يشتمل على أخبار كل الجرائد والمجلات في مدينة بيروت
الفصل الأول: أخبار جرائد بيروت في سنة ١٨٧٠
على أثر المذابح الفظيعة التي جرت في سوريا سنة ١٨٦٠ ولطَّخت وجه الإنسانية بمداد العار حضرت العساكر الفرنسوية إلى بيروت لمساعدة الدولة العثمانية على تأييد الراحة والاقتصاص من الثائرين الذين عاثوا في البلاد شرًّا، وبعد انسحاب العساكر المذكورة أخذت الحركة الفكرية تنتعش في روح السوريين فأنشئوا المدارس الابتدائية والعالية في بيروت لتعليم الناشئة الحديثة، ولم يكن حينئذٍ في سوريا كلها مدرسةٌ كبرى سوى مدرسة عينطورا المؤسسة عام ١٨٣٤ بعناية الآباء اللعازريين، وأول من شمر عن ساعد الهمة لهذه الغاية الشريفة كان المعلم بطرس البستاني الذي أنشأ سنة ١٨٦٣ «المدرسة الوطنية» الشهيرة، ثم غريغوريوس الأول بطريرك الروم الكاثوليك الذي أسس عام ١٨٦٥ «المدرسة البطريركية»، ثم المرسلون الأميركان الذين نقلوا سنة ١٨٦٦ مدرستهم المؤسسة في عبيه عام ١٨٤٦ إلى بيروت وسموها «المدرسة الكلية السورية الإنجيلية»، فاقتدى الآباء اليسوعيون بمثلهم وافتتحوا سنة ١٨٧٥ «كلية القديس يوسف» التي شيَّدوها في بيروت على أنقاض مدرستهم القديمة في غزير، وفي تلك السنة قامت «مدرسة الحكمة» للمطران يوسف الدبس الماروني ثم «المدرسة الإسرائيلية» على يد الحاخام زاكي كوهين، وظهر أيضًا غيرها من المدارس الثانوية التي نضرب عنها صفحًا لكثرتها كمدرسة «ثلاثة الأقمار» للروم الأرثوذكس سنة ١٨٦٢، ثم «المدرسة السريانية» بإدارة الدكتور لويس صابونجي سنة ١٨٦٤.
وكانت الحكومة الفرنسية تمدُّ بالمال المدارس الكاثوليكية منها، كما أن الجمعيات البروتسانية كانت تجود على المدارس الإنجيلية بسخاءٍ وافر، وكان التلامذة يؤمُّون هذه المعاهد العلمية من بيروت ولبنان وسائر جهات بلاد سوريا ومصر وقبرص وأرمينيا والآستانة وما بين النهرين والعراق وسواها. هكذا تفجرت ينابيع المعارف وفي وقتٍ قصير كثر عدد الكُتَّاب والمؤلفين وأنشئت المطابع ودخلت البلاد في عصرٍ جديد من الرقي والفلاح، وكان النصيب الأوفر في هذا الحركة الفكرية للصحافة البيروتية التي جابت البلاد طولًا وعرضًا وأنارت الشعب بمصباح المعارف. وحسبنا القول إن عدد الصحف التي ظهرت عام ١٨٧٠ في بيروت وحدها بلغ سبعًا بين جريدة أو مجلة، وهو أمرٌ جدير بالذكر في تاريخ الصحافة العربية.
كان السلطان عبد العزيز أكبر عامل على تنشيط الآداب لا سيما بعد ما شاهد بعينه واختبر بذاته حضارة الغربيين أثناء رحلته المشهورة عام ١٨٦٧ إلى معرض باريز بدعوةٍ مخصوصة من الإمبراطور نابليون الثالث، وكان خديو مصر إسماعيل باشا الموصوف بالكرم الحاتمي شديد الرغبة في الاقتداء بالخلفاء العباسيين الذين كانوا يقربون إليهم العلماء والشعراء؛ فأخذ يقتفي آثارهم لإحياء الآداب العربية، ويجود بالعطايا على أئمة الصحافة لا سيما على بطرس البستاني عميدهم في بيروت وأحمد فارس الشدياق زعيمهم في الآستانة، وكانت مصر قبل تقدم صحافتها تلجأ إلى صحف تركيا لمعرفة الأخبار.
فلما اعتلى عبد الحميد الثاني أريكة الدولة العثمانية كانت الصحافة مطلقة الحرية تنشر الأنباء على علَّاتها زَينًا كان أو شينًا، وتنتقد أعمال الحكومة ومأموريها، حتى إنها لم تشفق على السلطان نفسه، وناهيك أن جريدة الجوائب في الآستانة وصحف الجنان والجنة والبشير والتقدم وثمرات الفنون في بيروت كانت بلا أدنى خوف تنشر المقالات الضافية الذيل عن مواقع الخلل في تركيا، بل إنها كتبت صريحًا عن مقتل الوزراء في دار الخلافة، وذكرت خلع السلطانَين عبد العزيز ومراد الخامس عن سرير الملك، وأذاعت خبر انتصار الروس سنة ١٨٧٧ على العساكر العثمانية. غير أن السلطان عبد الحميد الذي لم يكن يهمه من كل أمور السلطنة إلا صيانة حياته خشي سوء العاقبة من دولة الجرائد وصولة كتابها، فأصدر أمرًا بتقييد حريتها وضيَّق عليها المراقبة حتى صارت جسمًا بلا روح، فما كانت تنشر سوى ما يطيب للسلطان المشار إليه من ألفاظ التفخيم والتعظيم والتمجيد في مدح عدالته الموهومة على رغم مظالمه واستبداده وسوء إدارته التي كادت تجرُّ الخراب على المملكة لولا لطف الباري سبحانه كما سترى، ومن ألطف الأقوال في وصف مراقب الجرائد في تركيا ما نظمه أحمد شوقي شاعر خديو مصر بهذا المعنى وهو:
هكذا سئمت نفوس الأدباء فهاجر أكثرهم إلى مصر والبلاد الأجنبية حيث أنشئوا الصحف المعتبرة كما جرى لرزق الله حسون والدكتور لويس صابونجي في لندن، وكما جرى لجبرائيل دلال وخليل غانم وميخائيل عورا ويوسف حاج والأمير أمين أرسلان في باريس، ومنهم أنطون فارس وعقل بشعلاني في مرسيليا ووديع كرم في طنجة ويوسف باخوس في غلياري، ومثل ذلك فعل سليم بك تقلا وبشارة باشا تقلا وأديب إسحاق وسليم نقاش وخليل نقاش وروفائيل زند وعزيز بك زند ورشيد شميل وخليل زينيه والشيخ نجيب الحداد والشيخ أمين الحداد وعبده بدران وطانيوس عبده ويعقوب نوفل ونجيب إبراهيم طواد والشيخ شاهين الخازن والشيخ نسيم العازار وحنا جاويش وسبع شميل في الإسكندرية، ثم نذكر أنيس خلاط والدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر وشاهين مكاريوس والشيخ إبراهيم اليازجي والشيخ خليل اليازجي وسليم بك عنحوري وسليم فارس وجرجي بك زيدان ومحمد رشيد رضا ونقولا بك توما وأمين شميل وأمين بك ناصيف والدكتور شبلي شميل وحبيب فارس وديمتري نقولا وسليم سركيس ومحمد سلطاني ومحمد كرد علي وإبراهيم نجار وأيوب عون والدكتور أديب زيات والدكتور بشارة زلزل ونجيب جاويش وأمين شدياق وإسكندر شاهين والشيخ يوسف الخازن وفرح أنطون ويوسف آصاف وسواهم في القاهرة، أخيرًا نضيف إلى هؤلاء جميع أرباب الصحف في أميركا الشمالية والجنوبية وهم يعدون بالعشرات فضلًا عن مشاهير الكتبة الذين كانوا يساعدون كل من ذكرنا في التحرير والتحبير ونضرب صفحًا عن سرد أسمائهم لكثرتهم، فإنهم قاطبةً تركوا البلاد العثمانية كي يخدموها بصدق في جرائدهم ويكونوا آمنين على حياتهم من غدر السلطان عبد الحميد وأعوانه.
الزهرة
نشرةٌ أسبوعية ذات ثماني صفحاتٍ صغيرة أنشأها في غرة كانون الثاني ١٨٧٠ يوسف الشلفون على عهد راشد باشا والي سوريا، وهي تتضمن فصولًا تاريخية ونكتًا أدبية وفوائدَ علمية وأخبارًا مستظرفة بقلم منشئها وبعض حملة الأقلام السوريين، فعاشت حولًا كاملًا وصدر آخر أعدادها في ٢٤ كانون الأول للسنة المذكورة، ثم خلفتها مجلة «النجاح» التي سيأتي ذكرها. وأخص الذين كتبوا فيها هم: الشيخ إبراهيم اليازجي وفرنسيس مراش والسيد محمد سعيد دجاني وسليم بك تقلا وسليم نقاش وأسعد طراد والدكتور بشارة زلزل وإبراهيم الحوراني وإبراهيم مشاقة وشاكر شقير وسليم الخوري وداود كنعان ونخلة جريديني. وقد روى غلطًا عيسى إسكندر المعلوف في مقالته عن «الصحافة العربية» أن القس لويس صابونجي ويوسف الشلفون أصدرا الزهرة بالشركة (راجع مجلة النعمة: سنة ٢ صفحة ٧١٩) فاقتضى التنويه والتنبيه، وقد نظم الشاعر البيروتي الحاج حسين بيهم قصيدة في مدح هذه الجريدة نورد منها الأبيات الآتية:
المهماز
هو عنوان نشرةٍ دينيةٍ أدبيةٍ تاريخيةٍ روائية ذات ثماني صفحات بحجمٍ صغير، ظهرت في ٢٥ شباط ١٨٧٠ مرتين في الشهر لمنشئها خليل عطية اللبناني، وكانت معتدلة المشرب تحتوي على شذراتٍ مفيدة ونصائحَ حكمية وأشعارٍ لطيفة، وفي ١٢ آب للسنة ذاتها احتجبت بعد صدور العدد الثاني عشر منها، وقد طبعها صاحبها في المطبعة اليزبكية وصدَّرها بهذين البيتَين:
ولما ظهرت جريدة «الهدية» لجمعية التعليم المسيحي الأرثوذكسي عام ١٨٨٣ تولى خليل عطية كتابة فصولها مدة سنتين كاملتين كما أفادنا المحامي البارع إلياس بن جرجس طراد، وتوفي رحمه الله بعد التاريخ المذكور بزمنٍ قليل.
الجنة
صحيفةٌ أسبوعيةٌ سياسيةٌ تجاريةٌ أدبية أنشأها في ١١ حزيران ١٨٧٠ سليم ابن المعلم بطرس البستاني، وكان عنوانها محتاطًا بغصنَين من ورق الغار يعلوهما رسم الهلال والنجمة كأكثر الصحف العثمانية في ذاك العهد، وإلى جانبَي العنوان أسماء وكلاء الجريدة ومحلات الاشتراك في الجهات. وقد اشتهرت هذه الصحيفة بصدق المبدأ وانتقاء الأخبار الصحيحة وجلب الأنباء البرقية لحسابها الخاص عند اللزوم، وكان التجار يعوِّلون عليها في أسعار التجارة وسوق القراطيس المالية والحوادث السياسية. وفي الشهر الثاني من ظهورها صارت تصدر مرتين في الأسبوع بمطبعة المعارف إلى غرة كانون الأول ١٨٨١ فصارت تُطبع في المطبعة الأدبية لمنشئها خليل سركيس. وحينئذٍ جرى الاتفاق بين المعلم بطرس البستاني منشئ «الجنان» وسليم البستاني مدير «الجنة» وخليل سركيس صاحب «لسان الحال» على ضم هذه الصحف إلى إدارةٍ واحدة ومطبعةٍ واحدة، فاستلم خليل سركيس إدارتها وفُوِّض إليه أمر طبعها وتوزيعها وحساباتها، وإنما بقيت كتابة كل صحيفة متعلقة بصاحبها الأصلي كما كانت سابقًا، وبعد وفاة سليم البستاني في ١٣ أيلول ١٨٨٤ تحول امتياز الجنة إلى أخيه نجيب الذي أصدرها مدة حولَين كاملَين، ثم أوقفها باختياره مودعًا الصحافة التي خدمتها الأسرة البستانية نحوًا من خمس وثلاثين سنة بما لا يُوصف من الغيرة والصدق واعتدال المشرب.
وسبب ذلك أنه لما اشتدت المراقبة على الجرائد في سوريا اغتاظت الحكومة من نجيب البستاني لنشره ترجمة مدحت باشا زعيم الأحرار العثمانيين، فأصدرت الأوامر بتعطيل جريدة «الجنة» ومجلة «الجنان»؛ مما ألحق بصاحبهما خسارةً كبيرة. ولما كانت الصحيفتان المذكورتان قد عُرفتا بالدفاع عن حقوق العثمانيين والضرب على أيدي المفسدين أبت نفس صاحبهما أن يجعلهما آلةً في أيدي مأموري المطبوعات أو هدفًا للأهواء؛ فتوقف عن إصدارهما رغمًا من صدور الإرادة السلطانية بالعفو عنهما بمساعي نامق باشا شيخ الوزراء وسعيد باشا ناظر الخارجية سابقًا في عاصمة الدولة. وبالإجمال فإن هاتين الصحيفتَين كانتا في عهدهما من أرقى الصحف العربية وأكثرهن نفعًا وأعظمهن انتشارًا، وقد عاشتا نيفًا وست عشرة سنة ولم تزل فوائدهما مذكورة بكل شفة ولسان. ونظم الحاج حسين بيهم قصيدة في مدح جريدة «الجنة» عند أول ظهورها ثم ختمها بتاريخَين أولهما على الحساب الهجري وثانيهما على الحساب الميلادي، فأحببنا أن نجعلها مسك الختام لأخبار هذه الجريدة المعتبرة، وقد ضمنها أسماء كل الصحف العربية التي كانت منتشرة في ذلك الحين وهي مطبوعة بين قوسين:
البشير
صحيفةٌ كاثوليكيةٌ دينيةٌ إخباريةٌ أسبوعية أنشأها الأب أمبروسيوس مونو رئيس الآباء اليسوعيين في سوريا على أنقاض مجلة «المجمع الفاتيكاني» في ٣ أيلول ١٨٧٠ لخدمة الطوائف المسيحية الكاثوليكية الشرقية، وقد اتخذ كلمات السيد المسيح «تعرفون الحق والحق يحرزكم» شعارًا لها، ويُعد البشير من أرقى الجرائد التي يُركن إلى صحة أخبارها وصفاء مبادئها وإخلاص خدمتها للآداب والعلم والوطن، وكان في أول عهده صحيفةً صغيرة تحتوي على ثماني صفحات بقطع «النشرة الأسبوعية» للمرسلين الأميركان، ثم تحول في ٢ كانون الأول ١٨٧٢ إلى جريدةٍ منشورة بأربع صفحاتٍ متوسطة، وما زال ينمو شيئًا فشيئًا حتى صار من أكبر الصحف حجمًا وأكثرها أخبارًا وأشدها إتقانًا، ومنذ ٣ كانون الثاني ١٩١١ صار يظهر مرتين في الأسبوع بعدما لبث أسبوعيًّا إحدى وأربعين سنة كاملة، وفي ٣ كانون الثاني ١٩١٣ صدر ثلاث مرات في الأسبوع مع بقاء قيمة الاشتراك فيه كما كانت في عهده الأسبوعي.
وبقي ١٥ سنة يصدر بالحرف الأميركاني حتى أبدله في ١٦ نيسان ١٨٨٤ بالحرف القسطنطيني. وقد برز في فرصٍ شتى بمظهرٍ جميل يروق للأبصار بنقوشه البديعة ورسومه الفاخرة التي لم يعهد لها مثيل في سائر الصحف العربية حتى الآن. وأخص أعداده الممتازة التي تستحق الذكر هي التي صدرت في المواعيد الآتية: (١) اليوبيل الذهبي سنة ١٨٨٧ لكهنوت البابا لاون الثالث عشر. (٢) اليوبيل الذهبي الأسقفي سنة ١٨٩٣ للحبر الأعظم المشار إليه. (٣) اليوبيل الفضي سنة ١٨٩٥ لتأسيس جريدة البشير. (٤) اليوبيل الفضي سنة ١٩٠٢ لارتقاء لاون الثالث عشر إلى السدة البطرسية. (٥) جلوس البابا بيوس العاشر سنة ١٩٠٣ على العرش الرسولي. (٦) اليوبيل الذهبي في السنة المذكورة لتأسيس المطبعة الكاثوليكية. (٧) العيد الخمسيني سنة ١٩٠٤ لإعلان عقيدة الحبل بلا دنس. (٨) اليوبيلان الكهنوتي الذهبي والأسقفي الفضي سنة ١٩٠٨ للبابا بيوس العاشر. (٩) اليوبيل الفضي الأسقفي سنة ١٩١٢ للسيد أغناطيوس أفرام الثاني بطريرك السريان الأنطاكي.
وإليك أسماء الآباء اليسوعيين الذين تولوا إدارة البشير من يوم نشأته حتى الآن مع تواريخ السنين: الأب يوحنا بلو (١٨٧٠–١٨٧٤)، والأب يوسف روز (١٨٧٥-١٨٧٦)، والأب فيلبس كوش (١٨٧٧)، والأب لويس أبوجي (١٨٧٨-١٨٧٩)، والأب جرمانس دروبرتوله (١٨٨٠)، والأب فيلبس كوش للمرة الثانية (١٨٨١)، والأب بطرس ماليه (١٨٨٢)، والأب سليمان غانم (١٨٨٣-١٨٨٤)، والأب لويس أبوجي للمرة الثانية (١٨٨٥)، والأب سليمان غانم للمرة الثانية (١٨٨٦–١٨٩٠)، والأب أنطون صالحاني (١٨٩١–١٨٩٣)، والأب هنري لامنس (١٨٩٤)، والأب أنطون صالحاني للمرة الثانية (١٨٩٥–١٨٩٩)، والأب هنري لامنس للمرة الثانية (١٩٠٠–١٩٠٢)، والأب أنطون رباط (١٩٠٣–١٩٠٦)، والأب لويس معلوف (١٩٠٦–…) وهو المدير الحالي، وكنا نودُّ نشر رسوم جميع مدراء البشير منذ نشأته إلى الزمان الحاضر تقديرًا لفضلهم وتخليدًا لذكرهم، ولكن حال دون ذلك امتناع الأحياء منهم عن تلبية رغبتنا محافظةً على قانونهم الرهباني، ولم نحصل بعد الجهد إلا على رسوم بعض الأموات منهم مع رسمٍ قديم لأحد الأحياء الذي وجدناه عند عائلته.
وكان لهؤلاء الآباء مساعدون في التحرير بعض أفاضل الكتبة الذين نذكر منهم: المعلم جرجس زوين (١٨٧٠–١٨٧٦)، والخوري يوسف البستاني (١٨٧٧–١٨٨١)، وخليل البدوي (١٨٨٢–١٨٩٠)، ورشيد الشرتوني (١٨٩١–١٩٠٧)، وأنطون الجميل (١٩٠٨)، والخوري بولس طعمة (١٩٠٩–…) وهو المحرر الحالي.
فهو يتضمن جداولَ عديدةً لمعرفة الأيام والأسابيع والشهور والأعياد والصيامات إلخ، ثم يذكر الرؤساء الروحيين الكاثوليكيين، ثم يليه جدول للنقود العثمانية مع مقابلتها مع أهم النقود الأوروبية، ثم جدول للمساحات والعيارات والمعدودات المترية مع فوائد لتحويل النقود والمعدودات، ثم يعقبه نظر في التقسيمات الإدارية في الدولة العلية مع ذكر قناصل الدول الأجنبية والمديرين وأخص المأمورين في الإدارات والشركات في الدولة، ثم فوائد شتى في البوسطة والتلغراف والجرائد والمجلات، وقد امتاز بنوعٍ أخص بوضع جدولٍ شامل يتضمن السنين الهجرية وما يقابل بدء كلٍّ منها في السنين المسيحية مع أمثاله وفوائدَ صحية وعلمية وفكاهية إلى غير ذلك مما يجعل هذا الكتاب الذي يشتمل على ٢١٥ صفحة كاملًا في بابه، ويكفيه مدحًا أن نقول عنه بلا مراء: أحسن تقويم يصدر في اللغة العربية، وأننا لا يمكننا أن نجد في كتاب سواه الإفادات التي نجدها فيه.
ومن أحسن الشهادات التي يُركن إلى صدق ينبوعها وثقة روايتها عن نزاهة مبدأ البشير ما روته جريدة «سورية» الرسمية في شهر كانون الثاني ١٨٨٧ قالت: «البشير جريدةٌ قديمة … لا تكتب في سياق الأخبار السياسية وحوادث العالم شيئًا مضرًّا بحق الدولة والملة أصلًا.»
ولما نشبت الحرب في طرابلس الغرب بين الدولة العثمانية وإيطاليا سنة ١٩١١ و١٩١٢ أصدر ناظر الحربية العثمانية أمرًا منع فيه الجرائد عن نشر المعلومات المتعلقة بالدفاع الوطني، فتخيل للمجلس العرفي في بيروت أن جريدة «البشير» خالفت الأمر المذكور، فحكم على مديرها المسئول بدفع ستين ليرةً عثمانية وبتعطيلها لمدة الحرب، ولكن حازم بك والي بيروت قد وجد هذا القرار شديدًا، فطلب فسخه من الآستانة واستحصل عليه ثم عادت الجريدة إلى الانتشار، وفي مدة تعطيلها صدرت باسم «صدى البشير» في ٤ حزيران ١٩١٢ وقد ظهر منها عددان فقط.
واشتهر البشير بصدق الرواية وجرأة الكتابة في كل أدوار حياته، وكان في أول ظهوره مكتوبًا بعبارةٍ ركيكة مثل بقية صحف ذلك العهد، وكانت مواضيعه تتناول المسائل الدينية وبعض الحوادث المحلية وسائر أخبار الكون التي لها علاقة بالدين. وكان لا يطالعه سوى جماعة الكاثوليك دون غيرهم، فلما تولى الأب سليمان غانم اللبناني اليسوعي إدارته كان خليل البدوي قائمًا بشئونه التحريريه، فأنعش كلاهما روحًا جديدة في البشير ووسَّعا نطاق مباحثه وحسَّنا عبارته ومواضيعه حتى صار يطالعه الكاثوليكيون وغير الكاثوليكيين، وعلى أثرهما جرى مديرو الجريدة والمحررون فيها إلى الزمان الحاضر. وصارت نسخ البشير تُباع بكثرة كسائر الصحف السيارة في أسواق بيروت والجهات. والذي ساعد على نجاحه تسليم إدارته للآباء الوطنيين اليسوعيين بعد ما كان يتولاه منهم الأجانب عن بلادنا ولغتنا، وقراؤه يعدون بالألوف في بيروت وكل قرى لبنان وسائر أنحاء سوريا وفلسطين وقبرص ومصر والسودان وشمال أفريقيا والعراق وبين النهرين، وله مشتركون عديدون في أوروبا وأميركا والهند والحبشة وأستراليا وغيرها من الأقطار المأهولة بالمسيحيين الناطقين بالضاد. ومديره الحالي الأب لويس معلوف رجلٌ نشيطٌ مشهود له بالعلم والغيرة والفضل وسداد الرأي، وله اليد البيضاء في ترقية شئون الجريدة وزيادة تحسينها، وإليه يرجع الفخر في إصدارها مرتَين في الأسبوع، ثم ثلاث مرات في الأسبوع بعدما لبثت أسبوعية أكثر من أربعين سنة.
وقضى البشير أيام بؤس في عهد المراقبة على المطبوعات، وبسبب ذلك تعطل مراتٍ شتى بلا مسوغٍ قانوني سوى تعنت المراقبين لا سيما في عهد حسن فائز الذي كان يضغط بكل قواه على الجرائد، فاضطر حينئذٍ رئيس اليسوعيين مع الأب أنطون صالحاني مدير البشير أن يذهبا إلى الآستانة ويقيما الشكوى لدى الباب العالي على المراقب المذكور، فساعدتهما سفارة فرنسا للحصول على إنصاف السلطان الذي أمر بإعادة ظهور الجريدة.
وللبشير مجادلاتٌ دينية ومناظراتٌ علميةٌ شهيرة في مواضيعَ مختلفة جرت بينه وبين أهم الصحف العربية التي نذكر منها: «الجنان» و«النشرة الشهرية» و«النشرة الأسبوعية» و«الجنة» و«التقدم» و«ثمرات الفنون» و«الهدية» في بيروت، ثم «المقتطف» في بيروت والقاهرة، ومنها «الفلاح» و«اللطائف» و«الهلال» في القاهرة، وأخيرًا «المناظر» في بعبدات بجبل لبنان وغيرها. وقد ذكرنا أكثر تلك المجادلات وأسبابها ومواضيعها عندما سردنا أخبار الصحف المذكورة. وقد تلطَّف كثير من الوزراء والعظماء فزاروا إدارة «البشير» ومطبعته، فلما زارها عزيز باشا والي بيروت سنة ١٨٨٩ أخذت آلات المطبعة بأسرها تنشر مدائحه باللغات التركية والعربية والفرنسية، وهاك منها هذه الأبيات:
الفصل الثاني: أخبار جرائد بيروت منذ سنة ١٨٧١ إلى سنة ١٨٧٦
كوكب الصبح المنير
هو عنوان نشرةٍ شهريةٍ دينيةٍ مصورة ذات أربع صفحاتٍ متوسطة الحجم، أصدرها القسوس الأميركان في بيروت بتاريخ غرة كانون الثاني سنة ١٨٧١ لتوزيعها مجانًا على تلامذة مدارسهم البروتستانية. وهي تتضمن أخبارًا وحِكمًا وألغازًا روحية وترانيمَ دينية وفوائدَ أدبية، وقد جعلوا شعارها هذه الآية: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة.» وكان عنوانها مكتوبًا بشكل كوكب تنبعث أشعته على بيروت، وإلى طرفي العنوان رسمان آخران يمثل أحدهما بناية الكنيسة الإنجيلية مع برج الساعة الأميركية في هذه المدينة. وفي ٣١ تموز ١٣٠٦ مالية (١٢ آب ١٨٩٠ مسيحية) تعطَّلت؛ لأن أصحابها كانوا غير حائزين على الرخصة الرسمية من الحكومة بنشرها، فأبدلوها بنشرةٍ شهرية ذات صفحتَين موسومة «بالنشرة الأسبوعية» لم تزل حية حتى الآن، وهي غير النشرة الأسبوعية التي تصدر مرة في الأسبوع وحجمها أكبر قليلًا من الثانية. وأخص الذين كتبوا في جريدة «كوكب الصبح المنير» هم: الدكتور كرنيليوس فانديك وإبراهيم سركيس وإبراهيم الحوراني ورزق الله البرباري.
النشرة الأسبوعية
هو عنوان صحيفةٍ دينيةٍ أسبوعيةٍ مصورة شعارها «فتح كلامك ينير» أنشأها المرسلون الأميركان في ١٠ كانون الثاني ١٨٧١ خلفًا لجريدة «النشرة الشهرية» التي سبق وصفها في الجزء الأول، وهي ذات ثماني صفحاتٍ صغيرةٍ مطبوعة طبعًا نظيفًا، وقد تولى إدارتها وتحريرها في أول عهدها الدكتور كرنيليوس فانديك، ومن بعده تحولت إدارتها لعهدة القس صموئيل جسب ثم لأخيه هنري جسب الأميركيين، فكتب فيها حينئذٍ الأساتذة إبراهيم سركيس ورزق الله برباري وأسعد شدودي، وبعد ذلك عهد بتحريرها للكاتب البليغ والشاعر المطبوع إبراهيم الحوراني الذي لم يزل قائمًا بهذه المهمة منذ سنة ١٨٨٠ حتى الآن، وفي السنين الأخيرة أخذ يساعده في الترجمة من اللغة الإنكليزية إلى العربية الأستاذ إلياس بهنا من راشيا. وفي شهر كانون الثاني ١٨٩٠ تعطَّلت بأمر الحكومة سنةً كاملة؛ لأنها نقلت عن الجرائد المحلية تلغرافات لا تُوافق مشرب الحكومة في ذلك العهد، فلما احتج مدير النشرة لدى المراجع الإيجابية على هذه المعاملة، أجابه مراقب المطبوعات أن الحكومة تعول على صدق أصحاب «النشرة الأسبوعية» وتدعوهم إلى زيادة التحري في انتقاء الأخبار.
وقد جرت مناقشاتٌ طويلة بين «النشرة الأسبوعية» وغيرها من الصحف البيروتية لا سيما «البشير» و«الهدية» سنة ١٨٨٨ فيما يتعلق ببعض القضايا المختلف عليها بين الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، وحمي وطيس الجدال بين هذه الجرائد الثلاث واستعرت نيرانها فكانت الواحدة تُخطِّئ الأُخريين وتسعى في إسقاطهما. ومن أهم فصول النشرة أثناء المناقشة المذكورة مقالات تحت عنوان «سيف ذو حدَّين» أو «أمضى من كل سيف ذي حدَّين» وغيرها، حملت فيها على البشير والهدية، وبعد احتجاب الأخيرة عام ١٨٨٩ حصلت مجادلات ليست ذات شأن بين الأُوليين ثم انقطعت تمامًا في الزمان الحاضر. ومذ تولى إبراهيم الحوراني تحرير «النشرة الأسبوعية» تحسَّنت عباراتها وأخذ ينشر على صفحاتها فصولًا أدبية وعلميةً جزيلة النفع، ولكنها صارت تصدر خاليةً من الرسوم إلا ما ندر. ولهذه الجريدة نسخةٌ شهرية ذات صفحتَين ينشرها المرسلون الأميركان منذ سنة ١٨٩٠ بدلًا من جريدة «كوكب الصبح المنير» الملغاة، وهي مخصصة بصغار التلامذة في المدارس البروتستانية.
الجنينة
جريدةٌ سياسيةٌ تجارية ذات صفحتَين بقطعٍ متوسط ظهرت عام ١٨٧١ لصاحبها سليم البستاني، وهو أول صحافيٍّ عربي حاول أن يصدر جريدةً يومية، فتسنَّى له ذلك بإصدار «الجنينة» أربع مرات كل أسبوع في أيام الاثنين والأربعاء والخميس والسبت. وكانت جريدته «الجنة» السابقة الذكر تظهر في يومَي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع. وهكذا كان قراء هاتين الصحيفتَين يتناولون الأخبار الجديدة في كل يوم، وكانت «الجنينة» مصدَّرة بالأنباء البرقية السياسية تليها الحوادث المحلية ومراسلات الجهات، وكان القسم التجاري فيها مطولًا ومتقنًا يشمل أسعار التجارة والقراطيس المالية، وقد عاشت نيفًا وأربع سنين ثم احتجبت عام ١٨٧٥ عندما تفشَّى الهواء الأصفر في بيروت وبعض أنحاء سوريا. وكان بدل الاشتراك السنوي في «الجنينة» وحدها عشرة فرنكات، أما بدل اشتراكها مع «الجنة» فكان ١٧ فرنكًا ومع «الجنان» و«الجنة» ٣٣ فرنكًا. وكان اسم الجريدة محتاطًا برسمٍ بديع تخفق بجانبَيه رايتان عثمانيتان قد نقش على إحداهما رسم الهلال والنجمة وعلى الأخرى شكل الطغراء السلطانية. وهذا الرسم صنعه الحفار المشهور ميخائيل فرح اللبناني، وكان سليم البستاني ينشئ فصول «الجنة» و«الجنينة» بمساعدة نسيبه العلامة سليمان البستاني مُعرِّب «الإلياذة» للشاعر اليوناني أوميرس وأحد أعضاء «مجلس الأعيان» في السلطنة العثمانية حالًا.
التقدم
جريدةٌ عمومية صدرت في مفتتح عام ١٨٧٤ بعد إلغاء مجلة «النجاح» لصاحب امتيازها يوسف الشلفون، فكانت أولًا نصف أسبوعية في صفحتَين متوسطتَي الحجم يحررها منشئها وحده، ثم انضم إليه أديب بك إسحاق الدمشقي الذي كتب فيها سنةً كاملة وتركها. وفي عامها الثالث صارت أسبوعية في ثماني صفحاتٍ صغيرةٍ خالية من المواضيع المفيدة وطلاوة الأنباء الجديدة. وكانت مقالاتها منقولة على الغالب من الصحف المحلية أو المصرية أو الجوائب في الآستانة؛ فانحط شأنها، وسئم الناس من مطالعتها، واضطر صاحبها إلى تعطيلها في السنة الرابعة. وقد نظم فيها حينئذٍ القس لويس صابونجي هذا البيت المشهور:
ولقد أتى على هذه الصحيفة حين من الدهر دُفنت حبة قصدها وجُرد غصن نفعها بما طرأ عليها من حوادث الأيام وعاديات الحدثان، ثم انجلت بهذا المظهر لم تنشأ من العدم البحت ولم تَبدُ بعد المحو المطلق، ولكن تقمَّصت من الحياة ثوبًا جديدًا.
ومما يمدح به أنه في جداله معنا لو قابلناه مع كتَّاب بعض الجرائد وجدناه متعاليًا عنهم في عدم تطويح قلمه مثلهم فيما يشينهم من السفاهة والطعن الشخصي؛ فكان الأجدر بأصحاب أديب كتبة هذه الجرائد خصوصًا أن يقتفوا أثره في جدالهم معنا.
ثمرات الفنون
وكان صدور العدد الأول من «ثمرات الفنون» في ٢٠ نيسان ١٨٧٥ فتولى كتابتها رهط من أفاضل المحرِّرين والمترجمين وهم: الشيخ يوسف الأسير الأزهري، والشيخ إبراهيم الأحدب، وإسماعيل ذهني بك محاسب جي حكومة لبنان سابقًا، وسامي قصيري، وعوني إسحاق، وسليم بن عباس الشلفون، وإسكندر بن فرج الله طراد، والشيخ أحمد حسن طبارة، والحاج محمد محمود الحبال وغيرهم. وفي شهر تشرين الثاني ١٨٨٩ كبرت حجمها فصارت أعمدتها ١٦ بعد أن كانت ١٢ فقط، وفي ١٢ آيار ١٨٩٩ جرى الاحتفال بعيدها الفضي احتفالًا زاهيًا بأهل الفضل والوجاهة تقديرًا لخدمة صاحب امتيازها ورئيس تحريرها المشار إليه، فنشرت الجرائد عبارات الثناء وعدت ذلك حادثًا تاريخيًّا للصحافة العربية، وفي تلك الأثناء صدرت بثماني صفحات وكانت تصدر في أربع فقط، وبعدما كانت صفحاتها الثماني تتألف من ٢٤ عمودًا صارت ٣٢ عمودًا، وعلى أثر ما أحرزته هذه الجريدة من المكانة بخطتها الوطنية ودَّعت عالم الصحافة يوم الاثنين الواقع في ٢ تشرين الثاني ١٩٠٨ بالغة العام الرابع والثلاثين لعهد نشأتها.
وكانت للمسلمين ثقةٌ عظيمة بهذه الصحيفة التي بقيت لسان حالهم مدةً طويلة لا سيما بعد احتجاب «الجوائب» في الآستانة، فكانوا يطالعونها من جميع الجهات؛ لأنها كانت تنشر أخبارهم وحوادث ممالكهم وأحوال شعوبهم في مشارق الأرض ومغاربها، وتدعوهم لطاعة أمير المؤمنين والالتفاف حول عرش الخليفة، وكثيرًا ما جرت المجادلات بينها وبين بعض الصحف كالجوائب لأحمد فارس والبشير لليسوعيين، أما الجوائب فنظرًا لسفاهة عباراتها فقد أعرضت عنها «ثمرات الفنون» وتركتها وشأنها، وجريدة «البشير» معروفة بتعصبها للدين الكاثوليكي كما أن «ثمرات الفنون» موصوفة بتعصبها للدين الإسلامي، وكان أهم جدال بين هاتين الصحيفتَين يتناول مسألة «النخاسة» التي قررت دول أوروبا إلغاءها من شمال أفريقيا وما وراءها من الصحراء على يد الكردينال لافيجري، فاستحسنت «ثمرات الفنون» هذا الرأي، ولكنها خشيت أن يكون القصد منه تنصير القبائل الإسلامية في تلك الأصقاع وبسط الحماية الأوروبية عليها، فذهب «البشير» غير هذا المذهب بحجة أن عمل الكردينال لافيجري هو محض خدمة لخير الإنسانية وأن لا علاقة لذلك بالدين والسياسة.
وعقيب إعلان الدستور في الدولة العثمانية سنة ١٩٠٨ جاهر السيد عبد القادر قباني صاحب «ثمرات الفنون» بما يأتي وحبذا القول: «إن مسئولية أصحاب الجرائد في زمن الدستور أعظم منها في دور الاستبداد، ولذلك يلزم أن يقوم بتحرير كل جريدة نخبة من الكتَّاب من جميع العناصر للمحافظة على تأليف وحدةٍ عثمانية من عناصر الوطن؛ فتعتز الجامعة العثمانية بهذه الوحدة. ولا أقدر من الجرائد لتحقيق هذه الأمنية التي هي روح الدستور إذا اتفق كتابها على التفاهم والتحابِّ ونبذ كل ما يدعو إلى سوء التفاهم.» ولعل عدم فوزه بهذه الأمنية حمله على إهمال نشر الجريدة.
الفصل الثالث: أخبار جرائد بيروت من سنة ١٨٧٧ إلى سنة ١٨٨٥
لسان الحال
جريدةٌ سياسيةٌ تجاريةٌ علميةٌ زراعيةٌ صناعية ظهرت في ١٨ تشرين الأول ١٨٧٧ لصاحب امتيازها خليل سركيس، فجرت منذ أول نشأتها حتى الآن على خطة الاعتدال والمسالمة وعدم التشيع إلى عنصر دون آخر، فاشتهر أمرها بذلك ونالت ثقة القريب والبعيد وأقبل الناس على مطالعتها من جميع الملل والنحل، وبين مشتركيها عددٌ كثير يرتقي عهد اشتراكه فيها إلى أول ظهورها بلا انقطاع، وذلك برهانٌ جلي على ميل الناس إلى هذه الجريدة القديمة التي عُرف منشئها بشيخ الصحافيين وانتدب مرارًا لفصل الاختلافات الطارئة بين أهل مهنته في حاضرة بيروت. وقد ظهرت في بدء عمرها صغيرة الحجم، ثم أخذت تنمو وتتحسَّن تبعًا لسُنَّة الارتقاء الطبيعي حتى بلغت الحد الذي يمكن لجريدةٍ وطنية أن تبلغه في هذا الزمان، وكانت أولًا نصف أسبوعية، ثم صارت تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، ثم أربع مرات في الأسبوع، حتى انتهى بها الأمر في ٢٣ أيلول ١٨٩٥ أن تصدر بمظهرها اليومي، ومن ذاك العهد أصدرت عددًا أسبوعيًّا يتضمن خلاصة حوادث الأسبوع وأخباره المهمة. ومن مزايا هذه الجريدة أنها اقترحت مرارًا على المتأدبين وأساطين اللغة أن يضعوا ألفاظًا ترادف بعض التعابير الأجنبية وينحتوا منها ألفاظًا تكون على أوزان الأسماء العربية، فصادف اقتراحها استحسان المشتغلين باللسان العربي. وهكذا درجت بالاستعمال ألفاظٌ كثيرة أقرَّها الأدباء في كتاباتهم، أما الذين تولوا تحرير «لسان الحال» مع صاحب امتيازه فهذه أسماؤهم مرتبة بحسب التاريخ واحدًا بعد الآخر: المعلم جرجس زوين – الشيخ يوسف الأسير – أمين أفرام البستاني – يوسف قيقانو – سليم سركيس – نجيب المشعلاني – الدكتور رزق الحداد – المعلم إلياس بهنا – المعلم عبد الله البستاني – المعلم رشيد عطية – سليم بن عباس الشلفون – سعيد فاضل عقل، وهو المحرر الحالي مع يوسف قيقانو المشار إليه.
ومواد «لسان الحال» تشتمل اليوم على المواضيع الآتية: في الصفحة الأولى مقالةٌ افتتاحيةٌ سياسية أو عمرانية ثم أخبار بريد أوروبا وخلاصة أقوال صحف الكون، وفي الصفحة الثانية الأنباء البرقية والأخبار المحلية ومراسلات الجهات، وفي الصفحة الثالثة أسعار التجارة والقراطيس المالية وحركة البواخر وأحوال ميزان الحرارة والمطر وفصل من رواية تهذيبية يستطيع قراءتها كل إنسان لخلوها من كل ما يشين الآداب، والصفحة الرابعة مختصة بالإعلانات الكثيرة على اختلاف أنواعها. وهي مطبوعة طبعًا نظيفًا وحروفها مصنوعة في المسكب الخاص بالجريدة، وفي فرصٍ شتى ظهرت مزينة بالرسوم والنقوش التي تستحق الوصف المخصوص.
واشتهرت هذه الجريدة في العالم الأدبي بأخبارها الصادقة ومباحثها المفيدة ومبادئها الشريفة وإخلاص خدمتها للوطن، يشهد على ذلك إقبال القوم على مطالعتها وتزاحم باعة الجرائد على باب إدارتها صباحًا ومساءً لمشترى النسخ العديدة منها، وما عابها في أكثر أدوار حياتها قبل إعلان الدستور العثماني سوى مبالغتها في محاسنة الحكومة ومدح المأمورين الخائنين مدفوعةً إلى ذلك بحكم الضرورة ومراعاة أحوال الزمان، أما اليوم فإنها أطلقت للقلم عنان الحرية وجاهرت على صفحاتها بانتقاد أعمال الحكام مع وجوب تعميم الإصلاح في السلطنة عمومًا وبيروت خصوصًا تحت ظل الراية العثمانية.
وفي ١٧ أيلول ١٨٩٥ نكبت باحتراق بنايتها الواسعة فالتهمت النار مطابع الجريدة والحروف والكتب وصناديق المرتبين وسائر المطبوعات الباقية هناك منذ سبع وعشرين سنة، ولا تسل عما كان فيها من الأوراق على اختلاف أجناسها ومن الحبر والرصاص والقماش وغيره من لوازم المطابع، فلم يبقَ من ذلك كله سوى هيكل مطبعتين بخاريتين ومطبعة يد ومطبعةٍ حجرية، ولم يسلم من المطبعة سوى مكتب الإدارة ودفاترها، فكان ذلك خسارةً عظيمة على صاحبها تُقدر بمائة ألف فرنك.
وفي ٢٢ نيسان ١٩٠٤ جرى الاحتفال بيوبيل الجريدة الفضي فأُهديت لمنشئها التحف النفيسة والتقادم المالية والقصائد الرنانة إقرارًا بفضله. وبهذه المناسبة جُمعت تقاريظ الأدباء وأقوال الجرائد في كتاب خاص يتألف من ١١٥ صفحة، ومن جملة تلك القصائد نثبت هذه الأبيات الرقيقة التي نظمها الشيخ إسكندر العازار وفيها يعتذر عن الاشتراك في الاحتفال بداعي ألم في عينَيه:
ولخليل سركيس روزنامة سنوية يرتقي عهد ظهورها إلى سنة ١٨٦٩ تُعرف بالروزنامة السورية، وهي من أقدم جميع التقاويم السنوية التي برزت في لغة العرب بعد تقويم مجلة «مجموع فوائد» التي سبق ذكرها، فكانت هذه الروزنامة في بادئ أمرها تُطبع بالمئات فزادتها السنون والأيام رواجًا وإقبالًا حتى صارت تُطبع بعشرات الألوف، وهذا دليلٌ كبير على ثقة الشعب بها واعتماده على ضبطها وإتقانها وإحصاءاتها وسائر مضامينها المفيدة، وما قلناه عن الروزنامة نقوله عن «مفكرة لسان الحال» السنوية المشهورة.
ومنذ سنتين نيطت إدارة الجريدة وشئون مطبعتها برامز سركيس نجل صاحب الامتياز لاحتياج والده إلى بعض الراحة من عناء الأعمال التي أثرت في جسمه وتعاطاها مدة خمسين سنة بلا انقطاع. ورامز سركيس هو شاب نشيط زكي الفؤاد أخذ عن أبيه كل الصفات المحمودة لا سيما محبة الوطن وخدمة المعارف والصدق في المعاملات والانصباب على الأشغال وحسن السلوك بين الناس. ولا غرو فأحسن ما يقال فيه: «إن هذا الشبل من ذاك الأسد»، وله على صفحات «لسان الحال» كتابات شائقة تدل على سلامة ذوقه في صناعة التحرير والتحبير.
المصباح
اسم لجريدةٍ سياسيةٍ تجاريةٍ علميةٍ أدبية ظهرت في غرة كانون الثاني ١٨٨٠ ثلاث مرات في الأسبوع لمنشئها نقولا نقاش، فكانت خطتها كاثوليكية وصبغتها مارونية تنشر أخبار هذه الطائفة وتدافع عن مصالحها، وبنوعٍ أخصَّ كانت لسان حال المطران يوسف الدبس رئيس أساقفة بيروت الماروني الذي لا تُنكَر مساعدته المادية لها من أول نشأتها حتى أدركته المنية، وقد قدَّرتْ فضله عليها فكانت تنطق في كل فرصة بالثناء عليه، ولما جرى الاحتفال بيوبيله الأسقفي الفضي أصدرت عددًا ممتازًا في ٢٠ آذار ١٨٩٧ يتضمن رسم المطران المشار إليه والفصول الطويلة عن ترجمته وأعماله، وقد نظم فيها الشاعر البيروتي مصباح رمضان هذين البيتَين:
وللشاعر الدمشقي جبران البحري ثلاثة أبيات أيضًا ضمنها تاريخًا لصدور «المصباح» وهي:
وفي كل أدوار حياته اشتهر «المصباح» ببلاغة الإنشاء فيما كان ينشر على صفحاته من اللمع السياسية والمقالات الأدبية والفصول الاقتصادية والآثار العدلية، وكان أكثر قرائه والمشتركين فيه من اللبنانيين، ولذلك كان يكثر من المباحث المتعلقة بشئونهم في الوطن والمهجر، ولما توفي بطل لبنان يوسف بك كرم في ٨ نيسان ١٨٨٩ منفيًّا في مدينة نابولي رثاه «المصباح» بمقالةٍ رنانة لم تُرق في عيون أرباب الحكومة فصدر الأمر بتعطيله، وكانت المقالة المذكورة مفتتحة بهذه الأبيات:
وعند احتضار نقولا نقاش عام ١٨٩٤ تحول امتياز الجريدة ومطبعتها باسم نجله جان بك نقاش الذي جرى على خطة والده، وأشهر الكتاب الذين تولوا تحرير «المصباح» تباعًا في عهد صاحبيه المشار إليهما هم: المعلم جرجس زوين وبولس زين والشيخ خطار الدحداح وسليم نقاش وأديب إسحاق وأنطون شحيبر وداود نقاش وسليم الشلفون. ولما كانت أشغال المحاماة التي ورثها صاحب الامتياز الثاني عن سلفه تستغرق أكثر أوقاته سلَّم إدارة الجريدة وتحريرها في ٢٨ آب سنة ١٨٩٩ لإبراهيم بن سليم نجار، فأصدرها النجار أسبوعية على نفقته وحسابه بحجمٍ أصغر من حجمها الأول في ١٦ صفحة. وكان «المصباح» في عهده أنطق الصحف وأجرأها حتى إن جرأته هي التي جنت عليه؛ فتعطل عقب مقالةٍ إصلاحية انتقد فيها أعمال بلدية بيروت وما فيها من الخلل، وبعد الإفراج عنه أعاد جان بك إصداره في أربع صفحاتٍ كبيرة مدة سنتَين، وفي عام ١٩٠٣ أناط إدارته وتحريره بالمرحوم نجيب حبيقه وإلياس جدعون، فتبع هذان خطة إبراهيم نجار تمامًا، ولكن بلهجةٍ معتدلة، ومع ذلك فإنهما لم يسلما من شدة ضغط مراقب المطبوعات الذي عطل الجريدة؛ لأنهما لم يدفعا له ما يبهر نظره عنهما. وبعد ذلك بقي «المصباح» محتجبًا حتى إعلان الدستور سنة ١٩٠٨ في الدولة العثمانية، فأصدر منه صاحب الامتياز بعض أعداد في ٤ صفحاتٍ صغيرة، ولم يزل معطلًا من ذاك العهد.
وقد تلقى جان بك نقاش دروسه في كلية الآباء اليسوعيين، ثم انتقل إلى «مدرسة الحكمة» فقرأ علم الحقوق على والده وعلى الشيخ يوسف الأسير ونال الشهادة في ذلك، وسنة ١٨٨٨ صار يتعاطى مع والده فن المحاماة حتى تعيَّن سنة ١٨٩٧ عضوًا في محكمة استئناف ولاية بيروت، فخدم هذه الوظيفة أربع سنين ثم عاد إلى معاطاة فن المحاماة، وألَّف كتاب «مغني المتداعين عن المحامين» ونال الرتبة الثانية مع الوسام العثماني الثالث من الحكومة العثمانية، وأحرز وسام «محامي القديس بطرس» من الجمعية المعروفة بهذا الاسم.
الهدية
هي نشرةٌ شهريةٌ دينية ذات صفحتَين صغيرتَين ظهرت في بادئ أمرها باسم «هدية إلى أولاد مدارس الأحد الأرثوذكسية» على مثال صحيفة «كوكب الصبح المنير» للبروتستانت في بيروت، غير أن الأولى كانت أصغر حجمًا من الثانية وخاليةً من التصاوير. وأنشئت «الهدية» في عهد السيد غفرئيل شاتيلا مطران الروم الأرثوذكس وبإيعازه، فصدر عددها الأول بلا تاريخ، ثم ظهر العدد الثاني مؤرخًا في غرة كانون الثاني ١٨٨٣، ثم العدد الثالث في شهر شباط وهلم جرًّا. وظلت تصدر بهذه الهيئة مدة ثلاثة أعوامٍ كاملة وتنشر قصصًا وحوادثَ دينية توافق ذوق الأولاد التي كانت تُهدى إليهم. وكانت تديرها «جمعية التعليم المسيحي الأرثوذكسية» ويُحرِّر فيها تبرعًا منهم بعض أعضاء هذه الجمعية الذين نذكر منهم: خليل عطية ووديع فياض وسامي قصيري وفضل الله أبي حلقة وغيرهم، وكان الشيخ إسكندر العازار معتنيًا بالشئون الجدلية وكتابة مقالاتها.
وفي بدء عام ١٨٨٦ أُطلق عليها اسم «الهدية» فترقَّت أحوالها وتحسَّنت مواضيعها وصارت تصدر في الشهر مرتَين بهيئة شبه مجلة، فتولَّت تحريرها لجنة أيضًا من «جمعية التعليم المسيحي» تتألف من الشماس غريغوريوس حداد (هو غبطة البطريرك الأنطاكي حالًا) ويوسف بن توماترزي الحائز على شهادة اللاهوت من مدرسة خالكي في الآستانة والشيخ رشيد نفاع اللبناني، وفي أواسط تلك السنة استقال الأخيران من تحريرها وبقي الشماس غريغوريوس وحده ينشئ فصولها، ثم أضيف إليه الشماس جراسيموس مسرة (سيادة مطران بيروت حالًا) واعظ الكرسي الأنطاكي حينئذٍ بصفة مراسل في دمشق، وفي أثناء ذلك جرت المناظرة المشهورة بين «الهدية» وجريدة «البشير» على موضوع «رئاسة القديس بطرس» وسواه من المواضيع المختلف عليها بين الأرثوذكس والكاثوليك كعصمة بابوات رومة وسعادة القديسين والمطهر وغيرها. وكان لهذه المناظرة شأنٌ كبير من الوجهتَين الدينية والتاريخية بحيث أفرغ كلٌّ من الفريقَين المتناظرَين جهده لتأييد دعواه بالأدلة التي توافق تعليم كنيسته.
وفي بداية سنة ١٨٨٧ صدرت «الهدية» مرَّة في كل أسبوع ولبثت إدارة تحريرها بيد الشماس غريغوريوس حداد، وقد زاد احتدام الجدال حينئذٍ بين الصحيفتَين المار ذكرهما؛ فاضطرمت نيران المناظرة واشتدَّ سعيرها حتى انقطع الجدال أخيرًا بمداخلة بعض أصدقاء الطرفَين وعقلاء الطائفتَين الكاثوليكية والأرثوذكسية. وفي فاتحة عام ١٨٨٨ استقال الشماس المشار إليه من إدارة شئون الجريدة وتحريرها، فتولاها بعده الشيخ رشيد نفاع مدة سنتَين كاملتَين، وكانت مواضيعها ما بين دينية وعلمية وتاريخية وسواها ما خلا السياسة. وفي أواخر سنة ١٨٨٩ جرت تلك المناظرة الشهيرة بين «الهدية» وجريدة «النشرة الأسبوعية» للبروتستانت على مواضيع شفاعة القديسين والصلاة لأجل الموتى وغيرها، وبعد ذلك بوقت قصير توقفت الهدية فظهرت بدلًا منها مجلة «المنار» لصاحب امتيازها الشماس أرسانيوس حداد مطران اللاذقية حالًا، وسيأتي الكلام عن «المنار» في جزءٍ آخرَ من هذا التاريخ.
وكانت «الهدية» ثانية الصحف الدينية التي أنشأها أبناء الطائفة الأرثوذكسية بعد جريدة «المهماز» المارِّ ذكرها، ومن مميزاتها أنها أنعشت في قلوب الأرثوذكسيين روح النهضة الأدبية وحملتهم على التنقيب عن مفاخر أجدادهم وعتائق تواريخ كنيستهم، ومن ذلك الحين انتشرت عندهم أكثر من سائر الطوائف الشرقية الصحف الدينية الرسمية وهي: «المنار» و«المحبة» في بيروت و«الكنيسة الأرثوذكسية» في القاهرة و«الكلمة» في نيويورك و«النعمة» في دمشق و«حمص» في حمص و«بشير فلسطين» في القدس الشريف.
الفصل الرابع: أخبار جرائد بيروت من سنة ١٨٨٦ إلى سنة ١٨٩٢
بيروت
هو اسم جريدةٍ علميةٍ سياسيةٍ تجاريةٍ أدبية برزت مرتين في الأسبوع بتاريخ ٢٢ آذار ١٨٨٦ لصاحبها محمد رشيد الدنا، فراجت سوقها كثيرًا؛ لأن مُنشئها عُرف بلين الجانب واعتدال المشرب وإخلاص النية في خدمة الوطن، واتفق حينئذٍ أن شقيقه عبد القادر الدنا كان رئيسًا لمجلس تجارة بيروت وذا كلمةٍ نافذة يؤيده كامل باشا الصدر الأعظم، فأُرسلت الجريدة لجميع تجار بيروت ولبنان وسوريا وسائر الجهات فاشتركوا فيها إكرامًا لخاطره، ولم يستطع أحد منهم أن يرفضها؛ لأن أعيان بلادنا لسوء الحظ كانوا ولم يزالوا يضنُّون ببذل الدرهم في سبيل المشاريع الأدبية، ولذلك كان أكثرهم يشترك في الجرائد خجلًا من أصحابها لا يقصد مطالعة أخبارها والاستفادة منها. وفي شهر تشرين الثاني ١٨٨٩ ظهرت «بيروت» بحُلَّةٍ بهية من الحروف القسطنطينية المصنوعة في المطبعة الكاثوليكية وزادت فيها ١١٢ سطرًا.
وبعد وفاة منشئها عام ١٩٠١ انتقل امتيازها لعهدة أخيه محمد أمين الدنا الذي جعلها أسبوعية، ثم قضت عليه أعماله التجارية بالانسحاب من إدارتها عام ١٩٠٥ مع بقاء الامتياز باسمه، فتولَّاها أخوه عبد القادر الدنا وكان عهدئذٍ رئيسًا للمجلس البلدي، فحسن مواضيعها ثم جعلها يومية بعد إعلان الدستور العثماني بمدةٍ قليلة، وما لبث أن أوقفها لكثرة ما ظهر في ذلك العهد من الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية التي ثبت منها العدد القليل. ولما تعيَّن أدهم بك سنة ١٩٠٩ واليًا على بيروت للمرة الأولى قامت بعض الجرائد تطعن فيه، فأوعز الوالي إلى عبد القادر الدنا أن يعيد إصدار الجريدة دفاعًا عنه وساعده بالمال، فصدرت «بيروت» ثلاث مرات في الأسبوع، ولكن بلا انتظام وكان حجمها يختلف باختلاف كثرة موادها أو قلَّتها، وجرت حينئذٍ بينها وبين جريدة «الاتحاد العثماني» تلك المناقشة الموجِعة التي أدَّت بهما إلى الطعن الشخصي، وعلى أثر ذلك احتجبت «بيروت» في شهر تموز ١٩٠٩ بعدما بلغت عامها الرابع والعشرين.
ومن مميزات هذه الجريدة أنها كانت تحاسن النصارى أكثر من سائر الجرائد الإسلامية لذلك العهد، وكانت عند ذكرها رؤساء الدين المسيحي لا تبخل عليهم بالألقاب المختصة بهم رسميًّا، بل إنها كانت تعاملهم بالقسط كما تعامل الصحف المسيحية رؤساء الدين الإسلامي من هذا القبيل، وقد حرَّر فيها مدة ١٨ سنة سليم بن عباس الشلفون ثم خلفه الشيخ محيي الدين خياط وكلاهما من ذوي الفضل والمعرفة.
دليل بيروت
جريدةٌ إحصائية ظهرت عام ١٨٨٨ بهيئة مجلةٍ صغيرة تصدر سنويًّا تحت عنوان «الجامعة» أو «دليل بيروت» لمنشئها أمين الخوري، وقد حذا فيها حذو الإفرنج تقريبًا، للصلات بين الوطني والغريب، وتسهيلًا للأشغال والعلاقات مع بقية الجهات على ما هو جارٍ في الممالك المتمدنة، فإنه ضمَّنها كل ما تهم الإنسان معرفته عن أحوال بيروت وأخبارها ومأموري حكومتها ومشاهير رجالها وأسماء تجارها وأطبائها وصيادلتها ورؤساء الأديان وقناصل الدول ووكلاء الدعاوى وسائر أرباب الحرف فيها. وهي تشتمل أيضًا على أسماء المعابد والمدارس والمكاتب والمطابع والجرائد والأنزال والشوارع والمصارف والمستشفيات والشركات المهمة والمتنزهات العمومية إلخ. فكان هذا المشروع المبتكَر في بلادنا الشرقية نموذجًا جرت عليه سائر البلدان العربية لإرشاد الغريب إلى كل ما يهم معرفته من أحوالها، وهكذا ظهر من بعده «دليل مصر» ثم «دليل الإسكندرية» ثم «الدليل» في باريس ثم «دليل مصر والسودان» وغيرها. واستمرت الجامعة تصدر سبع سنواتٍ متوالية حتى أوقفها صاحبها بداعي سفره إلى الإسكندرية وسكناه فيها، فلما رجع إلى بيروت أعادها بمظهر جريدة تحت عنوان «دليل بيروت» فقط. إلا أنها كانت غير منتظمة في أوقات نشرها، وكل ما صدر منها بعد إعلان الدستور العثماني لا يتجاوز عدد الأصابع. ولصاحبها أمين الخوري مكتبة تُعرف بمكتبة الآداب في بيروت، وقد وضع مؤلفاتٍ شتى مذكورة في قائمة مكتبته أهمها معجم في اللغتَين العربية والفرنسية مُزيَّن بالرسوم العديدة.
بيروت الرسمية
صحيفةٌ رسميةٌ أسبوعية أنشئت في ٢٢ كانون الأول ١٨٨٨ بعناية علي باشا حاكم بيروت بعد انفصالها عن ولاية سوريا. وهي تُنشر باللغتَين العربية والتركية لإذاعة أوامر الحكومة والإعلانات الرسمية. وكان يقوم بتحرير قسمها العربي بعض المأمورين كأحمد فائق، وإبراهيم بك حكيم، وكمال الشريف، وعبد الرحمن الحوت، وممدوح بك، وصبحي أبي النصر، وحسين الأحدب، وعبد الغني سني، والشيخ محيي الدين الخياط. ومنذ العدد ١١١٦ الصادر في ١٧ ربيع الأول ١٣٢٩ﻫ/١٨ آذار ١٩١١ أدخلت فيها تحسيناتٌ شتى وترقَّت عبارتها، وقد اتسعت دائرة مباحثها بحيث صارت تظهر في ثماني صفحات وتنشر المقالات العلمية والأدبية المشتملة على الخدمة العمومية. وفي ٢٢ تشرين الأول ١٩١٢ أخذت تصدر عددًا يوميًّا في أربع صفحاتٍ صغرى لإذاعة الأخبار البرقية وحوادث الحرب بين الدولة العثمانية ودول البلقان؛ أي بلغاريا والسرب والجبل الأسود واليونان، ثم أوقفت نشر هذه النسخة اليومية بعد شهر من إصدارها.
ولهذه الجريدة مطبعةٌ خاصة بها مع مطبعةٍ حجرية قد استدعي لتركيبها الأخ أنطون كنعان اليسوعي المشهور بفن الطباعة، فلما فرغ من العمل أرادت الحكومة أن تؤدي له ولمساعديه أجرة أتعابهم، فأبت نفسه الكريمة قبول ذلك لقاء هذه الخدمة الوطنية، غير أن الولاية قدرت عمله حق قدره فأرسلت إلى رئيس اليسوعيين كتابًا يُعلن شكر الحكومة لطغمتهم، ثم شفعته بساعةٍ ذهبية على سبيل التذكار للأخ أنطون المشار إليه.
وتطبع هذه الجريدة بحرفٍ حسن وعلى ورقٍ جيد، وقد صدر منها عددان ممتازان بالنقوش والتصاوير وهما من أبدع ما ظهر حتى اليوم من الصحف العربية المصوَّرة وطُبعَا في مطبعة اليسوعيين، أولهما ظهر في ٩ شعبان ١٣٢٦ بمناسبة تذكار الجلوس السلطاني، والآخر برز في السنة التابعة احتفاءً بجلوس السلطان محمد الخامس على الأريكة العثمانية. أما مدير هذه الجريدة ومطبعتها والقائم بجميع مهامها فهو حضرة النشيط عبد المجيد أبو النصر الذي لم يزل في خدمتها منذ نشأتها حتى الآن.
الفوائد
نشرةٌ دينيةٌ علميةٌ إخبارية ذات أربع صفحاتٍ صغيرة أنشأها خليل البدوي في شهر آذار ١٨٨٩ لمنفعة فتيان طائفة الروم الكاثوليك، فصدرت أربع مرات في سنتها الأولى ثم صارت شهرية في سنتها الثانية، ومنذ ١٠ كانون الثاني ١٨٩١ تحوَّلت إلى جريدةٍ أسبوعيةٍ أدبيةٍ علميةٍ إخبارية في ثماني صفحات، وقد اتخذها غريغوريوس الأول بطريرك الروم الكاثوليك لسان حال طائفته بمنشور أذاعه في اليوم السادس عشر من الشهر المذكور. ولكن عمر هذه الجريدة لم يطل إلا خمسة أسابيع؛ إذ صدر أمر الباب العالي بتعطيلها؛ لأنها قالت عن مدينة رومة العظمى إنها مقام «الخلافة البطرسية»، فاختلق الأعداء لهذه العبارة تأويلًا سياسيًّا وأوهموا السلطان عبد الحميد أنها ترمي إلى نقل الخلافة من القسطنطينية «رومة الجديدة» إلى رومة القديمة مقر البابوات. ولهذا السبب الخيالي ورد إلى والي بيروت عزيز باشا تكديرٌ تلغرافيٌّ شديد اللهجة من جانب الصدارة العظمى؛ لأنه لم يأبه إلى هذه الدسيسة الموهومة، فاضطر صاحب «الفوائد» أن يذهب بنفسه إلى عاصمة السلطنة حيث تغيَّب نحوًا من ثلاثة أشهر، وبجهدٍ عظيم أفهم أصحاب الشأن أنه ليس بالرجل الذي يعزون إليه الفتنة، وأن لقبه «البدوي» لا يدل على أنه من صميم العرب الناقمين على الخلافة في آل عثمان. فلما حصل الاقتناع والاطمئنان من جانبه صدرت له الأوامر السلطانية بإنشاء جريدة «الأحوال» بدلًا من «الفوائد» الملغاة.
الأحوال
جريدةٌ سياسيةٌ تجاريةٌ علميةٌ أدبيةٌ زراعيةٌ صناعية أنشئت في غرة تشرين الأول ١٨٩١ لصاحبها خليل البدوي الذي أسسها على أنقاض جريدة «الفوائد» الملغاة. وفي عامها الثالث صدرت كل يوم وهي أول جريدةٍ يومية نُشرت في السلطنة العثمانية، وكانت تطبع في السنين الثلاث الأُوَل من عمرها في مطابع المدينة، ثم أنشئت لها مطبعةٌ خاصة باسم «مطبعة الفوائد» التي كان قد صدر امتياز بها مع امتياز جريدة «الفوائد» السابقة الذكر. وفي سنة ١٩٠٠ قيَّض الله لمنشئها أن يشيد لها بنايةً فخيمةً قائمةً في جادة المرفأ وهي من أجمل أبنية بيروت. وقد صادفت الأحوال في طريقها الصحافية عراقيلَ جمةً من كل الوجوه ونزلت بها مصائبُ شديدة كانت كل واحدة منها كافية لقتلها، ولا سيما أن صاحبها كان على ضعفه وقِلَّة أنصاره حرًّا جسورًا لا يحسب للائمين حسابًا. وبالرغم من هذه المحن أفلحت الأحوال وأحرزت مقامها العالي بين الصحف. وقد ذاقت الأمرَّين من المراقبة واضطهاد المأمورين وأعداء الإصلاح، فصودرت أمام المحاكم مرارًا وصدرت عليها عدة أحكامٍ بدائية ردَّتها محكمة الاستئناف إلا مرةً واحدة غرَّمتها المحكمة بدفع ثمانية عشر ألف غرش بإغراء أحد العمال الخونة مدفوعًا من بعض الأعداء، وكان رئيس المحكمة شديد الوطأة على الأعضاء فنجح في تثبيت الحكم في التمييز، فدفع صاحب الجريدة ثمانية عشر ألف غرش ظلمًا.
وعُطلت الأحوال مرارًا لجرأتها في نشر الحقائق الجارحة، وهي أول جريدة بشرت بإعلان الدستور في هذه الديار ونادت على صفحاتها بالحرية والمساواة والإخاء قبل جرائد العاصمة نفسها. وفي غرة أيلول ١٩٠٨ صدرت مرتَين في النهار صباحًا ومساء؛ فأحرزت بذلك قصب السبق على سائر الصحف العربية في جميع الأقطار، وذلك يدل على همة منشئها وإقدامه على عظائم الأمور وشدة تفانيه في سبيل الخدمة العمومية. لكن اندفاعها في الغيرة على إصلاح البلاد قد أثار الأحقاد في صدور الأعداء والحساد؛ فهيجوا عليها العامة من جهلاء المدينة، فهجم منهم على إدارتها نحو عشرة آلاف رجل شاكي السلاح يوم الأربعاء في ٧ نيسان ١٩٠٩ وكادوا يفتكون بصاحبها لولا عناية الله التي أنقذته من أيديهم. وكان هذا الاعتداء الفظيع سببًا لهَدِّ ركن صحته، فلازم البيت زهاء عشرين يومًا لم يفتر في خلالها من مداومة نشر المقالات الإصلاحية وتقبيح أعمال الجهال والمفسدين، على أنه إجابة لدواعٍ عائلية اضطر أن ينسحب أخيرًا من الصحافة، فباع المطبعة في أوائل سنة ١٩١٠ وأجَّر الجريدة إلى عشرين سنة لقيصر بوبز وشركاه تحت شروطٍ معلومة، فنشرها أصحاب الإدارة الجديدة مدة سنتين وسبعة أشهر ثم اضطروا إلى توقيفها في ١٠ أيلول ١٩١٢ لأسبابٍ مالية، فكان ذلك سببًا لأسف مطالعيها من التجار والأدباء وأصحاب المصالح الذين كانوا يرتاحون إلى طلاوة كتاباتها ويعتمدون على صدق أخبارها. وقد بلغنا أنها ستستأنف الظهور قريبًا بهمة صاحبها المفضل.
واشتهرت الأحوال بسرعة نقل الأخبار قبل سواها من الجرائد وخصَّصت قسمًا وافرًا من أعمدتها بإذاعة الأسعار التجارية والمالية لتسهيل المعاطيات بين الناس، ولها الفصول الشائقة في الدفاع عن مصالح الشعب والتنديد بالحكومة وعمالها على قدر ما تستطيعه جريدة في بلاد لم تنضج فيها الحرية الحقيقية. وسافر منشئها مرارًا إلى أوروبا بحيث كان يتحف القراء بالمقالات الضافية عن حضارة الغرب، ويحثُّ الشرقيين على اقتباس حسنات الغربيين. وأجمل عدد صدر من الأحوال كان في غرة أيلول ١٩٠٠ بمناسبة اليوبيل الفضي لجلوس السلطان عبد الحميد الثاني؛ فإنه يروق للأبصار بتأنق ألوانه وجمال نقوشه. وأخص الذين تولوا كتابتها مع صاحب الامتياز نذكر منهم: خليل مطران ونجيب شوشاني وأمين الحلبي وإبراهيم الخوري البكاسيني وقيصر بوبز وسليم عقاد وسعيد فاضل عقل.
الفصل الخامس: أخبار مجلات بيروت من سنة ١٨٧٠ إلى سنة ١٨٧٥
المجمع الفاتيكاني
مجلةٌ أسبوعيةٌ دينية ذات ثماني صفحات نشرها الآباء اليسوعيون في غرة كانون الثاني ١٨٧٠ بإدارة سليل طغمتهم الأب فرنسيس غوترلت، وكان يساعده في التحرير الأب يوحنا بلو المستشرق اليسوعي والمعلم جرجس زوين اللبناني الماروني. وغرضها إذاعة أخبار هذا المجمع المسكوني وإعلان أحكامه ومباحث آبائه بين الطوائف الشرقية الكاثوليكية، فظهر منها ٣٥ عددًا آخرها في ٢٧ آب للسنة المذكورة. وكان شعار البابا بيوس التاسع مطبوعًا في رأس المجلة تعزيزًا لشأن خليفة القديس بطرس في سوريا. وقد تعطلت المجلة عند توقيف أعمال المجمع بسبب دخول عساكر الإيطاليان إلى عاصمة البابوات واستيلائهم عليها. ومما لا يسعنا السكوت عنه أنه جرى جدال بين مجلتي «المجمع الفاتيكاني» و«الجنان» لأن الثانية نشرت فصولًا منقولة عن جريدة «التيمس» الإنكليزية ضد حقوق الحبر الأعظم، فقامت الأولى للدفاع عن رأس البيعة الجامعة وبيَّنت لمجلة «الجنان» فساد زعم القائلين بأن السدة الرومانية تقصد سلب ما يسمونه «استقلال الكنائس الشرقية». وكان فرنسيس مراش الحلبي يكتب المقالات الطويلة منتصرًا للمجمع الفاتيكاني ضد «الجنان» مع محافظته على أصول الجدال وآداب المناظرة وعدم التعرض للطعن الشخصي.
الجنان
اسم لمجلةٍ سياسيةٍ علميةٍ أدبيةٍ تاريخية صدرت في غرة كانون الثاني ١٨٧٠ مرتين في الشهر لمنشئها المعلم بطرس البستاني، فجعل شعارها «حب الوطن من الإيمان»، ومن ذاك العهد درجت العادة عند أكثر أرباب الصحف الغربية أن يتخذوا لجرائدهم ومجلاتهم شعارًا خاصًّا ويصدروها به، وقد افتتحها المعلم بطرس بهذين البيتَين:
وكانت سوق «الجنان» رائجةً في البلاد العربية شرقًا وغربًا لما ناله صاحبها من الشهرة العلمية الواسعة والصيت العظيم بتأسيس «المدرسة الوطنية» وتأليف قاموس «محيط المحيط» وكتاب «دائرة المعارف» وغيرها من الآثار. وكان سليم البستاني ابن المعلم بطرس ينشئ أكثر مقالاتها ولا سيما السياسية والتاريخية والروائية، وأهمها وأشهرها كتاب «تاريخ عام قديم» وكتاب «تاريخ فرنسا الحديث» الذي نُشر على حدة سنة ١٨٨٤ في مجلدٍ ضخم. وآخر صفحة من المجلة كانت تتضمن ملحًا فكاهية وأشعارًا أدبية وحكمًا تهذيبية. ونالت «الجنان» عناية أحمد مدحت باشا في ولايته لسوريا حتى إنه كان يزور إدارتها في مجيئه لبيروت ويبثُّ أفكاره الإصلاحية بواسطتها، فيصدر العدد منها بجميع مواده لغايةٍ واحدة كالتكريه بالحاكم الظالم ومحبة الحاكم العادل وما أشبه. ومن جملة الآثار المهمة التي زيَّنت صفحات الجنان كتاب عنوانه «ألبانيا والألبانيون» بقلم واصا باشا المتصرف الرابع على جبل لبنان سابقًا، وقد نقله نجيب البستاني من اللغة الفرنسية إلى اللسان العربي في فصولٍ شتى.
أما التأثير على الأقلام فإن بعضها كان في أول عهده ركيك العبارة إفرنجي الأسلوب، ولكن سمو أفكارها كان يشفع بركاكة ألفاظها، ولا سيما مجلة «الجنان» فإن فيها أفكارًا دقيقة تحت عباراتٍ ركيكة مما يدل على أن منشئيها انصرفوا بكليتهم عن اللباس اللفظي إلى الجوهر المعنوي.
ولعل المعلم بطرس البستاني عمد إلى هذه الوسيلة في كتابات مجلته عند أول ظهورها؛ لأن أكثر القوم في ذلك العهد كانوا لا يكترثون لمطالعة الصحف المكتوبة بعباراتٍ فصيحة، فتسهيلًا لهم كان يضيء فصول «الجنان» بلغة تفهمها العامة ولا تأنف منها الخاصة، وهي خطة حسنة يُشكر عليها المعلم بطرس البستاني وأنجاله الذين أجادوا وأفادوا في ابتكار هذه الطريقة دون سواهم لخدمة الصحافة والعلم والوطن. وكانت هذه المجلة مطبوعة طبعًا نظيفًا وتنشر من وقت إلى آخر رسوم المناظر الشهيرة وصور أعاظم الرجال.
النحلة
مجلةٌ أسبوعية صدرت في ١١ آيار ١٨٧٠ لمنشئها القس لويس صابونجي السرياني، وهو أول كاهن دخل في سلك الصحافة من جميع كهنة الطوائف المسيحية الشرقية، وكانت النحلة تتناول ما راق وأفاد من أهم المواضيع مرتبة على عشرة أبواب ما خلا الدين والسياسة، وهي: العلم والصناعة والتاريخ واللغة والحوادث الداخلية والحوادث الخارجية والتجارة والفلسفة والفكاهات والروايات الأدبية؛ لذلك فإنها تعد أم المجلات العربية في حسن تبويبها وترتيب موادها وكثرة مباحثها؛ بحيث لم ينشأ قبلها مجلةٌ منتظمة عندنا كالمجلات الراقية عند الإفرنج. وروى الأب لويس شيخو غلطًا في كتابه «الآداب العربية في القرن التاسع عشر» أن «النحلة» أنشأها يوسف الشلفون بالاشتراك مع لويس صابونجي فاقتضى التنويه، وقد صدَّرها صاحبها بالأبيات الآتية:
وكان الكونت نصر الله دي طرازي أكبر عضد للقس لويس صابونجي في تأسيس هذه المجلة … فإنه ساعدة ماديًّا وأدبيًّا على نشرها بين أعيان بلادنا وتجارها وأدبائها، ثم سعى له في ترويجها في كثير من أنحاء أوروبا على يد أخوَيه نعمة الله طرازي في مرسيليا وفتح الله طرازي في منشستر. وهي المجلة الأولى التي جعلت فهرسًا لمواد كل عدد منها على مثال المجلات الأوروبية، وكان العدد الأول منها مفتتحًا بقصيدة في مدح السلطان عبد العزيز الذي كان يجود بالعطايا السخية على العلماء عمومًا والصحافيين خصوصًا. وكان العدد الواحد منها يتألَّف من ١٦ صفحة مطبوعة بحرفٍ دقيق في المطبعة المخلصية.
وبعد صدور العدد الحادي والثلاثين منها صدر أمر راشد باشا والي سوريا بتعطيلها؛ لأن صاحب النحلة ندَّد بالمعلم بطرس البستاني وخطَّأه في بعض المسائل العلمية التي نشرت في مجلة «الجنان» وجريدة «الجنة» المار ذكرهما. ثم إنه تجاوز الحدود التي كان قد فرضها على نفسه وتطرف إلى مسائلَ سياسية ومناظراتٍ دينية، وكان القس لويس يكتب أكثر مقالات المجلة بقلمه وينشر فيها فصولًا شائقة وقصائدَ بليغة لبعض الأفاضل والعلماء والأعيان الذين نذكر منهم: المطران أنطون قندلفت السرياني وكان حينئذٍ خوريًّا في حلب، والمركيز إسكندر دي جروه في الإسكندرية، والدكتور بشارة زلزل، والدكتور يوسف أبيلا قنصل دولتَي إنكلترا وإسبانيا في صيدا، والدكتور قصير أبيلا، والخوري أسطفان صوصة سليل الرهبانية المخلصية، وسعيد بك تلحوق، والدكتور بشارة منسى، وإبراهيم معوض، وفضل الله عربيني وسواهم. وقد قرَّظها سليم بك تقلا أستاذ الآداب العربية حينئذٍ في المدرسة البطريركية بقصيدة نورد منها هذه الأبيات:
وقد وقفنا على قصائدَ كثيرة في تقريظ هذه المجلة واستحسان خطتها نقتصر منها على أبياتٍ لطيفة نظمها الحاج حسين بيهم الشاعر البيروتي، وهي بالحرف الواحد:
النجاح
مجلةٌ سياسيةٌ علميةٌ تجارية نصف أسبوعية، ظهرت في ٩ كانون الثاني ١٨٧١ لصاحبَيها القس لويس صابونجي السرياني ويوسف الشلفون اللذين أصدراها على أنقاض صحيفة كلٍّ منهما وهما النحلة والزهرة؛ فصادفت إقبالًا كبيرًا. ثم انسحب القس لويس من هذه الشركة قبل نهاية سنتها الأولى لاعتماده على الطواف حول الكرة الأرضية، فاتفق الشلفون مع رزق الله خضرا صاحب المطبعة العمومية على متابعة نشرها وإصدارها مرة في الأسبوع بعشرين صفحة بدلًا من مرتَين في ١٦ صفحة، وانتدبا الشيخ إبراهيم اليازجي لتحريرها لقاء حصةٍ معلومة من أصل الأرباح؛ «فظهر اقتداره على الإنشاء العصري مما لم يعهد الناس مثله في المرحوم أبيه، فضلًا عن تمكنه من قواعد اللغة ومعاني ألفاظها.» كما ورد في ترجمته المطبوعة في كتاب «تراجم مشاهير الشرق».
فلما رأى اليازجي أن واردات الجريدة لا تقوم بمصروفها ترك تحريرها بعدما اشتغل فيها نحو السنة. فتقدم الشريكان شلفون وخضرا إلى المطران يوسف الدبس الماروني وطلبا مساعدته المادية، فأجاب إلى طلبهما وكلف كلًّا من نقولا نقاش وبولس زين بتحرير «النجاح» وأوعز إلى نعمان الخوري اللبناني أن يترجم لهما الأخبار الخارجية نقلًا عن صحف أوروبا. ودامت هذه الحال إلى أواخر العام الثالث، وتعطل النجاح، وكان احتجابه بسبب مقالةٍ شديدة اللهجة نشرها على إثر حادثة جرت في حي المصيطبة بين النصارى والمسلمين وأورد فيها نصائح لم ترُقْ في عيون أرباب الحكومة حينئذٍ، فأصدر رائف أفندي متصرف بيروت أمره بتعطيل المجلة متذرِّعًا إلى ذلك بدعوى أنها تصدر خلوًّا عن رخصةٍ رسمية، مع أن صدورها كان سابقًا لوضع هذا القانون في عهد راشد باشا والي سوريا. وكان للمقالة المذكورة تأثيرٌ عظيم بين القراء؛ حتى إن النسخة الواحدة من العدد الذي نُشرت فيه بيعت بأربعة فرنكات، وقد نظم الحاج حسين بيهم أبياتًا وختمها بتاريخٍ شعري لظهور هذه الصحيفة وهي:
الفصل السادس: أخبار مجلات بيروت من سنة ١٨٧٦ إلى سنة ١٨٨٥
المقتطف
ورأينا في تلك الأثناء أنه يستحيل علينا أن نجاري الأمم الغربية في العلوم والمعارف إذا اقتصرنا على ما يترجم ويؤلَّف من الكتب؛ لأن العلوم الحديثة جارية جريًا حثيثًا، فما يؤلف فيها هذا العام يمسي بعضه قديمًا في العام التالي، ولا بد من جريدة تقطف ثمار المعارف والمباحث العلمية شهرًا فشهرًا وتذيعها في الأقطار العربية، فعقدنا النية على إنشاء المقتطف لهذه الغاية ورسمنا خطته التي سار عليها منذ إنشائه إلى الآن، ولم نختر له اسمًا بل قمنا كلانا وذهبنا إلى أستاذنا الدكتور فانديك، وكان في المرصد الفلكي حيث كان يقضي أكثر أوقاته، فاستشرناه بما عزمنا عليه وسألناه أن يختار لنا اسمًا له، فأبرقت أسرَّته وجعل يُشدِّد عزائمنا ويسهل علينا الصعاب، وقال سمياه «المقتطف» واجعلاه كاسمه وحسبكما ذلك. ثم كتب إلى صاحب السعادة خليل أفندي الخوري الشاعر المشهور وكان مديرًا للمطبوعات في سورية يطلب إليه أن يسعى لنا في جلب الرخصة السلطانية بأسرع ما يمكن ففعل. ولم يمضِ شهر من الزمان حتى أتتنا الرخصة السلطانية، فذهبنا وبشَّرناه بها، فقال: «سيرا في عملكما والله معكما وأنا سأشرع من هذه الساعة في كتابة بعض الفصول للمقتطف.» فكتب فصول «أطباء اليونان والشرق» ونشرنا أول فصل منها في الجزء الثاني من المقتطف الذي صدر في غرة يوليو (تموز) سنة ١٨٧٦، وأباح لنا كل ما عنده من الكتب والجرائد والآلات والأدوات لكي نستعملها كما نشاء من غير سؤال.
إنني ولعت بمطالعته منذ صدوره إلى اليوم، فوجدت فوائده تتزايد وقيمته تعلو في عيون عقلاء القوم وكبرائهم، ولطالما عددته جليسًا أنيسًا أيام الفراغ، ونديمًا فريدًا لا تنفد جعبة أخباره، ولا تنتهي جدد فرائده سواء كان في العلم والفلسفة أو في الصناعة والزراعة.
- أولًا: أسماء الأطباء والصيادلة: كرنيليوس
فانديك، بشارة زلزل، وليم فانديك، يوحنا
ورتبات، يوسف أبيلا، شبلي شميل، وديع
برباري، نقولا
فياض،
أمين معلوف، بشارة منسي، سليم داود، نقولا
نمر، إلياس صليبي، إبراهيم شدودي، توفيق
صوصة، سعيد أبو جمرة، يعقوب ملاط إبراهيم
عربيلي، إسكندر بارودي، سليم موصلي، سالم
أبي خليل، أمين أبي خاطر، جورج بوست،
ميخائيل ماريا، ميخائيل مشاقة، مراد
بارودي، جرجس طنوس عون.
- ثانيًا: أسماء جهابذة اللغة: الشيخ إبراهيم اليازجي، الشيخ سعيد الشرتوني، إبراهيم الحوراني، سليمان البستاني، جبر ضومط، جرجس همام، السيد محمود حمزة، الشيخ حسين الجسر.
- ثالثًا: أسماء الشعراء: الأمير شكيب أرسلان،
سليم بك عنحوري، وديع الخوري، أحمد بك
شوقي، أسعد داغر، حافظ إبراهيم، الشيخ
إبراهيم الأحدب.
مضى الحبر إقليميس عن أعين الورىوخلَّف آثارًا مدى الدهر تُشكَرُفبتنا وكان الرسم خير ذخيرةلنا بعد من بالعلم والفضل يُذكر
- رابعًا: أسماء المؤرخين: إقليميس يوسف داود مطران دمشق على السريان، جرجي يني، جرجي بك زيدان، عيسى إسكندر المعلوف، حنين الخوري، نعوم شقير، وسليم شحادة.
- خامسًا: أسماء الصحافيين: أحمد كامل، بولس الخولي، نجيب بستاني، عبد القادر حمزة، محمد كرد علي، جرجي الخوري المقدسي، صموئيل يني، إسكندر شاهين، أحمد بك تيمور، سليم مكاريوس، إبراهيم جمال، نقولا بك توما.
- سادسًا: أسماء الكاتبات: سارة خير الله، مريم جرجي ليان، شمس شحادة، مريانا ماريا، فريدة حبيقة، روجينا شكري، جوليا طعمة، أنيسة صيبعة، ندى شاتيلا، ياقوت صروف، مريم مكاريوس مريم سركيس، جميلة كفروني، فريدة عطية، سلمى طنوس وغيرهن.
- سابعًا: أسماء العلماء والأدباء: حسن محمود باشا، رفيق بك العظم، إدوار بك إلياس، نجيب شاهين، قاسم بك أمين، نجيب صروف، خليل ثابت، أمين ظاهر خير الله، الشيخ سليمان العبد، نسيم برباري، محمد أبي العز الدين، نسيم خلاط، فارس الخوري، شفيق بك منصور، متري قندلفت، مصطفى الرافعي، جميل مدور، إسكندر البستاني، حسن بيهم، محمود باشا الفلكي، نعمة يافث إلخ.
وقد جرت بين المقتطف وجريدة «البشير» البيروتية عدة مناظراتٍ علمية يطول شرحها، وإنما أشهرها المناظرة على قضية «مذهب الارتقاء والنشوء» المنسوبة إلى دروين القائل بأن الإنسان يتسلسل من القرد، فأراد المقتطف على رواية مناظره إثبات الآراء الدروينية بحجة أنها لا تناقض الدين ولا تضاد الكتاب المقدس، فخالفه «البشير» في هذا الرأي واحتدم الجدال بين الفريقَين. وللعلامتَين يعقوب صروف وفارس نمر مركزٌ أدبيٌّ سامٍ في البلاد الشرقية والغربية، وحسبهما فخرًا أنهما نالا سنة ١٨٩٠ رتبة دكتور في الفلسفة من «المدرسة الجامعة» في نيويورك، ثم أحرز ثانيهما «وسام المعارف الذهبي» من حكومة أسوج، وهو الذي قال عنه اللورد كتشنر معتمد إنكلترا في مصر «إن الدكتور نمر كله عقل.»
هذا وإننا نختم هذه الأسطر بالشكر الجزيل لسيادته ونؤكد له أننا نجلُّ الرسالة التي تُنبِّهنا إلى خطأ ارتكبناه أكثر من الرسالة التي تمدحنا على صواب أتيناه، ولسنا ممن يحسب أن قدر الناس يُحطُّ بالاعتراض على أقوالهم، ويا حبذا لو كانت كل الرسائل التي ترد إلينا مثل رسالة سيادته في العلم واللطف.
وللشيخ العلامة إبراهيم الأحدب الطرابلسي قصيدةٌ شائقة قرظ بها مجلة «المقتطف» نقتطف منها الأبيات الآتية:
الطبيب
مجلةٌ شهريةٌ طبيةٌ صيدلية ظهرت في غرة كانون الثاني ١٨٧٨ لصاحب امتيازها الدكتور جورج بوست أستاذ الجراحة والنبات في المدرسة الكلية الأميركية، وغرضها نشر كل ما يهم الأطباء والصيادلة من معرفة مهنتهم وممارستها، فكانت مباحثها تتناول علم الكيمياء والنبات والحيوان والجماد والتشريح والمواد الطبية والطب الشرعي والأعمال المستشفوية وغيرها، وبقي منشئها قائمًا بإدارتها وتحريرها في أعوامها الثلاثة الأولى، ومنذ العام الرابع سلَّم إدارتها لشاهين مكاريوس واتخذ مساعدين له في التحرير الدكتور وليم فانديك والدكتور نقولا نمر والصيدلي مراد بارودي.
وفي غرة حزيران ١٨٩٥ تولَّى تحريرها الدكتور إسكندر بارودي الذي أصدرها مرةً في الشهر، فجرى على خطة من سلفوه وفتح فيها بابًا جديدًا لكلٍّ من الفروع الطبية نظريًّا وعمليًّا وللعمليات الجراحية والطبابة الأهلية والطب البيطري والمسائل العمومية، ثم جعل لها في هذه السنين الأخيرة فرعًا تحت عنوان «حفظ الصحة والزراعة» يصدر شهريًّا في كرَّاس على حدة، وفي ٢٣ كانون الثاني ١٩١٠ استقلَّ بامتيازه وإدارته وتحريره على أثر وفاة الدكتور جورج بوست صاحب الامتياز الأول.
وما زال «الطبيب» يُنشر في مطابع بيروت إلى هذه المدات الأخيرة، ثم صار يُطبَع منذ سنة ١٩١٢ في المطبعة الرشادية في كفر شيما بلبنان، وكان في جميع أدوار حياته مكتوبًا بعبارةٍ بليغة تدلُّ على سعة معارف أصحابه ومحرِّريه الذين تخرجوا في الكلية الأميركية الشهيرة أو درسوا فيها، وهو وحده بين جميع المجلات الطبية العربية بلغ هذا الشوط البعيد من العمر. ومما ساعد على نجاح هذه المجلة في أدوار حياتها السابقة أن مدرسة «قصر العيني» المصرية ومدرسة «الكلية الأميركية» في بيروت كانتا تدرسان علم الطب في اللسان العربي، فلما أبدلتاه باللسان الإنكليزي انصرفت عناية أكثر أطبائنا الوطنيين لسوء الحظ عن مطالعة «الطبيب» إلى مطالعة المجلات الطبية في اللغات الأجنبية، ومن ذلك الحين قلَّ عدد قرائه ومريديه بإلغاء اللغة العربية من المدارس الطبية. ورغمًا من هذا كله فإن الدكتور إسكندر بك البارودي لا يألو جهدًا في نشر المواضيع الجليلة وخلاصة الاختراعات الحديثة التي تعود بالفائدة على قراء مجلته القديمة العهد خدمةً للعلم وحفظًا للمنزلة السامية التي أحرزها «الطبيب» في عالم الصحافة.
المشكاة
اسم لمجلةٍ شهريةٍ سياسيةٍ علميةٍ صناعيةٍ تاريخيةٍ فكاهية ذات ١٦ صفحة، أصدرها خليل سركيس بتاريخ غرة نيسان ١٨٧٨ في أثناء تعطيل جريدة «لسان الحال» مدة أربعة شهور بأمر الحكومة، فكانت جزيلة الفوائد معتدلة اللهجة ومحلَّاة بمقالات لأبرع كتَّاب ذاك العهد، نذكر منها مقالة «المقل النرجسية في الأخبار الأندلسية» وهو تاريخ الأندلس أيام الإسلام إلى فتوح دولة الملثَّمين بقلم سليم بن ميخائيل شحادة ترجمان القنصلية الروسية وأحد صاحبي كتاب «آثار الأدهار» وغيره، واحتجبت «المشكاة» على أثر صدور العدد الرابع منها عندما أعيد نشر «لسان الحال» بعد عطلته. ولا تختلف مجلة «المشكاة» عن شقيقتها «لسان الحال» في اعتدال المشرب وسلامة الذوق وإخلاص الخدمة للوطن وحسن انتقاء الأخبار الصادقة.
الفصل السابع: أخبار مجلات بيروت من سنة ١٨٨٦ إلى ١٨٩٢
الصفا
الأمير أمين أرسلان قنصل جنرال الدولة العلية في الأرجنتين رجل شهدت له أعماله بأنه من خيرة الرجال، ولو عمدنا إلى ذكر تلك الأعمال لكان ذلك من قبيل تحصيل الحاصل، وكفاك برهانًا على مكانته في النفوس استقبال العثمانيين إياه في المهجر ذلك الاستقبال المقرون بالحفاوة. وفي الحديث الذي دار بينه وبين رئيس تلك الجمهورية الذي أجَّل استقباله مع أركان حكومته ما يُنبئنا عن حصافته ومكانته. وللأمير شقيق كنتُ أودُّ أن تكون سجاياه وأعماله كسجايا وأعمال شقيقه، لكن لسوء الطالع قُضي بألا يكون السعيد كالأمين … في بدء الحوادث الحورانية قام الأمير أمين يطلب إلى قائد الحملة أن يعامل الدروز بالتؤدة، وأن يعرض عليهم الطاعة قبل أن يبدأهم بالشدة، أما الأمير سعيد فقام يدعوه إلى استئصال شأفتهم قائلًا إنه لا يأسف لا على أفرادهم ولا على مجموعهم؛ لأن وجودهم مُضرٌّ بالهيئة الاجتماعية، فانظر الفرق بين الاثنين! وبعد أن بعث سامي باشا تكذيبًا رسميًّا للذين زعموا أن بين أشقياء العربان في فتنة الكرك دروزًا لم يشأ حضرة الأمير سعيد الأفحم إلا أن يجعل للدروز نصيبًا في الفتنة رغمًا عن حقيقة الحال وعن سامي باشا، فكتب في جريدة «النصير» مقالةً زعم فيها أن للدروز يدًا في الحادثة، لكن زعمه هذا لم يكن له من نتيجة إلا إطالة الألسنة في سَبِّه وقول الناس: أين السعيد من الأمين؟
ويتولى الآن رئاسة تحرير الصفا أمين ناصر الدين نجل صاحب الامتياز ومن الكتبة المعدودين الذين يُشار إليهم بالبنان، وهو أيضًا شاعرٌ مجيد كان يقول أبياتًا من الشعر قبل أن يتعلم القراءة والخط، فكان والده يكتبها له ويصحح لغتها دون وزنها، ومرةً بعث إلى الشيخ خليل اليازجي بيتَين من شعره الصبياني فسُرَّ بهما كثيرًا وأجابه عليهما بهذه الأبيات:
سلسلة الفكاهات
لا يجهل أحد اسم «سلسلة الفكاهات في أطايب الروايات» التي نشرها في تشرين الثاني ١٨٨٤ نخلة قلفاط البيروتي، وهي مجموعة قصصٍ تاريخية ورواياتٍ أدبية تُعدُّ من أقدم الصحف من نوعها. كانت تصدر أجزاءً متواصلة تارةً مرةً وطورًا مرتَين في الشهر، وكان من أعوانه في ترجمة بعضها عن اللغة الفرنسية سامي قصيري وغيره، فنالت رواجًا عظيمًا في كل الديار العربية ثم تعطَّلت في السنة الرابعة لظهورها، وقد نُفي حينئذٍ صاحبها إلى مدينة قونية بدسيسة من جواسيس الحكومة الذين اتهموه زورًا وظلمًا بإثارة الخواطر بين أفراد الشعب، فلبث في منفاه سنتَين يتقلَّب على جمرات العذاب حتى أُفرج عنه بعد دفع كل ما ملكت يداه لإشباع بطون الحكام الظالمين، وهناك انتهز الفرصة لدرس اللغة التركية حتى أتقنها وصار يستطيع الترجمة منها وإليها، وفي أثناء إقامته في المنفى نظم قصيدةً استرحامية ورفعها للسلطان عبد الحميد قال في مطلعها:
إلى أن قال:
ولما كان قد يئس من قضاء العيشة تحت سماء الدولة العثمانية عوَّل على السكنى في وادي النيل، وهناك أصدر سنة ١٨٩٣ مجلة باسم «سلسلة الفكاهات» قرظها عبد الله فريج بقصيدة جاء فيها:
ثم عاد إلى وطنه وتعاطى مهنة بيع الكتب بالشركة مع سليم ميداني، فانتهز أنصار الاستبداد هذه الفرصة أيضًا لينصبوا له المكائد ووشوا به لدى الحكومة بحجة أنه يتاجر بالكتب الممنوعة ككتاب «أم القرى» وسواه، فأُلقي القبض عليه سنة ١٩٠٤ وزجَّ في السجن مع أصحاب الجرائم الكبرى مدة سنة كاملة أصيب في أثنائها بداء الفالج ومات في ١٣ تشرين الأول ١٩٠٥ بعد إطلاق سبيله من الحبس بأيامٍ معدودة، وقد نُقشت على ضريحه هذه الأبيات التي نظمها الأستاذ إلياس بهنا:
وُلد نخلة بن جرجس بن ميخائيل بن نصر الله قلفاط سنة ١٨٥١ في بيروت وقرأ مبادئ العلوم على إسكندر آغا إبكاريوس، ثم مالت نفسه إلى درس علم الفقه والقوانين الدولية فنال منها نصيبًا وافرًا. وكان نخلة قلفاط رجلًا نشيطًا خلَّف من الآثار الأدبية ما يشهد بفضله واجتهاده، وقد كافأه قيصر الروس على ذلك بوسام شرف ونفَحَه بهبةٍ مالية قدرها ألف وخمسمائة فرنك. وإليك أسماء الكتب التي ألَّفها أو ترجمها من اللغات الأجنبية بقطع النظر عن الكتب التي طبعها على نفقته: حقوق الدول، تاريخ روسيا، تاريخ ملوك المسلمين، حمزة البهلوان، بهرام شاه، فيروز شاه، ألف نهار ونهار، ديوان أبي فراس الحمداني (شرح أكثر أبياته)، ضرر الضرتين (رواية تمثيلية)، الملك الظالم (رواية تمثيلية)، الزوجة الزائغة، هالكات باريس، مائة حكاية وحكاية، مونتو كريستو، وخلَّف ديوان شعر يحتوي على منظوماتٍ شتى في مواضيعَ مختلفة نقتطف منها هذه الأبيات التي رفعها لكامل باشا عندما وجهت إليه رتبة الصدارة العظمى، وكل بيت منها يتضمن تاريخًا لإحدى السنين الثلاث الميلادية والهجرية والمالية:
ديوان الفكاهة
مجلةٌ شهرية تشتمل على رواياتٍ تاريخية وغرامية وأدبية كانت تنشر في مطبعة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس، وهي أول مجلةٍ روائية صدرت باللسان العربي، أنشأها في غرة سنة ١٨٨٥ المرحومان سليم بن ميخائيل شحادة وسليم بن بولس طراد، وهما من أخصِّ أعيان مدينة بيروت وأقدم عائلاتها، وكان أكثر رواياتها معرَّبًا عن اللغة الفرنسية بقلم الكاتب البارع يوسف بشارة قيقانو. وبعد عامها الرابع احتجبت مدة ثلاث سنين ثم استقلَّ بها إلى نهاية أجلها سنة ١٨٩٣ سليم طراد وحده، وقد تولى حينئذٍ تعريب رواياتها شاكر شقير اللبناني صاحب مجلة «الكنانة» المصرية الذي صدَّرها بهذين البيتَين:
وكان «ديوان الفكاهة» مجموعًا حسن الوضع والترتيب حاويًا من أطايب الروايات على أشهاها، ومن أشهر الرحلات على أكثرها فائدةً ومن آداب الحكايات والقصص على أدناها مأخذًا وألطفها مشربًا وأرقِّها أسلوبًا. وكان بوجه الإجمال لا يتعرَّض لمذهبٍ ديني ولا يلمح لأمرٍ سياسي ولا ينشر إلا ما يُوافق طرحه بين أيدي القوم كبارًا وصغارًا نساءً ورجالًا. وكان إقبال الناس كبيرًا على مطالعة رواياته اللذيذة المنزَّهة من الشوائب الأدبية التي لا يخلو منها أكثر الروايات المطبوعة في زماننا.
الكنيسة الكاثوليكية
هي رسالةٌ شهريةٌ تعليميةٌ تاريخية أنشأها خليل البدوي بتاريخ كانون الثاني ١٨٨٨ في أثناء قيامه بتحرير جريدة البشير، وهي ذات ثماني صفحاتٍ صغيرة، كانت إدارتها متعلقة بالآباء اليسوعيين الذين نشروها لحسابهم في مطبعتهم الكاثوليكية، وقد جعلها منشئها لخدمة طائفة الروم الكاثوليك وطبعها بإذن بطريركهم غريغوريوس الأول، فأقبل القوم على مطالعتها والاشتراك فيها لما كانت تذيعه على صفحاتها من المواضيع المفيدة. وفي عامها الثاني اتسعت دائرة مباحثها وصارت تصدر في ٣٢ صفحة مرتَين في الشهر، فاستحسن جميع بطاركة الطوائف الشرقية الكاثوليكية خطتها القويمة وامتدحوا منشئها برسائلَ خاصة، وعند ذلك أخذ خليل البدوي ينشرها بمصادقتهم منذ العدد الرابع عشر المؤرَّخ في ٣٠ تموز ١٨٨٩.
ولبثت «الكنيسة الكاثوليكية» على هذه الحال حتى احتجبت في أواخر عامها الثالث عندما ترك صاحبها جريدة البشير، وفي شهر كانون الثاني ١٩٠٢ صدر منها عددٌ فرد بإدارة الأيكونوموس ثئوفانس البدوي شقيق صاحب امتيازها المشار إليه، وكان ذلك بأمر البطريرك بطرس الرابع (الجريجيري) الذي قصد إعادة نشرها لخدمة بني مِلَّته، ولكن المرض الذي أصاب البطريرك حينئذٍ ثم ساقه إلى القبر حال دون متابعة نشر المجلة التي دخلت في خبر كان، وبعد ذلك تعيَّن الأيكونوموس ثئوفانس نائبًا أسقفيًّا على أبرشية حمص وحماة ولم يزل في هذه الوظيفة إلى يومنا. ومن أهم المباحث التي نشرت في هذه المجلة نذكر: «التوفيق بين العلم وسفر التكوين» للأب دي كوبيه اليسوعي ومعربة بقلم خليل البدوي، ثم مقالة «الموسيقى الكنسية» للخوري كيرلس رزق، ومنها كتاب «كشف المكتوم في تاريخ آخرَي سلاطين الروم» ونبذة في «تاريخ مصر وزراعتها» وغير ذلك من المقالات المفيدة بقلم منشئ المجلة.