الفصل الحادي والعشرون

فرنسيس مرَّاش

كانت منزلة آل مراش بين نصارى حلب بنهضتهم الأدبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كمنزلة آل اليازجي وآل البستاني في لبنان والديار الشامية، فإنهم أيقظوا روح المعارف في أبناء وطنهم وخدموا العلوم بالتأليف والصحافة، واشتهروا منذ القرن الثامن عشر بالوجاهة وطيب الأرومة والصيت الحسن، ومنهم قام الشاب بطرس بن نصر الله مراش الذي استشهد في سبيل دينه في ١٦ نيسان ١٨١٨ على يد خورشيد باشا والي حلب مع عشرة شبان آخرين،١ وقد رثاه حينئذٍ الشاعر الكبير نقولا الترك بقصيدةٍ طويلة نورد منها بعض أبيات وهي:
كم يشتكي قلبي الموجَّع كلما
قد مضَّه الهم الذي قد كلما
ما حسرة الثكلاء ما الخنساء مذ
كانت تئن توجُّعًا وتألما
تبكي نعم لكن على صخر الفلا
وأنا على صخر العلى أبكي دما
شلت يد الباغي الذي قد أهرقت
دمه الزكي وحلَّلت ما حُرِّما
لله فجعة بطرس كم فتتت
كبدي وألقت في فؤادي أسهما
وافى إلى سفك الدما بشهامةٍ
وغشى المنايا مسرعًا متقحِّما
وانضم منحازًا مع الشهداء في
جنات خلدٍ بالسماء منعَّما
فلذاك قلت صِلُوه تمجيدًا بتا
ريخي ففي دمه الزكي ورث السما

ثم اشتهر فتح الله مراش وكان ذا إلمامٍ وافر باللغة العربية وآدابها، وترك منها آثارًا مخطوطة. وسنة ١٨٥٠ سافر إلى فرنسا لضرورة دعت إلى ذلك فمكث فيها ثلاث سنين، وقد استصحب معه في هذه الرحلة بكر أنجاله فرنسيس الذي خلفه في آدابه، بل فاق عليه بالذكاء والمعارف وفنون الإنشاء شعرًا ونثرًا. وإليك ما ورد في كتاب «الآداب العربية في القرن التاسع عشر» عن أخباره باختصار:

ولد فرنسيس بن فتح الله بن نصر الله مراش في ٢٩ حزيران سنة ١٨٣٦ ثم تلقَّن العلوم اللسانية وآداب الشعر، وانكبَّ على دراسة الطب أربع سنوات تحت نظارة طبيبٍ إنكليزي كان في الشهباء، وأراد أن يتم دروسه في عاصمة الفرنسيس فسافر إليها في خريف سنة ١٨٦٦، وقد وصف سفره إليها في كتاب «رحلة باريس» الذي طبعه سنة ١٨٦٧ في بيروت، ولم يسعده الدهر في غربته فكرَّ راجعًا إلى وطنه وتفرغ للتصنيف رغمًا عما أصابه من ضعف البصر وانحطاط القوى حتى أفل نجم حياته فمات سنة ١٨٧٣ في مقتبل الكهولة. وكان فرنسيس صادق الإيمان كثير التدين. وقد ألَّف كتابًا بناه على مبادئ العلوم الطبيعية والعقلية بيانًا لوجود الخالق وإثباتًا لحقيقة الوحي، سماه «شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة» أعرب فيه عن دقة نظر ومعرفة بأحوال الطبيعة والعلوم العصرية. ومن مصنفاته التي جمع فيها بين الفلسفة والآداب فأودعها آراءه السياسية والاجتماعية على صورةٍ مبتكرة كتاب «غابة الحق» الذي طُبع في حلب سنة ١٨٦٥، ثم كرر طبعه في بيروت ومصر، ومثله كتاب «مشهد الأحوال» المطبوع في بيروت سنة ١٨٨٣ على أسلوبٍ لطيف ونسقٍ حديث، وفي بيروت طُبعت له روايةٌ حسنة دعاها «در الصدف في غرائب الصدف»، ومما طبعه قبلها في حلب كتاب «المرآة الصفية في المبادئ الطبيعية» (١٨٦١) لخص فيه أصول علم الطبيعة، ثم خطبة في «تعزية المكروب وراحة المتعوب» (١٨٦٤)، وكتاب «الكنوز الغنية في الرموز الميمونية» (١٨٧٠)، وهي قصيدةٌ رائية في نحو خمسمائة بيت ضمنها رموزًا خفية على صورة روايةٍ شعرية، ومن نظمه أيضًا «ديوان مرآة الحسناء» طبعه له محمد وهبة سنة ١٨٧٣ في بيروت.

وكان فرنسيس المراش يحب في كلامه الترفع عن الأساليب المبتذلة فيطلب في نثره ونظمه المعاني المبتكرة والتصورات الفلسفية فلا يبالي بانسجام الكلام وسلاسته، فتجد لذلك في أقواله شيئًا من التعقد والخشونة مع الإغضاء عن قواعد اللغة، فمن شعره ما قاله يشكو الدهر:

رمت قلبي نبال الدهر حتى
رأيت دمي يسيل من العيون
فلو كان الزمان يُصاغ جسمًا
لكنت أُذيقه كاس المنون

ومن أشعاره الحكمية قوله:

صدقوني كل الأنام سواء
من ملوك إلى رعاة البهائم
كل نفس لها سرورٌ وحزنٌ
لا تني في ولائم أو مآتم
كم أمير في دسته بات يشقى
باله والأسير في القيد ناعم
أصغر الخلق مثل أكبرها جُرْ
مًا لهذا وذا مزايا تلائم
والخلايا للنحل أعجب صنعًا
من قصور الملوك ذات الدعائم

وكان فرنسيس المراش يراسل أهل الفضل في زمانه كالشيخ ناصيف اليازجي وغيره، وله مآثرُ عديدة وفصولٌ إنشائية وقصائد وأراجيز نشرها أرباب الجرائد في عهده كأصحاب «الجوائب» و«النحلة» و«الزهرة» و«الجنان» و«النشرة الأسبوعية» و«المشتري» و«البشير» و«المجمع الفاتيكاني» و«مرآة الأحوال» و«الجنة» وغيرها. وقد رثاه الأديب المرحوم بشارة الشدياق فقال يذكر تآليفه:

تركت يا مفردًا شأنًا يذكرنا
شذاه كالمسك لما فاح في الطلل
من مشهد قد جلا الأحوال بأن لنا
منه عجائب أفعالٍ بلا خلل
ومن غرائب ما شاهدت من صدفٍ
أبهى من الدر أو أشهى من العسل
ورحلةٍ سرت فيها قد حوت حكمًا
صيغت من الدر من قولٍ ومن عمل

ونقشت أخته مريانا الشاعرة الشهيرة على نعش أخيها فرنسيس بعد وفاته هذين البيتَين:

ويلاه من جور دهر قد أحل بنا
مصائبًا شأنها أن تصدع الحجرا
يشتت الشمل منها حيثما نزلت
تفني الجميع ولا تبقي له أثرا
١  راجع تفاصيل هذه الحادثة في كتابنا «السلاسل التاريخية في أساقفة الأبرشيات السريانية» المطبوع سنة ١٩١٠ صفحة ٢٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤