الحرة في شيء من هذا بوجه من الوجوه، إنما هي ظروف قاهرة: منها ما يتصل بشهوات النفس، ومنها ما يتصل بالوراثة، ومنها ما يتصل بالنظام الاجتماعي، وكل هذه الظروف قد تظاهرت على أن تضطر جماعة من الناس إلى أن يتورطوا جميعًا في هذه الآثام، وهؤلاء الناس جميعًا بطبيعتهم وبتربيتهم، وباعتقادهم الديني بعيدون كل البعد عن هذه الآثام لو استطاعوا أن يتقوها ويجتنبوا التورط فيها، هم جميعًا مسيحيون مؤمنون شديدو الإيمان بحكم أمزجتهم، وبحكم تربيتهم، وبحكم البيئة التي يعيشون فيها، وهم يتمثلون وصايا التوراة: لا تسرق، لا تقتل، لا تشهد الزور … وهم مع ذلك مضطرون إلى أن يسرقوا، وإلى أن يقتلوا، وإلى أن يشهدوا الزور، ثم إلى أن يلاحظوا هذا كله، ويلاحظوا آخر الأمر أن السلطان كله للقدر. وليس هذا كله كل ما في القصة، بل أنت تجد فيها نوعًا من المقارنة غريبًا دقيقًا، عمد إليه الكاتب في رفق ولين، بين خادم متواضع ضئيل اضطرته ظروف الحياة أن يسرق شيئًا قليلًا من سادته، فإذا هم ساخطون عليه، ناقمون منه، يعنفونه ويطردونه في ازدراء واحتقار، وهو مذعن مستسلم مستخزٍ أمام ما اقترف من إثم، حتى إذا جلَّ الخطب وكانت الكارثة، ظهر من هذا الخادم ما يجعله خليقًا بإعجاب سادته، بل ما يجعل سادته مدينين له بالشكر، ويُكرههم على أن يعترفوا له بالجميل، وهو على هذا كله حين سرق ما سرق لم يكن أشد منهم تورطًا في الإثم، ولا أبعد منهم عما تعودوا أن يسموه شرفًا وفضيلة.

•••

نحن في قصر فخم في الريف الفرنسي تقيم فيه أسرة غنية، تتألف من زوجين وابنين، فأما أحد الزوجين فرجل غني نشأ في الطبقة الوسطى، وعمل أبوه في الشئون المالية؛ فأثرى وطمع له في زوجة من الأسر النبيلة فوُفق إلى أن يزوجه من فتاة بعيدة الشرف، عظيمة الثروة، فأما الزوج فاسمه جايتان بيري، وأما الزوجة فاسمها جوليان دي شازيه.

وقد ورث الزوج عن أبيه مع ثروته ما يمثل الطبقة التي نشأ فيها، فهو رجل عمل لا يعرف التردد ولا الاضطراب، جريء حتى على الأخلاق، حتى على النظم الاجتماعية، ماهر في النفاق، يستطيع أن يخدع الناس عن نفسه، كما يستطيع أن يخدعهم عن أنفسهم، قد أظهر لامرأته أنه يحبها فاقتنعت بذلك وأحبته، فصدقت في حبه، على أنه لم يكن فيما أظهره من الحب إلا منافقًا.

وأما امرأته فقد ورثت كذلك عن أسرتها شرفًا في النفس، وكرامة، وأخلاقًا رضيَّة، وهدوءًا، وصراحة، وسذاجة لا حدَّ لها، مخلصة لا حد لإخلاصها، صادقة في حب زوجها، صادقة في حب ابنيها، معتدلة في هذا كله، محسنة كثيرة الإحسان.

ولهذين الزوجين ابنان؛ أحدهما: غلام يتهيأ لدخول المدرسة الحربية، والأخرى: فتاة جميلة ظريفة، قد بلغت سن الزواج وهي تدير في نفسها فكرة لها صدى في قلبها، فهي تحب وتريد أن تقترن ممن تحب.

ولهذه المرأة أخ عمل في الجيش، وارتقى فيه إلى مرتبة لا بأس بها، يشبه أخته في كرم النفس، وحسن الشيم، محب لأخته وابنيها، لا يعدل بهم أحدًا، قد نزل لهم عن ثروته كلها أو كاد، ووقف حياته على هذين الشابين لا يبتغي إلا أن يجعلها أسعد الشبان.

ونحن نرى أول الفصل هذا الغلام جواشان في حالة سيئة، والخادم يُعنى به؛ لأنه سقط عن فرسه، وكاد يصيبه التلف لولا هذا الخادم، وهو يشكر للخادم أن أنقذه، والخادم لا يرى في ذلك ما يستحق الشكر، وهو يطلب إلى سيده ألا يتحدث بشيء من ذلك إلى أمه حتى لا تشفق ولا تخاف حين يتصل بالمدرسة، وألا يتحدث بذلك إلى خاله؛ حتى لا يتخذه موضوعًا للعبث والسخرية، والغلام يشعر بما في ذلك من تضحية يقدمها الخادم له، فلن تعرف أمه أن الخادم قد أنقذه، ولن تثني عليه، ولن تكافئه.

وتأتي أخته نويمى فترثي له، وتثني على الخادم.

ثم يأتي خالهما فيكون بينه وبينهما شيء من الدعابة ظريف. ولكن هذا القسم كله من القصة بطيء — كما قلت لك — لا يظهرنا على شيء مما يريد الكاتب إلا أنه يمثل لنا دعة الأسرة، وما هي فيه من ثروة ونعمة بال، كما أنه يمثل لنا هذا الخال سفرين دي شازيه ضابطًا قوي النفس، شديد الخلق، كريمًا، رقيق القلب …

وقد انصرف الفتيان وأقبلت أمهما فتتحدث إلى أخيها لبعض الشيء، ونفهم من حديثها أنها تنتظر صديقًا لها ولأخيها هو مسينيه، كما نفهم من حديثها أن زوجها سيسافر لبعض شأن، ويقضي الليل بعيدًا عن القصر …

ويتركها أخوها حينًا، ويقبل زوجها، فيكون بينهما حديث نفهم منه أنه ضيق الصدر بأخيها، وهي تلومه على ذلك، وتذكر ما كان لأخيها عليهما من فضل، وهو ينكر جميل أخيها، ويسرف في الإنكار، ثم نفهم من الحديث أنه يسافر إلى مكان لا يعينه في دقة، كما أنه لا يعين موعد عودته في دقة، فهو مريب في كل ما يقول، كما أنه مريب في كل ما يأتي، ولكن امرأته لا تحس شيئًا من هذا.

وقد انصرف وأقبل الصديق الذي كانت تنتظره جوليان، فإذا تحدث إليها وتحدثت إليه فهمنا أنه صديق قديم، وأنه أحب هذه المرأة وخطبها فلم تجبه، فاحتفظ لها بودٍّ قويٍّ طاهر.

ويأتي أخوها فيتحدثون قليلًا، ثم تتركهما لبعض شأنها، فإذا خلا الرجلان أخبر مسينيه صاحبه بأن زوج أخته سيئ الحال، قد أتى من الأمر ما يمس شرفه، ويعرضه للقضاء، وفهمنا من حديثهما أن هذا الرجل يخون امرأته، ويسرف في خيانتها، فله خليلة ينفق عليها أموالًا ضخمة، ثم نرى سفرين ثائرًا يقسم ليكرهن زوج أخته على أن يغير من سيرته، وصاحبه يأخذ عليه العهد أن يكتم الأمر على جوليان، ولكن هذا الكتمان لن يطول أمره، فهذه جوليان مقبلة، وفي يدها كتاب تقول أنه أرسل إلى زوجها مستعجلًا، وأنها ترددت ثم فضته، ونظرت فيه فإذا هو بشع منكر؛ لأنه يخبر زوجها بأن أمره قد رُفع إلى القضاء، وهو متهم بالنصب والاحتيال، فأما هي فمغضبة ساخطة لا تحفل بهذا الكتاب، وإنما تنكر أن يكون في الناس من ينحط إلى كتابة مثله، وأما الرجلان فيضطربان لهذا الكتاب، وتحس منهما هذا الاضطراب، فتسأل وتلح فينبئانها آخر الأمر بأن هذا الكتاب قد ينم عن بعض الحق، ثم يعلنان إليها أنهما سيسافران فورًا إلى باريس ليتبينا حقيقة الأمر، وليتداركا الشر قبل وقوعه …

فقد رأيت اضطراب هذه المرأة أمام هذا الخطر الذي يوشك أن ينزل بأسرتها، ولكنها على ذلك مطمئنة لا تكاد تقدِّر ما تتعرض له.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فقد انقضى الليل، وانقضى أكثر الغد، وأقبلت جوليان إلى حيث تركناها أمس مضطربة بعض الشيء، تتعجل عودة أخيها من باريس، وهذا الخادم قد أقبل يعرض عليها حسابه؛ لأنه يريد أن يترك الدار بعد أن اتُّهم بأن سرق مائة فرنك، فاعترف بهذه السرقة، وبأنه اضطر إلى ذلك لينقذ ابنته من الموت، وهي لا تكاد تلتفت إليه، بل ترد إليه معلنة أن زوجها سينظر في هذا الحساب، والخادم يستعطفها ويدفع عن نفسه، وهي ترده رفيقة مرة، وعنيفة مرة أخرى.

وهذا أخوها يقبل فتتعجله الأخبار، فيخبرها بأن ما في الكتاب صحيح، وبأنه عرف تفصيل القضية، وبأن زوجها متهم بالسرقة، ثم بالنصب والاحتيال، وبأن التهمة — ثابتة — تثبتها كتب خطتها يد زوجها، وبأن الخصوم السياسيين لزوجها مسرفون في نيل هذا الرجل بالشر، يبتغون من ذلك شفاء شهوة سياسية … وهي تسمع لهذا كله فيصعقها، ولكنها قويمة النفس، تستطيع أن تحتمل، فما أسرع ما تسترد صوابها، وإذا هي تفوض الأمر لأخيها، مظهرة الاعتماد عليه، والثقة به، ولكنها مع ذلك تثق بالله، وتعتمد عليه، فتترك أخاها وتذهب إلى حيث تصلي.

وهذان الغلامان قد أقبلا في نشاط ومرح وابتسام للحياة، وخالهما ينكر عليهما الإسراف في اللذة والابتهاج، ويود لو نظرا إلى الحياة في شيء من الجد فلا يفهمانه؛ لا يفهمان منه هذا الرأي الجديد، وهو لا يستطيع أن يبين، ولا أن يظهرهما على حقيقة الأمر، ولكنه يدور حول هذه الحقيقة، فلا يعيان عنه شيئًا، والفتى يداعب أخته ويغيظها، ويعرِّض بما بينها وبين بعض رفاقه من صلة ثم يمضي، فإذا ألحَّ الخال على ابنة أخته أخبرت بأنها تحب هذا الرفيق، وأن هذا الرفيق يحبها، وأن أمها تحس بشيء من ذلك، وتشجعها عليه، وأنها هي حريصة على أن تقترن بهذا الفتى مشفقة من رفض أبيها، معتمدة على خالها في حمل أبيها على القبول، وينصرف الفتيان إلى لعبهما.

وأنت تحس في أثناء كل هذا الحديث شوقًا إلى أن تعرف كيف تنتهي القصة، وضيقًا بكل هذه الأشياء التي تعترض مجراها، ولكن هذه الأشياء كلها لم تأتِ عبثًا، فهي تزيد في حرج الموقف، فمرح هذين الغلامين وابتسامهما للحياة، وأمل هذه الفتاة وحبها بينما تحدق الكارثة بهذه الأسرة، كل هذا يضاعف الحرج الذي يحيط بهؤلاء الناس، وله أثره فيما سيصدر عنهم من الأعمال.

وقد أقبل الزوج فيتلقاه أخ امرأته مغضبًا، ويسأله هل تلقى رسالة امرأته، فإذا أجاب أنه لم يتلقَّ شيئًا، قال له صاحبه: فهذا دليل على أنك لم تكن حيث أنبأت امرأتك، ثم يشتد الحوار بين الرجلين، ونفهم منه أن الزوج يعلم بكل شيء، أنه استيأس من موقفه وأنه إنما جاء ليمر بمكتبه فيأخذ منه بعض الشيء، ثم يمضي إلى حيث يلتمس النجاة، إذن فهو يريد الهرب من فرنسا! لا يحفل بامرأته، ولا يحفل بابنيه، ولا يحفل بما سيقال عنه، وما سيقال عنهم جميعًا … ولكن سفرين يقدِّر موقفه، ويقدِّر موقف أخته وابنيها، وشرف الأسرة، ومستقبل هذين الغلامين بنوع خاص، وهو يعلم أنَّ هرب هذا الرجل أو سجنه قضاء على ما للأسرة من شرف، وهو يتمثل ابنة أخته وقد انقطع أملها، وانصرف عنها رفيقًا، ويتمثل ابن أخته وقد حيل بينه وبين مستقبله في الجيش، ويتمثل أخته ذليلة مهينة محتقرة، يتمثل هذا كله ولا يرى مخرجًا منه إلا أن يقتل هذا الرجل نفسه قبل أن يُساق إلى القضاء، فهو يعرِّض لزوج أخته بالانتحار، فلا يلقاه الآخر إلا ساخرًا مزدريًا، فيخرج من التعريض إلى التصريح، فيأبى عليه الآخر، فيلح، فيشتد الآخر في الإباء، وكلما مضى الحوار بين الرجلين اشتد في نفس الأب حرص على الحياة والهرب، واشتدَّ في نفس الخال حرصه على شرف أسرته، ومستقبل هذين الغلامين. وكان الأب قد ترك مسدسه على المائدة، فانظر إلى الخال يُخرج المسدس من علبته، ويشير به إلى الأب، والأب يعرض عنه، والخال يلح، حتى إذا أسرف في الإلحاح، ومضى في طريقه إلى مكتبه تبعه الخال ومعه المسدس، هائجًا ثائرًا منذرًا، والأب لا يزداد إلا امتناعًا، والخال لا يزداد إلا نذيرًا، وهذا الخادم قد أقبل يخبر بأن بعض الشرطة بالباب، ثم ينصرف، فيشتد الخال في الإلحاح، ويشتد الأب في الإنكار، ويمضي إلى مكتبه، ويتبعه أخ امرأته، وبينما هما يستبقان في شيء يشبه الصراع يعود الخادم ويقبل الصديق مسينيه وقد أغلق باب المكتب دون الرجلين ويُسمع بينهما حوار عنيف، ثم يسمع انطلاق المسدس، ثم يعود الخال في ذهول تستطيع أن تقدره، وقد فهم الخادم وفهم الصديق أنه قد قتل زوج أخته، ولكن الشرطة بالباب، فما أسرع ما يمضي الخادم والصديق إلى حيث القتيل.

وهذه جوليان مقبلة، فيتلقاها أخوها، فتسأله عن زوجها هل أقبل، فيجيبها جوابًا غامضًا، ويتحدثان فما أسرع ما يصلان إلى الفاجعة، ألم تنظر فترى قفازي زوجها؟ ثم ألم تنظر فتفتقد المسدس؟ إنها لتسرع تريد أن ترى زوجها فيمسكها أخوها، ويخبرها بأنه قد مات … فهي ذاهلة واجمة، ساخطة على أخيها؛ لأنه لم يحل بين زوجها وبين الموت، معلنة أنها تحب زوجها، وستحبه أبدًا، ولكن أخاها يكشف لها عن جليَّة الأمر، وينبئها بمكان هذا الرجل من خيانتها، وما يزال بها حتى تقتنع، وإذا حبها لزوجها قد تغير، وإذا هي مثقلة قد انهدت قواها أمام هذه الكوارث المتصلة: هذا زوجها قد سرق، وكانت على ذلك تحبه، وهذا زوجها قد قتل نفسه وأسلمها، وأسلم ابنيها للذل والفقر، وكانت على ذلك تحبه، ولكن زوجها قد خانها، فأين ذهب هذا الحب؟ لقد كان تكره أخاها منذ لحظات، ولكنها الآن تثوب إليه، وتريد أن تعانقه وهو يأبى عليها … فإذا أنكرت عليه هذا الإباء أخبرها بأنه قتل زوجها … فهي مضطربة إلى اضطرابها، واجمة إلى وجومها، وهي تذكر وصايا التوراة: لا تسرق، وقد سرق زوجها، لا تقتل، وقد قتل أخوها، لا تشهد الزور، وهي مضطرة إلى أن تشهد الزور، وهي مشفقة على أخيها من الخادم، ألم يكن أمس موضوع سخطها؟ ألم يعنفاه؟ ألم يطرداه؟ فما يمنعه أن يثأر لنفسه؟ لقد سرق ولكن زوجها قد سرق، وقد سرق، وهو مضطر لينقذ ابنته من الموت، أما زوجها فسرق ليرضي خليلة، وليمعن في خيانة امرأته، وهذا الخادم قد أقبل ينبئ سفرين بأن بعض رجال الشرطة عندما نظر إلى القتيل لاحظ أن المسدس قد أصاب رأسه من بعيد فأخبره الخادم بأنه أدرك سيده وهو يحاول الانتحار فأراد أن ينتزع منه المسدس فلم يوفق إلا إلى إبعاد ذراعه عن رأسه، واقتنع الشرطي، والخادم يخبر سيده بذلك ليعلمه، وليحرص على ألا يناقضه إن سُئل، إذن فهذا الخادم الذي سرق أمس واحتُقر، وازدُري، وطُرد قادر على الوفاء! ولكن ما طبيعة هذا الوفاء؟ أليست هي الكذب، وشهادة الزور؟ وإذن فمتى كان يحسن الخادم، أحين يشهد الزور لينقذ حيًّا أم حين يصدق في الشهادة ليعاقب مجرمًا؟

•••

أما سفرين فهو يودع أخته، يريد أن يترك جوارها وجوار ابنيها، فهو لا يستطيع أن يرى هذين الغلامين وقد قتل أباهما، وسيكون حظه من الدنيا أن يرعاهم جميعًا عن بعد، ويضمن لهم الحياة.

وهذا الصديق قد أقبل فإذا سفرين يستودعه أخته، ويوصيه بأن يرعاها في احترام وإخلاص، فيعده بذلك.

ولكن أخته تتعلق به ملحَّة عليه أن يعدها بأنه سيعود أو بأنه سيحاول العودة، فإذا أسرفت في الإلحاح أجابها: فيمَ الوعد؟ وهل أدري ماذا أصنع؟ وهل أستطيع أن أعلم شيئًا؟ أليس الأمر للقدر؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤