الفصل الرابع عشر

حنا بك أبو صعب

حنا بك أبو صعب؛ المحرر في جريدة «لبنان» الرسمية.
لحنا قد أقر العرب طرا
بفوز بالسباق لدى الرهان
له شهد اليراع بحسن خط
كما سجد السيوف مع السنان

يتصل نسب المشايخ الصعبيين الموارنة بأبي صعب الأول المشهور الذي ولاه جبة بشراي عمر باشا والي طرابلس سنة ١٦٤٩ وجعله شيخًا عليها، وبعد موته أقرَّ حسن باشا علي ابن الصجال على الجبة فتفرق الصعبيون وجاء أحدهم المسمى أبا جودة بلاد المتن وسكنها، وإليه تنسب عائلة أبي جودة المشهورة في قضاء المتن، وفي سنة ١٦٨٠ تملك خالد أحد أحفاده تولا البترون وانتقل إليها ودُعيت سلالته فيها بعائلة الزغبي، وفي سنة ١٧٠٩ رحل منها حفيده يونان إلى المتين وسكنها وتسمت سلالته فيها بعائلة أبي سليمان، ونبغ منها جرجس ابن الخوري بطرس وتقرب من الأمير يوسف الشهابي، فكان من خواصه ورافقه في حروبه فأظهر شجاعةً وحكمة ودهاءً، فأحبه الأمير وولَّاه مقاطعة القويطع في شمالي لبنان وشيَّخه عليها ودعاه بأبي صعب وهي كنية جده الأعلى، وسيَّره إلى الشمال لإخماد فتنة حدثت فيه فأخمدها واستقر في مقاطعته، وتملك إحدى عشرة قريةً واقعة بين جبة بشراي وبلاد البترون والكورة، واستحسن منها بقعةً جميلة يجري فيها نهر «العصفور» وتظللها أشجار الأرز والصنوبر؛ فشيد بها أبنية له ولأولاده ورجاله، فانتقل إليها، فدعيت باسمه. ونبغ من هذه الأسرة رجال كبار تفوَّقوا في الغيرة والنزاهة والإقدام وتقلَّبوا في مناصب الحكومة في مدة قرنَين وخدموا بلادهم خدماتٍ صادقة خلَّدت ذكرهم في صفحات التاريخ كصاحب الترجمة الذي نورد أخباره فنقول:

هو حنا بن أسعد بن جرجس (المكنَّى بأبي صعب) ابن الخوري بطرس بن فاضل بن بطرس بن يونان بن موسى بن خالد بن ضاهر بن فارس (المكنى بأبي جودة) بن أبي صعب، وُلد سنة ١٨٢٠ في قرية «أبي صعب» وكان والده رئيسًا أول للعساكر اللبنانية. وفي سنة ١٨٢٣ توفي أبوه وقيل إنه قتل مسمومًا فاعتنت أمه بتربيته. ومنذ حداثته ظهرت عليه علائم الذكاء فتلقى أصول اللغتَين العربية والسريانية على أشهر أساتذة ذلك العصر، وما كاد يبلغ السنة الرابعة عشرة من عمره حتى جعله الأمير أمين ابن الأمير بشير الشهابي الكبير رئيس كتبته مدة ستة أعوام، وأثناء إقامته هناك كان صاحب الترجمة يتردد على المعلم بطرس كرامة الشاعر المشهور فتعلم منه نظم الشعر حتى أتقنه كثيرًا، ثم سافر سنة ١٨٤٠ مع الأمير المشار إليه في رحلته إلى جزيرة مالطا والقسطنطينية، فانتهز الفرصة لدرس اللغات الإيطالية والفرنسية والتركية، وأكبَّ على إتقان بعض العلوم كالفقه والمنطق والمعاني والبيان والرياضيات والحساب والفلك وغيرها، وتعلم أيضًا صناعة الخط بقواعده وأوزانه أعني الثلث والنسخي والجلي والتعليق والديواني والرقعي حتى صار يضرب فيه المثل بجودة الخط، وعنه أخذ الخطاط المشهور علام بن يوحنا علام هذه الصناعة وأنشأ لها القواعد المتداولة الآن بين أيدي تلامذة المدارس في كل البلاد العربية، ولبث صاحب الترجمة في القسطنطينية حتى سنة ١٨٤٩؛ أي قبل وفاة الأمير بشير التي حلَّت في ٢٩ كانون الأول ١٨٥٠.

فعاد إلى وطنه مشمولًا بتعطفات السلطان عبد المجيد الذي منحه أوسمة الشرف، وقد تعين حينئذٍ كاتبًا لمصطفى باشا الشكودري في بيروت، فلبث لديه سنة ثم صار ترجمانًا لخلفه وامق باشا الذي أنعم عليه سنة ١٨٥٥ بلقب البكوية. وهو أول من نال لقب «بك» بين نصارى جبل لبنان وبلاد الشام قاطبةً. ثم سكن في «بيت الدين» مركز الحكومة اللبنانية وأنشأ فيها سنة ١٨٥٢ مطبعةً حجرية نشرت فيها بعض الكتب، وأهمها كتاب «شرح المعلقات» للزوزني فإنه أصلحه وكتبه بخط يده وطبعه في المطبعة المذكورة، وبعد ذلك صار «كتخدا» الأمير بشير أحمد اللمعي قائمقام نصارى لبنان، ولما تشكلت الحكومة اللبنانية بعد فتنة سنة ١٨٦٠ أقامه داود باشا رئيسًا للقلم العربي، فلبث في هذه الوظيفة إلى أن توفاه الله في ١٧ أيلول ١٨٩٧ بالغًا السنة الثامنة والسبعين من عمر قضاه في التأليف وخدمة الوطن، فكان مثالًا صالحًا لسائر المأمورين بالنزاهة وعفة النفس وإخلاص الخدمة. وكان يمقت الرشوة ويكشف النقاب عن الحقيقة ولا يقبل الهدايا؛ فاستعبد القلوب بهذه الصفات التي يندر أن تجتمع في مأمورٍ لبناني بزماننا الحاضر. وكفاه فخرًا أنه خدم الحكومة وتقلَّب في مناصبها نيفًا وخمسين سنة بطهارة الذيل وحرية الضمير وسداد الرأي مما يشهد له به الخاص والعام. وهو الذي وضع طريقة المكاتبات الرسمية في مجالس حكومة لبنان التي لم تزل جارية عليها إلى الآن. وكان فارسًا مشهورًا يُضرب المثل ببراعته في هذا الفن كما يُضرب المثل بنبوغه في أساليب الإنشاء وصناعة الخط؛ ولذلك سماه القوم بكل حق «صاحب السيف والقلم».

ولما أنشئت جريدة «لبنان» الرسمية سنة ١٨٦٧ تولى كتابتها مدةً من الزمان ونشر على صفحاتها الفصول الطويلة والمقالات المفيدة، وكتب بخطه عنوان الجريدة الذي لم يزل مستعملًا فيها حتى الآن. وخلَّف مؤلفات شتى غير مطبوعة في النحو والمنطق والفلك وطبائع الحيوان، وله ديوانٌ كبير يقع في ٤٧٤ صفحة برز مطبوعًا سنة ١٨٩١ من المطبعة الكاثوليكية في اللغتَين العربية والتركية، وهو يحتوي على ما نظمه من الشعر في التهنئة والرثاء والمدح والغزل والحِكَم والحماسة والاستغاثة والتوبة والألغاز والمراسلات والتواريخ الشعرية وغيرها، وبلغ مجموع أبيات ديوانه ٨٢٣٦ منها ٧٧٧٧ بيتًا في القسم العربي و٤٥٩ بيتًا في القسم التركي، وشعره بالعموم متين القوافي رشيق المعاني خالٍ من التعقيد والتكلف، وعلى سبيل المثال نورد منه بعض الأمثلة، ومما أنشده في الحماسة:

من يبتغي طول الحياة بذلةٍ
ميت عن الدنيا بحال حياة
ويخال في حال الحياة وجوده
معْ أنه حي بحال ممات
فالشهم من يأبى الحياة بهُونها
ويعيض عن طول البقا بوفاة

وقال ارتجالًا هذين البيتَين لرجل يسمى «شمعة» ليطبعهما على ورق السكاير باسم نصر الله فرنقو باشا المتصرف الثاني على جبل لبنان:

يا سائلًا ورقًا للتبغ مرَّ على
حانوت شمعة وخذ من أحسن التحف
واشرب هنيئًا بنصر الله معتصمًا
وزير لبنان سامي القدر والشرف

وإذ ذهب يومًا ومعه بعض أحبابه لزيارة الشيخ ناصيف اليازجي ولم يجدوه، فنظم له صاحب الترجمة هذه الأبيات وتركها له في بيته وذهب:

أيا مفتي الهوى أفتيت ظلمًا
أجاز بشرعكم قطع الزيارةْ
قطعتَ بذا النوى أوصال وصلي
وكاد القلب أن يبدي نفارهْ
لماذا الجور يا كبار قوم
أليس الشر ينتج عن شرارة
أنا وأبيك كنت نويت صرمًا
ولا أبغي اللقاء ولا ادكارهْ
وكم حاورت قلبي عن قدوم
إلى علياك يا شيخ الحضارة
ولكن جرَّني قلبٌ مشوقٌ
كقود الحر شطر بني الإمارة
مقِ الإنصاف صاحِ وكن نصيفي
وخير الناس من قد زار جارهْ

وقال هذين البيتَين وأرسلهما للدكتور كرنيليوس فانديك مع بعض قواعد من خطه إلى تلامذة المدرسة الأميركية وبها يعتذر عن عدم حسن الحبر بها:

فانديك يا ذا الفيلسوف ألا اقتبل
عذري لأنك أنت أول عاذر
ما الحبر يا حبرَ العلوم بنافعٍ
فلذاك خطي لم يرق للناظر

وقال مهنئًا نصارى سوريا ولبنان بقدوم فؤاد باشا ونجاتهم من غدر الأشقياء الثائرين عليهم في فتنة سنة ١٨٦٠ من أبيات قصيدةٍ طويلة:

سلام الله أقبلَ يا عباد
فزال الدور وانقشع العناد
وصبح الأمن شقَّ ظلام ظلم
وضاءت من سنا العدلِ البلاد
وأومض برق سيف الحق نصرًا
على الباغين فانفصم الفساد
بوفد منيب ملكٍ قد تسامت
به العليا وخص به الرشاد
فؤاد فيه روح الملك حلَّت
وراق لعينها مثوى وزاد
ومذ ثارت ببر الشام قومٌ
بغاةٌ عن سبيل الله حادوا
فحرك همةً بيمين حزمٍ
وعزمٍ منه تندكُّ الطواد
ولما في سما لبنان ذرت
شوارقه لقد خلع الحداد
أفاض مراحمًا يمًّا عبابًا
بصيِّبها على الدنيا امتداد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤