حُبَّان

قصة تمثيليَّة للكاتب الفرنسي «بول تيفوا»

أما أحدهما فالحب بالحاء الكبيرة لو أن في كتابتنا العربية حاء كبيرة. الحب الذي يكون من نفسين نفسًا واحدة، ومن قلبين قلبًا واحدًا، وينتهي في كثير من الأحيان إلى الزواج، وأما الآخر فهذا الحب الفطري الذي يملأ قلب الأم لابنها، ويشغل من قلب الابن في بعض الأحيان حيزًا ليس بالضيق ولا بالضئيل.

والقصة صراع بين هذين الحبيبين، أو قل إن شئت بين مصدر هذين الحبَّين: هي صراع بين الأم والزوج، أو بين الأمومة والزوجية، والرجل موضوع هذا الصراع، فأنت ترى أن ليس في القصة شيء جديد، فموضوعها مألوف منذ استقر في الحياة الاجتماعية على اختلاف البيئات والأجناس نظام الأسرة، وأي الناس لم يحس أنه موضوع النزاع بين أمه وامرأته، نزاع يقوى ويضعف باختلاف الظروف التي تحيط بالأسرة، والصلات التي تصل بين أعضائها، فليس من الغريب في شيء أن تستقبل هذه القصة استقبالًا فاترًا؛ لأنها لم تأتِ بشيء جديد، ولأن الآداب على اختلاف أنواعها وألوانها وعصورها قد قالت في هذا الموضوع كل ما يمكن أن يقال، ثم هو قد اتصل بحياة الناس حتى أصبح شيئًا مبتذلًا تجري به الألسنة، وتسير به الأمثال، ويألم الناس له في حياتهم الخاصة، ويضحكون منه إذا اجتمع بعضهم إلى بعض.

ليس غريبًا أن تستقبل القصة في فتور، ولكن الغريب أن يقدم الكاتب على مثل هذا الموضوع برغم شيوعه وابتذاله، فيجد من نفسه الشجاعة على اختياره، والتقدم به إلى ملعب من ملاعب التمثيل، وأشد من هذا غرابة أن يُوفق إلى الإتقان، وإرضاء النظارة، وحمل النقاد على أن يعترفوا له بالإجادة في شيء من التحفظ قليل.

والواقع أن هذه القصة حين مُثلت لأول مرة أمام هذه الطائفة الضيقة المختارة التي تحضر التجارب في الملعب لم تثِر إعجابًا، ولعلها أثارت شيئًا آخر يناقض الإعجاب، ولكنها لم تكد تُعرض على جمهور النظارة الذين يختلفون إلى الملاعب للَّهو لا للنقد، حتى أعجبتهم، واستأثرت بقلوبهم، والغريب أنها أعجبت النقاد أنفسهم في هذه المرة، كأنهم تأثروا بجماعة النظارة حين رأوها راضية تضطرب بين ضروب الانفعالات المختلفة، فاضطربوا هم أيضًا، وخرجوا يثنون بعد أن كانوا ساخطين.

ذلك لأن الجدة والابتكار على خطرهما، وأثرهما العظيم في الآيات الفنية ليسا شرطين أساسيين للإجادة دائمًا، وربما كان في بعض الأوقات عقبة تحول دون الإعجاب والرضا.

ونحن نعرف كُتابًا وشعراء، وممثلين وفنانين مختلفين لم يُوفقوا إلى إرضاء الناس؛ لأن آياتهم الفنية كانت من الطرافة والجدة بمنزلة لم تكن قد سمت إليها بعدُ عقول معاصريهم، ولم يكن بد من أن تمضي عشرات السنين، ويتغير الجيل لتظهر القيمة الفنية لهذه الآثار، والناس مستعدون للإعجاب بما ألفوا، والرضا عنه أكثر من استعدادهم للافتتان بما لم يألفوا، ولا سيما إذا رأوا أنفسهم فيما يُعرض عليهم من مظاهر الفن، ومن ذا الذي لا يرثي لنفسه حين يرى آلامه تمثل بين يديه، وكذلك كانت الحال في هذه القصة.

رأى كثير من الرجال والنساء فيها أنفسهم، فسخطت الأمهات على الزوجات، وحنقت الزوجات على الأمهات، ورثى الرجال لأنفسهم، واتعظوا جميعًا، ووعدوا جميعًا أنفسهم أن يلائموا بين حياتهم وبين ما خيَّل إليهم الكاتب أنه الحق أو العدل أو الخير.

والحق أن الكاتب قد استطاع أن يعرض لهذا الموضوع في شيء غير قليل من اللباقة والدقة وحسن الذوق، فيزيل منه طائفة من الظروف كان من شأنها أن تصرف الناس عنه، وتزهدهم فيه، ويكفي أن تلاحظ مثلًا أنه تخيَّر أشخاص قصته جميعًا من الأغنياء المترفين، فألغى العقبة الاقتصادية، ولم يدع لضرورات الحياة المادية أثرًا في هذه الحرب العنيفة التي أثارها بين الأم والزوج، ثم ألغى طائفة أخرى من الظروف تشبه هذا الظرف الاقتصادي، فلم يجعل الأم متقدمة في السن حتى لا يكون اختلاف السن مصدرًا من مصادر الشقاق بين المرأتين، ولم يجعل بين هاتين المرأتين اختلافًا ظاهرًا في الطبقة حتى لا يكون تفاوت المنزلة الاجتماعية مؤثرًا فيما سيكون بينهما من صراع، وإنما اجتهد في أن يكون الصراع معنويًّا صرفًا يتصل بالقلوب والنفوس والعواطف أكثر مما يتصل بأي شيء آخر، ثم وفق من ناحية أخرى، فكان مصورًا دقيقًا بارعًا، مسيطرًا على خياله، لم يتكلف الاختراع وإنما تخيَّر حوادثه بين هذه الأشياء اليسيرة السهلة التي تجري بها حياة المترفين في كل يوم، فلم يستطع أحد من النظارة أن ينكر حادثة أو يرى وقوعها بعيدًا وغير مألوف.

وخصلة أخرى أظهرت حظ الكاتب من الكفاية الفنية، وهي أنه حصر أشخاصه في أقل عدد ممكن، فهم أربعة لا يزيدون إلا إذا نظرنا إلى الخادم الذي تكلف الكاتب إيجاده ليكون صلة بين هؤلاء الأشخاص ليس غير.

وكان يُخشى على الكاتب أن تضطره قلة الأشخاص إلى أن يكون كثير القول قليل الحركة، فيفسد بذلك حواره، ويثقل وتتأثر القصة كلها من هذا الفساد، ولكنه استطاع على قلة الأشخاص أن يجعل حواره قصيرًا خفيفًا سريعًا ما بقي عنده الأشخاص الأربعة.

فلما كان الفصل الثالث وذهب أحد هؤلاء الأشخاص ظهر أثر ذلك فطال الحوار، وثقل بعض الشيء، وأصبح أقرب إلى المناقشة الفلسفية منه إلى التمثيل الحي، ومهما يكن من شيء فإن في قراءة هذه القصة لذة عقلية وفنية لا بأس بها.

•••

نحن في باريس في قصر تظهر عليه آثار النعمة والترف، فخم تحيط به حديقة واسعة كثيرة الأشجار، أقرب إلى الغابة منها إلى الحديقة نادرة في مدينة عظيمة كباريس، ونحن إذا رُفع الستار نرى خادمًا يحاول أن ينظم طائفة من الآنية الدقيقة الغالية في حجرة الاستقبال، فتدركه سيدته هيلان، وهي امرأة جميلة رائعة كنساء التمثيل جميعًا، في مقتبل عمرها، على وجهها نضرة الشباب والغبطة والسعادة؛ لأنها حديثة عهد بالزواج قد عادت منذ أيام من سياحة طويلة مع زوجها في إيطاليا ومصر، وهي تريد أن تنظم دارها الجديدة بحيث تلائم ميولها وذوقها الفني الرقيق، وهي تأمر الخادم بأن يصطنع الرفق في مسِّ هذه الآنية، وتطلب إليه أن ينقلها في رفق إلى الطابق العلوي، وتعلن إليه أن هذه الحجرة سيُغير نظامها، فيُهدم الحائط الذي يفصل بينها وبين حجرة أخرى لتصبح الحجرتان حجرة واحدة حديثة التنسيق والنظام، على أن يُنقل هذا الأثاث القديم إلى غرفة أخرى في الطابق العلوي، فيسمع الخادم هذا كله في شيء من الدهش والإنكار؛ لأنه يخدم في هذا البيت منذ ثلاثين سنة وقد عهده كذلك، وهو يعلم حق العلم أن أم سيده حريصة كل الحرص على أن تحتفظ به كما هو.

وتفهم من هذا الحوار بين الخادم وسيدته أن أم الزوج غائبة عن باريس منذ تزوج ابنها، وأن أبا الزوج قد مات منذ ثماني سنين، وكان رحيمًا رفيقًا بابنه وامرأته، فلما مات فرغت المرأة لابنها، ووقفت عليه حياتها كلها، وعرف لها ابنها ذلك فأحبها حبًّا لا يعدله حب، واتصلت بينهما صلة قوية زادها قوة وغرابة شباب الأم ونضرتها، فكانا يخرجان للتروض والنزهة، فلا يشك من يراهما في أنهما زوجان أو خليلان، ونفهم من الحوار أيضًا أن هذه الأم متسلطة قوية السلطة والإرادة، ونحس ضيق المرأة الشابة بكل ما تسمع، ولكنها على كل حال تأمر الخادم أن يمضي في تنفيذ ما أمرت به فيظهر الطاعة، ولكن في تثاقل وإبطاء، ويأتي الزوج وهو جورج شاتل، فتتلقاه امرأته لقاء حسنًا، لقاء العاشقة المفتونة التي لا يقل عشقها لزوجها عن هيام زوجها بها، فيكون بينهما حوار نفهم منه أنه موافق لامرأته كل الموافقة على تغيير النظام في هذا البيت، ثم نفهم أنه مشوق إلى أمه، ثم نفهم أن الزوجين سيخرجان إذا كان المساء لتناول العشاء في مطعم من المطاعم الباريسية المشهورة.

والزوج يعلن إلى امرأته أن سيكون معهما ثالث فتضيق بهذا، حتى إذا ذكر لها اسمه رضيت واطمأنت، وهذا الثالث هو هنري فالان صديقها منذ الطفولة، وصديق زوجها منذ حين لم تره منذ تزوجت وهي شديدة الشوق إلى أن تراه؛ لأن له ولأبيه عندها يدًا، ولأنها تضمر لهذا الشاب مودة طاهرة بريئة.

والزوجان في هذا الحديث وإذا رسالة برقية ينظر فيها الزوج فيبتهج؛ فهي تعلن إليه قدوم أمه اليوم، وقد كانا ينتظرانها آخر الشهر، وإذن فقد تغير برنامجهما فلن يخرجا ولن يرتاضا، وسيتناولان العشاء في البيت حتى لا يشقَّا على أمهما.

وهيلان تقبل هذا في شيء من الإذعان والتبرم، والرجل يغريها أو يكاد وهو يثني على أمه، ويذكر ظرفها، ورقتها، وحنوها.

وينصرف الزوجان كل لشأنه، وقد أقبل الخادم فهو ينفذ كارهًا متباطئًا أمر سيدته، وهو كذلك وإذا الأم قد أقبلت؛ فيبتهج الخادم بلقائها، وتنكر هي ما ترى من تغيير نظام البيت، ويشتد إنكارها حين ينبئها الخادم بتفصيل هذا التغيير، ولكن ابنها يقبل فتلقاه راضية مبتهجة بلقائه، وتكاد تنسى تغيير النظام، ولكنها لا تلبث أن تذكره فتتحدث فيه إلى ابنها في شيء من الإنكار تخفيه ولكنه يظهر، وابنها مضطرب بينها وبين امرأته كأنه يوافق امرأته على التغيير، وهو الآن يكاد يستعطف أمه، ويعرض عليها ألا يتغير شيء.

ولكن أمه تظهر الرضا على أنه رضا يشبه السخط، والرجل يحدث أمه عن امرأته فيثني عليها، ويذكر ظرفها ورقتها وحبها كما كان يثني على أمه أمام امرأته.

ثم يذهب ليدعو امرأته فتقبل، وتلتقي المرأتان في فتور ظاهر يضيق به الرجل، ويبذل جهدًا غير قليل في إزالته، فيُوفق وما يكاد.

ثم يتركهما معلنًا أنه سيتحدث مع صاحب سيارات في سيارة يريد أن يشتريها لامرأته، فنفهم بعد ذلك من الحديث بين المرأتين أن هيلان تحسن سوق السيارات، وتريد أن تكون لها سيارتها الخاصة لتخرج بها في باريس، والأم تنكر هذا، وتُدهش له، ويشتد دهشها وإنكارها حين تقص عليها هيلان أنها قضت ليلة أمس مع زوجها بعيدين عن باريس؛ لأنهما خرجا للنزهة فضلَّا، واضطرا إلى أن يقضيا الليل في فندق حقير قذر، وكانا سعيدين كل السعادة حتى إنهما ليريدان أن يستأنفا هذا الضلال، فتلاحظ الأم أن ابنها قد تغير في سرعة شديدة، فهو يطمئن الآن إلى مثل هذا الفندق القذر، وقد كان من قبل مترفًا، مسرفًا في الترف.

ونلاحظ نحن أن هذا التغيير لا يعجبها، وأن الحرب قد بدأت في حقيقة الأمر بين هاتين المرأتين: كلتاهما تحب هذا الرجل، وتريد أن تستأثر به، وكلتاهما تريد له السعادة، ولكن كما تتصورها هي، ثم كلتاهما قوية الإرادة، ظاهرة الشخصية، حريصة على أن تستأثر بالسلطان.

وقد أقبل الخادم يستأذن للصديق هنري فالان، فإذا دخل وخلا إلى صديقته كان بينهما حوار بديع مضطرب مختلف، تظهر فيه سعادة هيلان، وحبها لزوجها، وابتسامها للحياة، ويظهر فيه شقاء هنري، واضطراب نفسه، وانصرافه عن اللذة والأمل.

ونحس نحن أن هذا الشاب قد استكشف بعد زواج هيلان أنه يحبها، ورأى أن ليس إليها سبيل، فهو يشقى بهذا الاستكشاف، وهو على ذلك يحاول أن يخفي حبه، وأن يحتفظ للزوجين بصداقة طاهرة ترعى فيها كل الحرمات، ولكنه عاجز عن أن يضبط نفسه، ويملك عاطفته، وآية ذلك أنه يعتذر عن العشاء، ويعجز عن أن يضرب موعدًا آخر للقاء الزوجين.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى نحو العام على ما حدثتك به آنفًا، وأخذت هذه الحوادث الضئيلة اليسيرة المحرجة على يسرها وضآلتها تكثر، ويجتمع بعضها إلى بعض؛ فتفسد جو البيت، وتباعد بين المرأتين، وتزيد حياة الرجل عسرًا وحرجًا.

ونحن نرى أول الفصل هيلان في مكتب زوجها تنسق الزهر في آنية بديعة صغيرة تضعها على المكتبة، وتنظر إليها من قريب ومن بعيد كأنها تريد أن ترى ما تحدثه من جمال في الغرفة كلها، وهي مغتبطة لا تملك أن تتحدث بغبطتها إلى الخادم، فتثني على هذه الآنية، وعلى ذوقها الذي مكنها من اختيارها، ولكن حماتها تقبل مسرعة متعبة، فتأمر الخادم بأن يحمل إليها بعض المتاع، وما هي إلا أن يأتي الخادم بما أمرت به فتزيل الورق عن إنائين ضخمين من النحاس، فإذا سألتها هيلان أنبأتها بأنها سمعت ابنها أمس يود لو وضع على مكتبتيه شيء يزينهما، فأسرعت فاشترت هاتين الآنيتين، فتغتاظ هيلان لذلك، وتقول: إنها هي أيضًا سمعت زوجها فاشترت هذه الآنية الصينية البديعة.

وما هي إلا أن ينشأ التنافس الثقيل المؤلم بين هاتين المرأتين، كلتاهما تريد أن تكون هديتها أجمل من الأخرى، ويقبل الزوج فيحكم على غرة، فيحكم لأمه وهو لا يدري، وإذا امرأته تسرع إلى آنيتها فتحطمها في ثورة وغضب، ثم تندفع في بكاء لا حدَّ له، وتنصرف الأم سعيدة دهشة، ويخلو الرجل إلى امرأته فيريد أن يترضاها، ويحاول أن يتعرف الخبر، فإذا عرفه ضحك من طفولة امرأته، وأخذ يلاطفها ويداعبها، ولكنها تلقاه لقاء عنيفًا، وما تزال به وبأمه ثائرة ملحة في أن تترك هذا البيت حتى يغضب الزوج، ويفسد الأمر بينهما، وإذا هما يتراشقان بألوان من العتب المر، وإذا هي تنذره، وإذا هي توعده، ثم ينصرف عنها بعد حوار طويل يحسن أن يُقرأ لما فيه من دقة في تصوير هذه العواطف التي تصل بين الرجل وامرأته، والتي ما تزال بها صغائر الأشياء حتى تغيرها وتكدرها، ويعود إليها هادئًا، ولكن أمه تقبل فتحمل إليه كتابًا ينظر فيه ثم يدفعه إلى امرأته، فتبتهج له، وهو كتاب من أسرة صديقة لهذه الأسرة تدعوها إلى حفلة ستقيمها في إحدى الضواحي، فما أسرع ما تقبل هيلان الدعوة وتكتب بهذا القبول، ولكن الأم تعتذر وتلح في مكرٍ على ابنها أن يذهب مع امرأته؛ لأنها متعبة، والطبيب يأمر بالراحة، ويحظر عليها تكلف المشقة، فإذا سألها ابنها عما تشكو ذكرت علة القلب في ألفاظ لا تلبث أن تخيف الرجل على أمه، وإذا هو يلح عليها في أن تستريح، ويريد أن يدعو الطبيب، فتأبى عليه، وتنصرف لتستريح في غرفتها، ويقبل الرجل على امرأته يطلب إليها في رفق أن تعدل عن قبول هذه الدعوة؛ لأن أمه لا تستطيع أن ترافقهما، وهو لا يريد أن يتركها وحدها، فيثور غضب هيلان، وتمزق كتابها، ويستأنف الحوار العنيف بين الزوجين، وقد فسد أو كاد يفسد بينهما كل شيء.

ويترك الزوج امرأته مغيظة محنقة محزونة، وتأتي الأم فإذا علمت أن الزوجين لن يقبلا الدعوة ابتهجت بذلك واغتبطت له، أليست قد انتصرت؟

وهذا هنري يقبل فتلقاه الأم في ظرف وتلطف لم يتعودهما، فإذا انصرفت وخلا إلى صاحبته أخذ يظهر دهشه لهذا الظرف غير المألوف، وما يزال بهيلان حتى تظهر له ما تجد من حزن، وتشكو له سوء حالها، وإذا هذه الشكوى تشجعه على أن يظهر ما كان قد أضمر، وإذا هو يعلن إلى هذه المرأة حبه ويلح في إعلانه، وهي تدفعه وتتهمه بالأثرة والجبن؛ لأنه ينتهز فرصة هذا الحزن ليخون صديقه، ويستغل موقفًا ما كان يحسن أن يستغله.

وما تزال به حتى يفيق، وإذا هو يشكو ويعتذر ويستعطف، وهي تدفعه راثية له عاطفة عليه، طالبة إليه أن ينصرف، فيفعل مودعًا بألفاظ فيها حب، وإنه ليقول هذه الألفاظ منصرفًا، وإذا الأم تدخل من باب آخر فتسمع ما يقول، وتراها هيلان، وتعرف أنها قد سمعت فتضطرب وتستحي، وتحاول أن تحملها على الكلام فلا تظفر بشيء، وهي الآن تتملقها وتترضاها، حتى إذا استيأست منها انصرفت محزونة مروَّعة.

ويقبل الزوج فيتحدث إلى أمه عاتبًا؛ لأنه يراها سالمة بارئة لا علة بها، فينكر تمارضها منذ حين، ويرثي لامرأته، ويعلن إلى أمه أنه قد يقبل رأي امرأته، ويتخذ معها بيتًا خاصًّا، فتثور الأم ولكنها ثورة لا تخلو من دهاء ومكر، فهي تعلن إلى ابنها أن امرأته إن كانت ترغب في هذا الاستقلال فهي إنما تريد أن تخلص من رقيب خطر، ولا يكاد الرجل يسمع هذه الكلمة حتى يأخذه الشك، فيستوضح، فتأبى عليه، فيلح، فتأبى عليه، ولكن إباء المعرض المغري، وإذا الغيرة قد أخذت تعمل عملها في نفسه، وما يزال يستدرج أمه حتى تذكر اسم هنري وزياراته المتصلة، فتشتد الغيرة، وتتضح التهمة في نفسه، وترى أمه هذا كله فتجزع له بعض الشيء؛ لأنها قد وصلت إلى أكثر مما كانت تريد، والرجل ثائر يطلب امرأته، فإذا أقبلت لم يلبث أن يسألها عن هنري، وأن يتهمها بالريبة.

فقدِّر أنت ثورة هذه المرأة البريئة، ولكن قدر في الوقت نفسه ثورة زوجها حين تأبى أن تدفع عن نفسها، وما يزال الأمر يشتد بينهما حتى يبلغ أقصاه، وإذا هو يهجم على امرأته يريد أن يضربها، وإذا هي تعلن إليه في عنف أن هنري خليلها، وأنها لاحقة به، وتنصرف مسرعة فيتبعها، ثم لا يدركها فيعود، وتقبل أمه كأنها تريد أن تعزيه، فيوليها ظهره صامتًا، وتفهم أن قد كان بينها وبين ابنها من الشر ما لا سبيل إلى استدراكه.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى أسبوعان على ما حدثتك به، ونحن نرى الأم في حجرة الاستقبال تلك مستلقية كالمتعبة، والخادم يتحدث إليها، فنفهم أنها مريضة، وأنها تخفي مرضها على ابنها، ونفهم أن ابنها محزون حزنًا لا حد له ملازم لمكتبه، لا يكاد يريمه، مؤثر للوحدة والصمت، بعيد كل البعد عن أمه، يعيش معها وكأنه لا يراها، وقد أخذ الخادم يشفق عليه، وآية ذلك أنه جمع أجزاء الآنية التي حطمتها امرأته فضم بعضها إلى بعض، وأعاد الآنية كما كانت، ووضع فيها زهرًا يحسب أنه يحسن بذلك إلى سيده.

وهذا الابن قد أقبل فيتحدث إلى أمه حديثًا سقيمًا متقطعًا، ملؤه الحزن والغيظ والحقد أيضًا، وما تزال به أمه حتى تصل به إلى موضوع حزنه، وإذا هو يشكو أنه شديد الندم على ما فرط منه لا يستطيع أن يتعزى، لا ينام ولا يخرج، ولا يستطيع أن يفكر، ولا أن يحتمل البيت منذ خلا من امرأته، ولقد تبعها يوم انصرفت فلم يدركها، وأسرع إلى بيت صديقه فقيل له إنه خرج ومعه امرأة، فانتظرهما الليل كله فلم يعودا، ورجع إلى البيت مرات حتى عرف أن صديقه سافر إلى الهند، فهو محنق محزون يأسف لأن امرأته قد تركته، ولأنه لم يستطع أن يقتلها ويقتل معها صاحبها، ثم نفهم أيضا حقده على أمه؛ لأنها أفسدت بينه وبين امرأته، وكانت أثرة مسرفة في الأثرة، لا تفكر إلا في نفسها، ولا تحسب لسعادة ابنها حسابًا، والأم تدفع عن نفسها وتألم لشقاء ابنها، وقد انصرف عنها؛ لأنه رأى سيارة مقبلة، فيخاف أن يلقى الزائرين، ولكن هؤلاء الزائرين ليسوا في حقيقة الأمر إلا امرأة تدخل فتنكر الأم مكانها، وهذه المرأة هي هيلان.

تلقاها الأم لقاء فيه بغض وحقد، وفيه اتهام بالريبة والإثم، ولكن هيلان لا تلبث أن تثبت براءتها، وأنها إنما اتهمت نفسها حنقًا وغيظًا، ثم تهمُّ أن تنصرف فتمسكها الأم، ويكون بينهما حوار لا أحبه؛ لأن فيه فلسفة ربما ثقلت على الملعب، فيه تحليل للحب الزوجي، وتحليل لحب الأمهات، ومحاولة لتحديد الموقف الذي يجب أن يكون بين الحُبين، ومهما يكن أمر هذا الحوار فقد اقتنعت الأم بأن سعادة ابنها عند امرأته لا عندها، وكأنها قد أخذت تحب هذه المرأة.

وهذا ابنها يقبل فإذا رأى امرأته أنكر مكانها، وهمت أمه أن تنصرف فيمسكها، ولكنها تنتهز فرصة وتتركهما وجهًا لوجه، فيكون بينهما جدال يتهمها وتدفع عن نفسها، ويأبى أن يصدقها، فتلح في الدفاع، وتقصُّ ما كان بينها وبين صاحبها، فإذا هو قد عرض عليها الحب فأبته عليه، فافتقدته بعد ذلك فلم تعرف أين هو، وهي تجهل سفره بل تجهل مكانه، ولكن زوجها لا يصدقها، ولا يريد أن يسمع لها، فتنهض مستيئسة تريد أن تنصرف، حتى إذا بلغت باب الحجرة سمعت زوجها يدعوها فتعود إليه مبتهجة، ولكن الأم تقبل في هيئة السفر تودع ابنها، فإذا سألها أنبأته بأن أمور ثروتها مضطربة، وأنها تريد أن تشرف عليها من قريب، وأن الطبيب يشير عليها بترك باريس، وما تزال بابنها حتى يطمئن إلى هذا السفر كارهًا، وتأبى عليه أن يشيعها وتقبله، وتوصي امرأته به خيرًا، وتنصرف مسرعة، ويقف ابنها أمام النافذة وكأنه يريد أن يودعها، وتسمع حركة السيارة، فتقول هيلان لزوجها: «تركتها تسافر؟» فيجيبها: «وماذا يعنيكِ ما دمت أنت ستبقين؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤