وصف أحوال الصحافة المصرية بوجه الإجمال
إن ابن وطنكم الدكتور فارس نمر ذلك الشرقي الذي يحق لنا أن نعده — هو والدكتور صروف شريكه في الجهاد — في مصافِّ أعظم أرباب الصحافة وأهل الصدق والاستقامة من الغربيين … على أني أعلم الآن ما تحققته وهو أنكم هنا في مصر العنصر الذي لا غنى عن علمه وعقله وذكائه، فإنكم قد أثبتم مقدرتكم وبراعتكم بالامتحان حتى أراكم في مقدمة الأقران، سواء كان في حركة الأفكار أو في المكتب والجرائد أو في الخدمة والوظائف أو في الصناعة التي لا تزال في مهدها أو في التجارة والأشغال.
وكانت حرية الصحافة مطلقةً في أيام إسماعيل، لكنه كما قال جرجي زيدان «لم يكن يصبر على من ينتقده، فكان الكُتاب يراعون جانبه، ومن تجاسر على انتقاده أصبح في خطر القتل كما أصاب مدير الأهرام رحمه الله لما أشار إلى مالٍ صُرف من الخزينة ولم يُعلم مصيره، ولو لم تنصره فرنسا لذهب ضحية الملاحظة.»، وكانت الأهرام في مقدمة جميع الجرائد المصرية في هذه الحقبة، ولا تزال منذ نشأتها تدافع عن الوطن بما عُهد في أصحابها من الاقتدار في هذه المهنة الشريفة، وكانوا لا يبالون بالخسائر المادية في سبيل خدمة البلاد رغمًا عما أصابهم من دخول السجن وخطر القتل ثم احتراق مطبعتهم في أثناء الحوادث العرابية.
ولما تولى توفيق الأول سرير الخديوية بعد خلع أبيه إسماعيل اندفعت الجرائد الوطنية في التنديد بأعمال الحكومة لمراعاتها جانب الإفرنج، فإن هؤلاء تداخلوا فعليًّا في شئون مصر واندمجوا في سلك وزارتها، وتولَّوا بعض إداراتها الكبرى تأمينًا على الأموال التي استدانتها منهم الخزانة المصرية، وكان زعيم هذه الحركة الفكرية عبد الله نديم صاحب جريدة «الطائف» المشهورة، فإنه أضرم في قلوب مواطنيه نار الحركة المذكورة وأخذ يوالي معهم الاجتماعات العلنية والسرية، ثم يُحرِّضهم على الجامعة العربية بكتاباته وخطبه حتى اضطر الخديو إلى أن يمنح أمته مجلسًا نيابيًّا تحت رئاسة سلطان باشا. ولما كان سلوك الحزب الوطني من طريق لا تُحمد عقباه تفاقم الخطب في البلاد ثم أفضى الأمر سنة ١٨٨٢ إلى الاحتلال الإنكليزي، وبعد ذلك صار إيقاف المجلس النيابي لأمورٍ سياسية، وكانت اليد الطولى في إيقافه لدولة الاحتلال. ومن المعلوم أن الإنكليز وعدوا بالجلاء عن مصر بعد تأييد الراحة فيها ورجوع المياه إلى مجاريها، فلما طال أمر محاولتهم ولم يأنس الوطنيون من المحلتين أقل إشارة إلى الجلاء القريب قاموا يطالبون الإنكليز بترك البلاد ويذكرونهم بوعودهم.
وعلى أثر ذلك انقسمت الصحف إلى حزبَين كبيرَين: أحدهما احتلالي ينتصر للإنكليز مستحسنًا خطتهم، والآخر وطني يُقبِّح سياستهم مناديًا بضرورة جلائهم عن وادي النيل، فبدأت من ذاك العهد حرب الأقلام والأفكار بين الحزبين حتى بلغ أشده بظهور جريدة «المقطم» سنة ١٨٨٩ لأصحابها صروف ونمر ومكاريوس، وكانت هذه الجريدة لسان حال المحتلين تخدم نواياهم وتنصرهم في كل حال، فلم يكن من الوطنيين إلا أنهم أنشئوا في السنة ذاتها جريدة كبرى سموها «المؤيد» بإدارة صاحبيها الشيخ أحمد ماضي والشيخ علي يوسف للقيام في وجه المحتلين والمنتصرين لهم، وهي باكورة الجرائد الإسلامية المهمة التي علا صوتها دفاعًا عن حقوق الوطنيين، فعضدوها ماديًّا وأدبيًّا وأقبلوا على قراءتها من كل حدب وصوب. هكذا كانت حالة الصحافة المصرية في منسلخ الحقبة الثانية، فكان بعض الجرائد يضرب على وتيرة المقطم في مبادئه الاحتلالية وبعضها ينتمي إلى المؤيد في خطته الوطنية، قال جرجي زيدان: «وهناك جرائدُ أخرى أخذت بناصر الدولة العثمانية ضد الاحتلال وأكثرها كان عبد الحميد (السلطان المخلوع) يدفع إليها الرواتب، وبعضها كان ينصر الفرنسويين ويحاسن العثمانيين وهو الأهرام.»

يتضح مما تقدم أن قسمًا من الجرائد المصرية كان يندد بالدولة العثمانية ويميط النقاب عن ظلم عمالها فلا يرى بابًا للشكوى إلا ولجه ولا خللًا إلا طلب إصلاحه، وقسمٌ آخر يذود عن السلطنة المشار إليها فلا يذكر لها سيئة ولا يرى فيها مأثمة، فعوضًا عن أن تصيخ تركيا لأقوال المنددين وتعمد إلى استجلاء حقيقة أفعال مأموريها منعت تلك الصحف من الدخول إلى ممالكها، فنقلتها من طور التظلم من بعض العمال الخونة إلى الطعن فيها عمومًا. ويا ليت أن الدولة وقفت عند هذا الخطأ بل تجاوزته إلى أعظم منه إذ أوعزت إلى معتمدها أحمد مختار باشا الغازي أن يسعى في إلغاء الجرائد المذكورة؛ فاتفق مع المسيو كوكوردان معتمد فرنسا على ذلك فأخفق سعيًا، ولم يُجدِ الدولة العثمانية سوى أنه نقل تلك الصحف إلى طور العداء لتركيا وجعل أكثرها ينقب عن سيئات الدولة تشفيًا وانتقادًا، فكان من وراء السعي المذكور أن اللورد كرومر معتمد بريطانيا العظمى وقف سدًّا دون نجاح مختار باشا وكوكوردان، وأيد مبادئ الجرائد المذكورة وأمال بها نحو إنكلترا، فجعلت تطبق الأرض في الثناء على عدل الإنكليز وتخدم سياستهم الاحتلالية خدمةً صادقة لو بذلوا في سبيلها الألوف المؤلفة من الدنانير لما حصلوا عليها، فأتتهم غنيمةٌ باردة لم تكلفهم أقل تعب أو نفقة.
أما الصحف المناصرة لتركيا فقد بالغت في الدفاع عن حوضها وتكذيب ما ينسب من الظلم إلى مأموريها مبالغةً أفقدتها ثقة القراء الذين أصبحوا ينظرون إلى كتاباتها عن السلطنة العثمانية بعين الارتياب، ثم نقلتهم من الشك بصحة تلك الأقوال إلى القطع بأن ما تنشره عارٍ عن الصدق منافٍ للحقيقة.
ولا بد لنا في هذا المقام من التصريح بأن صحافة وادي النيل بلغت أو كادت تبلغ شأو الجرائد الأوروبية من حيث الحجم ووفرة الأخبار وغير ذلك من المحاسن، والفضل في ذلك عائد إلى الحكومة المصرية التي تحدَّت الحكومات الأوروبية ما أمكن بتأثير الاحتلال الإنكليزي. وعلى الجملة فالصحافة العربية في تاريخ حقبتها الثانية لا تستحق أن تعدَّ بين الصحف الراقية إلا في مصر، ولا يمكن أن ترتقي في سائر الأقطار إلا بقدر ارتقاء المحيط الذي تصدر فيه كما نشاهد الآن ذلك بالفعل في أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية.