بطرس البستاني
هو بطرس بن بولس بن عبد الله بن كرم بن شديد بن أبي شديد بن محفوظ بن أبي محفوظ البستاني، وُلد في تشرين الثاني ١٨١٩ في «الدبية» بلبنان، ودخل منذ صباه مدرسة «عين ورقة» حيث تلقَّى أصول اللغات العربية والسريانية والإيطالية واللاتينية، فأنفق هناك بين تعلم وتعليم مدة عشر سنين حتى أحرز كل العلوم التي تُعلِّمها تلك المدرسة، ثم زايلها وجاء بيروت فتعرَّف بالدكتور عالي سميث رئيس الرسالة الأميركانية وقسوسها الذين أحبوه لنجابته وشملوه بعنايتهم، فقرأ عليهم اللغات اليونانية والعبرانية والإنكليزية مع بعض العلوم العصرية وتبع مذهبهم البروتستانتي. وإذ آنسوا منه براعةً في المعارف جعلوه سنة ١٨٤٦ أستاذًا في مدرسة عبيه حيث تخرَّج عليه كثير من شبان سوريا ولبنان، وبعد سنتين عُيِّن ترجمانًا لقنصلية أميركا في بيروت.
هذا وإننا لا نغالي فيما إذا قلنا إنه أبدى من العزيمة الماضية والهمة السامية في تأليف الكتاب وطبعه ما لا يتوقع من رجلٍ واحد ولا سيما في ديار الشرق، ولكنه ألفى هو وولده الفاضل سليم أفندي من مواطنيه وكل أهل المطالعة والأدب عمومًا ومن الحكومة المصرية خصوصًا يدًا بالندى ندية. أما الحكومة المصرية فارتاحت أيَّما ارتياح إلى اقتناء هذا الكتاب شدًّا لأزر صاحبه أولًا وجلبًا للنفع إلى مدارسها ومكاتبها ومحافلها العلمية ثانيًا. لا جرم أنه لا أولى بالثناء ممن اشترك في المساعدة والمعاونة، ثم إن الذي يُعلم من تاريخ الإنسكلوبيديات الابتدائية الأوروبية أنها لم تكن في منشأ أمرها على ربع ما هي عليه «دائرة المعارف» من إحكام التأليف وغزارة المادة والضبط وحسن الطبع والورق والتجليد والصور، مع قلة في الثمن لا أقل منه إلا أثمان الكتب العادية؛ فحق إذن لأبناء اللغة التباهي والتفاخر بذلك الرجل الذي وصفه أحد فلاسفة العصر «بالجبار» في أعماله؛ لما أنه لم يبالِ قط بالمنايا في ميدان الكفاح العلمي، ولا امتنع عن الكر والفر وإن علت الأسوار وعمقت الخنادق. ولو لم يكن غير هذا المشروع لكفاه، فكيف وقد تقدمته تأليفاتُ عديدة وترجماتٌ كثيرة؟ تسبقها وتعقبها ألوف من الخطب والعظات ارتجالية كانت أو غير ارتجالية.
وكان المعلم بطرس رئيسًا للجمعية الخيرية البروتستانتية وعضوًا في عمدة الكنيسة الإنجيلية في بيروت، وتعيَّن عضوًا فخريًّا في المجمع الديني الأعلى في الولايات المتحدة، وسُمِّي عضوًا في «الجمعية العلمية السورية» سنة ١٨٥٢ فاعتنى بتنظيم أشغالها، ثم صار عضوًا في «المجمع العلمي الشرقي» آخذًا على عاتقه مراسلة كثيرين شرقًا وغربًا في شئونٍ علمية.
أما مآثره الصحافية فهي أشهر من نار على علم؛ لأنه أنشأ منفردًا ومتحدًا مع نجله البكر سليم البستاني أربع صحفٍ شهيرة يُغني ذكرها عن وصفها وهي: نفير سوريا، والجنان، والجنة، والجنينة. وخلاصة القول أنه كان من أعظم أركان النهضة العلمية في القرن التاسع عشر، بل إنه رفع شأن الآداب العربية بما تركه من الآثار الخالدة التي ضفرت على رأسه إكليل الافتخار. وكان وديعًا لطيف المحاضرة واسع الاطلاع مقدامًا على المشاريع الكبيرة التي لم يقدم على مثلها غيره من أبناء الشرق على اختلاف ألسنتهم ومذاهبهم. وحلت وفاته بين المحابر والأقلام في غرة آيار ١٨٨٣ بالغًا السنة الرابعة والستين من عمر قضاه في التعليم والتأليف وخدمة الوطن؛ فأبَّنَه الخطباء، وناح عليه الشعراء، ورثته الجرائد بأقوالٍ تدل على سمو منزلته العلمية. وقد ألفتت نظرنا قصيدةٌ رنانة للشيخ خليل اليازجي أنشدها بلسان «المدرسة الكلية الأميركانية» نقتطف منها الأبيات الآتية التي نجعلها مسك الختام لترجمة هذا الرجل المفضال: