المقدمة

وعدت أهل البحث الناطقين بالضاد والمستشرقين أن أنشر ما تبقى من أجزاء مؤلفي «تاريخ الصحافة العربية» الذي باشرت طبعه قبل الحرب العظمى، فإنجازًا للوعد وقيامًا بالعهد أقدم لهم الجزء الرابع من سلسلة أجزاء التاريخ المذكور ولو بعد زمانٍ طويل، ولي الثقة بأنه ينال استحسانهم أسوةً بالأجزاء السابقة التي أحرزت رضى الذين تصفحوها من العلماء والباحثين، ويحتوي هذا الجزء فهارسَ كاملةً شاملة لكل ما صدر في لغتنا الشريفة من الجرائد والمجلات شرقًا وغربًا منذ تكوين الصحافة إلى الآن.

لا يخفى على ذوي الألباب أن هذا الموضوع وعر المسالك لم يطرقه قبلي الكُتاب الجديون والمؤرخون المدققون؛ لأنهم قلما يجدون لذةً في الاشتغال به أو لا يتوقعون منفعةً مادية من ورائه، بل أستطيع القول إنه لم يخطر ببال أحدهم أن يتحداه لما يعانيه المؤلف في هذا السبيل من المصاعب الجسيمة والأبحاث المملة، وقد قُيض لي تذليل تلك العقبات بأن شمرت عن ساعد الجد وتفرغت للقيام بهذا المشروع الذي محَّصته ودرسته درسًا متواصلًا ليس بعده زيادة لمستزيد، فجاء تأليفًا جديرًا بأن يُنشر بين الأدباء تعميمًا لجزيل فوائده العائدة لرفع شأن الصحافة وتخليد آثار الصحافيين. ولدى مطالعته يتضح سداد هذا القول جليًّا لكل عالمٍ خبير ونقاد بصير؛ لأني لم أغفل عن ذكر صحيفةٍ عربيةٍ واحدة مهما كانت قديمة أو حديثة صغيرة أو خاملة، بل دونت منها ما ظهر في أحقر قرية من أطراف المعمور أو تلك التي لم يُكتب لها أن تعيش أكثر من يومٍ واحد.

لا أقول ذلك من باب المباهاة أو الادعاء بالعصمة والكمال، حاشا لي ثم حاشا لي من هذا الإثم الفظيع! إنما يدعوني إلى هذا التصريح إعلان الواقع وبيان الحقيقة الراهنة، وإذا فاتني ذكر صحيفة أو أكثر بين ألوف الصحف التي أوردت أسماءها فأرجو العفو عن إهمالٍ كهذا غير مقصود مني، ومن المقرر الثابت أنه إذا طرأ سهو عن ذكر بعض الصحف فلا يثبت ذلك إلا ما ندر، والنادر لا يُقاس عليه في مثل هذه الأحوال.

يتبادر إلى أذهان البعض أن وضع الفهارس المشار إليها أمر سهل لا يكلف منشئها سوى أن يتناول القلم والقرطاس ويخط بعض الصفحات فيبلغ الضالة المنشودة، كلا ثم كلا! بل إن من تدبَّر هذا الموضوع وتمعَّن فيه بعين البصيرة والإنصاف لا يلبث أن يقر بما يرافق هذا العمل من التنقيب والتنقير والجلَد والعناء وسهر الليالي وبذل النفقات كما سترى.

وقد رتبتُ فهارس الصحف ترتيبًا جغرافيًّا تاريخيًّا بجعلها وافيةً بالمراد وصالحةً لأن تكون دستورًا ومرجعًا لذوي البحث والتدقيق، فعملًا بالترتيب الجغرافي قسمت هذه الفهارس إلى أقسامٍ خمسة يتناول كلٌّ منها قارةً من قارات الدنيا وهي: آسيا وإفريقيا وأوروبا وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، ثم جعلت لكل قسم بابَين أحدهما لفهارس الجرائد والآخر لفهارس المجلات، ويتألف الباب الواحد من فروعٍ يساوي عددها عدد البلدان أو الدول الواقعة في كل قارةٍ من القارات التي أُتيح لها أن تكون مهدًا لصحفٍ عربية، وتأتي بعد ذلك فروع الفروع وهي فهارس لصحف العواصم أو المدن أو القرى التابعة لكل دولة على حدة، وبهذه الوسيلة يتمكن رواد التاريخ في وقتٍ قصير من معرفة صحف المعمور بوجهٍ عام ومن الوقوف على صحف كل دولةٍ بوجهٍ خاص ومن الاطلاع على صحف كل عاصمة أو مدينة أو قرية بوجهٍ أخص.

ولتنظيم الفهارس المذكورة اتبعت خطةً رشيدةً مهدت أمامي كل صعوبة وسهلت لي الوصول إلى الغاية المقصودة، وهي أني في تقسيم البلدان وتسمية الدول راعيت وضعها الجغرافي السياسي الذي كانت تُعرف به رسميًّا في بداية عام ١٩٣٣؛ أي لدى مباشرتي طبع هذا الجزء الرابع من كتاب «تاريخ الصحافة العربية».

ودوَّنت في هذه الفهارس ما يأتي: أولًا عناوين الصحف من جرائد أو مجلات على اختلاف موادها ونزعاتها، ثانيًا أسماء مؤسسي الصحف دون سواهم؛ لأن التغييرات التي طرأت بعد التأسيس على تلك الأسماء سيأتي ذكرها في سياق البحث عن أخبار كل جريدة ومجلة في الأجزاء التالية من هذا الكتاب. أضربُ مثلًا على ذلك مجلة «الهلال» في القاهرة، فإني أوردت في الفهرس اسم مؤسسها جرجي زيدان وأهملت ذكر نجليه أميل وشكري زيدان صاحبيها الآن عملًا بالخطة التي آليت على نفسي السير بموجبها، وما قلته عن «الهلال» يصدق على «لسان الحال» و«البلاغ» و«الأحرار» في بيروت، و«الأهرام» و«البصير» في الإسكندرية، و«النفير» في حيفا، و«الهدى» في نيويورك إلخ … ثالثًا تاريخ اليوم والشهر والسنة لظهور كل صحيفة بما لا يوصف من العناية والضبط، وعوَّلت في ذلك على الحساب الغريغوري الذي اتخذته الدول الكبرى شرقًا وغربًا كقاعدة لها في المعاملات الرسمية، وأضفت إلى يمين كل صحيفة رتبتها العددية مسلسلةً لتكون كل صحيفة مقرونةً بعددها الخاص ومستقلةً به.

وقد اعتمدت في تعيين مراكز الصحف على أسماء المدن التي كانت مهدًا لولادتها، وكل ما طرأ بعد ذلك من التبديل على مكان نشر بعض الصحف سأضرب الآن عنه صفحًا لأدونه بالتفصيل لدى سرد أخبارها في سائر أجزاء هذا الكتاب، ومن هذا القبيل سبق لي أن أوردت في الجزء الثاني تاريخ مجلة «المقتطف» التي وُلدت في بيروت ثم انتقلت إلى القاهرة، وذكرت في الجزء الثالث عنوان جريدة «الأهرام» بين جرائد الإسكندرية وهي تنشر الآن في عاصمة المملكة المصرية، وكتبت في الصفحة ٤٥٠ من هذا الجزء الرابع أخبار جريدة «البرازيل» التي أبصرت النور في مدينة سانتوس ثم تحولتْ في عامها الثاني إلى مدينة سان باولو، وقس عليها صحفًا أخرى من قبيل ذلك.

ولا بد من التنويه في هذا المقام بأني اصطلحت في تعريف الشهور على أسمائها العربية الجارية الاستعمال في أكثر الأقطار التي ينطق سكانها بالضاد؛ لأن بعض البلدان كمصر وتونس والجزائر ومراكش وزنجبار والهند وغيرها من الأقطار الخاضعة للاستعمار الأجنبي يستعمل سكانها أسماء الشهور الفرنجية في كتاباتهم العربية بلا حاجة ماسة إلى ذلك، فنرى صحف القطر المصري مثلًا تستعمل لفظة «جنايو» أو «يناير» للدلالة على شهر كانون الثاني، كما أننا نشاهد صحف تونس تورد لفظة «جانفي» للشهر المذكور، وقس على ذاك أسماء سائر الشهور التي لا يستقيم لها وزن في اللسان العربي ولا يفهمها من أبناء الضاد إلا العارفون منهم بلغةٍ أجنبية، فدفعًا لكل التباس أطلقت على الشهور مسمياتها العربية توحيدًا لاستعمالها وصيانةً لكرامة لغتنا الشريفة.

أما الترتيب التاريخي فإني اتبعت فيه طريقة التسلسل من الأقدم عهدًا إلى الأحدث عمرًا في إيراد عناوين الصحف لكل مدينة، فإذا شئت مثلًا أن تعرف عناوين جميع الصحف التي وُلدت منذ بدء الصحافة إلى الآن في مدينة بيروت وأن تعرف أسماء منشئيها مع تاريخ اليوم والشهر والسنة لصدورها أمكنك إدراك ذلك مفصلًا وبلا عناء في أقل لمحة بصر، وما قلته عن صحف مدينة بيروت يصدق بحذافيره على الصحف العربية في سائر المعمور من أكبر عاصمة حتى أصغر قرية وأقصاها، هكذا تتمثل أمامك حركة النهضة الصحافية العربية في أطوارها المختلفة جغرافيًّا وتاريخيًّا ولغويًّا وعلميًّا وأدبيًّا وفنيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وزراعيًّا وصناعيًّا وتجاريًّا إلخ …

وإكمالًا للعمل أردفت الفهارس بحواشٍ مفيدة تجلو الغوامض عن كثير من نشراتنا الدورية، وبين تلك الحواشي ما يشير إلى الحوادث التاريخية التي اندمجت في حياة بعض الصحف أو اشتهر بها غير واحد من الصحافيين أو فاتني ذكرها في الأجزاء السابقة، وهي تشتمل على فوائدَ جليلة ونوادرَ لذيذة وأخبارٍ فريدة لا يجدها الباحثون إلا في طي هذا الكتاب، أما سائر الصحف التي لم أتطرق إلى ذكرها في الحواشي فسأسهب الكلام عنها وعن أربابها في الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى، وقد تهيأت لديَّ المواد الكافية لنشر سائر أجزاء هذا الكتاب الذي يتألف من اثني عشر مجلدًا جاهزةً للطبع، وينتهي آخر هذه المجلدات بأخبار الصحف العربية وتراجم أربابها مزينةً برسومهم حتى السنة ١٩٢٩ ميلادية، وإذا فسح المولى سبحانه في أجلي فلن أتقاعس عن إنجاز المجلدات التي تتعلق بالصحف الصادرة بعد السنة المذكورة أيضًا.

على أثر هذا التمهيد لا بد لي من التصريح بأن هذا الجزء الذي أزفه اليوم من مؤلَّفي إلى الأمة العربية الكريمة هو ثمرة شغل جدي استغرق أكثر أوقاتي بل أفنيت في سبيله أهم شطر في حياتي؛ لأني قضيت أربعًا وأربعين سنة في إعداد مواده وتنظيم فهارسه وتمحيص محتوياته حتى جاء والحمد لله وافيًا بالغرض المطلوب وجديرًا بأن يقال فيه: «لا عطر بعد عروس.»

ولبلوغ هذه الأمنية رأيت أن أجمع شتى الصحف العربية التي صدرت في الخافقين من أول عهد الصحافة حتى الآن، فصرفتُ اهتمامي إلى إخراج هذا الفكر المبتكر، الذي ما سبقني إليه إنسان، من حيز القوة إلى حيز العمل، بل جاهدت لأجله جهادًا مستمرًّا دون أن يأخذني ملل أو يستولي عليَّ يأس، وقد توخيتُ سرد هذه الرواية كي تكون عبرةً لأبناء الغرب الذين يعيِّرون الشرقيين بالتقلب في المبادئ والأفكار، وينسبون إليهم عدم الثبات فيما يباشرونه من الأعمال.

ولما كان هذا المشروع يتطلب بحثًا دقيقًا واجتهادًا كبيرًا أخذت أفتش بكل الذرائع الفعالة عن شوارد الصحف وآثارها البالية وعتائقها المهجورة حتى ظفرت منها بالسهم الأوفر؛ ولهذا السبب راسلت الصحافيين الإحياء وأحفاد الدراجين منهم وذوي الاختصاص بصيانة الآثار الكتابية في الأمصار الشرقية والغربية، ثم عانيتُ بذاتي الأسفار الشاقة في طول البلاد وعرضها ساعيًا وراء ضالتي المنشودة، وأقمت الوكلاء في كل قطر أو مدينة مفوضًا إليهم أن يبحثوا عن الجرائد والمجلات التي تُنشر ضمن دائرتهم أو نشرت فيها منذ قديم الزمان، وأوعزت إليهم أن يلتقطوها لي على نفقتي مهما تجشموا لذلك من وقت ومال وتعب وتنقيب، فاشتغل كلٌّ منهم بما لا يُوصف من الهمة متبعًا الخطة التي رسمتها له أو جرى الاتفاق عليها بينه وبيني، هكذا واصلت السعي بلا فتور في سبيل نجاح المشروع لئلا يتخلله نقص أو يعْتَوِره خلل.

ولما كانت الصحف العربية تتكاثر يومًا فيومًا وينمو عددها في جميع الأمصار عدلت عن اقتناء مجموعاتها برمتها كما فعلت في بادئ الأمر؛ لأن حفظها والإنفاق عليها أولى بالدول والحكومات ودور الآثار والمجامع العلمية من فرد مثلي، بناءً عليه اقتصرت على إحراز أول عدد صدر من كل جريدة أو مجلة وعلى بعض الأعداد الممتازة التي لا يُستغنى عنها في وضع تاريخ الصحافة، وعندما كان يتعذر عليَّ إحراز العدد الأول اعتضت عنه العدد الثاني أو الثالث أو عددًا آخر ذا قيمةٍ تاريخية أو بحثٍ مفيد.

ومن فرائد تلك الصحف أنشأت في منزلي معرضًا صحافيًّا قد اتبعت في تنظيمه ما سبق ذكره عن تنظيم الفهارس جغرافيًّا وتاريخيًّا في صدر هذه المقدمة، ويبلغ عدد الصحف العربية التي اشتمل عليها هذا المعرض الصحافي لدى الفراغ من طبع الجزء الرابع من هذا الكتاب نيفًا وثلاثة آلاف ومائتين وخمسين جريدة ومجلة مختلفة العناوين جُمعت من أربعة أقطار المسكونة، وقد توقفت بعد العناء الجسيم والوقت الطويل والنفقات الوافرة إلى العثور على الأعداد الأولى لثلاثة أرباع صحفي المذكورة.

وما رويته عن الصحف العربية يسري أيضًا على جميع الصحف التي يتألف منها معرضي الصحافي وقد صدرت في سائر اللغات الشرقية قديمها وحديثها، وهي: السريانية والعبرانية واليونانية والقبطية والفارسية والأرمنية والحبشية والتركية والكردية والأردوية إلخ. وتحتوي تلك المجموعة على طائفةٍ جليلة من الجرائد والمجلات الأوروبية التي طُبع أكثرها في البلدان الشرقية أو أنشأها الشرقيون في الأمصار الغربية وغيرها. فبعد هذه الإيضاحات يسوغ بكل حق وكل صواب أن يطبق على هذا المعرض الصحافي ذلك المثل العربي المشهور: «كل الصيد في جوف الفرا.»

وقد تجمع لديَّ من هذه الوثائق الصحافية المختلفة اللغات ما لا يُحصى ولا يُحدُّ، وفي ظني أنه لا يتيسر بعد الآن لكائن من كان من المؤلفين أو الباحثين أو من هواة الآثار النفيسة جمع ما تنطوي عليه خزائني من تلك العتائق النادرة التي يصعب إحرازها وضم شتاتها، على أن فريقًا من كبار العلماء وجهابذة المؤرخين جاهروا لدى زيارتهم هذا المعرض الصحافي بأنه يستحيل على دول الأرض قاطبةً تكوين مجموعةٍ أخرى تضاهي مجموعتي هذه عددًا وأهمية وذوقًا وترتيبًا وكمالًا؛ لأن السواد الأعظم من تلك الصحف دخل في خبر كان ونسجت عليه عناكب النسيان، وقد شاهد أولئك الجهابذة الأعلام بين الصحف المشار إليها نسخًا كثيرة غالية الثمن ونادرة الوجود بل منقطعة النظير، فأعلنوا مصرحين بأنه لن يتسنى الوصول إلى مثال منها ولو بُذل في سبيل مشتراه كل ثروة كسرى ومال قارون.

ولم تخفَ شهرة هذه المجموعة وفهارسها عن الأوساط العلمية في جميع أنحاء البلدان الراقية؛ لأنها المرجع الوحيد لكل من شاء التنقيب عن صحافة الشرق عمومًا والعرب خصوصًا، وهنا لست أرى مندوحةً عن إيراد حادثة جرت لي بهذا الشأن وهي حريةٌ بأن تدوَّن خدمة للحقيقة والتاريخ، ذلك أن اثنين من جهابذة أوروبا المستشرقين قدما سنة ١٩٢٥ مدينتي الآستانة (عاصمة الأتراك قديمًا) وأنقرة (عاصمة الأتراك الجديدة) للوقوف على آثار الصحافة في اللغة التركية، فخابت آمالهما وعادا بخفي حنين بعدما عانيا مشقات السفر وبذل الأموال بلا جدوى؛ لأن الأتراك كانوا قليلي الاكتراث لجمع الصحف التي ظهرت في بلادهم على عهد السلطنة العثمانية وأوائل عهد الجمهورية التركية، وهو تقصيرٌ واضح لا يسلم منه أيضًا أكثر دول الشرق بوجه الإجمال على بلوغ بعضها درجةً سامية في معارج الحضارة والكمال.

وما عتم ذانك المستشرقان أن بلغهما خبر المجموعة الصحافية التي سبق الآن وصفها، فهبطا مدينة بيروت ولبثا مدة أسبوعَين كاملَين يترددان إليَّ لدرس القسم التركي منها حتى ظفرا ببغيتهما المقصودة، ولدى الوداع أعربا عن إعجابهما بهذه المجموعة الفريدة وأكدا أنه سيكون لها شأنٌ عظيم في عالم الأبحاث الشرقية، ثم تمنيا أن تكون في حوزة أحد المتاحف الشهيرة في أوروبا ليتسنى لعلماء الاستشراق أن يطلعوا عليها وينتفعوا من كنوز فوائدها.

عرف أنصار العلم أهمية مؤلَّفي «تاريخ الصحافة العربية» ومقدار الجهود التي بذلت لأجل وضعه وجمع مواده مدة أربع وأربعين سنةً كاملة، وأيقنوا أيضًا أنه من المؤلفات الأساسية التي لا يُستغنى عنها في المكاتب العامة والخاصة، واتضحت ضرورة مطالعته للصحافي والمؤرخ والأديب؛ إذ أصبح مرجعًا في بابه لأبحاث كلٍّ منهم، فكان ذلك من جملة الدواعي التي حملت بعض الجمعيات العلمية على استخراجه من اللسان العربي إلى اللغات الأوروبية تعميمًا لفوائده في الأقطار الغربية، وبعد أن تُرجم المجلدان الأولان منه إلى اللغة الألمانية قبل الحرب العظمى قامت الآن دائرة العلوم الاجتماعية في الجامعة الأميركية ببيروت تنشر منه المجلد الرابع هذا وتنقله إلى اللغة الإنكليزية، وسيكون هذا المجلد جزءًا من مجموعة الثمانية الأجزاء التي هيأتها الجامعة المذكورة ونشرت فيها المراجع المختصة بآسيا العربية بعد الحرب العظمى (١٩١٤–١٩١٨) والموضوعة بأهم اللغات الأوروبية ولغات الشرق الأدنى١ وهو أول تلك الأجزاء رتبةً كما يبين جليًّا من رقم التسلسل المدون في صفحة العنوان الإنكليزي لهذا الكتاب، وإليك أيها القارئ اللبيب فقرةً من رسالة مؤرخة في ٢٨ تشرين الأول سنة ١٩٣١ وجهها إليَّ الأستاذ العلامة السيد ستيوارت داد رئيس الدائرة المذكورة قال:

يسر جمعيتنا أن تعلم أنه أصبح في الإمكان أن تضع يدها بيدكم للتعاون على نشر فهرسكم الجامع للصحف الدورية العربية لمنفعة العالم أجمع، وتمتلئ قلوبنا ابتهاجًا حين ننظر بعين الأمل إلى المستقبل غير البعيد ونرى مؤلفكم النفيس في عداد الفهارس التي تعدها جمعيتنا باللغات المختلفة وموضوعها: أسيا العربية.

ثم كتب لي رئيس الدائرة المشار إليها رسالة مرقومة في ٢٩ شباط ١٩٣٢ أقتطف منها العبارة التالية التي تفصح عن وفرة اعتبار العلماء لكتابي «تاريخ الصحافة العربية»، قال ما نصه بالحرف الواحد:

وفي هذه الحال سنشرع في الطبع وسنشير إلى مؤلفكم النفيس، ونعد به أهل العلم في الخافقين ليعللوا أنفسهم به من الآن إلى وقت صدوره.

يتضح مما سبق بيانه أن «تاريخ الصحافة العربية» أحرز الثقة التي توخيتها له بصدق الرواية ودقة الأبحاث، ولا أزيد القراء علمًا أن جميع الذين طالعوا الأجزاء السالفة منه اتفقت كلمتهم على استحسانه والاعتماد عليه في المسائل التي يدور عليها موضوعه، وناهيك أن القصائد التي نظمت في تقريظه والإعجاب به والإفصاح عن فوائده لا يقل عددها عن الخمسين وردت عليَّ من أربعة أقطار المسكونة، وقس على ذلك أقوال الصحف العربية والإفرنجية مع الرسائل الكثيرة التي وافتني من أقطاب الفضل وأمراء البيان في مختلف الأقطار والبلدان.

لست أقول ذلك على سبيل التباهي بل أقوله من باب معرفة الجميل للعلماء والأدباء والشعراء والصحافيين الذين راقهم مؤلَّفي فلحظوه بعين الرضى والحلم والاستحسان، وفي هذا المقام أسأل أهل المعرفة والنقد بعد اطلاعهم على هذا الجزء الجديد من كتابي أن يبينوا لي ما لعلهم يعثرون عليه من الخلل والغلط كي يُصلح في الطبعات اللاحقة؛ لأن العصمة والكمال لله المتعال.

١  ندون هنا أسماء اللغات التي تتألف منها مجموعة مجلدات «آسيا العربية» التي عنيت بنشرها دائرة العلوم الاجتماعية في الجامعة الأميركية بمدينة بيروت، وقد جعلنا بجانب كل مجلد منها الحرف الخاص به تمييزًا له عن سواه، وإليك تفصيل ذلك فيما يلي:
العربية A
الجرائد والمجلات العربية AP
الإنكليزية E
الفرنسية F
الجرمانية G
العبرانية H
الإيطالية I
اللغات المتفرقة: الأرمنية والكردية والفارسية والسريانية والتركية M

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤