التيه

قصة تمثيلية بقلم الكاتب الفرنسي «بول هرفيو»

قد لا يكون هذا العنوان ظريفًا، وقد لا يجري به اللسان في سهولة، وقد لا يسيغه السمع، ولكنه مع ذلك صحيح، وهو مع ذلك ترجمة دقيقة لعنوان هذه القصة بالفرنسية، وهو يختصر القصة كلها، فهي تيه بالمعنى الصحيح، مهما تفكر ومهما تمعن في التفكير، فلن تجد منه مخرجًا، ولن تجد فيه هدى.

هذه القصة جهاد لا نتيجة له بين العواطف والشعور من جهة، وبين العقل من جهة أخرى، بين العواطف والشعور الفردية من ناحية، وبين القانون والأوضاع الاجتماعية من ناحية أخرى، بين العواطف وبين الواجب، وبين العقل وبين الدين، ثم بين القانون وبين الدين أيضًا، هي جهاد عنيف لا نتيجة له، ولا مَخلص منه، بين ما يكوِّن الفرد وما يكوِّن الجماعة من ضروب العواطف والشعور، ومن ألوان الأوضاع والقوانين.

وهي ليست جهادًا متكلفًا ولا منتحلًا، ليست شيئًا اخترعه الكاتب اختراعًا، وعقده عمدًا وافتنانًا في التعقيد، وإنما هي شيء طبعي يقع كثيرًا، ومن الممكن أن يقع في كل يوم، وقد يلتفت الناس إليه وقد لا يلتفتون، ولكنه في نفسه حق إن لم يقع بالفعل في كل زمان وفي كل مكان، فمن الممكن جدًّا أن يقع في كل زمان وفي كل مكان.

في كل زمان وفي كل مكان! قد لا يكون هذا حقًّا، وقد لا يخلو من المبالغة؛ لأن هناك أمكنة أو قل إن هناك جماعات فيها من قواعد الدين ونظم التشريع ما يحول بين الناس وبين التورط في هذا الجهاد الأليم العقيم، فالمسلمون مثلًا لا يتورطون فيه؛ لأن الله أباح لهم الطلاق، وأباح للمرأة المطلقة أن تعود إلى زوجها الأول بعد استيفاء شروط وقيود معروفة، وأظنك الآن تحس أن هذه القصة تدور حول الزواج وحول الطلاق، فلست أريد أن أطيل عليك، ولا أن أسرف في تشويقك إلى حوادث هذه القصة، وإنما أنا مبتدئ فيها راجٍ أن تكون هذه القصة موضع بحثك وتفكيرك، فأنا أعترف بأني لا أتخير هذه القصص عفوًا، وإنما أتخير منها بنوع خاص ما من شأنه أن يهز العاطفة، ويلذ العقل، أو يدعو إلى العناية والتفكير، وفي هذه القصة كل هذه الخلال.

«فيلاردوفال» رجل أقرب إلى الشيخوخة منه إلى الشباب، حسن الحال، موسر مرتفع المنزلة، كان قاضيًا وقاضيًا ممتازًا، خدم القانون وحماه من عبث العابثين، فأصبح شديد الإيمان بالقانون، يكاد يتخذه دينًا، أو قل إنه يتخذه دينًا، ويتخذ إكباره وتقديسه مقياسًا لكرامة الرجل، بل لرجولته، وله زوج شديدة الإيمان بدينها المسيحي الكاثوليكي، شديدة الإيمان أو مسرفة في شدة الإيمان، لا تفكر إلا في الدين ولا تصدر إلا عن الدين، ولا تقيس شيئًا من الأشياء في الحياة إلا بمقياس الدين، تحب زوجها حبًّا شديدًا، ويحبها زوجها حبًّا شديدًا، ولهما ابنة هي «مريان»، بارعة الجمال، فتَّانة، شديدة الذكاء، ساحرة اللفظ، معتدلة المزاج، قد ورثت عن أبيها حب القانون وإكباره، وورثت عن أمها حب الدين واحترامه، ولكنها لا تسرف في شيء من ذلك، فهي معتدلة في كل شيء، تزوجت فتى غنيًّا جميلًا هو «مكس دي بوجيس»، وتزوجته بعد أن أحبته، وكلفت به، وبعد أن أحبها، وكلف بها، فعاشا في الحب والصفاء حينًا، وكان لهما غلام، ولكن الزوج الشاب خان امرأته في ساعة طيش ونزق، فكانت الصدمة على هذه المرأة شديدة، وساء الظن بين الزوجين، أسرفت في الغضب، وأسرف هو في عدم الاكتراث، حتى ساءت الصلة ثم انقطعت، ثم كان الطلاق رغم الأم المؤمنة التي تكره الطلاق بحكم إيمانها، ثم تزوج الشاب من صاحبته التي كانت مصدر شقائه، وظلت «مريان» بين أبويها مقسمة الوقت والحياة، بين حب ابنها واللوعة بما أصابها في حب زوجها، ولكن لهذه الأسرة صديقًا كان بعيدًا عن فرنسا، يعيش في الأقطار النائية لأمر من الأمور نتوهمه، ولا نتبينه في وضوح. عاد هذا الصديق إلى فرنسا، واسمه «جيليوم لابروم»، ورأى مريان فأحبها، وفتن بها، وقدسها تقديسًا، وطلب إليها أن تكون زوجه، فقبلت، لا لأنها تحبه ولكن لأنها تحترمه، وتثق بصدقه وإخلاصه، وبأنها ستكون سعيدة في بيته، فقبلت أن تكون زوجه، وقبل أبوها هذا الزواج مغتبطًا به مطمئنًا على مستقبل ابنته، ولكن الأم رفضت هذا الزواج رفضًا قاطعًا، رفضته لأنها تجحد الطلاق، ولا تعترف به، فهي إذن مقتنعة فيما بينها وبين نفسها بأن الزواج الأول لم تنفصم عروته، وأن ابنتها ما زالت مدينة بحياتها لزوجها الأول، وأن الزوج الأول ما زال مدينًا بحياته لزوجه الأولى، وإذا كان هذا قد خالف الدين وتزوج مرة ثانية فتورط في الخطيئة، فليس ينبغي لابنتها أن تخرج على قانون الكنيسة، وأن تقطع صلة أنشأتها كلمة الدين، وإذن فالجهاد قائم منذ الآن بين الدين والقانون، ثم بين الدين وشعور الإنسان بحقه في أن يكون سعيدًا، القانون يبيح لهذه المرأة أن تتزوج، وسعادتها تقتضي أن تتزوج، بل حاجاتها الطبيعية تقتضي أن تتزوج، وهناك رجل يحبها حقًّا، ويريدها على أن تكون زوجه، وهناك أبوها الذي أنفق حياته في خدمة القانون يرغب في هذا الزواج، ويحرص عليه، ولكن هذه المرأة تحب أمها وتجلُّها، ولا تريد أن تخرج عليها، ولا أن تخالف أمرها، فهي تستعطفها وتتوسل إليها بكل وسيلة، تذكر شبابها وحاجاتها إلى الحياة، وإلى السعادة في الحياة، وأن الله لا يمكن أن يقضي على هذه الزهرة النضرة بهذا الذبول، ولا أن يقضي على هذه المرأة بالشقاء في العزلة، حينما هو يبيح لغيرها من الرجال والنساء الحياة الاجتماعية السعيدة المعقولة. تتوسل بكل هذا، ولكن أمها لا تسمع لها، ولا تأذن بهذا الزواج.

وبينما هذا الجهاد في أشد أطواره من العنف يقع شيء يزيده عنفًا، ويحمل هذه المرأة الشابة على أن تثور فتخرج على أمها، وتخرج على الدين وتتزوج؛ ذلك أن امرأة أخرى تقبل لزيارة «ماريان» وبينهما صلة قرابة، فتطلب إلى «ماريان» أن تعينها على أمر منكر، فهي قد غابت أمس عن زوجها، ولا تستطيع أن تنبئه أين كانت فكذبت عليه، وزعمت أنها كانت عند «ماريان» والزوج مقبل الآن، وقد يسأل «ماريان» عن أمس، فإن لم تكذب عليه كما كذبت زوجه فيسوء الأمر بين الزوجين، وقد يكون ذلك مصدر الطلاق. تتمنَّع «ماريان» وتأبى الكذب، ويدور بينها وبين صاحبتها «بوليت» حوارٌ لا بأس به: أي المرأتين أشد إثمًا؛ التي تخون زوجها، وتخفي عليه الخيانة، أم التي لا تخون أحدًا، ولكنها قد طُلقت، وتريد أن تتزوج زوجًا آخر؟ فأما «بوليت» فترى أن الخيانة أيسر من الزواج بعد الطلاق؛ ذلك لأن الخيانة مجهولة أو يجب أن تكون مجهولة، وقد تعمَّد الناس أن يجهلوها، ويتكلفوا جهلها، ومضوا على ذلك في آدابهم وأوضاعهم، حتى أصبحت المرأة في بعض الطبقات تستطيع أن تعيش بين زوجها وخليلها دون حرج ولا جناح، بينما المرأة التي تطلق ثم تتزوج من جديد تثبت بصفة رسمية أمام القانون وفي دفاتر الحكومة أنها قد قسمت نفسها بين رجلين، فلا يكاد يراها أحد إلا ويشعر بهذه الشركة، أو بهذه القسمة، أو بهذا التبادل، وفي هذا ما فيه من الخزي، وفي هذا ما فيه من انتهاك حرمة الحياء …

فأنت ترى إلى هذا النفاق الاجتماعي الذي يبيح الخيانة ويقرُّها، وإن أنكرها القانون والدين وحظراها، والذي يحظر الزواج بعد الطلاق وإن أباحه القانون، وأقرته المنفعة، واستلزمته العواطف والسعادة في كثير من الأحيان.

تثور «ماريان» على هذا النفاق الاجتماعي، ولكن شيئًا آخر يزيد ثورتها عنفًا، وهو أن أمها المؤمنة التقيَّة قد اشتركت في هذا الكذب، فأخفت الأمر عن الزوج مخافة أن تنهدم حياته الزوجية، وإذن فقد أقرت شيئًا يحظره الدين، فما لها لا تقر ابنتها على الزواج إذ كانت المصلحة تبيح مخالفة الدين؟ فتجيبها الأم بأن خطيئة صاحبتها قد وقعت بالفعل، فهي لا تستطيع لها استدراكًا، وقد أصبح أمرها إلى الله وحده، فالرحمة بالإنسان تقتضي أن تظل هذه الخطيئة مكتومة، أما أنت فلم تخطئي بعد وأنت تريدين أن تخطئي، وحرام عليَّ أن أعينك على الخطيئة. ثم تنصرف الأم بعد أن تعلن إلى ابنتها أنها لا تسمح بهذا الزواج، ولكنها لن تستطيع أن تجحد ابنتها مهما تفعل، هنا يستقر رأي «ماريان» على أن تخالف أمها فتتزوج.

•••

فإذا كان الفصل الثاني رأيت «ماريان» وزوجها الجديد، وقد مضى على زواجهما عامان، وهما في زيارة يتغديان عند «بوليت» التي مر بك ذكرها، فيتحدثون في كثير من الشئون ثم ينفصلون قليلًا، فأما ماريان فتتحدث إلى زوج صاحبتها واسمه «هوبير»، أما «بوليت» فتتحدث إلى «جيليوم» زوج ماريان.

ولست تسمع إلا حديث ماريان وصاحبها، فإذا صاحبها يشكو إليها ويستعينها، ذلك أن زوجه أحست منه بعض النزق فهجرته فهو يستعطف ويتوب، ويتوسل بماريان، ثم تخلو المرأتان وتتحدثان، فتلح ماريان على صاحبتها أن تعفو عن زوجها، وأن تذكر خطيئتها، فتأبى بوليت، ويتبين من حديثها أنها ما زالت في خطيئتها، وأنها مغتبطة بهذه الخطيئة، وأنها تؤثر الحب على الزواج، تكره من الزواج هذه الإباحة التي ترفع الكلفة بين الزوجين، وتجعل الصلة بينهما شيئًا مألوفًا، وتجعل للرجل على المرأة حقًّا يشبه حق المالك المتسلط، وهي تحب في الحب أنه غير مباح، وأن فيه هذه المشاق والأخطار التي تجدها في كل محظور، والتي تضطرك إلى أن تتكلف الأهوال، وتتجشم الخطوب، فتختلس الوقت وتسترق اللذة، تخفي ذلك كله وتكذب فيه، ولا تصل إلى شيء منه إلا بعد حيلة وجهاد، فهو إذن شيء لا يكفي أن تمد إليه يدك لتناله، وهما في هذا الحديث وفي هذا الحوار تبيح إحداهما محظورًا، وتدافع إحداهما عن مباح، وبوليت تتعجل صاحبتها لأنها تريد أن تذهب إلى ميعاد، وبينما هما في هذا كله إذ يدخل الخادم ومعه بطاقة، وهذه البطاقة هي التي تعقِّد القصة، وتجعلها أدنى إلى الشر والنتائج السيئة حقًّا مما كانت أول الأمر.

هذه البطاقة من مدام «بوجيس» أم الزوج الأول «لماريان» فيها أنها أقبلت تتوسل إلى «بوليت» أن تتوسط عند ماريان في أن تبيح لزوجها القديم الإشراف على تربية ابنه أكثر مما كان ذلك له مباحًا من قبل، تطلب ذلك لمنفعة ماريان نفسها ولمنفعة ابنها ولمنفعة حفيدها، فقد أصبح ابنها أرمل؛ لأنه فقد زوجه الثانية حينما أصبحت ماريان متزوجة، وإذن فالأب أحق بابنه من الأم؛ لأن الأب وحيد والأم تعيش مع رجل غريب يمكن أن يكون له تأثير سيئ في نفس الغلام. تقرأ بوليت هذه البطاقة، وتتحدث بها إلى ماريان، ولكنها متعجلة تريد أن تذهب لموعدها، وإذن فلا بد لماريان من أن تلقى هي مدام بوجيس، وتتحدث إليها في هذا الأمر الجديد.

فإذا جاءت مدام بوجيس وتحدثت إلى ماريان فهمت من حديثها أنها تحب ماريان وتحب ابنها، وتحب حفيدها، وتحب الخير لهؤلاء جميعًا، وأنها كأم ماريان تجحد الطلاق، ولا تعترف بالزواج الجديد، لكنها لا تقنع ماريان رغم ما تذكره لها من آراء المحامين، ورغم ما تخوفها من وصول الأمر إلى القضاء، وانتصار زوجها الأول، وتحدث الناس بذلك في الصحف والأندية، لا تقنعها فترغب إليها في أن تسمع لابنها وهو قريب يمكن أن تشير إليه من النافذة فيجيب، وهو قادر على إقناعها لأنه يعلم من الأمر ما لا تعلم، وهو لم يكره زوجه الأولى قط، ولم يخنها إلا في ساعة خفة وطيش، والأمر بعد هذا كله فوق الأم وفوق الأب؛ لأنه يتعلق بحياة الابن، وهما جميعًا يقدسان هذه الحياة، تتمنع ماريان أول الأمر ولكنها تسمح أخيرًا، وتشعر أنت من هذا التمنع وهذا القبول أن هناك جهادًا بين قلب هذه المرأة وواجبها، فهي ما زالت تحب زوجها القديم، ولكنها تريد أن تؤدي واجبها لزوجها الجديد، هذا الجهاد موجود عنيف، ولكنها تخفيه على نفسها؛ لأنها تجلُّ نفسها عن أن تحب من خانها من جهة، وعن أن تخون ولو بالضمير من أحبها من جهة أخرى. يقدم الزوج الأول … ويتحدثان فإذا الزوج الأول محقٌّ، وإذا هو يخشى على ابنه الخطر كل الخطر من عشرة الزوج الثاني؛ لأن هذا الزوج الثاني يلقي في روع ابنه من الخواطر والآراء ما لا يلائم مزاج الغلام ولا صحته، ولا مستقبله، ولا آمال أمه وأبيه فيه. تقتنع ماريان ويتفقان على أن يذهب الغلام مع أبيه إلى الريف يقضي فيه أسابيع، ولكن أحست ماريان عجزها عن مقاومة هذا الحب القديم، وأحست من جهة أخرى أن زوجها الأول ما زال يحبها رغم خيانته، ورغم زواجه الثاني.

•••

فإذا كان الفصل الثالث علمت أن الغلام لم يكد يذهب إلى الريف حتى أصابته علة الديفتريا، فأشرف على الموت، ودُعيت أمه فأقبلت وأقامت في قصر زوجها الأول خمسة عشر يومًا، تشارك هذا الزوج في العناية بهذا الغلام، وفي دفاع الموت عنه.

وقد أحسَّا غير مرة ألمًا واحدًا وخوفًا واحدًا، وأحسا غير مرة لذة واحدة وأملًا واحدًا، أحسا الألم والخوف حين كانت حياة الغلام في خطر، وأحسا اللذة والأمل حين كان الطبيب ينبئهما بحسن حال المريض، أحسا أن بينهما صلة مادية ومعنوية، صلة حية ليس لأحدهما أن يقطعها، أحسا أنهما قد يفترقان وقد يقع بينهما الطلاق، وقد يتزوج كل منهما، ولكنهما رغم هذا كله متحدَّان معنى ومادة، متحدان في هذا الغلام الذي يوحد بين جسميهما، وبين خلقيهما، بل وبين ما ورثا في حياتهما المادية والمعنوية، ثم أحسا أنه يوحد آمالهما وآلامهما، أحسا هذا كله وكلاهما يحب صاحبه حبًّا لا يكاد يخفيه، فما عسى أن تكون نتيجة هذا الإحساس؟

أما في نفس الزوج فشيء واحد هو استئناف حياته الزوجية مع زوجه الأولى، وأما في نفس ماريان فشيئان متناقضان: إجابة الحب إلى دعوته، وإجابة الواجب إلى دعوته، والحب صادق؛ لأنها تحب زوجها حقًّا، ولم تنسَ حبه في يوم من الأيام، ولأنها تحب ابنها فتحب زوجها في ابنها، والواجب صادق أيضًا، فهي تحترم القانون، وتحترم زوجها الثاني، وتحترم نفسها، وترى أن الواجب هو أن تظل محترمة للقانون ولنفسها، وفيَّةً لزوجها الجديد، وإذن فيجب أن تشعر بحب زوجها الأول، ويجب أن تقاوم هذا الحب وفاء لزوجها الثاني، وللقانون، ولكرامتها، وهي عن ذلك كله في شغل ما دام ابنها في خطر، ولكن الطبيب قد أعلن أن الغلام أخذ يبل من مرضه، وأن أمه تستطيع أن تفارقه دون أن تخشى شيئًا، فلا بد إذن من الفصل في هذا الجهاد، وماريان قوية معتزمة أن تفي للواجب وإن ضعفت صحتها، واختل مزاجها العصبي أو كاد، فهي تعلن إذن أنها معتزمة على السفر غدًا، فإذا طلب إليها البقاء لتستريح أعلنت أن الواجب يكلفها ألا تظل في هذا البيت حين لا تدعوها الضرورة إلى الإقامة فيه، وهي في هذا الجهاد العنيف إذ تعلم شيئًا يزيد هذا الجهاد عنفًا، تعلم أن صديقتها بوليت التي كانت تخون زوجها، وتؤثر الحب المحظور على الزواج المباح قد فقدت ابنها، ولا تكاد تتحدث إلى هذه الصديقة البائسة حتى ترى أن مرض هذا الغلام الذي مات قد أصلح نفس أمه، فاستيقنت أن الزواج حق، وأن الذي يجعله حقًّا ونفعًا وخيرًا، بل الذي يجعله الحق الذي ليس دونه حق، والنفع الذي ليس دونه نفع، والخير الذي ليس دونه خير، إنما هو وجود الأبناء، ذلك لما قدمنا من أن الابن يجمع الأبوين حقًّا، ويوحد بينهما توحيدًا لا سبيل إلى تفريقه، فقد أحست بوليت هذا حين كان ابنها مريضًا، وازداد إحساسها إياه حين مات ابنها، فكرهت الحب المحظور، وأخذت لا تتمنى على الله ولا على الحياة إلا شيئًا واحدًا وهو أن يولد لها من هذا الزوج الذي كانت تخونه أمس ابنٌ يزيد الصلة بينهما توثيقًا وقوة، وتتحدث بهذا إلى ماريان فإذا لهذا الحديث صداه الصادق في نفس ماريان، وإذا هي تشعر أنها غريبة من زوجها الثاني؛ لأن الابن لا يصل بينهما، وأنها متصلة بزوجها الأول لوجود هذا الابن، وإذن فكلتا المرأتين تعسة: إحداهما فقدت ابنها، والأخرى فقدت زوجها حقًّا، ولكن ماريان مصرة على الوفاء للواجب، وقد تفي لهذا الواجب لولا أن زوجها الأول أقوى منها، فهو يدخل عليها في هذه الغرفة التي هي فيها الآن والتي رآها فيها لأول مرة يوم تزوجا، والتي تركها فيها يوم الخيانة، يدخل عليها وهي تستعد للراحة، قد نزعت ثيابها أو كادت وأرسلت شعرها، فيراها الآن كما رآها يوم تزوجا، يدخل عليها وقد علم أنها تريد أن تسافر وهو يأبى أن تسافر حتى تسمع له وتعفو عنه، فيأخذ في التحدث إليها واستعطافها، وتذكيرها أيام الحب، ثم يذكر خيانته، وأنها لم تصدر إلا عن ضعف وطيش، وأنه كان إلى ضعفه وطيشه أحمق مغرورًا، ساءه أن امرأته علمت بخيانته فاغتاظ لذلك، ولجًّ في الخيانة طيشًا وحمقًا، ثم تتحدث إليه ماريان فإذا هي حين أغضبتها الخيانة وملأتها حقدًا وغيظًا لم تكن تتمنى إلا شيئًا واحدًا وهو أن يعود زوجها تائبًا مستغفرًا فيترضاها، ويستأنف معها الحياة، إذن فقد كان غضبها كاذبًا، وإذن فقد كانت خيانته كاذبة أيضًا، وإذن فقد كان كلاهما يحب صاحبه حقًّا.

وقد أظهر مرض الغلام أن هذا الحب لم يزدد إلا قوة وعنفًا، ألِما معًا وجزعا معًا، وقد برئ ابنهما، فيجب أن يسعدا معًا، وهما الآن في الغرفة التي شهدتهما زوجين لأول مرة، هنا تضعف الإرادة ويضعف أثر الواجب، وينتصر سلطان الحب والأمومة على سلطان الزواج والقانون.

•••

فإذا كان الفصل الرابع رأيت أبا ماريان وأمها بمنزلهما في باريس يتحدثان بأن الغلام قد برئ، وبأن ماريان عائدة إلى باريس بعد قليل من اللحظات، وبأن زوجها قد ذهب يستقبلها، ثم يطلب الشيخ إلى امرأته أن تذهب معه إلى بيت ابنتها، فتأبى لأنها لا تريد أن تدخل هذا البيت الذي يقوم على الخطيئة، ويتركها زوجها حينها، ثم تقبل ماريان والهة ذاهلة في شكل مخيف، فلا تكاد تستقر بها الدار حتى تكون قد قصَّت على أمها كل شيء، فأنبأتها بأنها خانت زوجها الثاني مع زوجها الأول، وأنها تستبشع هذا استبشاعًا فظيعًا، وترى أنه جرم لا يعدله جرم، أما أمها فلا ترى في هذا إثمًا ولا خطيئة، وإنما ترى أن ماريان قد ردت الأمانة إلى صاحبها، وأنه إن تكن هناك خطيئة حقًّا فهي حياتها مع زوجها الجديد، ويقبل الشيخ وقد سمع هذا الحديث فتناله هزة نفسية عنيفة يرثي لابنته لأنها لم تفعل ذلك وهي قادرة على ألا تفعله، ويرثي لزوجها الثاني لأنه مظلوم، ويريد أن يلتمس حلًّا لهذه العقدة، فأما الأم فتقترح الحل وهو أن هذا الزواج الثاني قد قام على الطلاق فيجب أن يهدمه الطلاق، وأن تعود ماريان إلى زوجها الأول، ولكن الشيخ رجل قانوني وهو يعلم أن القانون الفرنسي لا يبيح للمطلقة أن تعود إلى زوجها الأول إلا إذا مات زوجها الثاني، فليس للمسألة إلا حلٌّ واحد وهو الكذب، هو أن تخفي الحقيقة على الزوج الثاني، ولكن ماريان عاجزة عن إخفاء هذه الحقيقة، لا تريد أن تكذب، ولا تريد أن تخدع زوجها الثاني، والحق أنها لا تحب زوجها الثاني، ولا تستطيع أن تعيش معه وإن كانت تكبره وتجله، فهي إذن قد عزمت على أن تصارح زوجها بكل شيء، يلح عليها أبوها وأمها ألا تفعل فتأبى، ثم يصلان إلى إقناعها بأن تستخفي حتى يقبل «جيليوم» مضطربًا؛ لأنه ذهب لاستقبال زوجه فلم يجدها، فإذا علم أنها قد عادت إلى باريس، وأنها ذهبت إلى بيت أبيها لا إلى بيت زوجها ازداد اضطرابًا، وإذا طلب أن يرى زوجه فأُجيب بأن الخير في أن ينتظر الآن خرج عن طوره وألح وأنذر حتى تخرج له ماريان، ويخلو الزوجان فيسألها فلا تجيبه إلا بضروب من الإيماء، والرجل واثق بزوجه فهو يعتقد أنها ضعيفة متأثرة الأعصاب، فيريد أن يأخذها باللطف والحنان فيدنو منها، ويريد أن يضمها إليه، ولكنه لا يكاد يطلب شفتيها حتى تصيح في وجهه بأنها خائنة!

هنا يثور ثائر الرجل، ولكنه لا يريد إلا أن ينتقم من هذا الزوج الأول الذي أهانه، وانتهز إقامة امرأته عنده وضعفها ففعل ما فعل، يخرج وهو عازم على قتله، فتستغيث ماريان بأبيها وأمها، وتتوسل إليهما في أن يدفعا هذا الشر الذي يريد أن ينزل بهذين الرجلين. فقد رأيت أن المؤلف قد أحكم العقدة، فبلغ الجهاد أقصى أطوار العنف بين هذه العواطف المختلفة، وبين هذه الأهواء المتباينة، وبين الدين والقانون، بلغ بالجهاد أقصى أطوار العنف حتى أصبح جهادًا خارجيًّا بين رجلين مسلحين، كلاهما يريد الشر بصاحبه، وأحدهما يمثل القانون والحب، والآخر يمثل الدين والأبوة والحب.

•••

فإذا كان الفصل الخامس رأيت أسرة ماريان قد انتقلت من باريس إلى قصر لها في الأقاليم، وظهر لك المسرح في موضع من حديقة هذا القصر تشرف على مكان خطر من النهر، ورأيت ماريان وأمها تتحدثان، فتفهم من الحديث أن أم ماريان قد أسرعت إلى الزوج الأول فأنبأته بمكان الخطر على حياته، وما زالت به حتى حملته على أن يستخفي، ثم تفهم شيئًا آخر وهو أن الزوج الأول لم يستخفِ حقًّا، وإنما انتقل من قصره إلى حيث تقيم ماريان، فليس بينها وبينه إلا النهر، فهو يبعث إليها في كل يوم بكتاب يريد أن يستأنف الصلة بينها وبينه، وماريان تقرأ كتبه ولا تجيب، وهما في هذا الحديث إذ يقبل أبوها فينبئهما بأنه لقي في طريقه جيليوم وهو الزوج الثاني، وعلم منه أنه أقبل يريد أن يتحدث إلى ماريان، فتقبل ماريان أن تتحدث إليه، ويذهب الرجل ليأتي به، وتذهب ماريان مع أمها لتتخذ لها معطفًا تتقي البرد؛ لأن المساء قد أمسى. يقبل جيليوم ويخلو حينًا في المسرح، وهو ينتظر إذ يدخل غلام من القرية معه كتاب من «مكس» الزوج الأول، فيأخذ «جيليوم» الكتاب، وقد علم من الغلام مكان «مكس»، وعلم منه أيضًا أن هذا الموضع من النهر شديد الخطر. ينصرف الغلام، ويقرأ جيليوم الكتاب فيفهم كل شيء: يفهم أن مكس يريد استئناف الصلة مع ماريان، وأن ماريان لا ترد على كتبه، وهو كذلك إذ تقبل ماريان فيعرض عليها جيليوم العودة إلى الحياة القديمة، وأنه يريد أن ينسى ما كان، ولا يذكر من أمر الخيانة شيئًا، وأنه لن يستطيع أن يعيش بدون ماريان، ولن يستطيع أن ينسى شرفها وأمانتها حين أنبأته بالحق ولم تُخْفِ عليه شيئًا، وكانت تستطيع أن تداهن، وكانت تستطيع أن تصطنع الرياء.

ولكن ماريان تشكر له ذلك، وتعلن إليه أنه قد يستطيع أن ينسى كل شيء ولكنها هي لا تستطيع أن تنسى، وقد تزوجته على أن تكون له وفيَّة في السر والجهر، وفي الدقيق والجليل من أمرها، فأما وقد خانت هذه الأمانة فهي لا تستطيع أن تعود إليه، وهي لا تطلب إلا شيئًا واحدًا، لا تطلب إلا أن تفرغ لابنها تقف حياتها على تربيته والعناية به. لا يصدقها جيليوم، وتملكه الغيرة، فيظن أنها تريد أن تخلص منه لتستأنف الحياة مع الزوج القديم، ثم تهدأ غيرته حين يراها باكية ملتاعة، ويعلن إليها أنها ستظفر بما تريد فسيستخفي هو أو سيموت، وتستطيع أن تعود إلى زوجها الأول. يعلن إليها ذلك في صدق وإخلاص، فتجيبه هي في صدق وإخلاص أيضًا أنه أخطأ قصد السبيل وأنها تريد أن تعيش عيشة الراهبات؛ لأنها فقدت بحكم الخيانة حقها في السعادة الزوجية، حقها في أن تكون امرأة، وهي تريد أن تكفر عن سيئاتها، فتستأنف حياة العذارى، وهي تقسم أنها لن تعود إلى الزوج القديم، وهي أنها تحبه، وأنها قد تعجز عن مقاومته، ولكنها تعلم أنها ستقتل نفسها قبل أن يظفر منها هذا الزوج القديم بشيء، تقسم على ذلك فيصدقها «جيليوم» ويعدها بأنها ستحيا، وستحيا لابنها دون أن تجد في ذلك ما يعرضها للانتحار الذي هو عمل غليظ جافٍ لا يليق بالنساء الحسان، ثم يودع بعضهما بعضًا. تنصرف ويبقى وهو يسأل نفسه: لم لا يلقي بنفسه في النهر؟ وإنه لفي هذا التفكير إذ يقبل «مكس» فيلتقي العدوان، يهم مكس أن يتراجع فيقفه جيليوم معلنًا إليه أنه قد فرَّ أمامه مرتين، هنالك يدور حوار قصير، ولكنه عنيف بين هذين الرجلين، يطلب مكس إلى صاحبه أن يدعو شهوده، وأن يقتتلا كما جرت بذلك العادة، فيأبى جيليوم قائلًا: إن بينك وبيني حسابًا يجب أن لا يطَّلع أحد عليه، ثم يعرض عليه ما يأتي: وهو أنه قد ردَّ إلى ماريان حريتها فلن تراه ولن يراها، ولكن ماريان تريد أن تعيش حرة، تريد ألا ترى زوجها القديم كما أنها لن ترى زوجها الجديد، وإذن فمكس بين اثنتين: إما أن يعطي على نفسه العهد أنه لن يرى هذه المرأة، ولن يتتبعها بإلحاحه وأثقاله، وإما أن يموت. أما مكس فيرفض ما يُعرض عليه، ويعلن أنه يحب ماريان وأن ماريان تحبه، وأنه لا يستطيع أن يعرض عنها، ولن يعرض عنها، وأنه لن يقضي بينه وبين صاحبه في هذه الخصومة إلا الموت، فهو يدعو شهوده ولابد أن يقتتلا، ثم يريد أن يخرج فيمنعه جيليوم، ويكون بينهما صراع عنيف ينتهي بهما إلى النهر، فما أسرع ما تضمهما أمواجه، وما أسرع ما تلتئم هذه الأمواج كأنها لم تضم شيئًا.

ولا تكاد تمضي لحظات على هذا الموت حتى نسمع صوت ماريان تدعو ابنها، وحتى تراها تدخل المسرح من ناحية، ويدخل ابنها المسرح من ناحية، وفي يده طاقات من الزهر، فتضمه إليها، وتمر به حيث مات زوجاها، وتقوده إلى القصر حيث تعده ليحتمل نصيبه مما تضمر الحياة من خير أو شر للأحياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤