الفصل الثامن

ميخائيل مدور

لك الفعل الجميل وأنت عِقدٌ
لجيد الدهر والدنيا يزِينُ
عليك وفاء حق العلم دَينٌ
وفيك محبة الأوطان دِين
وأنت بذي الديار عماد مجدٍ
وركن في أعاليها متين
وإن كان المدور ليس قطبًا
لدور المكرمات فمن يكونُ

هو ميخائيل بن يوسف مدور، ولد في بيروت بتاريخ ٣٠ تموز سنة ١٨٢٢ ودرس اللغتَين الفرنسية والإيطالية في مدرسة عين طورا، وقرأ قواعد اللغة العربية وفقهها بدون أستاذ؛ فأصاب منها سهمًا وافرًا. وتعاطى التجارة مع إخوته إلى سنة ١٨٥٢ وفيها اقترن بتاريخ ٣ شباط بالسيدة روزا بنت نقولا صالحاني، وكانت سيدةً فاضلة قرظتها وردة اليازجي بأبيات جاء فيها:

تنبهت العيون النرجسية
على نغم البلابل في العشيةْ
ولكن غارت الأقمار لما
تجلَّى وجه روزا الصالحية
زهت باللطف في خَلق وخُلق
وأوصافٍ حسانٍ عنبرية
أديبة عصرها من خير قوم
لهم شرفٌ وأنسابٌ سنيَّة
بها افتخرت نساء العصر لما
رأت أخلاقها الحسنى الرضيَّة

ثم صار ميخائيل ترجمانًا في قنصلية فرنسا ولبث في هذا المنصب إلى آخر أيامه، وانكبَّ على العلم ولا سيما على التاريخ وشعر العرب وأخبارهم حتى عُدَّ من فصحاء الكتبة في اللغتَين العربية والفرنسية؛ ولذلك نال بكل استحقاق أن يكون عضوًا في «الجمعية العلمية الآسيوية» في باريس وعضوًا في «الجمعية العلمية السورية» في بيروت. وكان صديقًا حميمًا للُّغوي المشهور الشيخ ناصيف اليازجي، فطبع له مقامات «مجمع البحرين» على نفقته سنة ١٨٥٤ بعد أن طبع مقامات الحريري، فأنشده الشيخ ناصيف قصيدة نفيسة نورد منها الأبيات الآتية:

ملكتَ الفضل في شرعٍ وعُرف
فليس على كمالك بعض خُلف
إذا عُدَّت رجال العصر يومًا
فإنك واحد بمقام ألف١
يسوغ لك المديح بكل لفظ
وليس يسوغ أن تُهجى بحرف
غلبت الشعر في الأوصاف يا من
غلبت الناس في أدب وظُرف
فلا يسع التأمل فيك فكري
ولا تسع الثناء عليك صُحْفي
والتقارير الرسمية التي كان يرسلها ميخائيل مدور للوزارة الخارجية في فرنسا شهدت له بالبراعة والحذق وجودة الآراء؛ فضلًا عما كان له من المراسلات مع أعاظم علماء بلاده وعلماء الفرنسيس كالشاعر لامرتين وسواه. ثم سعى مع رؤساء طائفة الروم الكاثوليك في إدخال الحساب الغريغوري بدلًا من الحساب اليولي عند الملة المذكورة. وكان أكبر عضد لخليل الخوري في تأسيس جريدة «حديقة الأخبار» القديمة العهد؛ فإنه ساعده ماديًّا وأدبيًّا على إنشائها وكتب فيها الفصول المفيدة والمقالات الإصلاحية؛ ولذلك قرظه خليل الخوري في العدد الخامس منها بما نصُّه:

قد جعل بمساعدته حديقة الأخبار أن تزهر برياض الشام وتجري من ثغر بيروت زلالًا ترتشفه أبناء الوطن، وهي تكون مشروعًا يؤمَّل بواسطته تقدم ونجاح المعارف والتهذيب في هذه البلاد.

وقد سعى سنة ١٨٥٨ مع الكنت دي برتوي بطلب امتياز طريق العربات من بيروت إلى دمشق، وخدم الدولة العثمانية أثناء فتنة الشام سنة ١٨٦٠ خدمة جُلَّى؛ جلب له لأجلها فؤاد باشا الوسام المجيدي. وزار أوروبا بعد ذلك فقابل البابا بيوس التاسع في رومة ونال منه علامة شرف. وقابل نابليون الثالث ورجال دولته في باريس ثم تجول في إنكلترا وسويسرا وألمانيا والنمسا. وبعد عودته تملك عدة أراضٍ في البقاع العزيز وجهات عكا وصار عضوًا فخريًّا في مجلس بلدية بيروت. وقد اجتهد في جمع إعانة لجرحى العساكر الفرنسية في حرب سنة ١٨٧٠ من أعيان سوريا ولبنان. وفي سنة ١٨٧٢ شيد في قرية ثعلبايا سبيلًا للماء؛ فنظم فيه سليم بك تقلا هذه الأبيات مؤرخًا:

جزا الإحسانِ إحسانٌ فيُولى
جزاء الخير نخلتنا المدوَّر
بظل الشاهِ سلطان عزيزٍ
أقام بناه بالجهد المكرر
ببذل الدرهم الوضَّاح منه
سقى ورَّاده ذوبان سكر
وعنه قيل تاريخ وفيه
رِدوني وارشفوا سلسال كوثر
سنة ١٨٧٢
figure
جميل مدور؛ المحرر في جريدة «المؤيد» المصرية سابقًا.
figure
نجيب مدور؛ كاتب المقالات الشائقة في الصحف العربية والفرنسية.

وسعى في جلب مياه نهر الكلب إلى بيروت مع المسيو تفنن، ثم زاول التجارة إلى عام ١٨٨٢ وبعد ذلك اعتنى بإصلاح أملاكه. وفي عام ١٨٨٤ زار مصر وقابل خديويها توفيق الأول وأعاظم رجال وادي النيل. وفي آخر أيامه مال إلى العزلة والانفراد حتى توفاه الله في ١٢ آب ١٨٨٩ بينما كان يتفقد أراضيه في عكا، فنُقلت جثته إلى بيروت على باخرةٍ مخصوصة ودُفن في تربة أجداده بالتكريم. وقد أفاضت الجرائد العربية في تأبينه؛ لأنه كان عضدًا كبيرًا لتعزيز المعارف والمشاريع الوطنية، وكان منزله حافلًا بالعلماء والأدباء والشعراء الذين نظموا فيه القصائد الرنانة التي لا تزال محفوظة عند أولاده وأحفاده، وأشهرهم الشيخ ناصيف اليازجي وولداه الشيخ إبراهيم والشيخ خليل، وسليم بك تقلا، وبشارة باشا تقلا، والخوري جرجس عيسى، والشيخ عمر الأنسي، والشيخ عبد الرحمن النحاس، وأسعد طراد، وخليل الخوري، والشيخ سليمان الحداد، والدكتور بشارة زلزل، وشاكر البتلوني، وإسكندر آغا أبكاريوس، وخليل شاهين المعلوف، والسيدة وردة اليازجي وغيرهم.

وخلَّف أربعة أبناء توفي منهم اثنان وهما نجيب وجميل اللذان اشتهرا كأبيهما في آداب اللغتين العربية والفرنسية، أما الأول فحلت منيته في ١٧ شباط ١٩٠٧ بعدما خدم القنصلية الفرنسية كترجمان فخري نيفًا وعشرين سنة بنشاط وأمانة استحق عليهما وسام «جوقة الشرف» من رتبة كافلير، وكان حائزًا أيضًا على «الوسام المجيدي» طبقته الثالثة ووسام «القديس غريغوريوس الكبير» من رتبة كومندوز. ثم ترك كثيرًا من الآثار الأدبية نخص منها بالذكر كتاب «بلاد الأندلس وأهلها» وهو بحثٌ تاريخيٌّ مدقق لم يزل غير مطبوع، وانتقد ترجمة كتاب «ألف ليلة وليلة» التي نقلها الدكتور يوسف مردروس من اللسان العربي إلى الفرنسي في مجلداتٍ شتى فعلق عليها الشروح الوافية والآراء السديدة، إلا أن الوفاة عاجلته قبل نشر هذا الأثر النفيس بالطبع، وله أيضًا مقالاتٌ شائقة في «البشير» و«الجنة» و«لسان الحال» في بيروت وجريدتي «الأهرام» و«الوقت» في الإسكندرية. وقد أرخ الشيخ ناصيف اليازجي ولادته بهذين البيتَين:

يا حبذا النجل الذي بوروده
قد قيل هذا الشبل من ذاك الأسد
فكتبت والتاريخ كان مبشرًا
هذا نجيب من نجيب قد ورد
سنة ١٨٥٤
ونشر نجيب مدور المقالات الضافية في أعظم الصحف الفرنسية شهرةً وهي: أولًا Journal Asiatiqne وثانيًا Revue des deux Mondes وثالثًا Les Debats وغيرها. وسافر ثلاث مرات سائحًا في بعض أنحاء أوروبا: أولًا سنة ١٨٧٨ فقابل البابا لاون الثالث عشر في مواجهة خاصة، وثانيًا عام ١٨٨٩ أثناء معرض باريس العام، وثالثًا سنة ١٩٠٣ لمشاهدة آثار التمدن الأوروبي الحديث. وكان حريصًا على جمع الكتب ومطالعة تآليف الأقدمين، ونظم في صباه شيئًا من الشعر، وقد وقفنا له على قصيدة مدح بها أحد العلماء مطلعها:
رقصت بلابلنا على الأغصان
وتغرَّدت في أطيب الألحان

ثم قال في الممدوح:

هذا الذي نبع العلوم بصدره
يسقي البعيد ويستزيد الداني

ولأخيه جميل الذي ولد سنة ١٨٦٢ آثارٌ جديرة بالذكر خدم بها اللغة والتاريخ والصحافة، فمنها كتاب «حضارة الإسلام في دار السلام» الذي يغني ذكر اسمه عن وصفه، وقد قدَّر هذا الكتاب قدره وأنزله منزلةً رفيعة كما يستحق كلٌّ من أحمد جودت باشا وزير المعارف العثمانية وأحمد مختار باشا الغازي المعتمد السلطاني في مصر سابقًا وغيرهما من مشاهير الرجال، وقد كافأه عليه حينئذٍ السلطان عبد الحميد بجائزةٍ مالية تنشيطًا له على خدمة العلم. ومنها كتاب «تاريخ بابل وآشور» وكتاب «التاريخ القديم» ورواية «أتلا» وغيرها. وفي آخر حياته تولى تحرير جريدة «المؤيد» في القاهرة فأظهر من المقدرة الصحافية ما يشهد له بطول الباع في أساليب الإنشاء بين أدباء زمانه. وقد أدركته المنية في ٢٤ كانون الثاني ١٩٠٧ بعيدًا عن وطنه وذويه ومأسوفًا عليه من الرفيع والوضيع. وللشيخ ناصيف المشار إليه بيتان نظمهما مؤرخًا ولادته وهما هذان:

لنخلة قد أتى نجل جميل
كما سُمي فسُرَّ أبًا وأمَّا
دعوت فقلت بالتاريخ ينشو
غلام طابق الاسم المسمى
سنة ١٨٦٢
١  كان فريق من مريدي الشيخ ناصيف قد اتفقوا على جمع نفقات طبع «مجمع البحرين» من أهل الأدب، فمرَّ زمن ولم يُنجزوا وعدهم، فاستفزَّت الأريحية الأدبية همة ميخائيل مدور فتبرع بالنفقات كلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤