الفصل السادس

عطا بك حسني

لا يجهل أحدٌ ما لهذا الرجل الوجيه من المآثر الطيبة؛ فإنه بلا مراء من أبناء مصر الذين وقفوا حياتهم في سبيل خدمة الأدب والوطن والملة، ولذلك قرَّظته الصحف الوطنية والأجنبية ونشرت رسمه مع ترجمته إقرارًا بفضله، فمن الجرائد العربية والتركية نذكر: «ثروت فنون» في الآستانة ثم «الوطن» و«الرقيب» و«المفتاح» و«المحيط» و«الجريدة المصورة» و«المعرض» و«العمران» و«الراية العثمانية» وغيرها من الصحف المصرية، أما الصحف الأجنبية فنذكر منها: The Near East في لندن ومجلة Magazine Illuslré في باريس ومجلة La Donna في رومة وجريدة Le Bosphore ومجلة The Sphinx في القاهرة وغيرها، فإنها أجمعت قاطبةً على امتداح سعادته بعبارات التعظيم والتوقير وأشارت إلى مساعيه الحميدة في جانب المنافع العمومية والأعمال المبرورة نحو كل النحل والملل.
وما كاد يبلغ خبر عزمي على تأليف كتاب «تاريخ الصحافة العربية» مسمعَي هذا الشهم الجليل حتى أبدى ارتياحه لهذا العمل وأطراه، وشدَّد عزائمي على إخراجه من حيز القوَّة إلى دائرة الوجود، فبادر كرمًا منه وأتحفني بمجموعةٍ نفيسة من الجرائد والمجلات العربية التي يبلغ عددها نيفًا وثلاثمائة صحيفةٍ مختلفة لأستعين بها في مشروعي المذكور، وإليك نص الرسالة التي بعث لي بها في هذا الشأن:

جناب الفيكونت المفضال الكريم الخلال

أسأل خاطر جنابكم الخطير بالإكرام الجزيل والاعتبار الوفير، والمعروض أنه قد أطلعني المحب المخلص صديقنا الكاتب الأديب ديمتري أفندي نقولا على خطابكم الكريم الذي نوَّهتم فيه بي، ورغبتم في الاطلاع على مجموعة الجرائد العربية الموجودة عندي. ولما كانت عنايتكم بأمر العلوم والآداب موجبةً لمزيد الإعجاب والثناء المستطاب، فإنني بادرت بمزيد الارتياح إلى تقديم هذه المجموعة هدية لمكتبة جنابكم الحاوية نوادر الأخبار ونفائس الآثار راجيًا تكرَّمكم لقبولها عنوان ولاء وتذكار وفاء مع المجلد الأول من «حلى الأيام في خلفاء الإسلام» وتشريفي بكل ما يعرض لجنابكم من الأمور والمهام، فإنني أتمنى توثيق عرى التعارف الثمين، وتوطيد دعائم الولاء المتين، بفضل مناقبكم العالية ومظاهر وجاهتكم السامية … مكررًا لذاتكم الكريمة اعتباري الصميم واحتراماتي العظيمة، ودامت معاليكم أفندم.

أول ذي القعدة سنة ١٣٢٨.

صديقكم المخلص
عطا حسني

فمن صميم القلب أرفع لسعادته عبارات الشكران، وعواطف الامتنان والإحسان، متوسلًا إلى العزَّة الصمدانية، أن تكلأه بعين عنايتها الربانية، وتجعل مقامه مرفوعًا على منارة الأدب، بين العجم والترك والعرب، وقد رأيت تخليدًا لذكره الميمون، أن أسرد خلاصة ترجمة حياته لتبقى آثاره محفوظةً على ممر القرون، وأفردتُ لها فصلًا مخصوصًا قبل تراجم مشاهير الكُتَّاب، الذين سيأتي الكلام عنهم في أجزاء هذا الكتاب:

هو عطا بك ابن حسن حسني بك أمير الحج ابن صالح بن حسن بك من أشراف مدينة ديار بكر، وُلد في شهر ذي الحجة ١٢٩٨ / ١٨٨١ ميلادية في مدينة القاهرة، ويتسلسل أجداده من إحدى العشائر المشهورة بين الأكراد في بلاد الأناضول. ومنذ نعومة أظفاره دخل المدارس العالية فانصبَّ على تحصيل العلوم واللغات حتى نال منها النصيب الأوفر، وبعد خروجه من المدرسة أخذ يتردد على صفوة العلماء ونخبة الأساتذة، فازداد تعمقًا في درس التاريخ الاجتماعي وسائر المعارف العصرية، وكان يراقب سير الترقيات الحديثة بعينٍ يقظى وفطنةٍ وقَّادة حتى صار عالمًا أخلاقيًّا وسياسيًّا محنكًا ومؤرخًا شرقيًّا بكل معنى من معاني الكلمة، وقد قال أحدهم عنه إنه «الرجل المصري المثري الوحيد الذي شُغف بالعلوم، وبذل نفسه لأجل خدمة وطنه وملته، وأنفق جزءًا كبيرًا من ماله في سبيل المصلحة العامة.»

figure
عطا بك حسني.

واستهل عطا بك أعماله بتأليف كتابه المسمى «خواطر في الإسلام» ثم ترجمه بقلمه إلى اللسان التركي باسم «خاطرات إسلام» فنال شهرةً واسعة حتى أُعيد طبع النسخة العربية التي كثر إقبال القراء على مطالعتها، وألَّف أيضًا كتاب «حلى الأيام في خلفاء الإسلام» وهو يتضمن تاريخ الأمة المحمدية من عهد الهجرة إلى الآن، وله كتاب «السياحة العثمانية» وهو مُزيَّن بصور مشاهير الدولة العلية ورسوم المشاهد المهمة والآثار القديمة، أنجزه مؤلفه بعد أن ساح مرارًا في أقطار السلطنة العثمانية وامتزج بسكانها على اختلاف عناصرها، فشرح فيه حال السلطنة قبل إعلان الدستور وبعده، وأتى على وصف مشاهد أوروبا وعواصمها التي جال فيها كلها، وهذا الكتاب تحت الطبع مع كتابٍ آخر دعاه «صيانة الإسلام في وجود دولة آل عثمان» شرح فيه أدواء الدولة العثمانية، فجاء سفرًا حاويًا سديد الآراء وبُعد النظر في غور السياسة الشرقية.

وظهرت مآثره ظهورًا جليًّا في جريدة «الجوائب المصرية» اليومية التي جدد صدورها في القاهرة وأنشأ لها مطبعةً كبيرة، فأودع فيها من نفثات قلمه حتى صارت الصحيفة الشرقية التي أُنشئت لخدمة المصلحة القومية، فدافع عن حقوق الاستقلال العثماني بمقالاتٍ اجتماعية وإصلاحية تعود بالخير والإسعاد على الشرق والشرقيين.

ونظرًا لشهرته في عالم الأدب عيَّنته الجمعية العلمية في باريس عضوًا عاملًا لها، ثم انتدبته الجمعية الجغرافية للخطابة في حفلتها السنوية في مدينة رمس Reims فلبَّى الطلب وألقى خطبةً نفيسة دافع بها عن العثمانيين خاصةً والشرقيين عامة، ونُشرت هذه الخطبة في الكتاب الذهبي للمؤتمر المذكور.

واتصف صاحب الترجمة بدماثة الأخلاق ومحبة عمل الخير وكرم اليد والابتعاد عن التعصب الذميم لوطنه ودينه، ولنا على صحة هذا القول براهينُ كثيرة تشهد بشهامة نفسه ونزاهة مبادئه؛ فمن ذلك أنه تبرع لمنكوبي أطنه من الأرمن بمساعدةٍ ماليةٍ وافرة سلمَّها لمطران هذه الطائفة في القاهرة، وتبرع أيضًا بمبلغٍ آخر من المال مساعدةً لبناء كنيسة الطائفة المارونية في الخرطوم، وقد رفعت البطريركية المارونية تقريرًا بهذا الشأن إلى قداسة الحبر الأعظم؛ فكان ذلك داعيًا لسرور الدوائر الفاتيكانية وامتنانها. ولما عرَّج على رومة سائحًا حظي بمقابلة البابا بيوس العاشر في مقابلةٍ خصوصية مدة عشرين دقيقة كان فيها موضوع التفات قداسته. وقد عامله الحبر الأعظم كما يعامل الأمراء الأجانب، وأمر باطلاعه على متاحف الكرسي الرسولي وخزائن الكتب وسائر الآثار القديمة، ثمَّ تلطَّف وأهداه «وسام القديس غريغوريوس الكبير» طبقته الأولى.

وتشرف أثناء وجوده في باريس بمقابلة مظفر الدين شاه إيران سابقًا، فشكر له الشاه على صدق أمانته الملِّية وأظهر إعجابه به، ثم منحه وسام «شير خورشيد» الثاني وعلَّقه بيده على صدر الممنوح له مع «وسام المعارف» الذهبي، ونال أيضًا بعض علامات الشرف كوسام «سرتيب» الأول من دولة إيران، ووسام «المجيدي الثاني» ثم «مدالية الحجاز الذهبية» والرتبة الأولى من الصنف الثاني من الدولة العثمانية، وأحرز وسام «نجمة الصباح» الأول من سلطان لحج، ووسام «فخر عمان» الأول من سلطان مسقط وعمان وغيرها.

وفي رحلته إلى الآستانة سنة ١٩١٠م قابل في زيارةٍ خاصة الأمير يوسف عز الدين ولي عهد السلطنة العثمانية، فلقي لدى سموه من الحفاوة ما لم ينله مصريٌّ سواه قبل الآن، وقد أهداه الأمير المشار إليه رسمه متوجًا باسمه الكريم ومكتوبًا بخط يده، وما عدا ذلك فإن عطا بك فاز بمقابلة كثير من الملوك والأمراء شرقًا وغربًا فأهدوه رسومهم وشملوه بانعطافهم، ومما لا يسعنا السكوت عنه في هذا المقام أن داره العامرة أصبحت بلطفه وكرمه محطًّا لعظماء الرجال وكبار السياح والعلماء الأعلام؛ وغيرهم الذين يزورون وادي النيل.

نسأل الله سبحانه أن يكلِّل بالنجاح جميع مساعيه العائدة لعمل الخير وتعزيز كلمة الوطن وتوسيع نطاق المعارف، وأن يمنح سعادته عمرًا طويلًا مقرونًا بالعز والهناء والعافية، ويصون أنجاله المحروسين بعين عنايته الصمدانية، إنه أكرم الأكرمين وخير المسئولين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤