الفصل الثاني

أخبار الصحف من أول نشأتها إلى سنة ١٨٥٠م

(١) الحوادث اليومية

صحيفةٌ يومية رسمية، أَنشأَها نابليون الأوَّل سنة ١٧٩٩ عندما كان قائدًا للجيوش الفرنسية في وادي النيل؛ لنشر أخبار مصر وإذاعة أوامر حكومته بين سكان القطر المذكور. وعهد بكتابتها إلى إمام زمانه في العلوم الأدبية السيد إسماعيل بن سعد الخشَّاب كاتب «سلسلة التاريخ» في ديوان الحكومة المصرية؛ فقام بهذه المهمة أحسن قيام، كما روى معاصره العلامة عبد الله بن حسن الجبرتي في تاريخهِ (٤، ٢٣٨) بالحرف الواحد:
إنَّ الفرنساوية عيَّنوه في كتابة التاريخ لحوادث الديوان وما يقع فيهِ كل يوم؛ لأنَّ القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم وأماكن أحكامهم، ثم يجمعون المتفرِّق في ملخص يُرفع في سجلهم بعد أن يطبعوا منه نُسخًا عديدة يوزعونها في جميع الجيش، حتى لمن يكون منهم في غير المصر من قرى الأرياف؛ فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم. فلما رتبوا ذلك الديوان كما ذُكر كان هو المتقيد برقم كل ما يصدر في المجلس من أمر أو نهي أو خطاب أو جواب أو خطأ أو صواب، وقرَّروا له في كل شهر سبعة آلاف نصف فضة، فلم يزل متقيدًا في تلك الوظيفة مدة ولاية عبد الله جاك منو Menou حتى ارتحلوا من الإقليم.

أما اسم الجريدة فلم نتحققه على رغم ما بذلناه من البحث والتنقيب والاجتهاد، فعسى يتوفَّق غيرنا إلى معرفته خدمة للتاريخ وتقريرًا للحقيقة. ومن المعلوم أن الجبرتي روى عن إسماعيل الخشاب أنه كان يعتني بضبط «الحوادث اليومية» ويطبع منها نسخًا ويوزعها على جميع الجيش، فاستنادًا إلى رواية هذا المؤَرخ الجليل ترجَّح لدينا أن «الحوادث اليومية» هو اسم الجريدة، فعوَّلنا على استعماله سيما أنه يطابق على أوصاف هذه الصحيفة التي كانت تُنشَر يوميًّا كما رأيت، فلم يبقَ ريب بعد ذلك في أن هذه النشرة التي تأسست بعناية حكومة فرنسا تُعدُّ أُمَّ الجرائد العربية وباكورتهنَّ. وقد انطفأ سراجها لدى انسحاب العساكر الفرنسية من مصر في ١٤ تشرين الأول ١٨٠١ وانكسارهم أمام جيوش تركيا وإنكلترا في الإسكندرية، وقد ورد ذكر هذه الصحيفة في مقالة عن صحافة الشرق بقلم الشيخ صالح اليافي منشئ جريدة «الرشيد» البيروتية (عدد ١، سنة أولى) حيث قال: «ولما دخل الفرنساويون مصر اتخذوا لهم وُرَيقة ولكنها لم تدم.»

وكان إسماعيل بن سعد الخشاب محرر هذه الجريدة كاتبًا بليغًا وشاعرًا أديبًا بشهادة علماء عصره، وقد ترك ديوان شعر صغير الحجم جُمع بعد وفاته بعناية صديقه العلَّامة الشيخ حسن العطار. وكانت وفاته في ٢ ذي الحجة سنة ١٢٣٠ الموافقة لسنة ١٨١٥ مسيحية.

(٢) الوقائع المصرية

بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر بقيت اللغة العربية محرومةً من فوائد الصحافة، حتى قيَّض الله لها سندًا قويًّا في شخص محمد علي باشا الكبير رأس العترة الخديوية، فما كادت قدم هذا المصلح العظيم ترسخ في وادي النيل بعد حروبه مع الإنكليز والوهابيين والسودانيين واليونان وغيرهم حتى صرف همته إلى توسيع نطاق المعارف بين سكان القطر المصري؛ فاشترى مطبعة يوحنا يوسف مرسال المذكورة وحسَّنها وزاد عليها. وهكذا أسس سنة ١٨٢٢ مطبعة بولاق الشهيرة التي أدَّت خِدَمًا وافرةً وجزيلة لجميع الناطقين بالضاد، وكان إلياس مسابكي الدمشقي من جملة العمال الذين اصطنعوا قاعدة الحروف البولاقية وخدموا فنَّ الطباعة في مصر. ثم رأى محمد علي باشا أن الحاجة ماسَّة إلى إيجاد جريدة تقوم بنشر أوامر الحكومة وإذاعة إعلاناتها وسائر الحوادث الرسمية؛ فأنشأ في ٢٠ تشرين الثاني ١٨٢٨ بعناية الدكتور كلوت بك مؤسس مدرسة «قصر العيني» الطبية؛ جريدة «الوقائع المصرية» التي جعلها لسان حال الحكومة الخديوية، ولا تزال حيةً إلى الآن. وقد فوَّض إدارتها وتحريرها إلى العالم الكبير رفاعة بك ابن رافع الطهطاوي بعد عودته من باريس، حيث تلقَّى الدروس الكاملة على نفقة الحكومة المصرية. وكان رفاعة بك مؤسسًا وناظرًا لمدرسة الألسن؛ فنبغ من تلاميذه عددٌ وافر نهضوا بمصر نهضة تنطق بفضل الرجل وعظيم شأنه.

محمد علي باشا خديوي مصر؛ منشئ جريدة «الوقائع المصرية» في القاهرة.
هذا العليُّ محمد البطلُ الذي
دهشت له الدنيا وعزَّت مصرُه
صدق المؤَرخ إذ روى في حقِّه
تفنى الدهورُ وليس يفنى ذكرُه

ظهرت الوقائع المصرية في أول عهدها في اللسان التركي فقط، ثم برزت في اللغتَين العربية والتركية، ثم عادت تركيةً محضة ثم عربيةً خالصة ولم تزل. وهي تصدر الآن ثلاث مرات في الأسبوع في اثنتي عشرة صفحة متوسطة الحجم، وكانت قبل ولاية الخديو إسماعيل تصدر غير منتظمة فرتَّب أحوالها وجعل لها إدارةً خاصةً بها.

وقد تولى تحريرها بعد الطهطاوي كثير من أرباب الشهرة الواسعة في العلم وهم: أحمد فارس الشدياق اللبناني، وحسن العطار، والسيد شهاب الدين محمد بن إسماعيل المكي، والشيخ أحمد عبد الرحيم، والشيخ مصطفى سلامة، وصالح مجدي بك، والشيخ محمد عبده، وعبد الكريم سلمان، والشيخ سليمان العبد، وسواهم. أما إدارتها ومطبعتها فمنوطتان برجلٍ إنكليزي كسائر المصالح المصرية.

(٣) المبشر

figure
لويس فيليب الأول ملك الفرنسيس؛ مؤسس جريدة «المبشر».

صحيفةٌ رسمية أنشأَتها حكومة فرنسا في ١٥ أيلول سنة ١٨٤٧ باللغتَين العربية والفرنسية لعموم ولاية الجزائر في المغرب الأوسط، وكان ذلك في عهد الملك لويس فيليب الذي غزا بجيوشه البلاد المذكورة التي كانت خاضعة للأمير عبد القادر الجزائري الشهير، فشاء هذا الملك أن تكون لأهلها صحيفةٌ خاصة بهم ترشدهم إلى سبيل العلم والحضارة والزراعة والتجارة والصناعة أسوةً بسائر الدول الإسلامية سيما السلطنة العثمانية والخديوية المصرية، ثم صدر أمرُه الملكي بإخراج هذا الفكر إلى دائرة العمل، فكانت تصدر مرتَين في الشهر بحجمٍ صغير في ثلاث صفحات وفي كل صفحة أربعة أعمدة، وهي من حيث قدمة العهد ثالثة الجرائد العربية في العالم كله. ولهذه الجريدة مجموعتان إحداهما محفوظة في مكتب الإدارة والأخرى في خزائن المكتبة العمومية في عاصمة الولاية. وللمبشر ثلاثة أدوار أولها من يوم نشأته إلى سنة ١٨٨٤، والثاني إلى سنة ١٩٠٥، والثالث إلى الزمان الحاضر. وكانت عبارته ركيكة في بادئ الأمر ثم أخذت بالتحسين تدريجًا حتى صارت صحيحة الإنشاء، وكانت تُستعمل فيه أولًا لفظتا «الرسائل الخبرية» بمعنى الجريدة، وبعد ذلك درج بدلًا منهما استعمال «الورقة الخبرية» بالمعنى المذكور.

وأول الذين تولوا إدارته كان السيد أرنو Arnaud مدة ثلاثين سنة، وخلفه المستعرب الشهير ميرنت Mirante ثم Labouthiére ثم ميرنت للمرة الثانية وهو المدير الحالي. أما الذين تولوا كتابة القسم العربي في هذه الجريدة منذ البداية حتى الآن فهذه أسماؤهم مرتبةً بحسب التاريخ واحدًا بعد الآخر: أحمد البدوي إلى سنة ١٨٨٦ وهو أقدمهم عهدًا، ثم علي بن عمر، وعلي بن سماية، ومحمود وليد الشيخ علي، وقدور باحوم، وعلي ولد الفكاي، والحفناوي بن الشيخ، ومحمد بن مصطفى، ومصطفى بن أحمد الشرشالي، ومحمد بوزار، ومحمد بن بلقاسم. ونورد هنا نص المقدمة التي نشرها «المبشر» في صدر عدده الأول ليقف القراء على ما كان عليه إنشاء الصحف في عهد تكوُّنها:
ورود الأخبار من جميع الأقطار
٥ شوال سنة ١٢٦٣ ١ ١٥ شتنبر سنة ١٨٤٧
مقصود المبشر

اعلموا يا مسلمين، أرشدكم الله، أن المعظم سلطان أفرانصه، نصره الله، اتفق له برأيه وقوع هذا مختصر لفايدتكم وخيركم وتواتر النعمة عليكم، والشاهد لكم في ذلك كل ما يدل على نعمتكم ومسراتكم هو بفؤاده، ويرضى لكم ما يرضى لنفسه، ولا سيما أنكم بمسكن قلبه كعزيز الرعية عنده. واعلموا أن سلاطين أجناس النصارى مهما أرادوا يعرفون الرعية بالأمور الواقعة يبعثون لهم رسايلَ خبريةً كما هو معروف عند جميع الدول كسلطان إصطنبول وصاحب مصر، وهكذا مراد سلطان أفرانصه، نصره الله، الإعلام لكم بكل أمر صادر من البايلك؛ أي من أرباب دولته من تصرفات الجزاير وساير عمالتها لتتحققوا بسبب وقوع هذه الأمور، وباطلاعكم وفهمكم لما ذكر يظهر لكم من فعل هذه الدولة المنصورة العدل والإنصاف والسيرة على الطريقة المستقيمة. فلأجل ذلك أمر الأمير بورود هذا المبشر عليكم مرتَين في كل شهر، وبه يعرفون الولات والأعيان السيرة مع الرعية، وكذا الرعية تعرف السيرة مع الأعيان والولات. وبهذا الإعلام يتضح لكم مراد هذا الدولة منكم، وأعيانكم يجدون سهولة في التصرفات عليكم، وأنتم تعرفون حدود أحكامهم عنكم بحيث لا تخشون من تعديتهم وجواز الحدود التي بيَّنها السلطان الأعظم كما بمراده. ومع ذلك إن هذه الرسالة التي اسمها المبشر تطلق على أخبار وفوايد شتى. واعلموا أن جميع العلوم والصنايع أنواع لا يدركها الإنسان ويزداد في تعليمها إلا بعد معرفته بأنواعها؛ ولذلك أردنا أن نخبركم بجميعها لكي تزدادوا معرفة وعلمًا بها مهما تبدلت، ولأنكم تختارون ما أردتم منها على حسب بلدتكم، ليسهل عنكم تعليمها وتكثر لديكم فوايدها مع قلة خدمتها وتعبها. وكل ما يدل على ذلك بأرضكم من تجارة وفلاحة نعرفكم به، ونخبركم أيضًا عن جميع أرزاق ثمار أشجاركم وجميع نبات زرع أرضكم ومعادنها، وكذلك غلة أموالكم؛ أي من مواشيكم الرقيقة والغليظة، وجميع ما تستخرجونه من الكسوة بصناعة أيديكم يجوز بيعه بأسواقنا، كذلك نخبركم بما ينتج من أرزاق أرضنا يجوز بيعه ببخس الثمن في أسواقكم لتحصل الألفة ويجري بدل البيع والشراء بيننا وبينكم، وأيضًا الأخبار التي نعلمكم بها ليست على إقليم الجزائر فقط بل على جميع الأقاليم، وسعادة سلطان أفرانصة له معرفة ومحبة بالغة مع سلاطين الإسلام وهم: صاحب إصطنبول، وصاحب العجم، وصاحب الهند وصاحب مصر، وصاحب الغرب، وصاحب تونس. وثبوت المحبة بينه وبين هؤلاء الدول العظام معرفتهم بإحسانه وعظيم سطوته وقوَّته مدةً مديدة. وسنخبركم بجميع ما يقع في هذه الدول المذكورة، ولا سيما بلغكم من الحجاج الذين يسافرون بتذكرة من عندنا لجميع القوانصة وهم وكلة سعادة سلطان أفرانصة الذين ببر مصر وبر الحجاز وجميع بر الشام. وإن تلك التذكرة المذكورة هي حمايتهم، وبها يعتزُّون، وفي ذلك فايدةٌ عظيمة. وهذا يشهد لكم عن عظيم هذه الدولة الفرانصوية التي أنتم تحت حمايتها، معظَّمة عند جميع الدول وعلوِّ رايتها مساوٍ مع أفخر الدول. وأيضًا لنا معرفة وتحقق بالمؤلفين والعلماء من سالف الزمان أكثرهم من عندكم، وعلماؤكم الأوايل هم الذين ألَّفوا علم التاريخ وعلم السير والأدب وعلم الشعر وعلم الفلك والفقه وعلم الديانة وساير العلوم. والآن في هذه الأخبار التي أنشأناها نذكركم ببعض مسائل كتبكم المذكورة التي هي الآن بعضها عندكم مفقودة. وأيضًا آخر فوائد هذا المبشر الذي أنعمنا عليكم بإنشائه هو لما تعلموا بمقصودنا وجميع ما يجب عليكم من إجراء الحكم والتصرفات وتطَّلعون على هذه الأخبار يقصي عنكم بسبب ذلك كلام الوشات أهل الشيطنة، دمرهم الله، الذين يسعون لكم في الهلاك وجر البلاء إليكم منا سابقًا لتخليطهم وكذبهم، ونبين لكم طريق الشرع بالعدل التي نسير نحن بها، كما نعلمكم بالفوائد التي تحصل لكم بها الألفة معنا؛ فهذا غرضنا ومقصودنا. والله هو المعين في أمورنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤