الشيخ يوسف الأسير
ولد الشيخ يوسف بن السيد عبد القادر الأسير في ذي القعدة سنة ١٢٣٠ﻫ/١٨١٥م في صيداء، ومال منذ حداثته إلى تحصيل المعارف فقرأ شيئًا منها على الشيخ أحمد الشرمبالي، ثم ذهب إلى دمشق حيث تعلم في «المدرسة المرادية» مدة سنة، وأثناء إقامته فيها نُعي إليه والده فرجع إلى مسقط رأسه لتدبير أحوال عائلته، ونظرًا لاجتهاده أحب زيادة التعمق في العلوم فسافر إلى القاهرة، وهناك انتظم في سلك تلامذة الجامع الأزهر الذي كان برئاسة الشيخ حسن العطار، ولما توفي حسن العطار تقلد مشيخة الأزهر سميه حسن القويسني فقال فيه أحد الشعراء معترفًا بفضل الحسنين:
ولبث الشيخ يوسف الأسير سبع سنين في الأزهر حتى نبغ في جميع العلوم كالفقه واللغة والحديث والتوحيد والتفسير والشعر والمنطق وصار إمامًا يُرجع بها إليه، ثم عاد إلى صيدا فلم يطل الإقامة فيها بعدما درس وهذب الطلبة الذين كانوا يتهافتون من كل صوب إليه، فسافر إلى طرابلس الشام وهناك قضى ثلاثة أعوام، فأخذ عنه العلم كثيرٌ من فضلاء سكانها وغيرهم، نخص منهم بالذكر السيد يوحنا الحاج بطريرك الموارنة، ويوحنا الحبيب مؤسس جمعية المرسلين المارونية. وكانت بيروت في ذاك الحين أخذت تزهر بالمدارس والمطابع؛ فاختار الإقامة فيها، وتولى في أثناء ذلك رئاسة كتَّاب محكمتها الشرعية، وكلفه المرسلون الأميركان بتصحيح عبارة الكتاب المقدس الذي ترجموه من لغاتها الأصلية إلى اللسان العربي. وعلَّم بعضهم اللغة العربية كالدكتور عالي سميث والدكتور كرنيليوس فان ديك، ونظم لهم كثيرًا من الترانيم المستمدة مواضيعها من المزامير والكتاب المقدس، وهي مطبوعة بأسرها ومستعملة في الكنائس الإنجيلية، ثم تولى منصب الفتوى في عكا وتعين مدعيًا عموميًّا مدة أربع سنين في جبل لبنان على عهد متصرفه الأول داود باشا، وقد كتب حينئذٍ مقالات في جريدة «لبنان» الرسمية التي أشار إليها في هذه الأبيات:
ثم انتقل إلى الآستانة حيث تعيَّن أستاذًا للسان العربي في دار المعلمين الكبرى، وتولى رئاسة التصحيح في نظارة المعارف وكتب في جريدة «الجوائب» لمنشئها أحمد فارس. وأثناء إقامته في العاصمة العثمانية أخذ العلم عنه بعض أعاظم رجالها كالصدر الأعظم رشدي باشا شرواني، وأحمد جودت باشا وزير المعار، ووصفي أفندي رئيس كتاب شورى الدولة، وذهني أفندي رئيس مجلس المعارف، والمسيو بوره سفير فرنسا، وغيرهم.
ولما ثقلت عليه وطأة البرد في الآستانة زايلها عائدًا إلى بيروت، فأخذ يعلم في مدارسها الكبرى كالمدرسة الوطنية للبستاني، ومدرسة الحكمة للمطران يوسف الدبس، والكلية الأميركانية، ومدرسة «ثلاثة الأقمار» للروم الأرثوذكس وغيرها. وأكبَّ على التأليف فوضع كتابًا في الفقه سماه «شرح رائض الفرائض» وشرح كتاب «أطواق الذهب» للزمخشري، وألَّف رواية تمثيلية سماها «سيف النصر» وأرصد ريعها لمشترى أدوات لجريدة «ثمرات الفنون» عند أول نشأتها، وطبع كتاب «رد الشهم السهم» جوابًا على كتاب «السهم الصائب» الذي انتقد فيه الشيخ سعيد الشرتوني كتاب «غنية الطالب» لأحمد فارس الشدياق. وله قصائد وموشحات وأبياتٌ حكمية جُمعت في ديوانه «الروض الأريض» المطبوع في بيروت، غير أن هذا الديوان لا يحتوي إلا على النزر اليسير من أشعار صاحب الترجمة؛ لأن كتاباته وأكثر مؤلفاته احترقت فذهبت فريسة النار. وللشيخ ناصيف اليازجي قصيدة نفيسة مدح بها صاحب الترجمة وقرَّظ فيها الديوان المذكور نقتطف منها هذه الأبيات:
رسم يمثل عمدة «المدرسة الوطنية» لمنشئها بطرس البستاني في بيروت سنة ١٨٦٦

وتولى رئاسة تحرير جريدتي «ثمرات الفنون» و«لسان الحال» مدة من الزمان، وقد توفاه الله في ٢٨ تشرين الثاني ١٨٨٩م/١٣٠٧ﻫ مشكورًا بكل لسان لرقة أخلاقه وزهده في حطام الدنيا وحبه لنشر المعارف. ومن الذين درسوا عليه في آخر حياته غريغوريوس الرابع البطريرك الأنطاكي للروم الأرثوذكس، والدكتور مرتين هرتمان أستاذ اللغة العربية في مدرسة الألسن الشرقية في برلين، ورثاه كثير من الشعراء وأرباب الصحف في الآستانة وسوريا ومصر معددين فضائله، فاعتنى بجمعها الشيخ قاسم الكسني ونشرها بالطبع في كتابٍ مخصوص. ومن الترانيم النفيسة التي نظمها للمرسلين الأميركيين ترنيمة تتضمن «وصايا الله العشر» وهي:
ومن المراثي التي تليت بعد الصلاة عليه في الجامع العمري الكبير قصيدة للشيخ سليم الجارودي مطلعها: