رزق الله حسون
نشأت أسرة حسون الأرمنية في بلاد العجم، وقيل في ديار بكر، وقد أشار المترجم إلى هذا في قوله من قصيدة:
فجاء جدها الأعلى وسكن حلب وولد أولادًا ذهب أحدهم إلى مدينة أزمير، فبقي اسم أولاده أولًا بني حسون ثم عرفوا ببني حلب أوغلي (أي أولاد حلب) وهم فيها بهذا الاسم الأخير إلى عهدنا، وذهب أحدهم إلى الآستانة قبل تغيير اسمهم «حسون» وبقيت سلالته فيها باسم بني حسون إلى عهدنا، ومنهم نشأ البطريرك حسونيان (وزيادة الياء والألف والنون من اصطلاحات اللغة الأرمنية)، وكان من رجال الفضل والعلم، ولا تزال بقية أسرته في الآستانة إلى يومنا. وذهب أحد أولاد حسون الجد الأعلى المذكور إلى القطر المصري، أما ولده الآخر فبقي في حلب ومن أسرته ولد المترجم نحو سنة ١٨٢٥، فتعلم فيها مبادئ القراءة وأتقن الخط على الشيخ سعيد الأسود الحلبي الشهير بجودة خطه. وما ترعرع حتى انتقل إلى دير بزمار وهو دير لرهبنة الأرمن الكاثوليك الأنطونية وفيه مقر الرئيس العام وموقعه في ساحل كسروان من أعمال لبنان، فدرس العلوم اللاهوتية واللغات الفرنسية والتركية والأرمنية والعربية والعلوم الرياضية. وكان نابغة في جودة حفظه وذكائه حتى إنه نظم الشعر وهو تلميذ، وذلك أنه لما استقدم المطران باسيليوس عيواظ إلى دير بزمار ليسام فيها أسقفًا على الأرمن في حلب وتمت سيامته في ٤ فبراير (شباط) سنة ١٨٣٨ أنشده رزق الله قصيدة من نظمه وهو في الثالثة عشرة من عمره.
ولما أتمَّ دروسه في بزمار عاد إلى مسقط رأسه حلب وكان يمارس التجارة لأن والده كان غنيًّا. وكثيرًا ما كان يختلف إلى دار قنصلية النمسا في حلب حيث كان والده ترجمانًا فيها؛ فيتمرن على أعمال الترجمة في القنصلية، ثم نزعت نفسه إلى طلب العلى فذهب إلى أوروبا وطاف في لندن وباريس، وجاء مصر واستنسخ كتبًا كثيرة؛ لأنه كان ولوعًا بالمطالعة، كثير الميل إلى صناعة الخط التي عُرف بيتهم بها، كما أشار إلى ذلك بقوله من قصيد:
ثم عاد إلى الآستانة وتقرَّب من رجالها ونال منزلة عندهم، واتخذه الحاج أبو بكر آغا القباقيبي من كبار أغنيائها وتجارها وأعيانها مديرًا لشئونه ومؤتمنًا على أمواله، وبواسطته استُخدم في الحكومة. وقد اتصل بالمرحوم يوسف جلبي الحجار وتزوج السيدة متيلدة ابنته سنة ١٨٤٨، وأرَّخ ذلك بطرس كرامة بقوله من أبيات:
وقد كان بينه وبين أدباء عصره في سوريا ومصر والآستانة مراسلات ومساجلات ولا سيما وطنيُّه الشاعر نصر الله الطرابلسي المشهور وأحمد فارس الشدياق وبطرس كرامة، وغيرهم ممن جاء بعدهم مثل فرنسيس مراش وشقيقه عبد الله، وجبرائيل الدلال وشقيقه نصر الله من مواطنيه، والقس لويس الصابونجي وديمتري شحادة الدمشقي والمطران أغابيوس صليبا الأرثوذكسي وخليل الخوري وغيرهم. ولقد عَرف رؤساءَ الأساقفة بعهده ومدَحَهم، من ذلك أبياتٌ موجودة بخطه في دار بطريركية الروم الكاثوليك بدمشق؛ مدح بها الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم الحلبي الشهير سنة ١٨٤٢م/١٢٥٢ﻫ، مطلعها:
وقال من قصيدةٍ مدح بها الطيب الذكر البطريرك بولس مسعد الماروني الشهير:
وختمها بقوله:
ومن ذلك ما بعث به إلى صديقه بطرس كرامة شاعر الأمير بشير الشهير من قصيدة ذُكرت في ديوانه صفحة ٣٨٥ منها:
فأجابه بطرس كرامة بأبيات تجدها في ديوانه ومنها قوله:
ولما انتشبت حرب القرم بين روسيا والدولة العلية وتداخلت فيها الدول المتعاهدة منحازة إلى دولتنا سنة ١٨٥٤؛ أنشأ المترجم جريدة «مرآة الأحوال» في دار السعادة، فكانت أول جريدةٍ عربية فيها وكان يصف فيها حرب القرم ومواقعها ويكتب الفصول السياسية الدالة على حنكته، ويتطرق إلى وصف أحوال بلادنا ولا سيما بعلبك ولبنان وحاصبيا وما كان يجري فيه إذ ذاك من الفتن الأهلية، فذاعت جريدته شهرة وزادت نجاحًا بعد ذلك إلى أن عطلها.
ولما نشبت حوادث سنة ١٨٦٠ في سوريا وسُفكت الدماء وتفاقم الخطب وجاء فؤاد باشا لإصلاح ذات البين كان صاحب الترجمة من رجاله، اتخذه لتعريب المناشير والأوامر التي يصدرها للشعب، وكان قد نال لديه حظوة أيام كان وزيرًا للخارجية في أثناء حرب القرم ومدحه في جريدته «المرآة» وأثنى على بسالته حينما كان قيِّمًا على الجند بقيادة عمر باشا النمساوي في حرب القرم.
واتصل وهو في دمشق بالأمير عبد القادر الجزائري الشهير وله فيه مدائح نَشر بعضها في كتابه «النفثات» الذي قدَّمه له، وتبادل المودة مع أدباء بيروت ودمشق ولبنان.
وعثر وهو في دمشق على كثير من الكتب المخطوطة القديمة وأحرزها، ومن جملتها إنجيلٌ عربي وجده في قرية «عين التينة» قرب معلولا في جبل القلمون نسخ سنة ٧٠٤٥ لآدم و٩٤٧ﻫ/١٥٤٠م)، فأهداها إلى المرحوم متري شحادة الدمشقي لما كان في القسطنطينية سنة ١٨٦٣ وهو الآن في المكتبة البطريركية الأرثوذكسية في دمشق (عدد ١٠٠٦)، وخطه كنسيٌّ جميل، وقد تفقد مكاتب دمشق القديمة ووقف على نوادر مخطوطاتها ونسخ بعض تعاليقَ مفيدة عنها كان يفيد بها المستشرقين بعد ذهابه إلى أوروبا.
ولما عاد فؤاد باشا إلى الآستانة نائلًا منصب الصدارة العظمى سنة (١٢٧٨ﻫ/١٨٦١م) نال المترجم حظوة لديه فكان من خاصته. ولم يلبث فؤاد باشا أن صار عضوًا في مجلس الأحكام العدلية في السنة الثانية من صدارته، وذهب إلى معرض مدينة لندن معتمدًا عثمانيًّا سنة (١٢٧٩ﻫ/١٨٦٢م) فأخذ المترجم معه، ولما عاد إلى الآستانة أعاده معه فرقَّاه إلى نظارة جمارك الدخان؛ فكثر حساده ومناوئوه واشتد الأمر بينه وبينهم، فوُشي به أنه رمي بالغلول في مال الجمارك هو وبعض المستخدمين فسُجن معهم، ثم فرَّ إلى روسيا، وهناك أطلق لسانه بالانتقاد على الحكومة وألَّف رسالة بعنوان «قول من رزق الله حسون يبرئ نفسه من الغلول»، وذكر البعض أنه أنشأ جريدة في فرنسا لهذه الغاية، وذلك غير ثبت إلا إذا كان قد أعاد نشر جريدة مرآة الأحوال. ثم تُوسِّط في أمره فقبلت الحكومة أن ترسل إليه أسرته أي زوجته وأولاده فلم يقبل إلا بجميع مطاليبه منها؛ فأوغر صدر السلطان عبد العزيز عليه، فطلب من الحكومة أن تمنعه عن التنديد بالدولة فلم يُصِخ لها سمعًا بل غادرها وحلَّ لندن، وأصدر فيها جريدته «مرآة الأحوال» وخصَّها بالشكوى من أعمال بعض موظفي الحكومة لعهده. وقد رأيت منها العدد السادس عشر بتاريخ ١٨ كانون الثاني سنة ١٨٧٧ مكتوبًا بخطه الجميل مطبوعًا على الحجر وفيه مقالاتٌ سياسيةٌ بليغة. وكان يكتب فيها كثير من أدباء عصره ومواطنيه ولا سيما المرحومان جبرائيل الدلال وعبد الله المراش شقيق الشاعر الشهير فرنسيس مراش. وكان قد أصدر مجلةً عربية عنوانها «رجوم وغساق إلى فارس الشدياق» نشر منها عددَين في لندن؛ الأول في ٤ آيار سنة ١٨٦٨ في ١٤ صفحةً صغيرة، والثاني في ٥ آيار سنة ١٨٦٨، وذلك ردًّا على المرحوم أحمد فارس الشدياق صاحب «الجوائب» على أثر ما حدث بينهما من الخصام الشديد. وكانا يتناظران مناظراتٍ موجعةً شديدة اللهجة، وكان يبيع من «مرآة الأحوال» في سنتها الأولى في لندن ٤٥٠ نسخة.
ثم عطَّل مرآة الأحوال ونشر مجلةً عربية طُبعت في لندن سنة ١٨٧٩ كانت تصدر كل خمسة عشر يومًا مرة عنوانها «حل المسألتين الشرقية والمصرية». وهي أول مجلةٍ عربيةٍ شعرية؛ لأنها كانت قصائد تبحث في هذه المواضيع، فاجتمع منها مجلد بقطع ربع في أكثر من ثلاثمائة صفحة.
ثم انقطع بعد ذلك إلى النَّسخ والاشتغال بتصحيح حروف الطباعة العربية في أوروبا ومساعدة كثير من المستشرقين حتى بلغ ما استنسخه من نفائس الكتب أكثر من عشرين، أهمها «ديوان الأخطل» و«ديوان ذي الرمة» و«المتمم» لابن درستويه و«الأناجيل المقدسة» ترجمة أبي الغيث الدبسي الحلبي و«ديوان حاتم الطائي» وهذا طبعه كما سيجيء. ولا تزال بعض مخطوطاته في مكاتب روسيا وفرنسا وإنكلترا حيث كان يتردد بين هذه الممالك. وجاء حلب قبل وفاته بسبع سنوات متنكِّرًا فتفقد مكاتبها واستنسخ منها بعض الآثار النادرة، ثم عاد إلى إنكلترا التي اتخذ معظم سكناه فيها ولا سيما قرية وندسورث حيث تفرغ لوضع كتبه وطبعها.
وعلى الجملة فإن رزق الله حسون كان سياسيًّا حرًّا يرغب في إصلاح الدولة العثمانية ويذهب مذهب كبار أحرارها كمدحت باشا وأعوانه. ولما ذهب مدحت باشا إلى لندن قابله فيها وسُرَّ به، ولا صحة لما شاع من أنه سعى في قتله.
أما منزلته الأدبية فإن نثره من النمط العالي المتين وسجعه كثير ينحو فيه نحو الأقدمين، وشعره يدل كثير منه على طبيعته، ولكنه كان قليل التدقيق في الأوزان ومراعاة الأصول الصرفية والنحوية؛ فيشبع الحروف التي لم يرد مسوغ لإشباعها، ويسكن ويحرك ويختار القوافي الصعبة، وهذا التكلف ظاهر في كتابه «أشعر الشعر». ومع هذا فإن بين قصائده فرائدَ بليغةً فصيحة اللفظ متينة القوافي تعدُّ من الطبقة العليا في الشعر. وقد خرج في بعض القصائد عن الطرق المألوفة؛ فلم يتقيد بقافية كما ترى في كتابه «أشعر الشعر»، وكثيرًا ما يميل إلى الألفاظ المهجورة. وبقي بين المحابر والأقلام إلى أن توفي فجأة في مدينة لندن، وقيل إنه توفي مسمومًا، وذلك نحو سنة ١٨٨٠ غريبًا عن أسرته التي بقيت في الآستانة، وولده ألبير الوحيد حي إلى اليوم فيها. ولما شعر رزق الله بدنوِّ أجله نظم احتضاره (على أصح الروايات التي محَّصتها) بهذين البيتَين:
- (١)
«النفثات» وهو قسمان أولهما في تعريب قصص كريلوف شاعر الصقالبة التي وضعها على طريقة بيدبا الهندي في كليلة ودمنة ولافونتين الفرنسي في خرافاته ولقمان في حكاياته وما شاكل. عرَّبها نظمًا في ٤١ قصة تقع في ٦٩ صفحة بقطع ربع، وألحق بها نخبة من منظوماته من تواريخ وأوصاف ومدائح وشكوى. وبينها قطعة عرَّض فيها بالشيخ أحمد فارس الشدياق حتى إن الشدياق لما انتهت إليه قال فيها عبارته الشهيرة: «كان حسون لصًّا وله سرقات، فأصبح صِلًّا وله النفثات.» وجميع هذا الكتاب يقع في ٨٤ صفحة، وقدَّمه للمرحوم الأمير عبد القادر الجزائري نزيل دمشق وطبعه في لندن سنة ١٨٦٧.
- (٢)
«أشعر الشعر» وهو نظم سفر أيوب الصديق في ٧٤ صفحة بقطع ربع، فرغ منه في ٢٩ نيسان سنة ١٨٦٩، وهو في وندسورث (إنكلترا) ثم نشيد موسى النبي، ثم سفر الجامعة ونشيد الإنشاد لسليمان الحكيم ومراثي أرميا النبي، وهذه بدأ بنظمها في ٢٨ نيسان سنة ١٨٦٩ وأتمَّها في ٣ آيار، والكتاب يقع جميعه في ١٣٦ صفحة وهو مطبوع في المطبعة الأميركية ببيروت سنة ١٨٧٠، ووضع في أوله مقدمة قال فيها إن أيوب وهوميروس وشكسبير أشعر الخلق، وأشار إلى نظمه سفر أيوب في أيام اعتقاله، وأنه نظم الفصل الثامن عشر منه على أسلوب الشعر القديم بلا قافية، وقد كتب بعض الفصل نثرًا بليغًا، وربما أبقى بين ما نظمه في بعضها فقراتٍ نثرية. وفي «أشعر الشعر» من الركاكة والجوازات الشعرية ما يدل على اضطراب بال المؤلف حين نظمه وسرعة إعداد بعض الأسفار الأخرى، فلم تمسَّه يد النقد ولا جال فيه خاطر التهذيب.
- (٣)
«السيرة السيدية» وهو عبارة عن مزج الأناجيل الأربعة المعروفة بالبشائر، طبع بمطبعة الأميركان في بيروت في ١٩٠ صفحة.
- (٤)
رسالة مختصرة في «الطباعة العربية» والاقتصاد فيها ماديًّا ووقتًا، وقد وجدت منها نسخة بخطه الجميل في مكتبة أسقفية الأرثوذكس بحلب فاستنسختها سأنشرها قريبًا لفوائدها.
- (٥)
«ديوان حاتم الطائي» المشهور بكرمه، استنسخه عن نسخةٍ قديمة وطبعه في لندن سنة ١٨٧٢ في ٣٣ صفحة.
- (٦)
كتاب «المشمرات» طبع في سان باولو من أعمال البرازيل، سعت بطبعه إدارة جريدة «المناظر» منذ بضع سنوات.
- (٧)
«حسر اللثام» وهو كتابٌ جدلي تم تأليفه سنة ١٨٥٩ ولا أظنه طُبع.
ولقد ذكر المترجَم كثيرٌ من المستشرقين وآخرهم ثناءً عليه المسيو كليمان هوار الفرنسي في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربية»، وقد اقتصر على ذكر كتابه «النفثات» وجريدته «مرآة الأحوال» في لندن ولم يذكر نشأتها في الآستانة.