الباب الثاني

تراجم مشاهير الصحافيين في بيروت في الحقبة الثانية

سليم البستاني

منشئ مجلة «الجنان» و«الجنة» و«الجنينة».
رسمه في سنة ١٨٦٦ بالملابس الوطنية القديمة.
أفنيتَ عمرك في عُلًى ومآثر
وإفادة للعلم أو تصنيف
وسبحت في بحر العلوم مكابدًا
أمواجه والناس دون سيوف

***

هو بكر أنجال المعلم بطرس بن بولس بن عبد الله بن كرم بن شديد ابن أبي شديد بن محفوظ ابن أبي محفوظ البستاني، ولد في ٢٨ كانون الأول ١٨٤٨ في قرية عبيه عندما كان والده أستاذًا هناك في المدرسة الأميركانية، فقرأ العلوم العربية على الشيخ ناصيف اليازجي في بيروت وأتقن معرفة اللغات التركية والإنكليزية والفرنسية على أشهر الأساتذة، وفي سنة ١٨٦٢ صار ترجمانًا لقنصلية الولايات المتحدة الأميركية بدلًا من أبيه، وكان الساعد الأيمن له في جميع الأعمال الأدبية التي قام بها لا سيما في تدبير شئون «المدرسة الوطنية» التي كان نائب رئاستها، وتولى فيها تدريس الصفوف العالية الإنكليزية، واشتغل في تأليف كتاب «دائرة المعارف» وتحبير المقالات المهمة في مجلة الجنان. ثم أخذ على عاتقه تحرير جريدتَي الجنة والجنينة، واشتغل بنشاط في «الجمعية العلمية السورية» التي كان نائب رئاستها ومن أهم أركانها. وفي عام ١٨٧١ اعتزل أشغال القنصلية وأقبل يُضافر والده في مهماته العلمية والصحافية. كل هذا ولم يكن عذار خدِّه قد بقل بعدُ، وترجم كتاب «تاريخ فرنسا الحديث» في مجلدٍ ضخم بمعاونة الشيخ خطار الدحداح اللبناني، وألَّف عدة رواياتٍ تمثيلية أو قصصية كرواية «الإسكندر» ورواية «قيس وليلى» ورواية «يوسف واصطاك» ثم «الهيام في جنان الشام» و«زنونيا» و«بدور» و«أسمى» و«سلمى» و«سامية»، وقد جمع فيها من ضروب الأدب والسياسة والاقتصاد والإدارة والتاريخ والنصائح وإصلاح العادات وصقل الطباع الخشنة إلى غير ذلك من المقاصد النبيلة.

فتمكنت مكانته في الوطن وقرَّبه الحكام إليهم، وكان قلمه أعظم ترجمان للتمدن الغربي في ديار الشرق، وسار مرتَين إلى مصر وعاد منهما والحقائب تُحدِّث عن مكارم الحضرة الخديوية في تعضيد مشاريعه وترويج مصنفاته، وفي عام ١٨٨٠ نشأت فيه رغبة التجارة فاتَّجر ولكنه لم يفلح، فأعاد أموره إلى نصابها الأدبي كأنما قُدر له أن يحيا ويموت في سبيل خدمة العلم. وبعد وفاة والده استقلَّ وحده بكل المشاريع المذكورة، وطبع الجزء الثامن من كتاب دائرة المعارف وهيأ أكثر مواد أجزائه الباقية، غير أن الأجل لم يفسح له الوقت الكافي لإتمام هذا المشروع الخطير، فاعتنى إخوته أمين ونجيب ونسيب مع سليمان البستاني بإبراز الأجزاء التاسع والعاشر والحادي عشر إلى لفظة «عثمانية» فقط ثم توقفوا عن العمل، ولا نتمالك هنا من إبداء الأسف الشديد لعدم إنجاز هذا الأثر العظيم، بل الكنز الثمين الذي يتوق إلى إحرازه كل ناطق بالضاد؛ لأنه وحده يغني عن اقتناء خزانة كتب برمَّتها.

وكان سليم البستاني موصوفًا بدماثة الأخلاق وحدَّة الذكاء جامعًا بين علوِّ الهمة وشهامة النفس وسلامة السريرة، وكان حريصًا على ولاء الأصدقاء لا ينقض وعدًا ولا يحلُّ عهدًا. وبتاريخ ١٣ أيلول ١٨٨٤ انتقل فجأة من هذه الحياة في قرية «بوارج» حيث كان يُروِّح النفس من عناء الأشغال تحت سماء لبنان مع نسيبه سليم بك أيوب تابت، فقصفته يد المنية غصنًا رطيبًا في ربيع العمر ثم شيعت جثته إلى بيروت بين تردد الحسرات وذرف العبرات، ودفنت بجانب تربة والده المأسوف عليه في مقبرة الطائفة البروتستانتية بعدما رثاه الشعراء والخطباء، فأبَّنه بالكنيسة راعي الطائفة الإنجيلية وفي المقبرة الدكتور فارس نمر وإلياس طراد وسامي قصيري، وخلف ولدًا وحيدًا يُدعى حبيبًا قد درس فن الزراعة في أوروبا وسكن في القطر المصري مع والدته السيدة حنة بنت أيوب تابت، وقد رثاه بعض الشعراء بقصائدَ نفيسة فاخترنا هذه الأبيات لناظمها الشيخ خليل اليازجي:

وهو الموت إلا أن خَطبك أعظمُ
ورزؤك في الأرزاء أشجى وأجسمُ
ومن فلتات الدهر أمرك أنه
لأشفق في أمثال هذا وأرحم
لك الله ميتًا كالقتيل ولم يسِلْ
له من دم لكن مدامعنا الدم
وإن نحن طالبنا المنايا بثأره
رمتنا وقالت من يطالبُ عنكمُ
وإن نحن عاتبنا الزمان بفعله
قرعنا سماعًا ما له من يترجم
فعدنا وقد خبنا من الدهر مأملًا
ننوح على ما كان منه ونلطمُ
كذا الدهر إلا أن من زاد همه
وقصَّر عن تفريجه يتظلم
فقدنا بني الأوطان عضوًا مكرمًا
كجسمٍ مضت منه يدٌ فهو أجذمُ
ألا أننا في فقده اليوم أسرة
وأوطاننا في نوحه اليوم مأتم
على مثله يُبكى وهيهات مثله
فتًى طاب منه القلب واليد والفم

وكان ضليعًا باللغات العربية والتركية والإنكليزية والفرنسية فكان يكتب فيها ويترجم منها وإليها بسهولة وبلاغة، وباشر تأليف معجمٍ تركي على نسق كتاب «دائرة المعارف»، وقصد أن يسافر للآستانة ليقدمه للحضرة السلطانية، إلا أن الوفاة عاجلته قبل إبراز هذا العمل لدائرة الوجود، وكان شاعرًا مطبوعًا نظم كثيرًا من القصائد المتفرِّقة التي نؤمل أن يقوم من يجمعها في ديوانٍ خاص قبل أن تلعب بها أيدي الضياع. ومن جيد نظمه ما يأتي:

تقلبت الدنيا فما جدُّها جدُّ
ولا وصلها وصل ولا صدُّها صدُّ
فراق وراء الوصل فيها وما لها
وفاء ولا عهد يدوم ولا وعد
نُشيِّد للآمال قصرًا محصَّنًا
فتهدمه جبرًا ولا ينفع الجهد
تطاردنا الأيام مثل عداتها
فيمسي أمير القوم وهو لها عبد

إلى أن قال:

ومن يرتقي في حالة الفقر والعنا
سريعًا إلى العليا يضر به المجدُ
ومن يدخل الغش الخبيث فؤاده
فما نومه نوم ولا سُهده سهدُ

ومن لطيف أشعاره في رواية «قيس وليلى» هذه الأبيات:

الموت صعب والصبابة أصعب
والكل من هجر الحبيبة أعزب
والقلب يطلب قرب من أحببتها
والموت من قرب الحبيبة أقرب
دون الديار مناهل وذوابل
وصواهل وكتائب تتكتب
يا قلب صبرًا في المصائب فالفتى
من كان أقتاب المصائب يركب

الدكتور لويس صابونجي

***

هو يوحنا لويس بن يعقوب بن إبراهيم بن إلياس بن ميخائيل بن يوسف صابونجي الأرفلي، وُلد في ٧ تشرين الثاني ١٨٣٨ بمدينة «ديرك» التابعة لولاية ديار بكر، وكانت ولادته هناك من باب الصدفة أيام خرج إليها والده فرارًا من وباء الهواء الأصفر الذي فشا وقتئذٍ بديار بكر، وقد أشار إلى ذلك في أبيات من قصيدة له:

خُلقتُ بأرض قد تجلَّت ببهجةِ
سقاها إلهي من فرات ودجلةِ
بلاد ثواها آدم بعد جنةٍ
إليها انتمى الأبطال في كل حقبة
وُلدتُ بها فورًا على غير موعدٍ
غداةً أتاها والداي لنزهة
بشهر فشا فيها الوباء مؤلفًا
وشاع انتشارًا في بلاد الجزيرة

وسكن والده بمدينة ماردين بعدما هاجرت أجداده من أورفا ثم انتقل منها إلى ديار بكر، فلما بلغ لويس السنة الثانية عشرة خرج إلى سوريا يريد الدرس على أساتذة مدرسة الشرفة بجبل كسروان، وبوصوله إلى مدينة بيروت حلَّ ضيفًا على منزل المرحوم أنطون طرازي جَدِّ كاتب هذه السطور. وفي ٣ كانون الثاني ١٨٥٠ انتظم في سلك تلامذة المدرسة المذكورة حيث تلقَّى أصول اللغات العربية والسريانية والإيطالية. وفي سلخ كانون الأول ١٨٥٤ أرسله أغناطيوس أنطون سمحيري بطريرك السريان الأنطاكي إلى مدرسة مجمع انتشار الإيمان في رومة، فتلقَّى فيها العلوم العقلية والنقلية على اختلافها حتى نبغ فيها كلها ونال رتبة ملفان (دكتور) في الفلسفة.

وفي شهر حزيران ١٨٦٣ عاد إلى الشرق مُيمِّمًا مدينة ماردين، فأراد البطريرك المشار إليه أن يمنحه رتبة الكهنوت، فتردَّد المترجم متمنعًا عن قبولها؛ لأنه لم يرَ من نفسه ميلًا إلى الدخول في هذا السلك الروحاني، ولكنه رضخ أخيرًا لإرادة البطريرك بتشويق بعض الكهنة، واقتبل في ٢٩ تشرين الثاني ١٨٦٣ الرتبة المذكورة، ثم ذهب إلى ديار بكر لمشاهدة أهله ومنها جاء بيروت حيث تعين رئيسًا للطائفة السريانية؛ فأنشأ فيها مطبعة لنشر الكتب في اللغات العربية والسريانية والتركية، وأسس مدرسةً صار لها شأنٌ عظيم حتى قصدها طلبة العلم من كل أرجاء المدينة، فصارت تباري غيرها من المدارس العالية وكان من جملة تلامذتها أنجال متصرف بيروت كامل باشا الذي صار بعد ذلك صدرًا أعظم. وهو الذي أدخل فن التصوير الشمسي في بيروت وكاد يكون مجهولًا فيها قبل ذلك الحين، فعلمه لأخيه جرجس الذي برز في هذه المهنة حتى استحق أن ينال لقب «مصور العائلة الإمبراطورية البرلينية».

ولما قدم فرنقو باشا إلى جبل لبنان عيَّن القس لويس أستاذًا لأولاده ومرشدًا لآل بيته في أمور الدين، ثم عكف المترجَم على درس فن الموسيقى فأحكمه في وقتٍ قصير، واختاره حينئذٍ الدكتور بلس رئيس المدرسة الكلية الأميركية أستاذًا لتلامذتها في اللغة اللاتينية، وكلَّفه أيضًا الخوري فيلبس نمير رئيس المدرسة البطريركية بتعليم اللغتين التركية والإيطالية لطلبتها.

وفي ١١ آيار ١٨٧٠ أصدر مجلة «النحلة» ابتغاء الإصلاح وتعميم المعارف، ولكن طرأت على مُنشئها حوادث ساقته إلى تجاوز الحدود التي كان قد فرضها على نفسه وتحرش بمسائلَ سياسية ومناظراتٍ دينية ساقت راشد باشا والي سوريا إلى إلغاء النحلة، فتجلَّد صاحبها وأصدر مجلةً أخرى سماها «النجاح» فنابها ما ناب النحلة من سوء العقاب، ثم أعاد نشرها وجعل يوسف الشلفون كاتبها المسئول حتى تنازل عنها له ابتغاء الراحة، فلما استراح من تضييق الحكام سوَّلت له نفسه أن يطوف حول الكرة الأرضية، فركب البحر الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شهر آب ١٨٧١ واستكمل دورة الأرض في سنتين وسبعة شهور، فكان أول طوَّاف من آل سام أُتيح له أن يقوم بمثل هذه السياحة الكبرى كما أشار إلى ذلك في أبيات له من قصيدة في الفخر:

وقد طفت حول الأرض شرقًا ومغربًا
وصَيْتي سَرَى قبلي يذيع برحلتي
وما طاف قبلي من بني سامَ طائف
ولا جال منهم بالبسيطة جولتي
ولما عاد إلى بيروت واستراح من عناء ذلك السفر الطويل اقترح عليه بعض الأصدقاء إعادة نشر صحيفة «النحلة» فلبَّى طلبهم وأصدرها باسم «النحلة الفتية»، واتفق في غضون ذلك ظهور مسألةٍ تاريخية تتعلق بأصل إيمان الطائفة المارونية، فاستنصر القس لويس للقائلين بعكس ما ترتئيه الملة المذكورة ونشر في صحيفته مقالاتٍ خارجة عن هذا الموضوع، فثارت عليه من جراء ذلك فتنة من الرعاع كاد يذهب فيها قتيلًا، فهاجر إلى ليفربول حيث نشر رسالةً سماها «موسى الحلاقة» وشحنها بالرد على أخصامه المذكورين، ورحل مرة ثانية إلى أميركا ولبث في نيويورك وفيلادلفيا بضعة شهور، ثم عاد إلى بلاد الإنكليز قاصدًا مدينة منشستر، فاخترع فيها آلةً صغيرة لنقل التصاوير وأحرز امتياز التوحد بالعمل بها من دولة بريطانيا العظمى، ولما نقل سكناه إلى لندن باع حقوقه في الآلة المذكورة إلى شركة تُعرف باسم Stereoscopic Company، واخترع آلة أخرى لفن التصوير سماها Authomatic Apparatus فأحرز امتياز التوحد بالعمل بها من الحكومة الفرنسية.

ثم استعاد بلندن نشر صحيفة «النحلة» عام ١٨٧٧ وأصدرها بتاريخ ٢ نيسان باللغتين العربية والإنكليزية، وجلاها بمناظر البلاد وتصاوير رجال العصر المعدودين في السياسة والعلم، وأنشأ فيها أيضًا جريدة «الاتحاد العربي» وجريدة «الخلافة» وساعد رزق الله حسون في تحرير صحيفة «مرآة الأحوال» الشهيرة، فنشر فيها كلها آراءه التي كانت ترمي إلى تعميم الإصلاح ومحاربة الاستبداد في الدولة العثمانية.

وكان صاحب النحلة وكيلًا خصوصيًّا للسيد برغش سلطان زنجبار مدة ثماني سنين حتى قُبض هذا إلى رحمة ربه، وكان السلطان يكاتبه كل شهر ويلحُّ عليه بمراسلته مع كل بريد، فاتفق للصابونجي أنه سهى مرةً عن موعد سفر البريد من لندن إلى زنجبار وما رفع كتابًا إلى السيد برغش، فبعث يعاتبه عتابًا لطيفًا ويطلب منه ألا يغفل عن رفع تفاصيل الأحوال إليه مع كل بريد، وكان يتقاضى لقاء ذلك مبلغًا سنويًّا من المال عدا الهدايا التي كان يُنعِم السلطان بها عليه. وتشرف في ٢٧ آيار ١٨٧٩ بالمثول بين يدي فكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، ونال مثل هذا الشرف مرتين لدى الحبر الأعظم في رومة ولدى ناصر الدين شاه إيران. وسنة ١٨٨١ زايل لندن ليطوف في بلاد نجد وخيل ابتغاء الوقوف على أحوال سكان تلك الأقطار، ثم عرج على وادي النيل فخدم مصالح الدولة البريطانية نحو السنتين في أثناء الفتنة العرابية، وسعى مع مستر بلونت وليدي آنه حفيدة اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي المشهور في إنقاذ عرابي باشا من الحكم الذي أصدره غلادستون رئيس الوزارة الإنكليزية في إعدامه مباشرةً بلا محاكمة.

ولما عاد إلى إنكلترا تعلق على إلقاء الخطب في مسائلَ علمية وتاريخية وما يتعلق بسياحته، ولبث يخطب تسعة أسابيعَ متواصلة في «قصر البلور» بلندن، واتفق له في بعض الأيام أن يخطب تسع مرات في النهار وكان يحضر الخطب نحو ألف وخمسمائة نفس، ثم خطب في محفل «الأثينيوم» بمدينة منشستر وفي مدرسة الصم والبكم، وكان أستاذهم يترجم لهم مآل الخطبة بالإشارات الموضوعة لتعليمهم فصار ذلك مصداقًا لما قاله الدكتور صابونجي في بيت من قصيدة له في الفخر:

وإن قمت بين الصم والبكم خاطبًا
أُنفذ سمع الصم تقريع وعظتي
ثم خطب بمدينة باريس في قاعة الخطب الكائنة في الشارع المسمى Boulevard des Capucines وفي «أنستيتو رودي» الكائن في الشارع الملكي وكذلك في بعض القاعات المعدة للخطب في المعرض العام سنة ١٨٨٩، وفي أثناء ذلك اختاره ولي عهد إنكلترا (صار فيما بعدُ ملكًا باسم إدوار السابع) أستاذًا للغات الشرقية في دار الفنون التي أنشأها هذا الأمير بلندن وسماها The Imperial Institute، وتناول الطعام مرتين على مائدة سموه بدعوةٍ مخصوصة، وقد انضمَّ حينئذٍ إلى سلك الجمعيتَين المعروفة إحداهما باسم Society The Royal Asiatlc في لندن والأخرى باسم Accademia Lettararia degli Arcadi في رومة العظمى، وقد أتحفه الملوك المشار إليهم وإمبراطور اليابان وملك حيدر آباد وحمد بن ثويني سلطان زنجبار أيضًا بالرسائل العديدة التي يعربون فيها عن اعتبارهم لصاحب الترجمة. وما عدا ذلك فإن لديه شهاداتٍ كثيرة من أعيان الإنكليز وعلمائهم في تقريظ مجلة النحلة.
figure
رسم منزل الدكتور لويس صابونجي في جزيرة الأمراء بضواحي القسطنطينية.

وفي سنة ١٨٩٠ خرج إلى الآستانة فأمر السلطان عبد الحميد بتعيينه في المعية الشاهانية، وأنعم عليه بدارٍ فسيحة في أحسن بقعة من ضواحي الآستانة بكل ما فيها من الرياش، وجعل له خمسين ليرةً عثمانية راتبًا شهريًّا وأصدر إليه إرادته السنية بالمثول بين يدَيه مرتَين في الأسبوع، واختاره أستاذًا لأنجاله في فن التاريخ العام ومترجمًا لجلالته من اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية إلى التركية، ثم أقامه عضوًا في المجلس الكبير لنظارة المعارف، وكانت خدمته للسلطان بإذنٍ صريح من بطريرك السريان جرجس الخامس ومن السيد بونتي القاصد الرسولي بالآستانة، ولبث الدكتور صابونجي على هذه الحال حتى أُعلن الدستور في السلطنة العثمانية فاعتزل المأموريات ملازمًا بيته ومنقطعًا إلى التأليف والمطالعة. وهذا البيت المعروف باسم «قفير النحل» قائم في جزيرة الأمراء على شكلٍ هندسيٍّ جميل، وقد نُقش في صدر البيت صورة «عين» مع هذه العبارة «عين الله تعالى على مُحبِّيه الصادقين» وحفر فوق المدخل والأعمدة سبعة أبيات قال في آخرها:

اجعل بلطفك يا إله سعادتي
يومي بها بالعز يتلو ليلتي

أما ما كان من صفات الأستاذ صابونجي فإنه ولع بالدرس واكتساب المعارف منذ نعومة أظفاره، وقد اعتاد الكتابة والمطالعة ليلًا إلى ما بعد نصف الليل بساعة أو ساعتين، وإذا خرج إلى التنزُّه شغل باله في النظم أو في إنشاء المقالات السياسية والعلمية وأثبتها في دفتر يحمله دائمًا في جيبه وهو يطوف الشوارع ويتجوَّل في الحدائق من دون أن يبالي بضجيج المركبات وازدحام الناس، وقد أشار إلى ذلك في أبيات له:

أسير إلى التنزيه طورًا ودفتري
رفيقي أنيسي في مسيري وجلستي
وكم من برود في السياسة حكتها
وكم قلتُ شعرًا في شوارع بلدةِ
وفي البر ثم البحر قلت قصائدًا
وما خمدت طول الليالي قريحتي
نظمتُ قريضًا أو كتبتُ مقالةً
وقد جن ليل دون نورٍ وشمعة

وكان إذا أرق ليلًا وطرقه فكر في هدوِّ الغياهب وليس لديه يراع ومداد وقرطاس وثب من فراشه وحرق قضيب كبريت وفحم رأسه وأثبت به أفكاره في جدار الحجرة كما قال:

وليلٍ أتاني فكر شعر بديهة
ولا حبر عندي في دواة بليقة
حرقت قضيبًا قد تكبرت رأسه
كتبت بفحم في جدار قصيدتي
حذوت بفعلي حذو آدم عندما
أتاه من الرحمن إلهام كثبة

وقد تحرى الطلاوة في شعره وتحاشى فيه الكلام المهجور والألفاظ اللغوية البعيدة عن إدراك الجميع، وقد سلك فيه أسلوبًا جديدًا لا يعهد في أساليب شعراء العرب، ونهج منهجًا حديثًا يندر فيه ذكر البيداء والنوق والرحال والرمال والخيام وما جرى مجراها مما يدور عليه محور كثير من أشعار أهل الوبر، واعتاض عن ذلك بالسكك الحديدية والقطار والباخرة والكهرباء وما أشبه ذلك من اختراعات العصر عند الحضر، وقد أشار إلى ذلك في هذه الأبيات:

لأسفار أهل البيد رحل وهودج
ونوق عليه العرب تغزو وتسرح
ونحن قد اعتضنا عن الكل في السرى
بفلك كحوت البحر تجري وتسبح
وفي البر سرنا في قطار يجره
بخار يحاكيه العقاب المُجنَّح

ومما يستحق الذكر شدة ولعه بالصنائع وتركيب الآلات وله فيها اختراعاتٌ مفيدة كما سبق الكلام، وتعلق على درس عشر لغات فأحكم أصول سبع منها فقط وهي: العربية والسريانية والتركية والإيطالية واللاتينية والفرنسية والإنكليزية. وقد تحرى في شعره ونثره الكلام البسيط الخالي من التعقيد والمحسنات اللغوية التي لا فائدة منها للعموم ولا تهذب أخلاقهم ولا تساعدهم على اكتساب معيشتهم، فهو «كاتبٌ شعبي وليس بمنشئٍ لغوي» كما قال عن نفسه، فكأنه أراد بذلك أن يقتفي آثار السيد المسيح الذي كان يخاطب الشعب بأمثلةٍ بسيطةٍ مأخوذة من الشباك وصيد السمك وزراعة الحقول وغير ذلك، أو كما قال محمد نبي العرب للصحابة: «أُمرتُ أن أُخاطب الناس على قدر عقولهم.» أو كما قال يوحنا الذهبي الفم: «خيرٌ لي أن ألحن في كلامي ويفهم عموم الشعب مضمونه من أن أتفاصح في أقوالي ولا يفهمها إلا القليلون.» ومن أشرف مناقبه مراعاة الذمام وقد قام الدليل على ذلك في أبيات له:

ورثت مراعاة الذمام سلالةً
رعيت وداد الخِلِّ منذ فتوتي
تقرُّ لي الأعداء رغمًا بأنني
أراعي ذمام الخِلِّ حتى المنية
وأجزي بخير من دهاني بشرِّهِ
وأصفح عن قومٍ أرادوا أذِيَّتي

وإذا أحسن إليه محسن حسب إحسانه طوق منةٍ في عنقه لا يحل له خلعه ولو في الجفاء، والشاهد على ذلك أبيات أنشدها لأحد رجال الإنكليز كان أحسن إليه وهي:

أموت وشكري لا يموت مدى الدهر
ويحيا ذمامي في ترابي إلى النشر
أموت وفي قلبي من الشكر نسمة
لمن مدَّ كف الجود نحوي مدى العمر
وإن مت ما مات الوفاء بمهجتي
وديدان جسمي تنشد الشكر في قبري
فلا رحمة مثل الوفاء مفيدة
ولا يرحم الرحمن نفسًا بلا شكر

واشتهر الصابونجي بتمسكه بالعقائد الدينية وثباته على المبادئ الصحيحة رغمًا عن الاختلافات التي طرأت بينه وبين رؤساء الدين وحملته على إهمال وظيفة الكهنوت، فحاججه ذات يوم قوم من الدهريين في مسألة خلود النفس فأنشدهم بعدما أفحمهم بالأدلة الفلسفية:

إلى الله تنحو النفس بعد انفصالها
وتجزى بخير أو بشر فعالها
وإن قيل: بعد القبر ليس قيامة
فقلنا: على الزنديق كان وبالها
وإن قيل: ليس النفس تدري معادها
فقلنا: ستدري حين يأتي ارتحالها
إلى الله عود النفس بعد جهادها
متى حلَّ من قيد الحياة عقالها

وحاججه كذلك ذات يوم فيلسوف من طائفة يوسف إسبينوزا اليهودي الجاحد وجود الله سبحانه، فأنشده صاحب الترجمة هذه الأبيات بعد جدالٍ طويل أفحمه فيه:

يسبح من في البر والبحر والعلا
إلهًا تجلَّى بالخلائق للملا
كيان بلا بدء وحدٍّ وحيز
به البدء منذ البدء كان ممثلا
إله على عرش بلا حد مركز
يسوس وحيدًا لا شريك له ولا
رآه بعين العقل كل موحِّد
وغاب عن الزنديق بالكنه واعتلى

ونظم هذه الأبيات لتنقش على قبره:

قضى العمر في الأسفار طالب حكمة
يروم فنونًا لا تُحدُّ وتُحصرُ
ومن كانت الدنيا الفسيحة كلها
تضيق لديه في الحياة وتصغرُ
كفته بُعيد الموت أضيقُ حجرة
كما اكتفيا بالمثل كسرى وقيصرُ

ومن مآثره التي تستحق الذكر أنه رسم صورةً طولها أربعة أمتار وعلوها ثلاثة أمتار بألوان الزيت، وهي تمثل تسلسل جميع الأديان من عهد آدم إلى يومنا هذا، وفيها ٦٦٠ شخصًا من جملتها تصاوير جميع الذين أنشئوا دينًا أو مذهبًا مع طريقة عبادتهم ورموز عقائدهم وطقوسهم، وكلها منقول عن آثارٍ قديمة اكتشفها الحفارون في بلادٍ مختلفة، وهذه الصورة التي ليس لها نظير في كل الدنيا قد اشتغل الأستاذ صابونجي في أمرها منذ كان في أميركا سنة ١٨٧٢ حتى أكملها سنة ١٩٠٩ فجاءت فريدة في نوعها. وقد ألَّف رسالة باللسان الإنكليزي هي بمثابة دليل أو مفتاح للصورة المذكورة، وما فيها من الرسوم مع ذكر تاريخ تلك الأديان وزمان اكتشاف الآثار الدالة عليها والأماكن التي كانت مطمورة فيها إلى غير ذلك من الأمور المهمة.

ونال من علامات الشرف وسام «شيرخورشيد» من ناصر الدين شاه إيران، ثم «الوسام العثماني» من دولة تركيا، ووسام «الكوكب الدري» من سلطان زنجبار، وغيرها. ومن مزايا الأستاذ المشار إليه أنه شديد الحرص على وقته وصحته، فإنه رغمًا عن كبر سنه لا يضيع دقيقةً واحدة بلا عملٍ مفيد، وكذلك لا يستعمل التبغ ولا يذوق اللحم ولا الكحول ولا القهوة على الإطلاق، ويقنع من كل أنواع الطعام بشرب الحليب وأكل البيض وبعض الأثمار الناضجة. وقد كتبت ترجمته ونشرت مطولًا بقلم الأستاذ المستشرق «فروست» معلم الرياضيات سابقًا في دار الفنون بمدينة أكسفورد من بلاد بريطانيا العظمى. هذا ما تيسر جمعه بكل اختصار من أخبار الدكتور لويس صابونجي عميد الأحياء بين أرباب الصحافة العربية، ونختتم ترجمته بجدول يحتوي على ما اتصل بنا من أسماء مؤلفاته الكثيرة وهي:
  • (١)

    نقل إلى اللغة الإيطالية اثني عشر كتابًا من أشعار «ورجيل» الشاعر اللاتيني.

  • (٢)

    ترجم من اللسان اللاتيني إلى العربي قاموس الألفاظ المصطلح عليها في العلوم الفلسفية وسائر العلوم والفنون (غير مطبوع).

  • (٣)

    تاريخ فتنة حلب سنة ١٨٥٠ (غير مطبوع).

  • (٤)

    تاريخ فتنة لبنان وسوريا في سنة ١٨٦٠ (غير مطبوع).

  • (٥)

    تاريخ الثورة العرابية في الديار المصرية سنة ١٨٨٢ (لم يطبع).

  • (٦)

    فلسفة ما بعد الطبيعة.

  • (٧)

    تهذيب الأخلاق (طبع في بيروت).

  • (٨)

    الحق القانوني (غير مطبوع).

  • (٩)

    المرآة السنية في القواعد العثمانية (ألَّفه الوزيران الخطيران فؤاد باشا وجودت باشا، وقد نقله الدكتور صابونجي من اللغة التركية إلى العربية وأفرغه في قالب الأسئلة والأجوبة وطبعه في بيروت).

  • (١٠)

    تاريخ بطاركة السريان (يحتوي على تاريخ طائفة السريان الكاثوليك منذ سنة ١٨٥٢ إلى الزمان الحاضر، ومنه نسخة مخطوطة في دار التحف البريطانية بلندن وهو غير مطبوع).

  • (١١)

    مشاهير الرجال (يشتمل على سير العلماء من اليونان والروم والعبرانيين والسريان والكلدان في اللغة اللاتينية وهو غير مطبوع).

  • (١٢)
    «جمال الكائنات» أي وصف الجمال في الحيوان والنبات والجماد (هو فن يقال له Estetica في اللغة الإيطالية).
  • (١٣)

    الرحلة النحلية (تتضمن رحلة المؤلف حول الكرة الأرضية في اللغتين العربية والتركية، وقد ذكر فيها أهم الشئون العلمية والتاريخية المنوطة بالبلاد التي زارها مع سكانها ولغاتها وصناعتها وزراعتها وتجارتها وحيوانها وأديان أهاليها وعاداتهم وأخلاقهم، وقد طبع قسمًا منها في القسطنطينية وزيَّنه بالرسوم الناصعة).

  • (١٤)

    النحلة (مجلةٌ علمية نشرها في بيروت ولندن والقاهرة).

  • (١٥)

    النحلة الفتية (رسالةٌ انتقادية طبعها في بيروت).

  • (١٦)

    موسى الحلاقة (رسالةٌ انتقادية أيضًا طبعها في ليفربول من إنكلترا).

  • (١٧)

    قاموس إنكليزي وعربي (نشره بالاشتراك مع الدكتور جرجس باجر في ١٢٤٤ صفحة بالقطع الكامل وأتقن تشكيله بالحركات).

  • (١٨)

    النحلة الحرة (مجلةٌ جدلية نشرها في مصر سنة ١٨٧١).

  • (١٩)

    النحلة (جريدةٌ سياسية نشرها في لندن سنة ١٨٨٤).

  • (٢٠)

    النجاح (مجلةٌ سياسية نشرها في بيروت سنة ١٨٧١ بالاشتراك مع يوسف الشلفون).

  • (٢١)

    الاتحاد العربي (جريدةٌ سياسية نشرها في لندن سنة ١٨٨١).

  • (٢٢)

    الخلافة (جريدةٌ سياسية أصدرها في لندن سنة ١٨٨١).

  • (٢٣)

    مجلس المبعوثان (جريدة طبعها في الآستانة).

  • (٢٤)

    تنزيه الأبصار في رحلة سلطان زنجبار (يحتوي على سياحة السيد برغش سلطان زنجبار بقلم كاتبه الأول زاهر بن سعيد، وقد نقحه الدكتور صابونجي ورتب أبوابه وعلق فوائدَ كثيرة على متنه وجلَّاه بمناظر المدن التي دخلها السلطان، وزيَّنه أيضًا بصور الملوك والملكات والأمراء والأميرات وأصحاب الشهرة الذين أكرموا منزلة حاكم زنجبار مدة طوافه في بلادهم، فخلع عليه السيد برغش خلعةً ثمينةً مشفوعة بمبلغ خمسمائة جنيه إنكليزي).

  • (٢٥)

    الأصول المنطقية (بحث في الفلسفة العصرية والقديمة لم يطبع).

  • (٢٦)

    مرآة الأعيان في تسلسل الأديان (نشره على صفحات مجلة النحلة في لندن).

  • (٢٧)

    مجموع مقالاتٍ سياسية كتبها باللسان التركي ويبلغ عددها ٢٠٠ مقالة (لم تطبع).

  • (٢٨)

    مجموع قصائد لاتينية نظمها في صباه.

  • (٢٩)

    قصائد ونشائد في اللغة الإيطالية.

  • (٣٠)

    مجموعة قصائد ومقالاتٍ سياسية في اللغة الإنكليزية.

  • (٣١)

    مواعظ في اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية.

  • (٣٢)

    أفكاري (كتاب مخطوط جمع فيه كل ما جرى له من الحوادث مدة حياته في مجلداتٍ شتى، وفيه من سمو الأفكار والأعمال ما يندر اجتماعه إلا في أعاظم الرجال).

  • (٣٣)

    ديوان «شعر النحلة في خلال الرحلة» يحتوي على قسم من منظومات الدكتور صابونجي في ٥٨٦ صفحةً كبيرةً مزينة برسوم الملوك والأمراء والعلماء والشرفاء والأحبار، وقد طبعه في الإسكندرية ورفع منه نسخةً مرصعة بالجواهر الكريمة إلى السلطان العثماني.

  • (٣٤)
    The Turkish Misrule طبعه في أميركا.
  • (٣٥)
    أصل العرق الأيرلندي (وضعه في اللسان الإنكليزي وسماه The Origine of the Irish race ثم طبعه في إنكلترا).
  • (٣٦)

    مختصر تاريخ جميع الأديان (وضعه في اللغة الإنكليزية مبتدئًا من الديانة الطبيعية فالآثورية فالمثرائية فالبرهمية فالبوذية فالوثنية فالمصرية فاليهودية فالمسيحية فالمحمدية فالبروتستانية فالشيكر فالرولر فالجمبر وهلم جرًّا، وقد طبعه في لندن، ثم ترجمه إلى التركي والإيطلياني ولم يطبعه بعدُ).

  • (٣٧)

    مختصر تاريخ الأديان (في اللغتين التركية والإيطالية وهو غير مطبوع).

  • (٣٨)

    رسالة في اللغة الإنكليزية هي بمثابة دليل للصورة التي مرَّ ذكرها عن تسلسل جميع الأديان.

  • (٣٩)
    كتاب «السكان في النجوم والأقمار» يحوي نحو ألف وخمسمائة صفحةٍ مزينة بالرسوم الكثيرة، وقد قسمه مؤلفه إلى ثلاثة أقسام: الأول وفيه ذكر العلماء والشعراء والفلاسفة والفلكيين وأصحاب الأديان العظام الذين علموا من أعصارٍ قديمة إلى القرن العشرين وجود خلائق ناطقة على سطح النجوم والكواكب، وأورد في القسم الثاني أحوال الشمس وسياراتها وسكانها العلوية، وأتى في الثالث على وصف النجمة الأرضية. ولهذا التأليف شأنٌ كبير بين المؤلفات العصرية بتعدد مواضيعه وأهمية مباحثه، وهو أول كتاب من نوعه وضعه في اللغة العربية ويشهد لمنشئه بطول الباع في المعارف والفنون، وقد وصف أحدهم هذا الكتاب ومؤلفه بما نصه: «لأن الذي يتجرأ على جمع المواد من مصادرها المختلفة العديدة يجب عليه مثل الدكتور صابونجي أن يكون مؤرخًا وفيلسوفًا وفلكيًّا وشاعرًا ومتفنِّنًا، ولاهوتيًّا وقسيسًا وصحافيًّا وسياسيًّا ونديمًا للملوك وجوَّالًا وسائحًا، ومتضلعًا من اللغات اللاتينية والفرنسية والإيطالية والإنكليزية والعربية والتركية والسريانية، ليتيسر له أن يطالع ما كتبه العلماء في تلك اللغات من العلوم والمعارف، ثم يصرف نحو ٤٠ سنة في جمع المواد جمع النحل للعسل، ثم أن يلوك ويلوك ثم يلوك تلك المواد ثم يهضمها ثم يسوقها إلى دماغه دمًا صافيًا، ثم يبرزها من دماغه دررًا مخروطًة ثم ينظمها عقدًا، ثم يطرزها ببراعة على قرطاس بنصٍّ صريحٍ خالٍ من التعقيد يجمع فيه بين المسلِّي والمفيد كقول هوراس الشاعر اللاتيني:
    llle tulit prœmium qui miscuit utile dulci.
  • (٤٠)

    شاءول وداود (رواية تمثيلية ترجمها عن اللسان الفرنسي عام ١٨٦٩ وطبعها بخط يده على المطبعة الحجرية في ٦٥ صفحة).

  • (٤١)
    كتاب «حر عثمانلي» أو The Freen Ottoman وضعه باللغتَين التركية والإنكليزية في ١٢٤ صفحةً بعد إعلان الدستور في السلطنة العثمانية، فأورد فيه الحجج التي تثبت مطابقة القانون الأساسي على الشريعة المحمدية وكيفية تشكيل مجلس المبعوثان بالإنصاف والعدالة، ثم ذكر مطامع الأجانب بتركيا المريضة مشخِّصًا أمراضها ومبينًا العلاجات التي تكفل لها الشفاء لا سيما من داء فساد الأخلاق، وقد زيَّنه برسوم بعض المناظر كالكعبة ومدينة مكة وغيرهما.
  • (٤٢)

    مراثي أرميا الثاني الشجية على خراب أورشليم السريانية.

  • (٤٣)

    ديوان الفارض (طبعه في بيروت مشكلًا بالحركات).

الأب يوحنا بلو اليسوعي

مدير مجلة «المجمع الفاتيكاني» وجريدة «البشير» وأحد مؤسسيهما.

***

ولد صاحب الترجمة في غرة آذار من السنة ١٨٢٢ في «لوكس» بلدة من ولاية برغنديا من أعمال فرنسا، فعرف منذ حداثة سنِّه بالنشاط والجد، بيد أن تقاه ورغبته في خلاص النفوس حملاه على أن يهاجر العالم ويزهد بالدنيا بعد دروسه الأولى في مدرسة ديجون الأكليريكية؛ فطلب الانضواء تحت راية القديس أغناطيوس، وانتظم في سلك الرهبانية اليسوعية في ١٨ حزيران من سنة ١٨٤٢ وسعى من وقته أن يضع في نفسه أساسًا متينًا للفضائل التي مارسها طول حياته، وباشر ببناء ذلك البرج الروحي الذي تكلَّم عنه المسيح في إنجيله فبلغه بجده وهمته علوًّا شامخًا.

وكانت الدولة الفرنسوية في تلك الأثناء قد عهدت إلى الآباء اليسوعيين بتربية أولاد الذين نفتهم من فرنسا لسوابقهم، وكان هؤلاء الأحداث ألفوا البطالة وسوء السلوك فرضي اليسوعيون بتهذيبهم في «بن أكنون» قريبًا من الجزائر وتحملوا في ذلك مشقاتٍ عديدة، فطلب الأب يوحنا بلو أن يرسل إلى ذلك الدير بعد نهاية زمن امتحانه رغبةً في مشاركة إخوته في أتعاب هذا العمل، فقضى ثمة سنتين (١٨٤٤–١٨٤٦) استوقف فيهما أنظار روسائه وأسر بحبه قلوب تلامذته.

وكان في بعض آنات الفراغ يتجول في أحياء مدينة الجزائر فرأى عربها وأحبَّ أن يختلط بهم ويخدمهم، وذلك ما حدا به إلى درس العربية على بعض أساتذة تلك الديار رجاء أن يستفيد بمعارفه ويتوسل بها لصلاح الأهلين. ولما ذهب سنة ١٨٤٧ إلى قسنطينة Constantine توافرت لديه الوسائط لمواصلة هذا الدرس، فانعكف عليه وألِف لفظ تلك البلاد.
ثم انكبَّ مدة في دير فلس قريبًا من مدينة لوبوي في فرنسا ثلاث سنوات على درس الفلسفة والرياضيات، فبرع فيها حتى إنه أوعز إليه بتدريسها بعد ذلك بقليل، على أن هذه العلوم لم تشغله عن درس العربية، وكان إذا وجد ساعةً لترويح النفس أسرع إلى مراجعة أصولها والنظر في آدابها، ولما رأى أن بعض رصفائه من طلبة الفلسفة يرغبون مثله في تخصيص نفوسهم بخدمة الناطقين بالضاد من أهل الجزائر أو نصارى الشرق في بلاد الشام تولى تعليمهم اللغة العربية، ووضع لهم تأليفًا إفرنسيًّا دعاه أصول الغرامطيق العربي Eléments de la Grammaire arabe في ٢٤٠ صفحة ضمَّنه الصرف والنحو ومبادئ علم العروض، وطبعه على الحجر في دير فلس سنة ١٨٤٩ وصدَّره بهذه الآية الكتابية بيانًا لما ينويه من تمجيد الله فقط: «كل لسان يعترف لله.»

وفي سنة ١٨٥٠ أتيح للكاثوليك في فرنسا فتح المدارس للتعليم الثانوي فانتُدب الأساقفةُ اليسوعيون لتهذيب الأحداث في الآداب وترويضهم في العلوم، فلبَّى اليسوعيون دعوتهم وأنشئوا عدة مدارس تقاطر إليها الطلبة من كل فج، فأُرسل الأب يوحنا بلو إلى إفينيون ثم إلى بوردو فدرَّس البيان وتولَّى إدارة الدروس فزاد التلامذة بهمته عددًا ونجاحًا، ودفعته رغبته في تنشيط الأحداث وحسن سمعة المدرسة إلى أن يقدم أمام أكاديمية إكس فحصًا رشحه لشهادة البكالوريوس في فنون الآداب القديمة، وأنجز كل ذلك وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره وقبل ترقيته إلى درجة الكهنوت.

وكانت المهام التي قام بها والخدم التي أدَّاها لم تسمح له بدرس اللاهوت فلم يشأ الرؤساء أن يحرموه هذه النعمة مع ما عرفوا من سمو فضائله، فسيم كاهنًا سنة ١٨٥٢ يوم عيد الغطاس بوضع يد السيد فرينند بونه رئيس أساقفة بوردو والخطيب المصقع الشهير، وبقي في شئونه إلى سنة ١٨٥٤ حيث استطاع الرؤساء أن يُخفِّفوا العبء عن عاتقه ويعيِّنوا له خلفًا في نظارته، فأُرسل إلى رومية لدرس اللاهوت ووافق وصوله إليها في سنة إثبات عقيدة الحبل بمريم العذراء بلا دنس الخطيئة، فحضر تلك الحفلة التي قلما يجري مثلها رونقًا وأبهةً في أنحاء المعمور وهي أبقت في قلبه ذكرًا لم يمحه وطء السنين، وقد حظي أيضًا في خلال دروسه بمعاينة بيوس التاسع والتبرك بلثم أقدامه، ثم نال من ألطاف عمال الكرسي الرسولي عدة إنعاماتٍ روحية وذخائرَ ثمينة كان يحافظ عليها إلى آخر حياته بكل حرص وتقًى.

ثم تقلَّب الأب يوحنا بلو بعد نهاية دروسه اللاهوتية في أعمالٍ متعددة وفَّاها كلها حقَّها من الاهتمام والكمال نخصُّ منها بالذكر تهذيبه لطلبة الرهبانية في دير «كلرمون». وهذه المهنة تُعدُّ في كل الجمعيات الرهبانية من أهم المشروعات وأخطر المراتب؛ لما يترتب على صاحبها من المسئولية لحياة الجمعية وترقيها في سبيل الكمال، ولا بد لمن تُعهد إليه أن يكون هو مثالًا حيًّا لكل الفضائل؛ إذ إن عيون المبتدئين شاخصة إليه ينسجون على منواله ويقتدون بأعماله أكثر منهم بأقواله. والحق يقال إن الرؤساء أحسنوا في اختياره لهذا العمل الذي تولاه مدة خمس سنوات بغيرة لا تعرف السأم، وقد سمعنا غير واحد ممن كانوا تحت تدبيره أنه لم يفرض على مرءوسيه فرضًا إلا يتقدمهم في إتمامه، حتى إن مبتدئيه كانوا يتنافسون في مجاراته بهذا الميدان الروحي الذي لم يُشقَّ له فيه غبار.

وكان يرأس دير «كلرمون» في أيامه أحد مشاهير الآباء اليسوعيين وهو الأب يوسف بارال Barrelle الذي خلَّد في فرنسا ذكرًا طيبًا بأعماله المبرورة ومساعيه المشكورة، كما تشهد عليه سيرته المسطرة في جلدَين ضخمَين، فوجد في الأب يوحنا بلو أشد مؤازر لمشروعاته الخيرية فكانت رائحة البر تسطع بهمتهما من ذلك الدير أو بالحري من ذاك المقدس الذي كانت تقصده النفوس المشغوفة بالكمال وممارسة الفضائل المسيحية. ولما توفي الأب بارال برائحة القداسة في ١٧ تشرين الأول من سنة ١٨٦٣ خلفه في رئاسته رجلٌ آخر من أسرةٍ فرنسويةٍ شريفة يدعى الأب دي فورستا لم يكن دون الأب بارال فضلًا وفضيلةً، وهو منشئ المدارس الرسولية التي أدت للرسالات الأجنبية خدمًا لا تُحصى، فكان هذا يعتبر الأب يوحنا بلو كرجل الله ولا يأتي أمرًا دون مشورته.

ومن آثاره في تلك المدة تأليف بعض الكتب الروحية التي أقبل عليها القراء فنفدت بزمنٍ قليل، منها كتاب في «الصلاة كسلاح المسيحي» طبع سنة ١٨٦٤، وكتاب آخر في «مواهب الروح القدس السبع» نشره في كلرمون سنة ١٨٦٥، وكتاب ثالث في «الدعوة إلى السيرة الرهبانية» طبع في ليون سنة ١٨٦٩.

وكان صاحب الترجمة مع نشاطه الغريب في فلاحة كرم الرب لا يزال يطلب من الرؤساء أن يرسلوه إلى حيث يمكنه أن يتفانى في سبيل الخير وخلاص القريب في الأقطار النازحة عن وطنه ليكون الله غايته القصوى بعيدًا عن كل سلوةٍ بشرية. وكانت رغبته أن يرجع إلى بلاد الجزائر لكن الطاعة أوعزت إليه بأن يركب البحر إلى سورية؛ فطفح قلبه فرحًا لهذه البشرى وأبحر إلى بيروت في أول خريف سنة ١٨٦٦.

figure
رسم «المطبعة الكاثوليكية» التي كان الأب يوحنا بلو متولِّيا إدارتها وتصحيح مطبوعاتها مدة ٣٦ سنة.

ما كاد المرسَل الجديد يطأ أرض بلادنا حتى أفرغ كل همة في إتقان اللغة العربية ليساعد بمعرفتها إخوته في الأعمال الروحية، فقضى سنته الأولى في مدرستنا المنشأة في غزير بصفة أبٍ روحي. وكان مع درسه للعربية يعلم اللاهوت الأدبي ويرشد الطالبين للترهب، وغير ذلك مما يثقل عبؤه على غير واحد، ثم دعاه في العام المقبل رئيس الرسالة إلى بيروت فقدمها ولم يخرج منها إلى آخر حياته، فصرف ٣٦ سنة في أنفع الأعمال لخير البلاد ولمجد الكنيسة، وقد عرفناه طول هذه المدة فيمكننا أن نشهد له — ولا نخاف أن يرد أحد ممن عرفه شهادتنا — بأنه كان مرآة لكل الفضائل الرهبانية ومنشطًا لكل المساعي الأثيرة.

وكان مما عهد إليه في أول وصوله بيروت إدارة المطبعة فدخلت بهمته في طورٍ جديد، فإنه هو الذي باشر لأول جريدةٍ كاثوليكية في هذه الديار، وكان ذلك سنة انعقاد المجمع الفاتيكاني، فوسمت به الجريدة لمدافعتها عن تعاليمه وكان إذ ذاك قطعها قطع ربع، وفي السنة التالية ظهر بدلًا منها «البشير»، فنهج له الأب بلو خطته الدينية التي لم يحدْ قط عنها وجعلها منارًا تستضيء به كل أبناء الكنائس الشرقية، وقد منحه الله أن يرى هذه حبة الخردل تنمو فتمد أغصانها كالأدواح الباسقة حتى إنها حظيت كل حظوى لدى الكرسي الرسولي وممثلي الطوائف الكاثوليكية الأجلَّاء.

ولما رأى مكاتب الأحداث في حاجة إلى كتبٍ مدرسية لدرس العربية أخذ في تأليف مجموعٍ ذي خمسة أجزاء رتَّبه مع الأب أغوسطينوس روده ومساعدة اللغوي الشيخ إبراهيم اليازجي، نعني به كتاب «نخب الملح» الذي طبع بالشكل الكامل في السنة ١٨٧٠ وتم سنة ١٨٧٤ فأقبل عليه أرباب المدارس وتكررت طبعاته مرارًا عديدة.

ومما سعى به عملٌ جليل أفاد الكنائس الشرقية أعظم فائدة، نريد تعريب الكتاب المقدس، فإن الأب يوحنا بلو وإن لم يكن من معرِّبيه، لكنه أجدى العمل حسنًا بمراجعة كل الملازم الطبعية وإصلاحها ومقابلتها على النسخ الأصلية المعتمد عليها في كنيسة الله مع حرصه على جودة طبعها والإسراع في الشغل، ولما نجز هذا التأليف استفاد منه لتصنيف عدة كتبٍ روحية ومدرسية، فطبع الأناجيل الأربعة وأضاف إليها فهارس لقراءة الفصول اليومية على حسب ترتيب الطقوس الكاثوليكية، ثم جمع سيرة السيد المسيح كما هي في الروايات الإنجيلية ونظمها بحيث جعلها رواية واحدة مسرودة على سياق تاريخ أعمال الرب من ميلاده الأزلي إلى صعوده الجليل إلى السماء، وهو كتاب «القلادة الدرية» جارى فيه دياطسارون طاطيانوس وحذا حذو الأب بتريزي معلمه في الكلية الرومانية، وزين الكتاب بخارطة أورشليم كما كانت في عهد المسيح، وكذلك اقتطف لأحداث المدارس أجمل روايات الأسفار المقدَّسة في ثلاثة أجزاء وسمها باسم «الغصن النضير» وقد طبعت طبعاتٍ متوالية.

وكان في أثناء ذلك يسعى بمطبوعاتٍ أخرى دينية أعظمها شأنًا ككتاب «مروج الأخيار في تراجم الأبرار» كان الأب بطرس فروماج عرَّبه قديمًا، فعُني الأب يوحنا بلو بمراجعة عربيته مع الشيخ الفاضل سعيد الشرتوني، وزاد عليه تراجم أولياء الله الذين أدرجت الكنيسة أسماءهم حديثًا في مدارج القديسين، فطبعه أولًا سنة ١٨٧٨ ومنه اجتنى بعدئذٍ «قطف الأزهار في مروج الأخيار» جعلها كراريس منفردة ليطالعها أحداث المدارس وزيَّنها بالتصاوير وأتقن تجليدها، ومما عُني به أيضًا في ذلك الوقت تنقيح «شرح التعليم المسيحي» الذي عرَّبه الأب فروماج.

وللأب بلو كتبٌ أخرى دينية ألَّفها أو نقَّحها كرياضات القديس أغناطيوس مع شروح الأب جانسو وتساعيات لإكرام القديسين يوسف وأغناطيوس وكسفاريوس وكتاب «قلائد الياقوت في واجبات الكهنوت» ترجمة الأب فروماج، هذا فضلًا على تآليفَ أخرى عديدة كان هو الساعي في طبعها ومراجعة ملازمها «كالكمال المسيحي» للأب رودريكوس و«مدخل العبادة» للقديس فرنسيس دي سال و«العهد العتيق والجديد» للخوري رويومند وغير ذلك.

ومع وفرة هذه المطبوعات قد استحق الأب بلو شكرًا خاصًّا لدى المستشرقين الأوروبيين بما وضع لهم من التآليف لدرس اللغة العربية وتقريب معضلاتها، وقد عرفوا له فضله وأثنوا مرارًا على مصنفاته الجليلة، فمن ذلك معاجمه الثلاثة أعني «الفرائد الدرية في اللغتَين العربية والإفرنسية» وقاموسه المطول الفرنسوي والعربي في جزأين مع مختصره، وهذه الكتب لجلِّ فوائدها وحسن تنظيمها صارت من جملة الكتب المدرسية في أغلب الكليات الأوروبية، ولم يزل مؤلفها ينظر فيها وينقِّحها ويزيد عليها إلى آخر أيام حياته، ومنها أيضًا غرامطيقة الفرنسوي في مبادئ اللغة العربية طبعه طبعتَين وألحقه بتمارين وجداول، وكذلك اهتمَّ سنين عديدة بطبع «تقويم البشير» وضبط حساباته.

هذه بعض أعمال ذلك الراهب الهمام الذي صحَّ فيه قول أحد الكتبة عن رجل مثله «إنه كان مصلوبًا بقلمه.» تراه أبدًا في كتابة أو تأليف، قلنا إن هذه بعض من أعماله؛ لأن الأب بلو بصفة كونه مديرًا للمطبعة كان ينظر في كل المطبوعات ويصلح ملازمها مرةً ومرتَين، وهو شغلٌ مملٌّ لا يعرف ثقل وطأته إلا من باشره، وقد لزم هذا العمل مدة نيف وثلاثين سنة دون سأم ولا استثقال؛ ولذلك كان العملة كلهم يعتبرونه كأحد أولياء الله ولا يذكرونه إلا بالخير.

والحق يقال إن فضائل الأب بلو كانت أعظم من فضله لا نذكر منها إلا شيئًا قليلًا ليتحقق القراء أن كلامنا ليس تقريظًا فارغًا بل هو عين الحق. وأول ما يجدر بنا ذكره أنه لم يطلب من أشغاله كلها غير وجه الله، فإذا مدح كاتبٌ أحد تآليفه لم يكترث لمدحه وإن انتقد عليه منتقد شكره وأقرَّ بسهوه إذا وجد نقده صحيحًا، وكثيرًا ما كان يستشير إخوته الرهبان منقادًا لحكمهم بسذاجة الطفل شاكرًا لفضلهم، وكان على عكس ذلك إذا أدى لأحد خدمة لا يحفل بما صنع ويأبى ذكر عمله مهما كان عظيمًا. هذا ونضرب عن ذكر أعمالٍ أخرى كثيرة لو أوردناها لأخذ قراءنا العجب من برارة صاحبها، وقد بلغ شيخوخة، ومع ما كان يكابد قبل وفاته بأشهر من ثقل العمر وأسقامه كنا نراه مثابرًا على الشغل مجتهدًا في إصلاح ملازم المطبعة جهد إمكانه. وفي ١٤ آب ١٩٠٤ انطفأ سراج حياته برائحة القداسة بين أسف الجميع على خسارته.

لويس شيخو

الشيخ إبراهيم اليازجي

منشئ مجلة «البيان» ومجلة «الضياء» في القاهرة ومحرر مجلتَي «النجاح» و«الطبيب» في بيروت. رسمه في سنة ١٨٧٢ باللباس الوطني القديم والطربوش المغربي.
ومصور بالشمس وهو نظيرها
أهدته صورتها برسم مثاله
ولو أن شمسًا صُوِّرت بضيائها
ما صوروه بغير نور جماله

***

هو الشيخ إبراهيم ابن الشيخ ناصيف بن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد اليازجي، وُلد في ٢ آذار سنة ١٨٤٧ في بيروت وبها نشأ، ومنذ حداثته أخذ العلوم عن أبيه فأحكم أصول اللغة العربية وتعلق على آدابها، ونظم الشعر صبيًّا ثم انصرف عنه في كهولته، وله فيه القصائد النفيسة والمقطعات البليغة وهي مجموعة في ديوانٍ كبيرٍ مخطوط بيده لم يزل غير مطبوع، ولما علت منزلته في هذا الفن كثر تقاضي الناس له النظم في الأغراض المختلفة من مدح ورثاء وتهنئة وغير ذلك، وتواردت عليه رسائل الشعراء حتى وجد أن استمرار تلك الحال سيفضي به إلى الانقطاع للشعر وإهمال ما سواه، فترك النظم بتةً وعكف على الاشتغال باللغة وسائر فنون الأدب والعلوم العقلية، وقرأ مبادئ الفقه الحنفي على الشيخ محيي الدين اليافي من مشاهير أئمة بيروت. وفي سنة ١٨٧٢؛ أي بعد وفاة والده الشيخ بنحو سنة تولى كتابة مجلة «النجاح» فلبث على تحريرها أشهرًا، ثم انتدبه المرسلون اليسوعيون في بيروت للاشتغال في تعريب الأسفار المقدسة، فقضى في هذا العمل مع تصحيح كتبٍ أخرى لهم نحوًا من تسع سنوات تولى أمر التعريب فيها مع أحد أكابر علمائهم، ودرس اللسان العبري واللسان السرياني بنفسه تلقيًا عن الكتب الإفرنجية لتطبيق عبارة التعريب على الأصل، وهذه النسخة مشهورة بفصاحة العبارة وجزالة الأساليب. وفي سنة ١٨٨٤ تولى كتابة مجلة «الطبيب» بمعاونة الدكتور بشارة زلزل والدكتور خليل سعادة، وهي المجلة التي كان أنشأها الجراح الشهير الدكتور جورج بوست الأميركي، فأصدر منها مجلدًا واحدًا ثم توقف عن إصدارها لما رأى من قلة طلاب البضاعة العلمية لذلك العهد. وكان في سنة ١٨٨٢ قد شرع في تتميم شرح ديوان المتنبي وكان والده الشيخ ناصيف قد علق على بعض أبياته شرحًا موجزًا، فعكف على إتمامه باقتراح جماعة من أفاضل الأدباء حتى أتمَّه في مدة أربع سنوات، والشرح مشهورٌ متداول فلا حاجة إلى الإطناب في وصفه.

أما تآليفه في اللغة وعلم البيان والصرف والنحو والشعر فكلها متداولة بين الأيدي مشهورة، وقد أعاد النظر في أكثر كتب والده الشيخ ناصيف واختصر كتابَيه في علم النحو والصرف وهما «نار القرى في جوف الفرا» و«الجمانة في شرح الخزانة»، وجدد طبع «مجمع البحرَين» و«النبذة الأولى» و«نفحة الريحان» و«ثالث القمرين» وهي الثلاثة الأجزاء المشهورة من ديوان والده و«مفاكهة الندماء» و«الجوهر الفرد» إلخ.

وقد شرع سنة ١٩٠٤ بطبع كتاب «نجعة الرائد وشرعة الوارد في المترادف والمتوارد» نسق فيه ما جمعه من ألفاظ اللغة وتراكيبها ورتَّبه على المعاني دون الألفاظ، وهو كتاب يقع في ثلاثة أجزاءٍ كبيرة، فأصدر الجزء الأول منه ثم غلَّ المرض يده وأقعده عن السعي في إنجاز الجزأين الباقيَين.

وكان قد اقترح عليه بعضهم منذ عهدٍ بعيد أن يضع معجمًا في اللغة العربية يكون متفرِّدًا على ما تَقدَّمه، فلم يجد بدًّا من إجابة ملتمسهم وأخذ في وضعه من ذلك العهد، فجاء آية في بابه فريدًا في أسلوبه وطريقته؛ إذ جعله يشتمل على المأنوس من كلام العرب الأولين وعما طرأ من موضوعات المولَّدين والمُحدَثين مقتصرًا على الفصيح دون المولَّد والمُحدَث في الاصطلاح، وقد وضعه على نسقٍ غير متابِع فيه أحدًا ولا مقلد أحدًا وسمَّاه «الفرائد الحسان من قلائد اللسان» فلم تفسح الأيام في أجله لإتمامه وحرمت المتأدبين من الانتفاع بهذا الأثر الجليل، فعسى أن يندب له من يجمع شتاته ويمثله للطبع ضنًّا بفوائده الكثيرة الجديرة بالإحياء واستدرارًا للرحمة على واضعه، جزاه الله على ما عانى فيه خير الجزاء.

وخلا ما ذكر من تبحُّره في العربية وفنونها فإنه من العارفين بالفرنسوية والإنكليزية، وله عدا ذلك مشاركات في العلوم الرياضية والطبيعية ولا سيما علم الهيئة، وله فيه مباحثُ دقيقة اشتهر فيها بين أرباب هذا العلم في أوروبا وأميركا، وقد انتدبته كلٌّ من الجمعية الفلكية في باريز والجمعية الفلكية الجوية في السلفادور أن ينتظم في عضويتها.

أما الكتب التي تولى تصحيحها وتهذيب عبارتها فكثيرة: منها الكتاب المشهور في «تاريخ بابل وآشور» تأليف جميل مدور، فإنه بيَّضه بقلمه وأفرغه في قالب لفظه وأسلوبه فجاء من أبلغ ما كُتب في هذا العصر وأفصحه عبارة، ومنها الكتاب الذي جمعه المرحوم شاكر البتلوني أشار له فيه إلى ما ينبغي جمعه من أقوال علماء الإنشاء والترسُّل وتولى ضبطه وأضاف إليه شيئًا من وضعه ورسائله، ومنها كتاب «نفحات الأزهار في منتخبات الأشعار» من جمع المشار إليه أيضًا، ومنها كتاب «عقود الدرر في شرح شواهد المختصر» للمعلم شاهين عطية وضعه في شرح الشواهد الشعرية الواردة في مختصر كتاب «نار القرى» في علم النحو، وله علية تذييلٌ لطيف في تحقيق رواية بعض الأبيات ومعاني بعضها، وساعد الأبوين اليسوعيَّين يوحنا بلو وأوغسطينوس روده في جمع كتاب «نخب الملح» وترتيبه في خمسة أجزاء، وتكررت طبعات هذا الكتاب مرارًا عديدة، وطبع خطابًا عنوانه «أدب الدارس في المدارس» ألقاه في الاحتفال السنوي للمدرسة البطريركية، ومنها غير ذلك مما لا نطيل باستقصائه، وله مقالاتٌ كثيرة في انتقاداتٍ لغوية نشرها على صفحات «الطبيب» و«البيان» و«الضياء» وهي:

(١) «اللغة والعصر»، (٢) «لغة الجرائد» فقد انتقد بها ما هو شائع في الصحف السيارة من الغلط اللغوي. (٣) مقالة في «التعريب» بيَّن بها شروط التعريب وتاريخ ذلك من صدر الإسلام. (٤) أغلاط العرب القدماء. (٥) اللغة العامية واللغة الفصحى. (٦) أصل اللغات السامية. (٧) «نقد لسان العرب» وهو بحثٌ طويل انتقد به الطبعة المتداولة من معجم لسان العرب. (٨) «أغلاط المولَّدين» بيَّنَ فيها ما وقع للمولدين من الغلط اللغوي في صدر الإسلام إلى الآن، وفي جملة ذلك ما وقع للمرحوم والده، ثم ذكر ما وقع هو نفسه فيه من الخطأ في بعض المواضع. (٩) مقالة في «المجاز». (١٠) مقالة في «النبر» وهما في اللفظ العربي. (١١) «تكوُّن العالم الشمسي» وغيرها. وقد قضى أكثر أيامه الماضية في بيروت ولبنان وهو عاكف على الاشتغال والتدريس لا يلوي على غير ذلك، وكان أكثر إلقائه في المدرسة البطريركية، وقد تخرج عليه كثيرون من رجال العصر في العلوم الأدبية لا سيما الصحافة والشعر، ونال على ذلك «الوسام العثماني» من لدن الحضرة العلية السلطانية، ونال «نوط العلوم والفنون» من جلالة أوسكار الثاني ملك أسوج، وقد أهدى إلى المجمع اللغوي الذي عقد تحت رعاية جلالته طائفة من كتبه وله في الملك أوسكار قصيدة غَرَّاء.

وفي سنة ١٨٩٤ سافر إلى البلاد الأوروبية وساح فيها مدة، ثم انقلب إلى القطر المصري فأصدر في القاهرة مجلة «البيان» سنة ١٨٩٧ بالاشتراك مع الدكتور بشارة زلزل، فصدر منها مجلدٌ واحد ثم حالت عوائق دون متابعة إصدارها، فأنشأ بعدها سنة ١٨٩٨ مجلة «الضياء» المشهورة تابع فيها العمل على وجهه من انتقاء المباحث العلمية والعملية وإثبات الحقائق العقلية والنقلية بحيث كان يجد فيها كل وارد مشرعًا وكل رائد منجعًا، وقد أصدر منها ثمانية مجلدات مشحونة بالفوائد اللغوية والأدبية وفصول الاكتشافات والاختراعات العصرية إلى غير ذلك من كل ما فيه فائدة للبيب أو فكاهة للأديب، وكان صدور العدد الأخير من المجلد الثامن في شهر تموز ١٩٠٦ عندما اشتدت عليه وطأة المرض العصبي (روماتزم) الذي أودى بحياته في ٢٨ كانون الأول لتلك السنة بالغًا الستين من عمره ولم يتزوج، وهو آخر غصن من الدوحة اليازجية إلا الشيخ حبيب ابن أخيه الشيخ خليل، فجرى لمشهده في اليوم الثاني احتفالٌ كبير ونقلت جثته بقطرٍ خاص من منزله في المطرية إلى القاهرة فمشى في جنازته عددٌ كبير من العلماء والوجهاء والأدباء وكبراء العاصمة، وعقدت الحفلات لتأبينه في القاهرة والإسكندرية وأكثر أنحاء سوريا، وعوَّلت عائلته وأصدقاؤه على نقل جثته إلى بيروت لتدفن في ضريح الأسرة اليازجية، وقد أرسل الخديو عباس الثاني بواسطة سر تشريفاتي سموه كتاب تعزية إلى الشيخ حبيب اليازجي وهذا نصه:

جناب الفاضل الشيخ حبيب اليازجي

لما علم الجناب الخديوي العالي بعظيم رزء اللغة العربية وآدابها لانتقال العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية أظهر مزيد أسفه على انقضاء تلك الحياة الطيبة الحافلة بجلائل الخدم للعلوم العربية في القطرين مصر والشام، وأمرني سموه الفخيم أن أبلغ جنابكم وسائر أعضاء الأسرة اليازجية تعزيته السامية، وإني أشترك مع قراء العربية في تقديم واجب التعزية إلى حضراتكم.

سر تشريفاتي الخديو
أحمد زكي

وقد أجاد المؤرخ المدقِّق جرجي بك زيدان منشئ مجلة «الهلال» المصرية في وصف أخلاق صاحب الترجمة ومواهبه وإنشائه وقرائحه وشعره وأعماله وآثاره فاقتطفنا منها ما يأتي:

أخلاقه وصفاته

كان ربع القامة، نحيف البنية، عصبي المزاج، حادَّ البصر، ذكي الفؤاد، سريع الخاطر، حاضر الذهن، لطيف المحاضرة، حلو المفاكهة، لا يُملُّ مجلسه، يطرب للنكتة الأدبية ويضحك لها، وكان مع ذلك شديد الحرص على كرامته، لا يحتمل مسَّها في جد أو هزل تلميحًا ولا تصريحًا، وكان سريع الانتباه لما يتخلَّل أحاديث المجالس من الإشارات الأدبية، وكان متعفِّفًا بطعامه وشرابه ولولا ذلك ما صبر على معاناة صناعة القلم بضعة وأربعين عامًا مع نحافة بنيته. وقضى أعوامه الأخيرة يقتصر في عشائه على كأس من اللبن خوف التثقيل على معدته، وإنما العمدة في الغذاء على أكلة الغداء، ولم يكن نهمًا، وأما في الصباح فيتناول طعامًا خفيفًا ويعكف على العمل، فإذا تغدى الظهر شرب قهوته ودخن شيشته ونام، ثم ينهض ويقضي بقية النهار في الراحة أو في عمل لا يتعبه، ويخرج لترويح النفس في بعض الأندية يلاعب بعض معارفه بالنرد على سبيل التسلية أو يقضي ذلك الوقت بالمباسطة والمفاكهة، فإذا آن العشاء عاد إلى منزله فيتناول اللبن ويستأنف العمل. وكان مولعًا بتدخين الشيشة في أثناء الكتابة كما كان والده مولعًا بالقهوة وتدخين التبغ في ذلك الحين.

وكان عفيف النفس كثير الإباء ظاهر الأنفة إلى حد الترفُّع ولا سيما فيما يتعلق بالارتزاق، يعدُّ مجاملة الناس في سبيل الكسب تملُّقًا، وكلما قلَّ ماله زادت أنفته وعظم إباؤه، وكثيرًا ما أراد أصدقاؤه إقناعه أن سنة الارتزاق تقضي بمجاملة الناس والتقرب من كبارهم بالحسنى، فربما أطاع ناصحه برهة ثم يعرض له خاطر فيعود إلى الإباء، ولولا ذلك لعاش في سعة وراحة ولكن القناعة كانت من أكبر أسباب سعادته.

على أنه كان يشتغل بالقلم التماسًا لتلك اللذة التي كثيرًا ما أغوت أصحاب القرائح واستنزفت قواهم فعاشوا فقراء وماتوا أعلَّاء، ولو أراد الشيخ مجرد الارتزاق لكان له مما فطر عليه من دقَّة الصناعة اليدوية خير سبيل، بل لم يكن يعدم منصبًا في بعض مصالح الحكومة، وقد ندب أن يكون قائمقام على مدينة زحلة من لبنان سنة ١٨٨٢ فلم يقبل.

ومن إبائه وكرم أخلاقه أنه كان صادقًا في معاملته على اختلاف وجوهها لا يحلف ولا يخلف، وكان أمينًا فيما ينقله أو يقتبسه من الآراء أو الأقوال، ينسب الفضل إلى صاحبه، وكان عكس ذلك فيما يفعله هو مع الآخرين من تصحيح مقالة أو تنقيح عبارة؛ فإنه كان شديد الإنكار لذلك، ولكن ديباجته كانت تنم عليه لظهور أسلوبه من خلال السطور. وكان برًّا بأبيه وقد خدم اسمه وزاد في شهرته بما أتمه من آثاره أو شرحه من كتبه، فأنفق في سبيل ذلك جانبًا كبيرًا من وقته، وأتم شرح المتنبي أو هو شرحه كله فنسب الشرح إلى والده واستبقى لنفسه فضل التتميم.

قرائحه ومواهبه

أظهر قرائحه الإتقان الفني فإنه كان متأنِّقًا في إتقان ما يتعاطاه من صناعة أو أدب أو شعر سواء اصطنعه بيده أو أنشأه بقلمه أو نظمه بقريحته بما يعبر عنه الإفرنج بقولهم Artist فكنت ترى التأنُّق والإتقان ظاهرَين في كل عمل يعمله حتى في لباسه وجلوسه ومشيه وكلامه وطعامه، وكل ذلك فرع من تأنُّقه في الصناعة اليدوية فكان حفَّارًا ماهرًا ومصوِّرًا متقنًا، ظهر ميله إلى ذلك منذ حداثته. حدثنا صديقنا المستر إدوار فانديك نجل أستاذنا الدكتور فانديك أنه عرف الشيخ الفقيد منذ نيف وأربعين سنة؛ إذ كان يتردد على مطبعة الأمريكان في بيروت وإدارتها يومئذٍ بيد الدكتور فانديك، وكانت للشيخ ناصيف علاقةٌ حسنة بالأمريكان من التعليم بمدارسهم والتصحيح في مطبعتهم، قال صديقنا المشار إليه إنه كان يلاحظ في الشيخ إبراهيم من ذلك الحين ميلًا خصوصيًّا لصناعة الحفر، وكثيرًا ما كان يحفر الأختام على سبيل الغية، ثم حفر الصور والنقوش، وخطر له يومًا أن يصنع روزنامةً عربية تعلق على الحائط من قبيل الروزنامات الشائعة ولم تكن معروفة يومئذٍ بالعربية، فاستأذن الدكتور فانديك في استخدام بعض أدوات المطبعة لحفر الأحرف والأشكال اللازمة لهذا العمل، فأمر رئيس العمال في ذلك العهد موسى عطا ألَّا يمنعه شيئًا يحتاج إليه في هذا السبيل، فتأنق الشيخ في رسم حروف الروزنامة وأرقامها حتى أتمَّها على أجمل ما يكون، وهي أول روزنامةٍ عربية من هذا النوع.

على أن تأنَّقه ظهر في خط يده فكان جميل الخط من حداثته وظل خطه جميلًا إلى آخر أيامه وقاعدته فارسية، والذين يقرءون رسالة بخطه لا يكون إعجابهم بجمال ذلك الخط أقل من إعجابهم ببلاغة أسلوبه، ومن هذا القبيل تأنقه في التصوير باليد حتى صور نفسه عن المرآة صورةً ناطقة رأيناها معلقة في منزله. وأهم ما نجم من ثمار هذه القريحة اصطناع الحروف الحديثة التي سنذكرها في جملة آثاره.

إنشاؤه

ومن قرائحه اقتداره الغريب على الإنشاء المرسل مع سلامة ذوقه في انتقاء الألفاظ. وأسلوب عبارته جمع بين المتانة والبلاغة والسهولة يشبه أسلوب ابن المقفع شبهًا إجماليًّا، ولكنه من أكثر وجوهه خاص بالشيخ، على أن إنشاء ابن المقفع لم يصل إلينا كما كتبه صاحبه، ولكنه جاءنا بعد أن هذَّبته أقلام المنشئين ونقَّحته قرائح اللغويين زهاء اثني عشر قرنًا، أما الشيخ فلم يمس عبارته سواه، ناهيك بما يعترض الكاتب اليوم من المعاني الجديدة التي لم يعرفها القدماء وليس في المعجمات لفظ يدل عليها مما يقف عثرة في طريق المنشئين.

أما فقيدنا اليازجي فكان يتخطَّى هذه العقبات على أهون سبيل فجاءت عبارته خالية من غريب اللفظ ووحشي التركيب، وقد يأتي باللفظ الغريب فيضعه موضعًا يجعله مألوفًا فلا يمجُّه السمع ولا ينكره الفهم، فكان أسلوبه بليغًا بلا تقعُّر أو تعقيد، سهلًا بلا ضعف أو ركاكة، متسلسلًا متناسبًا متناسقًا يُطابق ما قدمناه من توخيه التأنق والإتقان في كل شيء. ورغبته في الإتقان حملته على التأني في نشر ما يكتبه، فكان لا يرسل المقالة إلى المطبعة إلا بعد تنقيحها وتهذيبها ثم يكتبها بحرفٍ واضحٍ جلي كأنه سلاسل الذهب حذرًا من الوقوع في الخطأ، فآل ذلك إلى إبطائه في إخراج بنات أفكاره وقلل مقدار ما كان يرجى الحصول عليه من ثمار علمه ودرسه.

ومما حمله على المبالغة في التأني أنه كان شديد الوطأة في انتقاد ما يعرض له من الغلط اللغوي فيما يقرؤه من الصحف أو الكتب؛ وذلك طبيعي فيمن يخصص بحثه في فرع من فروع العلم يستقصيه ويدرس دقائقه فيكثر ما يقع عليه نظره من الغلط فيما يكتبه سواه في ذلك الفرع، فلا يصبر على السكوت عنه ولا سيما إذا كان عصبي المزاج مطبوعًا على التأنُّق والإتقان مثل فقيدنا، فالانحراف عن الصواب كان يؤلمه ولا يشفي ألمه غير النقد، ويمتاز نقده بشدة اللهجة وبما يتخلله من قوارص الكلم لا يراعي في ذلك صداقة ولا عهدًا، وسبب تلك الشدة على الغالب غيرته على اللغة وإخلاصه في خدمتها، فلما كتب «أغلاط المولدين» لم يستثنِ والده ولا نفسه؛ لأنه كان يرى الغلط اللغوي أو النحوي من أكبر السيئات، ويرى السلامة منهما من أكبر الحسنات؛ ولذلك كان يثني على شعر ابن الفارض، ويعجب بشعر المتنبي على الخصوص لقلة ذلك الغلط فيهما، وربما احتقر شعر شاعرٍ مطبوع أو مقالةٍ عالمٍ كبير إذا رأى فيها غلطًا لغويًّا أو نحويًّا، فكان يبالغ في تنقيح ما يكتبه ويتأنق في إتقانه خوفًا من الانتقاد، ولعله تنبه لذلك على الخصوص منذ أخذ في الدفاع عن والده لما انتقده الشيخ أحمد فارس وشدَّد النكير عليه. وكان الشيخ إبراهيم في إبان شبابه فأجاد في الدفاع وتعود الحذر من الخطأ بالمراجعة والتنقيح من ذلك الحين. فاعتبر مع سعة علمه بمفردات اللغة وجزالة أسلوبه كم تكون لغته صحيحة وعبارته بليغة فصيحة حتى أصبح استعماله حجة وإنشاؤه قاعدة، فلا عجب إذ دعوناه حجة اللغة وإمام الإنشاء، وأكثر ما يكتبه مرسلٌ سهل، وإذا سجع فلا تجد في تسجيعه تكلفًا.

شعره

وقد رأيت أنه نظم الشعر في شبابه وقعد عنه في كهولته، على أن شاعريته ظاهرة فيما ظهر من شعره، وبين منظوماته ما جرى على ألسنة القوم مجرى الأمثال مع رغبته في كتمانه؛ إذ جمعه في كتاب بخط يده وضنَّ على الناس بنشره وهو لا يزال باقيًا كما تركه، ومن أشهر شعره قصيدته السينية التي مطلعها:

دع مجلس الغيد الأوانس
وهوى لواحظها النواعس

وأختها التي تلاها في «الجمعية العلمية السورية» ومطلعها:

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب

والقصيدتان مهيجتان اقتضتهما بعض الأحوال السياسية في سوريا من التحريض على النهوض، ولعل الفقيد حُمل على نظمهما بإشارة جماعة أو أمر رجلٍ كبير فجاء نظمهما بليغًا، ومن قوله في النسيب والغزل:

ما مرَّ ذكرك خاطرًا في خاطري
إلا استباح الشوق هتك سرائري
وتصببت وجدًا عليك نواظر
باتت بليلٍ من جفائك ساهر

ومن قوله في الحكم أيضًا:

وإنما نحن في دار إذا اعتبرت
ليست سوى مأتم ناحت به البشر
في كل يوم أناس فوقها فجعوا
على أناس طوتهم تحتها الحفر
بئس الحياة التي ما زال واردها
يمازج الورد في كاساته الصدر
حالان إحداهما مملوءة حذرًا
مما يليها وأخرى فاتها الحذر

ومما جرى مجرى الأمثال ويصح أن يُكتب بماء الذهب بيتان قالهما في معرض رد على أحمد فارس الشدياق لما انتقد كتب والده وشدد الطعن عليه فقال الشيخ إبراهيم:

ليس الوقيعة من شأني فإن عرضت
أعرضت عنها بوجهٍ بالحياء ندي
إني أضنُّ بعرض أن يلمَّ به
غيري فهل أتولى خرقه بيدي

ومن نكاته الشعرية:

تعجب قوم من تأخر حالنا
ولا عجب في حالنا أن تأخرا
فمذ أصبحت أذنابنا وهي أرؤس
غدونا بحكم الطبع نمشي إلى الورا

وكانت له قريحة في الرياضيات واطلاعٌ واسع في علم الفلك اتصلت بسببه مخابرات بينه وبين بعض كبار الفلكيين الفرنساويين، واشتغل في حل المشكلة الرياضية المشهورة وهي قسمة الدائرة إلى سبعة أقسام، وتوصل قبل وفاته ببضع سنين إلى حل يقرب من الصواب كثيرًا بعث به إلى أكاديمية العلم في باريس ولا نعلم ما صار إليه أمره، وكان عارفًا اللغة الفرنساوية وله إلمام بالعبرية والسريانية ومشاركة حسنة في العلوم الطبيعية.

أعماله وآثاره

نظرًا لما قدمناه من طبعه في التأنُّق والإتقان وتوخيه التأني والتدقيق فقد جاءت ثمار قرائحه أقل مقدارًا مما كان يُرجى من مثله كما قدمنا، فضلًا عن انصراف ذهنه في شبابه إلى الاشتغال بالحفر والرسم، على أنه خدم اللغة العربية من هذا الطريق خدمةً ذات بالٍ باصطناع حروف الطباعة العربية في بيروت، وذلك أن الطباعة بالحروف الإفرنجية لم تكد تظهر في أوروبا بأواسط القرن الخامس عشر حتى اهتمَّ أصحابها هناك باصطناع الحروف العربية؛ فاصطنعوا حروفًا طبعوا بها كتبًا بالبندقية ورومية وباريس ولندرا وأكسفورد وغيرها، ولكلٍّ منها تقريبًا شكلٌ خاص وإن تشابهت على الإجمال، ثم ظهرت الطباعة العربية في الآستانة وحرفها يعرف بالحرف الإسلامبولي، وفي أوائل القرن الثامن عشر ظهرت الطباعة في سوريا نقلًا عن حروف رومية، ثم جاء المرسلون الأميركان إلى سوريا في أوائل القرن الماضي ولهم مطبعةٌ عربية في مالطة أسسوها سنة ١٨٢٢ وحروفها من حروف مطابع لندن، وطبعوا بها كتبًا بعناية المرحوم الشيخ أحمد فارس، ثم نقلوها إلى بيروت سنة ١٨٣٤ وبعد انتقالها بأربع سنين اهتم مديرها يومئذٍ عالي سميث باصطناع حروفٍ جديدة، فاستخدم أحد كتبة الآستانة فكتب له حروفًا جميلة سبكها في لايبسك وهي الحروف الأميركانية المشهورة.

ولكن القاعدة الأميركانية على جمالها ورونقها كانت كثيرة النفقة في اصطناعها لكثرة أشكالها، والقاعدة الإسلامبولية تفضلها من هذا القبيل لكنها تقلُّ عنها من جهاتٍ أخرى، فعُني الشيخ صاحب الترجمة سنة ١٨٨٦ بصنع قاعدةٍ جديدة يجمع بها حسنات الحرفين، وهي القاعدة المعروفة بحرف «سركيس»؛ لأنها تسبك في مسبك خليل أفندي سركيس صاحب لسان الحال في بيروت، وهي القاعدة الشائعة الآن في أكثر المطابع العربية في سوريا ومصر وأميركا، واصطناع هذه الحروف يحتاج إلى دقة ومهارة لا يعرف مقدارهما إلا من يعاني هذه الصناعة؛ لأن الحرف لا يتمثل للطبع إلا بعد أن يُحفر على قضيب من الفولاذ حفرًا دقيقًا ويقال له باصطلاح الطباعة «الأب»، ثم يُضرب على النحاس ضربًا حتى يطبع غائرًا في النحاس ويسمونه حينئذ «الأم» وعلى هذه الأم يصبون الرصاص فيخرج الحرف المعروف في المطابع، فالشيخ كان يصطنع الأب من الفولاذ ويضربه على الأم النحاسية واصطنع هذا الحرف عدة أقيسة، ولما جاء القاهرة صنع حرفًا على قياسٍ متوسط بين الحروف الكبرى والصغرى يُعرف بحرف «بنط ٢٠»، وقد اتخذته مسابك القاهرة واصطنعوا له قوالب وشاع استعماله في مطابعها.

وأدخل في الطباعة العربية بعد قدومه مصر صورًا للحركات الإفرنجية يحتاج إليها المعربون في التعبير عن الحركات الخاصة بها التي لا مقابل لها في العربية، ولما أرادت الحكومة المصرية صنع حروف مطبعة بولاق سنة ١٩٠٣ على قاعدةٍ مختصرةٍ مفيدة كانت الأبصار متجهة إلى الشيخ؛ لأنه أقدر من يستطيع ذلك بالدقة والرونق، ولو فوضت إليه هذا العمل لأحسنت صنعًا واستثمرت قريحته ثمرًا نافعًا للغة العربية على الإجمال. ومن آثار عمله أنه انتقى ألفاظًا اصطلاحية لما حدث من المعاني العلمية بنقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية بما عُرف به من سلامة الذوق في اختيار الألفاظ، وقد أوردنا أمثلة على ذلك لما روينا أخبار مجلة «الطبيب» التي كانت في عهدته. ونختم هذه الترجمة بالقصيدة النفيسة التي نظمها الأستاذ الكبير إبراهيم الحوراني في رثاء الشيخ إبراهيم اليازجي وهي:

أضحى ألبسي حللك الدياجي واخلعي
حلل الشعاع على كواكب مدمعي
لا تلمعي ودعي الشروق لأنه
غربت أشعة ذي الضياء الألمع
نعتِ النعاة ولم أثق إذ لم يزل
في ناظري وحديثه في مسمعي
كيف التفتُّ أراه مبتسمًا على
عهدي به فكأنما يحيا معي
صورٌ بها أنسى البلية لحظةً
تُمحى فيتلوها أشد تفجعِ
يا ليت أخيلة السلوِّ حقيقة
فأُبشِّر الدنيا بمحيا من نعي
نفذ القضاء فما الخيال بدافعٍ
جاءت جهينة باليقين الموجع
سجَّت بإبراهيم سابحة النوى
في اللجِّ من عبرات كل مشيع
لم يبقَ بعد اليازجي لرائدٍ
من نجعةٍ غير السرى في البلقع
عُقد اللسان عن البيان وعقده
نُثرت فرائده الحسانُ كأدمعي
لك يا أبا البلغاء معجز منطقٍ
في طرس ما كتبت يمين المبدع
لك يا بن ناصيف بن عبد الله في
نسب العلا آي الدليل المقنع
أشقيق «وردة» شامنا ذكر اسمكم
ورد «حديقته» بوادٍ ممرع
أأخا «الخليل» «العين» سال عبابها
فتولد «القاموس» من ذا المنبع
لم أبككم لكن بكيتُ بكم على
قلبٍ بسيف بعادكم متقطع
ولهان ودعت الحياة وطيبها
أسفًا على من سار غير مودع
جهد البلاء قضى بذا ورضيته
يرضي الوجيع من المصاب الأوجع
يا نفس يوم الجمع يوم الملتقى
بالصحب بعد تفرق المتجمع
لم تفن تلك الذات لكن غيرت
صور المركب من فتات اليرمع
دفنوا حجاب النفس في جوف الثرى
والنفس حلَّت بالمحل الأرفع
وأُولو البلاغة والنهى دفنوه في
جدث تحيط به حنايا الأضلع
يا ذا اليقين غدًا أراك فما بنى
أهل الشكوك على سوى المتزعزع
قالوا الممات من الحياة وما دروا
أن الحياة من الممات المفجع
ماذا تخيل شاعر بل حكمة
نزلت على روع الحكيم الأروع
فالحب ينبت بعد ما يبلى أمَا
للحي بعد ذهابه من مرجع
غربت لتطلع شمس طلعتكم ألا
إن الغروب السير نحو المطلع
ما ميتة الإنسان إلا رقدة
فقيامة الموتى انتباه الهجع
ومعادنا كالحتف يحدث مرةً
ما للتناسخ عندنا من موضع
إن الخلود حقيقةٌ أزلية
نفي النفاة لها هباءة زعزع
لم ينفها العلم الحديث وأثبتت
في مجمع العلم القديم المجمع
أذوي الحجا دون الحقائق برقع
والكل يجهل ما وراء البرقع
لو أسفرت هان الردى وبدا لنا
حزن الضريح الصعب سهل المضجع
وعلامَ لا نهوى شعوب وحبها
لأُولي الأسى طبع بغير تصنع
يوم الولادة للمنية مشرع
والعمر مدة ورد ذاك المشرع
يأتي الوليد إلى بسيطة باكيًا
فكأنه قد ودَّ لو لم يوضع
وكأنه ميت بلا كفن وقد
خيطت له كفنًا ثياب الرضع
قل يا خبير لمن يريد سعادة
في الأرض تطلب مستحيلًا فاربع
كم من عزيز ذي غنًى وكرامةٍ
حسد الصريع على سريع المصرع
لله سر في البرية ما طوى
من نهجه الحكماء عرض الإصبع
لو شمت لمحة بارقٍ من كنهه
لكشفت أسرار الجهات الأربع
إني جهلت فكان غيث مدامعي
جودًا وما في الجو غير اليلمع
يا ساكن الرمس الذي أقصيته
ودنا بطيب نشره المتضوع
أعطيت مصر النفس غير مطالبٍ
فتمسكت بنزيلها المتبرع
شربت هوى النيلين مصر فغيبت
أصفاهما في قلبها المتصدع
يا مصر أبكار العلوم استودعت
أنقى صعيدك أنفس المستودع
فسقاه قطر الشام قطر نجيعه
من مقلتَيه وقال يا أرض ابلعي
ودجاه قال لأعين ترعى السها
أسماء طوفان الأسى لا تقلعي
نظم الرثاء فيا مطوقة اسجعي
وسلاف أحزاني اجرعيه ورجِّعي
أمسيت بعد ضيائه أحيي الدجى
بين الغوارب والنجوم الطلَّع
وشغلت أسحاري بسمع حمائمٍ
تبكي هديلًا غائبًا لم يرجع
وعلى غريب الدار نُحت فأرخوا
ناح الأسيف على غريب المربع
سنة ١٩٠٦ ميلادية
وهجرت شدوي والسرور ختمته
بغموم تاريخي وفاة اللوذع
سنة ١٣٢٤ هجرية

السيد عبد القادر قباني

مؤسس جريدة «ثمرات الفنون» وصاحب امتيازها.
رسمه بالملابس الرسمية.

***

يتصل نسب السيد عبد القادر ابن السيد مصطفى ابن السيد عبد الغني قباني بالإمام زين العابدين من أحفاد الإمام الحسين كما ورد ذلك في كتاب «بحر الأنساب»، وأصل عائلته من الحجاز ثم انتقلت إلى جهات العراق فأقام أجداده فيها، وفي عهد الحروب الصليبية أقبل بعضهم إلى سوريا وانضموا إلى جيوش السلطان صلاح الدين الأيوبي لمحاربة الأعداء، فسكنوا أولًا في مدينة جبيل بلبنان ثم تحولوا إلى بيروت، ولما كان عبد الله باشا واليًا على عكا انتدب إليه السيد مصطفى والد صاحب الترجمة وجعله قائدًا لعساكره، وعند سقوط عكا في ٢٧ آيار ١٨٣٢ بيد إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا المصري وقع مصطفى جريحًا وأُرسل إلى وادي النيل، فكلفه محمد علي باشا أن يخدمه بالأمانة التي خدم بها عبد الله باشا على أن يُعيِّنه أمير لواء ويعوض عليه كل ما خسرت يداه، إلا أنه زايل مصر متنكرًا يتنقل من بلد إلى بلد حتى بلغ القسطنطينية، فأكرمته الدولة العثمانية وجعلت له راتبًا كافيًا لمعيشته، فاستاء إبراهيم باشا منه ثم أبعد عائلته إلى جزيرة قبرص، فأقاموا فيها إلى ما بعد خروج إبراهيم باشا من سوريا وحينئذٍ تسنَّى للسيد مصطفى أن يعود إلى بيروت بعائلته التي لم تزل فيها إلى الزمان الحاضر.

أما صاحب الترجمة فإنه وُلد في بيروت سنة ١٨٤٩م/١٢٦٥ﻫ وتعلم في مكاتبها الإسلامية، ثم درس مدة في «المدرسة الوطنية» لبطرس البستاني وتلقَّى بعض العلوم على الشيخ عبد القادر الخليل والشيخ محيي الدين اليافي والشيخ إبراهيم الأحدب، وكان من أعضاء «جمعية الفنون» التي اهتم بتأليفها الحاج سعد حمادة لخدمة المعارف والفقراء، وجرى الاتفاق على أن يكون السيد عبد القادر مديرًا للمطبعة التي أنشئت باسم الجمعية المذكورة ويطلب امتيازًا باسم جريدة «ثمرات الفنون» التي مرَّ ذكرها، ولما لم يطل أجل تلك الجمعية تحوَّلت الحقوق في المطبعة والجريدة إلى اسم صاحب الترجمة.

وفي غرة شعبان ١٢٩٥ﻫ/١٨٧٨م تألفت بمساعيه وبمساعي بعض أصدقائه «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» وتعيَّن رئيسًا لها، وقد تأسست على يدها المكاتب الابتدائية للذكور والإناث ونالت نصيبًا وافرًا من النجاح، إلا أن روح الحسد حمل البعض على الوشاية بها ونسبوا لمدحت باشا والي سوريا حينذاك فكر الاستقلال في سوريا بواسطة الجمعية المذكورة، فألغتها الحكومة وأبدلت اسمها باسم «شعبة المعارف» وعيَّنت رئيسًا لها الحاكم الشرعي، وكان يومئذٍ عبد الله جمال الدين أفندي الذي صار فيما بعدُ قاضيًا للديار المصرية وتوفي هناك، وقد تبدَّلت حال الشعبة المذكورة بانتقال عبد الله جمال الدين إلى مصر وتفرق أهم أعضائها في أنحاء مختلفة.

وتقلَّب السيد عبد القادر قباني في وظائف الحكومة سنين عديدة، فصار سنة ١٨٨٠ عضوًا في مجلس إدارة لواء بيرت ثم عضوًا في المحكمة البدائية، ولدى تشكيل ولاية بيروت سنة ١٨٨٨ تعيَّن عضوًا في محكمة الاستئناف فخدم هذه الوظيفة مدة عشرة أعوام، وفي سنة ١٨٩٨ انتخبه أهالي بيروت رئيسًا للمجلس البلدي فجرت على يده إصلاحاتٌ كثيرة في المدينة. وفي مدة رئاسته زار غيليوم الثاني إمبراطور ألمانيا فلسطين وسوريا، وجرى له في بيروت احتفالٌ عظيم يليق بمقامه السامي وبالمدينة التي سماها «درة في تاج سلاطين آل عثمان». وفي عهد رئاسته أيضًا وافق العيد الفضي لمرور خمسة وعشرين عامًا على ارتقاء السلطان عبد الحميد الثاني إلى الأريكة العثمانية، فسعى مع أعيان المدينة في تشييد السبيل الواقع في ساحة السور تذكارًا للعيد المشار إليه، وأنشأ من أموال البلدية برج الساعة الكائنة بين الثكنة الشاهانية والمستشفى العسكري، وهو بديع الصناعة مرسوم على الطراز العربي بقلم المهندس البارع يوسف أفتيموس. وبعد أن أتمَّ صاحب الترجمة مدته النظامية في رئاسة المجلس البلدي تعيَّن بإرادة سلطانية مديرًا لمعارف ولاية بيروت، وبلغنا أن لوائحه التي قدمها للمراجع الإيجابية في إصلاح المدارس ورقي المعارف بقيت في زوايا النسيان وأهملتها الحكومة رغمًا من اجتهاده في تحقيق هذه الأمنية، وبعد أن لبث في هذه الوظيفة نيفًا وست سنين تبلَّغ في ١٣ آب ١٩٠٨ خبر عزله بلا سبب ومن دون محاكمة، فاستدعى تكرارًا من وزارة المعارف معاملته بالإنصاف أو إجراء محاكمته؛ فأصدرت الوزارة أمرها استنادًا إلى قرار مجلس المعارف بجواز استخدامه وبإعطائه راتب المعزولية توفيقًا لقانون التنسيق وذيله، وذلك دليل على عدم وجود سبب للعزل. وفي أواخر السنة المذكورة ودع الصحافة التي خدمها أربعًا وثلاثين سنة كما سبق القول في أخبار جريدة «ثمرات الفنون».

وبعد ذلك ألف مع بعض أبناء الوطن شركة للقيام بأمورٍ عمرانيةٍ عمومية لا سيما استخراج الحديد وزيت البترول في أراضي ولاية سوريا، فنالت الشركة رخصة الحكومة بذلك، وبلغنا أن الدلائل تبشر بالحصول على المقصود، وقد كافأته الدولة على إخلاص خدمته لها بالرتبة الأولى من الصنف الأول وبالوسام المجيدي الثاني والوسام العثماني الثالث ومدالية التخليص ومدالية السكة الحجازية ومدالية وصول الخط الحجازي إلى معان، وأهداه إمبراطور ألمانيا وسام «النسر الأحمر» من الرتبة الرابعة.

الشيخ إبراهيم الأحدب

محرر جريدة «ثمرات الفنون» وأحد أركان النهضة العلمية في القرن التاسع عشر

***

هو ابن السيد علي الأحدب ولد سنة ١٨٢٦م/١٢٤٢ﻫ في طرابلس الشام ويتصل نسبه بالإمام الحسين، وطلب العلوم اللسانية والأدبية منذ نعومة أظفاره فقرأها على الشيخ عرابي والشيخ عبد الغني الرافعي فبرع فيها، وقد لازم كبار العلماء فتقدم بجدِّه على أقرانه وسار صيته بين الأفاضل شرقًا وغربًا، وفي الثانية والعشرين من عمره عكف على التدريس فأقبل عليه الطلبة يستفيدون من إلقائه، وكان نابغةً في حفظ أشعار المتقدمين والمتأخرين ويملي عن ظهر قلب عدة متون من النحو والصرف والمعاني والبيان والمنطق ومقامات الحريري مع وفور اطلاعٍ على أمثال العرب وتواريخهم ونوادرهم ووقائعهم، وقد قال الشعر في صباه وبرع فيه حتى بلغ ما نظمه نحو ثمانين ألف بيت، وكل بيت من شعره لا يخلو من صناعةٍ بديعية أو نكتةٍ أدبية أو حكمةٍ بالغة أو مثلٍ سائر، وكان سريع الخاطر يملي بأسرع من لمح البصر ما يقترح عليه كتابته نظمًا أو نثرًا فيبرز ذلك كأحسن شيء دون تكلُّف، وقد زار مدينة القسطنطينية على عهد السلطان عبد المجيد فامتدحه بقصيدة مطلعها:

بنصرة دين الله وافت لنا البشرى
فأولت أُولي الإيمان من نشرها بشرا

وفي سنة ١٨٥٢ استدعاه سعيد بك جنبلاط حاكم مقاطعة الشوفين بلبنان إلى مركزه في «المختارة» فاتخذه مستشارًا في الأحكام الشرعية، وبعد ثمانية أعوام انتدبته حكومة بيروت وعيَّنته نائبًا في محكمة الشرع، وعند إجراء تنسيقات النواب صار رئيسًا لكتاب المحكمة المذكورة فتعاطى شئونها نيفًا وثلاثين سنة، وفي خلال هذه المدة تولى التحرير في جريدة «ثمرات الفنون» فأودعها كثيرًا من المقامات البديعة والرسائل الأدبية والفصول الحكمية ما لو جُمعت لبلغت مجلدات، وقد عُرضت عليه نيابة صنعاء اليمن فامتنع عنها لبعده عن الأوطان، وكان عضوًا في مجلس معارف الولاية فامتاز فيه بسعة آدابه، ومع ذلك كله كان مجدًّا في نشر العلوم وله في كل يوم دروس مختلفة مع اشتغاله بالتأليف ونقله ما ينوف عن ألف كتاب ورسالة بخطه الظريف، وفي سنة ١٨٧٢ زار الديار المصرية فرحب به علماؤها لا سيما الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري، وقد روى في كتابه «الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية» ما جرى بينهما من المكاتبة.

وكان له من علم الأدب أوفر نصيب، راسل الشعراء والعلماء ونظم القصائد في مدح أمراء العرب ووزرائهم وكبارهم كالأمير عبد القادر الجزائري وباي تونس محمد صادق باشا الذي أحسن إجازته، كما أن مصطفى باشا كبير وزراء تونس أرسل إليه علبةً مرصعة بالألماس وعليها رسمه بالألبسة الرسمية واسمه منقوش بالحجارة الكريمة، وأنشأ رسالة «لا سلامة من الخلق» وهي التي اقترحها حسين باشا وزير المعارف بتونس على الأدباء، فحكم لصاحب الترجمة بالسبق على سواه وأرسل له الجائزة المعينة مع سبحة من العنبر ورسالة بخط يده، ومن شعره اللطيف قصيدته البائية التي أودعها فنون الحكم مطلعها:

ورد المعاني بما يصفو من الأدب
يقضي براح الصفا في أرفع الرتب

ومنها في الختام:

هذي بدائع قد أودعتها نكتًا
من المعاني نبت عن سمع كل غبي
جرى إليها يراعي محرزًا قصبًا
فأطرب السمع في مغناه بالقصب
لامية العجم استعلت بنسبتها
وهذه دعيت بائية العرب
أنشأتُها حكمًا طابت لخاطبها
إن كان في ذوقه ضرب من الضرب

ومن الأشعار التي نظمها في مدح الأمير عبد القادر الحسني الجزائري هذه الأبيات:

إني بمدح ابن محيي الدين ذو همم
غدا نظامي بها في أرفع الدرج
وفي مآثر عبد القادر اطردت
أبيات شعري فراقت كل مبتهج
غوث النزيل وغيث فيض نائله
من الأنامل يجري الدر في خلج
شمس أنارت بلاد الشرق فابتهجت
سورية بسناها الفائق البهج
في الكون آثاره كالمسك قد نفحت
إلا لمزكوم طبعٍ عُدَّ في الهمج
لله غرب حسام منه قد شهدت
في الغرب آثاره كالصبح في البلج
لا زلتَ تُهدى لك الأمداح ما طلعت
شمس بنورك تغنينا عن السرج

وأشهر مؤلفاته هي: (١) «ديوان شعر» نظمه في صباه ورتَّبه على ثمانية فصول. (٢) ديوان «النفح المسكي في الشعر البيروتي» نظمه سنة ١٢٨٣ هجرية. (٣) له «ديوان ثالث» نظمه بعد هذا الديوان يشتمل على كثير من القصائد الرائقة. (٤) له «مقامات» تبلغ الثمانين مقامة أملاها على لسان أبي عمر الدمشقي وأسند روايتها إلى أبي المحاسن حسان الطرابلسي جارى في إبداعها العلامة الحريري. (٥) كتاب «فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق» يتضمن مائة مقالة نثرًا ونظمًا جارى بها مقالات العلامة جار الله الزمخشري. (٦) كتاب «فرائد اللآل في مجمع الأمثال» نظم فيه الأمثال التي جمعها العلامة الميداني في نحو ستة آلاف بيت وقد شرحها في مجلدَين طُبعا بعد وفاته في المطبعة الكاثوليكية بهمة نجلَيه سعيد وحسين. (٧) له «رسالتان في المولد النبوي» إحداهما مطوَّلة والأخرى مختصرة. (٨) كتاب «تفصيل اللؤلؤ والمرجان في فصول الحكم والبيان» يشتمل على مائتين وخمسين فصلًا في الحكم والآداب والنصائح. (٩) له «عقود المناظرة في بدائع المغايرة» وهو جزآن مشتملان على خمس وعشرين مغايرة. (١٠) له «نشوة الصهباء في صناعة الإنشاء». (١١) له «منظومة اللآل في الحكم والأمثال». (١٢) كتاب «نفحة الأرواح على مراح الأرواح»، (١٣) كتاب «إبداع الإبداء لفتح أبواب البناء» في علم الصرف. (١٤) كتاب «كشف الأرب عن سر الأدب». (١٥) كتاب «مهذب التهذيب» في علم المنطق نظمه وعلق عليه شرحًا لطيفًا. (١٦) كتاب «الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية» يشتمل على القصائد والرسائل التي دارت بينه وبين الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري في مصر. (١٧) له «ذيل ثمرات الأوراق» طبعه على هامش كتاب «المستظرف» وغيره. (١٨) وآخر مؤلفاته «كشف المعاني والبيان عن رسائل بديع الزمان» ألَّفه في مدة أربعة أشهر وقد طبعه الآباء اليسوعيون بنفقتهم. (١٩) رسالة «لا سلامة من الخلق» التي مر ذكرها. وكان له كلف بالروايات حتى بلغ ما جمعه منها نحو عشرين رواية بعضها مبتكر له وبعضها مأخوذ من التاريخ أو مترجم عن لغة أوروبية كرواية «إسكندر المكدوني» ورواية «السيف والقلم» ورواية «المعتمد بن عباد» وغيرها.

وقد بلغت شهرة رواياته مسمعَي راشد باشا والي سوريا في دمشق فأعجب ببراعة منشئها، ولما أراد أن يحتفل بختان أنجاله في نواحي سنة ١٨٦٨ كلف صاحب الترجمة أن يعلم رواية «إسكندر المكدوني» لجوق من الممثلين ويذهب بهم إلى دمشق لأجل تمثيلها، ففعل الشيخ إبراهيم ذلك، وكان لتمثيل الرواية صدى استحسان لم يزل يردده سكان الفيحاء إلى الزمان الحاضر. وعند رجوع الشيخ إبراهيم إلى بيروت أهداه راشد باشا خاتمًا ثمينًا مرصَّعًا بالألماس ونفحه بمائة ليرةٍ عثمانية، ثم إنه نال من مكارم أعيان دمشق وإكرامهم ما لم ينله عالم سواه في عصره.

وفي ليلة الثلاثاء في ٢٢ رجب ١٣٠٨ﻫ/٢ آذار ١٨٩١م أتم أنفاسه الأخيرة فتولى طلبة العلم حمل نعشه وشيَّعه خلقٌ كثير من الأشراف والعلماء والوجهاء إلى مقبرة «الباشورة» حيث دفنوه بالتعظيم اللائق، وتُليت المراثي العديدة تُعدِّد محاسنه وشمائله؛ لأنه كان من أكمل العلماء في عصره خَلقًا وخُلقًا وفضيلةً وفضلًا، وبين الشعراء الذين رثوه الشيخ قاسم أبو حسن الكستي من قصيدةٍ طويلة جاء فيها:

لفقدك هذا العصر يا من قضى نحبا
على أهله قد أوجب الحزن والندبا
نعزي بك الآداب يا من حويتها
وكنت لمن يرتادها منهلًا عذبا
يظنك بعض الناس أنك في الثرى
ولم يدر عند الله منزلك الرحبا

وقد نقشت على قبره الأبيات الآتية:

هذا ضريح توارى فيه ذو شرفٍ
قد كان يملأ عين الدهر مرآه
كنز المعارف إبراهيم من شهدت
له بحسن التُّقى والفضل دنياه
بطلعة الأحدب الماضي له لقب
ورأيه قد حكى بالفضل معناه
تكفلت خدمة الشرع الشريف له
بأنه سوف يعطى ما تمناه
وبشرتنا بأن الله عامله
بالعفو أرخ وبالإكرام أرضاه
سنة ١٣٠٨ هجرية

أديب بك إسحاق

مؤسس جريدة «مصر» في القاهرة والإسكندرية وجريدة «التجارة» في الإسكندرية، وصحيفة «مصر القاهرة» في باريس، وأحد المحررين في جرائد «ثمرات الفنون» و«التقدم» و«المصباح» في بيروت.
سوى القرطاس لم تعرف حبيبًا
فإنَّ بصدره رسم الحبيبِ
وإذ رسموك كفت كل عين
بهذا الرسم عن حسد القلوبِ
ولا ينسى الأديبَ فتًى أديبٌ
أنارت ذهنَه دُررُ الأديبِ

***

وُلد في دمشق الشام عام ١٨٥٦ فلم ينفطم عن الرضاع حتى ظهرت عليه مخايل النجابة طفلًا تخترق ذهنه مؤثرات التربية لأدقِّها إشارة وأقلِّها ظهورًا، ولما ترعرع أدخله والده مدرسة الآباء اللعازريين فتلقى فيها مبادئ العربية والفرنسوية بما كان يزيده في أوقات الامتحان تقدمًا على أقرانه، وكان أستاذه في العربية يقول لأبيه: «إن ابنك سيكون قوالًا.» أي شاعرًا؛ لأن أكثر كلامه كان يرد مسجعًا عفو القريحة وهو لا يعرف إذ ذاك شيئًا من قواعد اللغة. ولما بلغ العاشرة أخذ ينظم الشعر كلفًا به. وفي الحادية عشرة دخل في خدمة الجمرك براتبٍ يسير وأخذ يعول عائلته؛ إذ أصابها في ذلك العهد سوء حال وعطلة أعمال، وما أتم الثانية عشرة من سنيه حتى كان له عدة قصائد وموشحات، ثم عرض لوالده أن سافر إلى بيروت ودخل في خدمة البريد العثماني فاستدعاه إليه من دمشق ليكون معينًا له في خدمته وهو في الخامسة عشرة، فجاءها وتعرف ببعض أدباء بيروت وله مع أكثرهم كمصباح رمضان والشيخ فضل القصار وبولس زين والشيخ إسكندر العازار وجرجس بن ميخائيل نحاس وسليم بن عباس الشلفون وغيرهم مطارحات ومراسلاتٌ شعرية، وفي السابعة عشرة نال وظيفةً في إدارة جمرك بيروت فقضى فيها مدةً يسيرة.

ثم نزعت به نفسه إلى الاشتغال بفن الكتابة والانصباب على الإنشاء فتولَّى أولًا تحرير جريدة «ثمرات الفنون» ثم جريدة «التقدم» بُعيد نشأتها الأولى زمنًا طويلًا، وله فيهما فصولٌ شائقة كما له قصائدُ كثيرة في ديوان يوسف الشلفون. وكان يصرف أوقات فراغه في المطالعة ومعاشرة الأدباء ونظم الشعر فألَّف كتابًا سماه «نزهة الأحداق في مصارع العشاق» وهو أول ما ظهر بالطبع من نفثات قلمه، ومن ذلك الحين صارت شهرته الأدبية تنمو شيئًا فشيئًا؛ لأنه اتخذ أسلوبًا جديدًا في كتاباته قلَّده فيها سائر حملة الأقلام لا سيما في سوريا ومصر.

ثم دخل «جمعية زهرة الآداب» وكانت برئاسة سليمان البستاني فقام فيها عضوًا مهمًّا يلقي على مسامع أقرانه الخطب البليغة والقصائد الرائقة والمحاضرات المفيدة ويباحثهم في المواضيع الأدبية، وبعد ذلك كلَّفه سليم شحادة بمشاركته مع زميله سليم الخوري في تحرير كتاب «آثار الأدهار» عام ١٨٧٥، وهو كتابٌ نفيس أتينا على وصفه في الجزء الأول، فاشتغل فيه مدة وكانت سنُّه دون العشرين وله في ثلاثة أجزاء منه فصول تدل على سعة اطلاعه وغزارة مادته، ولبث على هذه الحال إلى أن جاء الإسكندرية بإشارة سليم نقاش، فساعده في تمثيل الروايات العربية على عهد الخديو إسماعيل الذي أمدهما بالمال. وكان قد عرَّب في بيروت عن «راسين» الشاعر الفرنسي المشهور رواية «أندروماك» وهو في التاسعة عشرة من العمر إجابةً لطلب قنصل فرنسا، فترجمها ونظم أشعارها وعلم أدوارها في مدى ثلاثين يومًا ودفعها إلى القنصل، فمثلت إسعافًا للبنات اليتامى ثلاث مرات فجمعت خمسةً ثلاثين ألف غرش، فلما حضر إلى الإسكندرية قلبها بطنًا لظهر ونظم فيها أبياتًا جديدة من الشعر الرائق فحصل لها وقعٌ عظيم، وهي مثبتة في كتاب «الدرر» مع رواية «شارلمان» التي ترجمها في الإسكندرية ونالت من استحسان القوم حظًّا وفيرًا.

ثم قصد القاهرة عاصمة البلاد المصرية ولزم العلامة جمال الدين الأفغاني فقرأ عليه شيئًا من الفلسفة الأدبية والفلسفة العقلية والمنطق، ورغب في أثناء ذلك في إنشاء جريدةٍ عربية فدان له الوطر بذلك فأنشأها باسم «مصر» عام ١٨٧٧ وليس في جيبه أكثر من عشرين فرنكًا، ولما رأى من إقبال الناس عليها ما يشدُّ الأزر نقل إدارة الجريدة إلى الإسكندرية يشاركه في إدارتها وتحريرها سليم نقاش؛ فلقيا نجاحًا ليس باليسير، ثم أنشأ كلاهما جريدة «التجارة» فأصدراها يومية وأبقيا «مصر» أسبوعيةً فحصل لهما جميعًا إقبالٌ عظيم، ثم ألغيت الجريدتان لمقتضيات دعت إلى إلغائهما، كما سنذكر ذلك في الجزء الثالث من هذا الكتاب، فابتعد الأديب عن مصر عام ١٨٨٠ مهاجرًا إلى باريس حيث أنشأ جريدة «مصر القاهرة» وكتب فيها فصولًا متناهية في البلاغة لا يعاب أكثرها إلا بما كان فيها من آثار الحدة وكفى.

وحصلت له في باريس حظوةٌ موصوفة بأقلام بعض كتَّاب الجرائد الباريسية وجريدة «مشورت» التركية في تلك العاصمة، وتعرف ببعض المتقدمين من رجال الدولة الفرنسوية وحضر في مجلس النواب جلساتٍ كثيرة، فزادته خطب البلغاء منهم إقدامًا، وتقدَّم على الخطابة، ودخل «المكتبة الأهلية» فطالع فيها عدة مؤلفات من المخاطيط العربية القديمة ونسخ عنها نتفًا كثيرة، ومن حين إلى حين كان يكتب مقالات عن الشرق في الصحف الباريسية، وألَّف كتابًا سماه «تراجم مصر في هذا العصر» لعبت به أيدي الضياع في جملة ما فقد من آثاره.

وكانت صحته في الإسكندرية قد تعرضت للمؤثرات، فلما ذهب إلى باريس اتفق أن بردها كان في منتهى الشدة فأصيب بعلة الصدر وتألم منها مدة الشتاء، ثم عاد إلى بيروت مصدورًا بعد أن قضى في باريس تسعة أشهر، فعهد إليه صاحب «التقدم» بتحرير جريدته، فتولَّى تحريرها للمرة الثانية وأقام على ذلك نحوًا من سنة، فلما حصل انقلاب الوزارة المصرية في أواخر عام ١٨٨١ عاد إلى مصر مدعوًّا إليها فودَّعه أصحابه وخلَّانه بنفوس الآسفين على فراقه فما رأيت قلبًا غير مائل إلى اصطحابه، وقد أنشده أحد وجهاء بيروت حسن بيهم قائلًا له ساعة الوداع:

إنا نودِّع روحنا وفؤادنا
ومع الأديب نودِّع الآدابا

فأجابه بقوله: «ليس ببقائك وداع للآداب» ثم سار وأتى القاهرة فعُيِّن ناظرًا لقلم «الإنشاء والترجمة» بديوان المعارف، ورخصت له الحكومة في استئناف نشر جريدة «مصر» فأصدرها أولًا في شكل كراس ثم أعادها إلى مظهرها الأول بأربع صفحات، ونال خلال ذلك الرتبة الثالثة وعُيِّن كاتبًا ثانيًا لمجلس النواب، ولما طرأت الحوادث العرابية عاد إلى بيروت فيمن هاجر إلى القطر السوري ونفح جريدة «المصباح» بنفثات قلمه، وبعد أن حل الإنكليز في الإسكندرية جاءها مرة أخرى في الْتماس شأنه الأول فلم يحصل عليه، فأُبعد إلى بيروت بعد أن أُودع السجن بضع ساعات ونظم في خلالها أبياتًا ذيَّل بها قصيدة في مدح سلطان باشا، منها قوله:

أمولاي هذا نظم حرٍ وتلوه
كلام سجين أوثقته المآثر
أتوه بنكرٍ وهو للعرف مرتجٍ
وجازوه للخذلان وهو مناصر
أيُبعَد ذو فضلٍ ويدنى منافق
ويسجن وافٍ حين يطلَق غادر
ويكرم جاسوس عن الصدق حائد
ويظلم همام على الحق سائر
ويُرفَع نمام عن الريب كاشف
ويُخفَض كتَّام على العيب ساتر
(بذا قضت الأيام ما بين أهلها)
معايب قومٍ عند قوم مفاخر
على أنني والشين تأباه شيمتي
لراضٍ بعقبى ما وفيت وصابر
فإن لم تفدني للوفاء أوائل
عقدت رجائي أن تفيد الأواخر
وما أرتجي فيه من الناس نائلًا
ولكنني للبر والعرف ذاكر

فأقام في بيروت متوليًا تحرير جريدة «التقدم» للمرة الثالثة إلى أن اشتد عليه الداء، فأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى مصر مستفيدًا من ملاءمة هوائها لصحته فالتمس الرخصة في العودة إليها بواسطة المغفور له سلطان باشا، فأجابت الحكومة الخديوية التماسه كرمًا وإحسانًا فأتاها ساعيًا إلى العفو، لدى من لقي من شمائله عفو الكريم وأهل به من عرفوا قدر أدبه، فأقام في مصر أيامًا قليلة ثم عاد إلى الإسكندرية فصرف بضعة أيام في محلة الرمل التماس العافية، ولكن ضاقت به سعة العمر فلم يرجُ الأطباء له شفاءً فأقنعوه بالعود إلى أهله في بيروت، فعاد إليها ولم يمضِ على عودته ثلاثون يومًا حتى وافته المنية بتاريخ ١٢ حزيران ١٨٨٥ في قرية «الحدث» بلبنان حيث كان قد ذهب تبديلًا للهواء، فاحتفل أصدقاؤه بدفنه وقام بعضهم بتأبينه كخليل باشا خياط والأستاذ إبراهيم الحوراني والشيخ إسكندر العازار وسامي قصيري والدكتور بشارة زلزل. وقد جُمعت آثاره المطبوعة والمخطوطة مع ترجمة حاله ومراثي الشعراء وأقوال الجرائد فيه في كتاب مخصوص عنوانه «الدرر» في ٦١٦ صفحة، ومن نفيس شعره هذه الأبيات التي جرت مجرى الأمثال:

قتلُ امرئٍ في غابةٍ
جريمة لا تغتفر
وقتل شعبٍ آمنٍ
مسألة فيها نظر
والحق للقوة لا
يُعطاه إلا من ظفر
ذي حالة الدنيا فكن
من شرها على حذر

وله هذه الأبيات المذكورة في رواية «الباريسية الحسناء» التي عربها عن اللسان الفرنسي:

حسبَ المرأةَ قومٌ آفةً
من يدانيها من الناس هلك
ورآها غيرهم أمنيةً
ملك النعمةَ فيها من ملك
فتمنى معشر لو نبذت
وظلام الليل مشتدُّ الحلك
وتمنى غيرهم لو جعلت
في جبين الليث أو قلب الفلك
وصواب القول لا يجهله
حاكم في مسلك الحق سلك
إنما المرأة مرآة بها
كل ما تنظره منك ولك
فهي شيطان إذا أفسدتها
وإذا أصلحتها فهي ملك

جرجس زوين

محرر مجلة «المجمع الفاتيكاني» وجرائد «البشير» و«لسان الحال» و«المصباح» و«لبنان» غير الرسمية وأحد أعضاء «الجمعية العلمية السورية».

***

هو المعلم جرجس ابن الخوري سمعان زوين ينتمي إلى أسرةٍ مارونيةٍ قديمة العهد في جبل لبنان، ولد سنة ١٨٣٠ في قرية «يحشوش» وتلقى كل دروسه اللسانية والأدبية والفلسفية واللاهويتة في مدرسة الآباء اليسوعيين في غزير، فلبث فيها مدة عشر سنين وكان من بواكير تلامذتها وأنجبهم، فأحكم معرفة اللغات العربية والسريانية واللاتينية والفرنسية والإيطالية مع إلمام بالعبرية واليونانية القديمة، وبعد خروجه من المدرسة خدم المعارف والآداب بالتأليف وقام بالتعليم في كثير من المدارس الوطنية والأجنبية للذكور والإناث في مدينة بيروت، وانتظم سنة ١٨٦٨ عضوًا في «الجمعية العلمية السورية» وألقى فيها خطبة عن «تاريخ سوريا» نُشرت في مجلة «مجموع العلوم»، ثم أنشأ غيرها من الخطب والمقالات التي تشهد بعلو كعبه في حلبة المعارف.

ثم مالت نفسه إلى خدمة الصحافة فكان أول من تولى التحرير سنة ١٨٧٠ في مجلة «المجمع الفاتيكاني» وجريدة «البشير» مدة سبع سنوات، ثم انتدبه خليل سركيس سنة ١٨٧٧ لكتابة صحيفة «لسان الحال» فأقام على تحريرها عشرة أعوام، وعندما صدرت جريدة «المصباح» لنقولا نقاش حرر فيها مدةً قصيرة وتركها، وفي آخر حياته عُهدت إليه كتابة جريدة «لبنان» لإبراهيم الأسود، وكان كاتبًا مجيدًا واسع الاطلاع حسن المحاضرة معروفًا بذكاء القريحة وسرعة الخاطر، ومن آثاره القلمية كتاب «الرد القويم على ميخائيل مشاقة اللئيم» ردَّ فيه على الدكتور ميخائيل مشاقة لما أخذ هذا يطعن في الكنيسة الكاثوليكية، ونقل من اللغات الإفرنجية إلى اللسان العربي كتبًا كثيرة نذكر منها: «مصباح الهدى لمن اهتدى»، وكتاب «رواشق الأفكار» لامبرتوس، وكتاب «كنيسة الروم الشرقية بإزاء المجمع المسكوني الفاتيكاني» وهي كلها دينية، وعرَّب أيضًا رواية «وردة المغرب» ورواية «فريدة المغرب» وغيرهما، وساعد أيضًا في تنقيح بعض مطبوعات «المطبعة الكاثوليكية» للآباء اليسوعيين.

وحلَّت وفاته صباح يوم الخميس الواقع في ٢٨ تموز ١٨٩٢ في قصبة «بعبدا» المركز الشتوي لحكومة لبنان، فجرى له مأتمٌ حافل وأبَّنه عيسى إسكندر المعلوف صاحب مجلة «الآثار» الزحلية، بكلامٍ مؤثر، ثم نقلت جثته إلى غزير فدُفنت في كنيسة مدرسة القديس لويس في مشهدٍ كبير جمع رؤساء الدين وأعيان البلاد، وقد رثاه الشاعر المشهور الخوري يوحنا رعد الماروني وداود بركات محرر جريدة «الأهرام» حالًا وغيرهما من الأدباء، ومات صاحب الترجمة بلا عقب وله من العمر اثنتان وستون سنة.

الشيخ إبراهيم الحوراني

رئيس تحرير «النشرة الأسبوعية».
رسم يمثلني لكل مشاهدٍ
أبقيته ليدوم ذكري في البشر
لكنه أثر يزول فما على
أرض البلى عين تدوم ولا أثر

***

هو إبراهيم بن عيسى بن يحيى بن يعقوب بن سليمان فرح الحوراني، وُلد في حلب في ١٤ أيلول من سنة ١٨٤٤ وعاد والداه به وبأخٍ له أكبر منه إلى وطنهما حمص في آخر أيلول ١٨٤٥، ولما بلغ السنة الخامسة أخذ يتعلَّم القراءة فأحكمها في ستة أشهر، ثم أخذ يقرأ على معلميه الكتب الشعرية المختلفة فحفظ كثيرًا من القصائد النافعة كلامية ابن الوردي ولامية العجم ولامية المعري التي أولها «ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل» وبعض المعلقات السبع، وفي سن السابعة أخذ يتعلم مبادئ الحساب والأجرومية، وكان يتمرَّن بما يلقى عليه من الأسئلة الحسابية المتعارفة عند العامة مثل أن إنسانًا خرج من بستان له ثلاثة أبواب بمقدار من التفاح، فأخذ حارس الباب الأول نصف ما معه من التفاح ونصف تفاحة، وأخذ حارس الباب الثاني نصف ما بقي معه ونصف تفاحة، وأخذ حارس الباب الثالث نصف ما بقي من الباقي ونصف تفاحة وبقي معه واحدة وفي كل ذلك لم تجزأ تفاحة، وتلك المسائل كثيرة فكان يحل كل مسألة تُعرض عليه مع صغر سنه، فنشأ في نفسه حب الشعر وحب الرياضيات، وكان يقصد كل مشهور من علماء حمص ومنهم الخوري عيسى الحامض العلامة الطبيب أبو العلامة سليمان الخوري الطبيب أبي العلامة الطبيب الدكتور كامل الخوري المشهور ويقرأ عليهم ما يختارونه له.

وفي سنة ١٨٦٠ هاجر أهله إلى دمشق وبعد قليل أرسله والداه إلى مدرسة «عبيه» القديمة العهد وكانت أعلى مدارس سورية، فأحكم فيها بعض الرياضيات والصرف والنحو والجغرافيا ومبادئ علم اللاهوت، وكان أساتذتها ثلاثة سمعان كلهون وإسحاق برد ورزق الله برباري، ثم أقام بدمشق يقرأ العلوم المختلفة على الدكتور ميخائيل مشاقة فأحكم علم الجغرافيا السماوية وكثيرًا من الرياضيات والمنطق وبعض مبادئ الفسيولوجيا والفلسفة الطبيعية، وقرأ الكيمياء على الدكتور يوسف دمر، وكان يطالع كل فن تصل كتبه إليه ويسأل أربابه بيان ما يصعب عليه فهمه. وفي دمشق أحكم كل آداب اللغة من معانٍ وبيان وغيرها. وفي سنة ١٨٧٠ طُلب للتدريس في المدرسة الكلية السورية الإنجيلية في بيروت فدرس فيها آداب اللغة العربية والمنطق والجبر والهندسة وقياس المثلثات البسيطة والكروية وسلك الأبحر وعلم التسهيل في كتاب التعاليم للدكتور كرنيليوس فنديك، وكان لهذا العلامة وافر الفضل عليه كما كان للدكتور ميخائيل مشاقة؛ فإنه كان يفيده كثيرًا من علم الهيئة ويريه بالمرقب في مرصد الكلية ما لم يكن قد رآه من سيارٍ وقنوٍ وسديم وجبال القمر وأوديته وسهوله وتغيرات الزهرة من كونها هلالًا إلى مصيرها بدرًا، ومنها أقمار السيارات كأقمار المشتري وأقمار زحل وحلقاته والنجوم المتعددة في المواقع المفردة لمجرد النظر كالنجم النير المعروف بقلب العقرب، فإنه في الواقع نجمان كما يرى في المرقب، وهذا النجم أحمرُ لامعٌ متوقد ذكره أبو العلاء المعري في قوله:

غادرتني كنات نعشٍ ثابتًا
وتركت قلبي مثل قلب العقرب

وظل يفيده ما يتعلق بعلم الفلك عدة سنين ثم حصل على أصطرلاب وربع مجيب وأخذ يرصد النجوم في بيته عدة سنين، وقلَّما مضت ليلة منها لم يراقب فيها وجه السماء بمنظاره، وكان هذا العمل يملأ نفسه عجبًا ويقوي إيمانه بوجود الواجب تعالى وقدرته وحكمته، وكان من تلاميذه في تلك المدرسة كثيرون من أقدر كَتبة العصر وعلمائه ومنهم: الدكتور داود مشاقة، ورشيد ناصر الدين، والمرحوم سعيد البستاني، والدكتور مراد العازوري، والدكتور سعيد ناصر الدين، والأستاذ جبر ضومط، والدكتور أمين المغبغب، والدكتور فارس نمر، ومراد بك البارودي، والدكتور أمين بك أبو خاطر؛ وغيرهم من الكتبة والعلماء المشهورين.

وله عدة مؤلفات طُبع منها «الشهب الثواقب» وهو كتاب جدلي ألَّفه في أول الشبيبة، و«جلاء الدياجي في الألغاز والمعميات والأحاجي» و«مناهج الحكماء في مذهب النشوء والارتقاء»، و«الحق اليقين في مذهب دروين»، و«الآيات البينات في عجائب الأرض والسماوات» وكلها نفذت إلا الآخر فإنه باقٍ قليل منه في المطبعة الأميركية في بيروت، وله مقالات منها وخطبٌ كثيرة جدًّا أكثرها في «النشرة الأسبوعية» ومجلة «الرئيس» و«المحروسة»، وقليل منها في «الطبيب» في سنيه الأولى وفي «المقتطف» ومجلتي «الصفا» و«المباحث» وغيرها، ونقل عن هذه بعض الجرائد والمجلات كثيرًا منها. ومن الكتب التي لم تُطبع كتاب مطوَّل في المنطق عنوانه «شمس البرهان في علم الميزان»؛ أي ميزان العلوم وهو علم المنطق وسيطبع مختصره.

وكان صاحب الترجمة مولعًا في صبائه وشبيبته بنظم الشعر، ولكنه كان قليل الحرص على ما ينظمه، ولولا حرص بعض أصدقائه وتلاميذه والمجلات والكتب التي ذكرت بعضها لم نقف على شيء منها، قال بعضهم: إنه لو جمعت منظومات الحوراني كلها لكانت بضع مجلدات، وامتاز شعره بسمو المعاني، وحسن الترتيب، وفصاحة الألفاظ، وبلاغة العبارات، والخلو من التكلف، وتمكن القافية، والخلوص من الحشو، حتى إنك إذا أردت أن تجعله نثرًا صعب عليك أن تغير ترتيبه بلا خسارة شيء من محاسنه كقوله في الدنيا:

حكت العبادُ بها الهشيم وأُصليت
نار المصائب فالحياة دخان

وقوله من قصيدةٍ طويلة:

قدم الزمان وصبوتي تتجدد
فكأنني في كل عصرٍ أُولد
شيخًا أرى بين الشيوخ وأمردًا
في المُرد مما شاب منه الأمرد
قالت غواني الرقمتين وقد رأت
ثلج المشيب أظن نارك تخمد
فأجبتها: ما الشيب بل لهب الهوى
في الرأس مما في الحشا يتوقَّد
قالت: مشيبك أسود في ناظري
قلت: الحقيقة أن لحظك أسود

ومنها قوله:

لولا المحبة كان سكان الثرى
حطبًا له في كل أرض موقد

ومن نفيس شعره قوله:

كرة الهواء ولجَّة الدأماء
أنفاس أحزانٍ وماء بكاء
والأرض معترك الردى وترابها
آثار قتلى الغم والأرزاء
غذي النبات بها فكان غذاءنا
وغذاء كل بهائم الغبراء
فالحي ينمو من بقايا ميته
متغيرات الشكل والأسماء
يا ويل سكان البسيطة إنهم
رمم البلى في صورة الأحياء
يتعظمون بمترفات جسومهم
مع أنها من أحقر الأشياء

وقوله من قصيدة مدح بها خالد بك أحد ولاة بيروت الماضين وأنشدها في محفل دار الحكومة:

وطالب سلمى والأسود حماتها
كطالب رؤيا الطيف والطرف ساهد
أسود الشرى من كل ليث مقذف
عليه دماء الجحفلَين شواهد
يرى النقع والمران تخطر تحته
ضبابة روضٍ تحتها البان مائد
ويبسم في الهيجاء والموت عابس
كأن المنايا الحمر بيضٌ خرائد

ومنها بيت التخلص قوله:

وأيد دين الوالهين جمالها
كما أيد الأحكام بالعدل خالد

ومن أشعاره في صبائه قوله لمن لاموه على الغرام صغيرًا:

لا تلوموا على التصابي صبيًّا
هب منذ الفطام يهوى الأحبةْ
ما تجافى بالحب عن دين عيسى
إن دين المسيح دين المحبة

ومنها قوله:

أقول وقد أذابت كل قلبٍ
بإرخاء الفروع على الترائب
أرباب الذوائب لا تتيهي
فنحن اليوم أرباب الذوائب

وقوله من قصيدةٍ طويلة:

غيد مغانيها لأرباب الهوى
سوقٌ وكلٌّ فيه أعظم خاسر
تاجرت في حب الحسان بمهجتي
فيها فكان السقم ربح التاجر
فشغلت أقلامي بشرح صبابتي
وملأت من وصف الحبيب دفاتري

وأنشد في فتاة حسناء شاهدها تبكي فقال لها: أعلى من قتلتِ تبكين أم على من لم تقتلي؟ قالت: بل عليك لأنك لم تمت:

شاهدتها في الحمى تبكي فقلت لها
قتلاك تبكين أم من عن هواك لها
قالت: وتربة من أهلكتُهم ولهًا
لم أبكِ إلا على من لم يمت ولها

ونظم هذين البيتين متغزلًا:

تعلمت من سلمى عفافًا ورقةً
وحلمًا وصبر الحر في حومة الحرب
فإن لم تكن هذي ثمار الهوى فما
يكون الهوى إلا هوانًا على الصبِّ

وورث الشاعرية عن جد أبيه أبي يحيى يعقوب بن سليمان فرح الحوراني، فقصَّ عليه أبوه ذلك وأسمعه بيتين من نظم جده وحثه على الشعر، فقال إبراهيم وهو من أول منظومه:

يقول أبي: بُنيَّ الشعر فخر
لمن بمقاله الغاوين يهدي
فزاول نظمه وانشر علينا
ذكي النشر من وردٍ ورند
فجدُّك كان ذا شعر نفيس
فقلت: انشر لنا نفحات جدي
فقال: إليك ما نقلت حداة
به كانت مطي الشوق تحدي
«ألا دع ما استطعت حديث نجد
ففي ذاك الحديث قديم وجد»
فجز تلك الربوع فإن فيها
لقتلى غادة ربوات لحد
فقلت: طربت من ذا الجد جدًّا
سأبذل في نظام الشعر جهدي

وله مقاطيعُ عديدةٌ كثير منها بين مبتدهٍ ومرتجل، وله مبتكرات في المنطق والرياضيات منها عبارات لجمع الأسراد المعينة ومعادلة الجيوب ومعادلة أضلاع الأشكال القياسية الوترية وقد نشرت في النشرة الأسبوعية، ومن مبتكراته مقالة فيما ترجع إليه الرياضيات نشرت في المقتطف، وله طرق مختصرة لحل المسائل الصعبة كان يمليها على تلاميذه في الكلية الأميركية ولا تزال معلقة على هوامش كتب الطلبة الأولين، علَّم في تلك المدرسة ثماني سنين ثم اختير لتحرير «النشرة الأسبوعية» وترجمة بعض الكتب وإصلاح الكتب ذات الشأن من المخطوطات والمطبوعات، وكان محررًا للنشرة الأسبوعية منذ سنة ١٨٨٠ وهو رئيس تحريرها اليوم، وعلم عدة سنين في المدرسة البطريركية في بيروت، وكان من أصدقاء البطريرك بطرس الجريجيري وله فيه عدة قصائد بليغة طبع أكثرها في كتابٍ مخصوص بذلك البطريرك الفاضل، ولا يزال إلى اليوم رئيسًا لتحرير النشرة ومصلحًا للكتب مع تدريس طلبة «المدرسة اللاهوتية الإنجيلية» في بيروت، وله مترجماتٌ كثيرة منها «المواعظ الميلادية» لسبرجن و«مواعظ مودي» و«رجال التلغراف» و«الطريق السلطانية» و«تفسير التوراة» أي الأسفار الخمسة بزيادة تفسير له على الأصل و«سيرة القديس أوغسطينوس» و«سكان وادي النيل» وغيرها كثير من الخطب والمقالات التي لم تنسب إليه، وهو خطيبٌ مشهور فكثيرًا ما دعته عمد المدارس والجمعيات العلمية والأدبية والخيرية لإلقاء الخطب في بيروت وصيدا وطرابلس وزحلة والشوير والشويفات وغيرها. ومما اشتهر به أنه أحكم كل ما حصله من العلوم أحسن إحكام، وأن العلوم التي حصلها بالمطالعة أكثر من التي حصلها في المدارس، وكثيرًا ما أرسلت إليه صعاب المسائل الطبيعية والرياضية وغيرها من دمشق ومصر وحلب وبغداد وأنحاء أميركا من علماء المهاجرين السوريين وغيرهم فحلَّها ونشرها في «النشرة الأسبوعية»، ولا يزال يدأب ويجتهد ويزيد علمًا واختبارًا، ويقوم بأعمال ثلاثة مجتهدين من أقوياء الشبان في التعليم والتحرير والتحبير، وهو ينسب كل ما أُولِيَه إلى الله من إدراك كل غاية ويقول: إن الفضل له تعالى في البداءة والنهاية.

الدكتور جورج بوست

منشئ مجلة «الطبيب» وصاحب امتيازها الأول.

***

هو جورج بن إدورد بوست وُلد في كانون الأول من سنة ١٨٣٨ في مدينة نيويورك، وتهذب في مدرستها المعروفة بكلية مدينة نيويورك ونال شهادتها سنة ١٨٥٤؛ أي وهو في سن السادسة عشرة، ومُنح درجة «معلم علوم» سنة ١٨٥٧ وكان أبوه من كبراء الجراحين. وأحكم الدكتور جورج الدروس الطبية وامتحن في كل فروعها وهو ابن عشرين سنة ونال الإجازة بالتطبيب، ودخل «مدرسة الاتحاد اللاهوتية» ودرس سنةً واحدة فاستطاع أن يدرك الشهادة اللاهوتية، والظاهر أنه درس كثيرًا من الدروس الطبية كالنبات والكيمياء والفيسيولوجيا وغيرهما من العلوم التي لا بد منها للطبيب في المدرسة العلمية، وامتحن فيها في المدرسة الطبية فأُعفي من درسها ثانيةً. ودرس التشريح وتركيب الأدوية والتشخيص والباثولوجيا والجراحة وغيرها من جوهريات الطب في زمنٍ قصير.

ولما الْتظت الحرب المدنية عرض نفسه للخدمة فقُبلت، وتزوج في ١٧ أيلول سنة ١٨٦٣ السيدة «سارة ريد» وتُعرف بمسس بوست، وبعد قليل اختار الخدمة المرسلية وأتى بيروت في ٢٨ من تشرين الثاني من سنة ١٨٦٣، وذهب منها إلى طرابلس وبقي فيها إلى ٣٠ من أيلول سنة ١٨٦٨ وعلَّمه فيها العربيةَ الأستاذ إلياس سعادة، ورجع منها في تلك السنة إلى الولايات المتحدة ورغب هناك في إنشاء مدرسة طبية في كلية بيروت، فأدرك مبتغاه ورجع إلى بيروت سنة ١٨٦٨ أستاذًا للجراحة وبقي كذلك إلى سنة ١٩٠٩، فكانت مدة تدريسه ٤١ سنة واستعفى، وكان جراح مستشفى القديس يوحنا منذ تأسيسه إلى سنة وفاته، وكان عضو عدة جمعيات منها «الجمعية النباتية» في لندن ثم «الجمعية النباتية» في نيويورك و«الجمعية النباتية» في أيدنبرغ و«المجمع الطبي» في نيويورك، وكان أيضًا رئيس «جمعية الأطباء والصيادلة» في بيروت.

ونقل عدة وساماتٍ فخرية منها «الوسام العثماني» من الدولة العثمانية ووسام «آل دوكان» من مملكة السكس ووسام «النسر الأحمر» من حكومة ألمانيا ولقب «فارس» من «جمعية فرسان أورشليم» الألمانية، وله مؤلفاتٌ كثيرة منها: (١) كتاب «نبات سوريا وفلسطين وسينا» في اللغة الإنكليزية وهو من أهم مؤلفاته، (٢) كتاب «النباتات البوسطية» طبع في جينوا من سويسرا في اللغتين اللاتينية والفرنسية. وله في اللغة العربية: (٣) كتاب «نبات سوريا وفلسطين ومصر»، (٤) كتاب «مبادئ علم النبات» يتضمن شرح بنيته ووظائفه ووصف الفصائل الطبيعية، (٥) كتاب «علم الحيوانات ذوات الثدي»، (٦) كتاب «علم الطيور»، (٧) كتاب «مبادئ التشريح والهيجين والفيسيولوجيا»، (٨) كتاب «الأقرباذين» أو المواد الطبية، (٩) كتاب «المصباح الوضاح في صناعة الجراح» وهو مطوَّل في الجراحة العلمية، (١٠) كتاب «فهرس الكتاب المقدس» وهو فهرسٌ أبجدي لجميع الألفاظ الواردة في التوراة والإنجيل والزبور، (١١) كتاب «قاموس الكتاب المقدس» في مجلدَين، (١٢) مجلة «الطبيب» أنشأها وحرر فيها بنفسه مدة أعوامٍ كثيرة، وله مقالات وخطبٌ عديدة كمقالة «العلم ينفخ» وغيرها.

ويُعدُّ من أرباب النهضة العلمية في سوريا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولم يتولَّ شيئًا من الأمور إلا نبغ فيه وعُد الأستاذ الأكبر، واشتهر بأنه من عظماء الرجال في العالمَين القديم والحديث، وكان واعظًا إنجيليًّا أكثر مواعظه في «الفداء» الإلهي، وبعد أن جاهد حياته كلها في سبيل العلم وخدمة الإنسانية حلت وفاته في ٢٩ أيلول ١٩٠٩ في قرية «عاليه» بلبنان، فنقلت جثته إلى بيروت ودفنت في المقبرة الواقعة بجانب الكنيسة الإنجيلية، وقد أقيمت له حفلةٌ تذكارية في «المدرسة الكلية السورية» حيث أُلقيت خطبٌ شتى وقصائدُ بليغة إقرارًا بفضله عليها. وقد وصف جرجي بك زيدان أعماله وآثاره وأخلاقه فاقتطفنا منها شيئًا قال:

قضى ٤١ سنة وهو يُعلِّم الجراحة وغيرها في «المدرسة الكلية الأميركية» ويعالج المرضى في المستشفى البروسيوي بالجراحة — وهو الفرع الذي خصص نفسه له واشتهر به بين الخاصة والعامة حتى أصبح لفظ «بوست» في عرف البعض مرادفًا للفظ «جراح»؛ لأنه أول من اشتهر بينهم بهذا الفن في أثناء هذه النهضة — ولم يكن عمله قاصرًا على التعليم والتطبيب والتأليف فقد كان يشتغل بعلومٍ أخرى يُساق إليها شغفًا بالعلم ورغبة في العمل كاشتغاله بالنبات، وكان مولَعًا به وله فيه وفي علم الحيوان آراء واكتشافاتٌ مهمة وخصوصًا في النبات، فإنه اكتشف كثيرًا من أنواعه في سياحاته بسوريا وفلسطين ومصر وسينا والأناطول، وقد سُمي بعضها باسمه «بوست» وألَّف على أثر ذلك كتابه في «نبات سوريا وفلسطين ومصر» وأصبح ثقة بجغرافية فلسطين الطبيعية.

وقد جمع بتوالي الأعوام معرضًا نباتيًّا بالمدرسة الكلية يُعد من المعارض الثمينة، وكان يقضي أكثر ساعات الفراغ فيه، وقد أعانه في جمعه تلامذته في النبات؛ لأنه كان يفرض على كلٍّ منهم أن يجمع أمثلة من النبات ويجففها ويقدِّمها له، فيختار هو ما يستحسنه منها ويضيفه إلى معرضه، فهو بهذا الفن وحده يستحق لقب «العالم العامل» ويعدُّ من كبار علماء النبات، وكان له في المدرسة فضلًا عن معرض النبات معارض للمواد الطبية والمستحضرات الجراحية، وفيها آثار ما أجراه من العمليات الجراحية كالحصى المثانية والأورام والعظام.

وكان مع ذلك يجد فراغًا يشتغل فيه بهندسة أبنية المدرسة فقد رسم بعضها بيده وكثيرًا ما كان يتعهد بناءها بنفسه، ولم يكن يضيع فرصة لا يفيد بها تلامذته حيثما التقى بهم من شرح عملية في المستشفى أو تفسير حادثة على الطريق أو في المنزل، وكان رابط الجأش وهو يعمل العمليات، فكثيرًا ما سمعناه يتحدث في السياسة أو الأدب أو الاجتماع ويداه غائصتان في الدم، لا يظهر عليه الارتباك مهما يكن من خطر العملية التي يشتغل بها فضلًا عن خفة يده في العمل، وكان يرحل إلى أميركا سعيًا في جمع الأموال للمدرسة وخصوصًا للقسم الطبي، ومن ثمار سعيه إنشاء قاعة العلم التي جعلوها دارًا للمعارض العلمية وقد سميت باسمه G. E. Post Science Hall، ومن آثاره الأدبية في خدمة هذه المدرسة أنه أنشأ لتلامذة الطب جمعيةً سماها «الجمعية الكلية» يتباحث فيها التلامذة في المواضيع المفيدة، وقد تولى رئاستها مدةً طويلة ووضع لها نظامات كانت مثالًا لكثير من الجمعيات التي نشأت في سوريا بعد ذلك.

وكان مدققًا في سائر معاملاته لا يُقصِّر في ما عليه للآخرين ولا يحتمل تقصير الآخرين في حقه، وهذا هو السبب فيما أشيع عنه من التدقيق في اقتضاء حقه من مرضاه، فلم يكن يتجاوز عن شيء من أجرة العيادة أو العملية، وربما نقص المبلغ المطلوب غرشًا أو بعض الغرش فلا يتحول ما لم يقبضه ولو كان المريض فقيرًا معوزًا؛ ويعدون ذلك بخلًا منه. وظهر هذا البخل مجسمًا بالمقابلة مع أريحية زميله الدكتور فنديك وسخائه، فقد كان هذا كثير التساهل مع مرضاه يعين بعضهم بثمن الدواء والطعام فضلًا عن أجرة العيادة، فظهر تدقيق صاحب الترجمة بخلًا قبيحًا وتحدَّث الناس به، والحقيقة أنه إنما كان يفعل ذلك جريًا على طبيعته في دقة المعاملة كما تقدم؛ بدليل ما علمناه عن ثقة أنه كان إذا دُعي لإعانة في مشروعٍ خيري تبرع بأضعاف ما يتبرع به سواه والتمس ألَّا يُذكر اسمه في قائمة المتبرعين.

وكان عصبي المزاج حادَّ الطبع يتسرع إلى سوء الظن — ربما بعثه على ذلك بالأكثر صممٌ كان في إحدى أُذنيه — فإذا رأى اثنين يتخاطبان سبق إلى ذهنه أنهما يتكلمان عنه فيحكم بالظن وقد يعاتب على الشبهة، وكثيرًا ما جر ذلك إلى التنافر بينه وبين تلامذته حتى آل إلى التقاضي لدى عمدة المدرسة، وتجسم الخلاف مرةً حتى اشتكاه طلبة الطب كافة إلى لجنة المبشرين الكبرى في سوريا على أثر الخلاف الذي وقع بين الطلبة وعمدة المدرسة سنة ١٨٨٢ وكنا من أولئك الطلبة، فاجتمعت تلك اللجنة من أنحاء سوريا للنظر في ذلك الخلاف لكنها لم تُحسن السياسة في حكمها، فخرج معظم طلبة الطب من المدرسة واستعفى الدكتور فنديك انتصارًا لهم في حديثٍ طويل لا محل له هنا. والكمال لله وحده.

محمد رشيد الدنا

مؤسس جريدة «بيروت» وصاحب امتيازها الأول.
لئن حسُنت فيه المراثي وذكرها
لقد حسنت من قبلُ فيه المدائح

***

هو الحاج رشيد ابن الحاج مصطفى ابن السيد سعيد الدنا، وُلد سنة ١٨٥٧م/١٢٧٤ﻫ في بيروت، وقرأ الأصول الدينية في حداثته على السيد محمد مرتضى الحسني، ثم دخل «المدرسة الوطنية» للمعلم بطرس البستاني فتلقَّى آداب اللغات العربية والتركية والفرنسية ونصيبًا وافرًا من العلوم والفنون، وقد خدم لأول عهده في مصلحة التلغراف وأخذ يترقى في معارج التقدم حتى ظهر اقتداره وعيَّنته الحكومة مديرًا لشعبة البريد والتلغراف في مدينة مكة، وجاور هناك أكثر من سنتين ثم حضر إلى مسقط رأسه بإشارة أخيه الأكبر عبد القادر الدنا وكان وقتذاك رئيسًا لمحكمة التجارة في بيروت.

ولما كانت الحكومة العثمانية في ذلك العهد تضنُّ بترقية مأموريها غير الأتراك إلى الوظائف العالية رأى صاحب الترجمة أن يستقيل من منصبه حرصًا على مستقبله، ويتجرَّد للخدمة العمومية الوطنية بواسطة الصحافة، فطلب امتيازًا بإنشاء مطبعة وجريدة سماها «بيروت» وأصدرها في ٢٢ آذار سنة ١٨٨٦، وهي الجريدة التي خدم بها الوطن وأبناءه على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم مدة ست عشرة سنة بصدق اللهجة وإخلاص النية. ومن آثاره الأدبية أنه طبع في مطبعته كتبًا مفيدة أشهرها «تاريخ الدولة العثمانية» للكاتب الشهير أحمد جودت باشا، وقد نقله أخوه عبد القادر من اللغة التركية إلى اللسان العربي؛ ولذلك فقد كافأته الدولة على مساعيه الجليلة بأن منحته الوسام «المجيدي الثالث» والوسام «العثماني الرابع» مع «الرتبة الثانية المتمايزة»، وبينا كان عاملًا على خدمة الصحافة بنشاط أصابته حمَّى شديدة جاشت بدمه مدة عشرة أيام، فمات على أثرها في ٦ آيار ١٩٠٢م/٢٨ محرم ١٣٢٠ﻫ مبكيًّا من الرفيع والوضيع لما كان متزينًا به من الشمائل الحسنة ومحبة عمل الخير، وقد حُمل نعشه بغاية الإكرام تتقدمه فرقة من البوليس والجندرمة وكتائب من الجنود البرية والبحرية وكثير من العلماء والوجهاء الذين رافقوا الجثة إلى تربة «الباشورة» ودفنوا الفقيد إلى جوار شيخه وأستاذه السيد محمد مرتضى الحسني.١

وقد رثاه بعض الشعراء بكثير من المراثي التي لم نتوفق إلى الوقوف عليها لنثبت شيئًا منها، وبعد وفاته احتجبت جريدة «بيروت» مدة أربعة أشهر ثم عادت إلى الظهور في ٨ أيلول ١٩٠٢ بعد تحويل امتيازها لعهدة أخيه محمد أمين الدنا، وقد كُتبت على ضريح صاحب الترجمة هذه الأبيات مختتمة بتاريخٍ شعري:

قبر به حل رشيد الدنا
وقد بكا حزنًا عليه الزمان
بيروت تبكيه بدمع جرى
فوق خدود الطرس مثل الجمان
كان لها ركنًا ركينًا وقد
نالت به بالشرق أسمى مكان
قضى فنال الفوز في قصده
مولى كريمًا ضيفه لا يهان
وإن هذا الفوز أرخته
به غدا محله في الجنان
سنة ١٣٢٠ هجرية

نقولا نقاش

محرر مجلة «النجاح» ومؤسس جريدة «المصباح» وصاحب امتيازها الأول.

***

هو نقولا بن إلياس بن ميخائيل نقاش، وُلد في بيروت في أوائل سنة ١٨٢٥ إثر أن ترك والده صيدا واتخذ بيروت موطنًا له. ومذ بلغ صاحب الترجمة السنة الرابعة من عمره انكبَّ على تعلم مبادئ اللغتَين العربية والسريانية فظهرت عليه مخايل النجابة والذكاء، وما لبث أن أحكم اللغتَين المذكورتَين قراءة وخطًّا مع الفنون الحسابية.

وبعد ذلك انكبَّ على طلب اللغة الإيطاليانية وما فتئ أن أتقنها وأصبح يتكلم وينشئ بها كأربابها، ثم أخذ يتخرج على شقيقه مارون نقاش فأخذ عنه مبادئ اللغة التركية وطريقة مسك الدفاتر على النسق الأوروبي، ولما كان أخوه مارون أزمع في ذلك الحين على السفر إلى أوروبا خلفه في باشكتابة جمارك بيروت وملحقاتها، وبقي على هذه الخطة بضع سنوات طلب بأثنائها العلوم العربية بفروعها على العلامة الخوري يوسف الفاخوري فصار ينشئ المقالات الرنانة وينظم القصائد المحبرة، وفي الوقت ذاته انعكف أيضًا على مطالعة كتب اللغة التركية بدون أستاذ حتى برع فيها وتضلَّع منها وصار فيها كاتبًا بارعًا وشاعرًا مجيدًا، وكان بأثناء ذلك قد أنشأ شقيقه مارون المرسح العربي وألَّف بالعربية أول رواية، فأخذت الحمية صاحب الترجمة وبادر إلى تأليف جملة روايات بالعربية أودعها الحكم والفوائد المصلِحة للآداب والأخلاق، فجاءت أبكار أفكار تشهد بطول باع مؤلفها.

وفي سنتي ١٨٥٢ و١٨٥٣ تعاطى التجارة باسمه ولحسابه الخاص، ثم بعد ذلك قدم بيروت أنطون بك ملتزمًا جمارك الأمتعة في سورية، فأقام صاحب الترجمة محاسبًا لها ثم مديرًا عليها، ولما سافر أنطون بك إلى الآستانة عهد إلى صاحب الترجمة بإدارة جميع أعماله، ومنذ سنة ١٨٥٩ تعاطى أعمال البانقة بشركة نعوم قيقانو بعنوان «قيقانو ونقاش وشركاهم».

ولما كان في جميع المهام الآنفة الذكر وفي جميع مؤلفاته ومنشوراته قد أثبت إخلاصه للدولة العثمانية اتخذه كامل باشا بمعيته؛ إذ كان متصرفًا على بيروت، ثم انتُخب عضوًا لمجلس الإدارة في اللواء المذكور، ولما نصب مديرًا لجمارك الدخان انعكف على مطالعة قوانين ونظامات الدولة العثمانية حتى أتقنها، وإثر ذلك أخذ العلوم الشرعية عن أشهر المشائخ العلماء ولا سيما «علم الفرائض» الذي أخذه عن العلامة الشيخ يوسف الأسير، ومن سنة ١٨٦٩ حتى سنة ١٨٧٦ كان عضوًا لمجلس إدارة ولاية سورية في دمشق، وبأثناء ذلك ترجم وطبع كتاب «قانون الأراضي» وغير ذلك من الكتب القانونية، وفي سنة ١٨٧٧ كان في جملة النواب الذين انتخبتهم ولاية سوريا ليمثلوها في مجلس المبعوثان، وفي سنة ١٨٨٠ أنشأ جريدة «المصباح» التي كتبنا أخبارها في الباب الأول من هذا الجزء وعاشت ثمانية وعشرين عامًا، وكان في سنة ١٨٧٢ قد تولى تحرير مجلة «النجاح» التي أصدرها القس لويس صابونجي السرياني ويوسف شلفون، وفي سنة ١٨٨٩ نُصِّب عضوًا دائمًا لمحكمة بيروت التجارية، ثم استقال منها واتخذ المحاماة والوكالات في الدعاوى مهنة له حتى آخر حياته.

الوسامات والرتب

أن الدولة العلية قد نظرت إلى اجتهاد صاحب الترجمة وصداقته بعين الرضى فأنعمت عليه أولًا بالرتبة الرابعة ثم رقَّته إلى الثالثة ثم إلى الثانية، وقد أنعمت عليه أيضًا بالوسام المجيدي من الطبقة الرابعة ثم بالوسام المجيدي من الطبقة الثالثة تبديلًا مكافأة لترجمته «شرح قانون الجزاء»، وقد أهدى إليه الحبر الأعظم الطيب الذكر البابا بيوس التاسع وسام «القديس غريغوريوس» من طبقة كواليير مكافأة لما أبداه من آثار الفضيلة وما قام به من الأعمال الخيرية، وفي سنة ١٨٦٩ أقبل على سورية زائرًا حضرة صاحب السمو الأمير فريدريك (الذي صار فيما بعدُ إمبراطورًا لألمانيا وهو والد الإمبراطور غليوم الثاني)، فامتدحه صاحب الترجمة بقصيدة محبَّرة وقعت لديه أحسن موقع فأهدى إليه الأمير دبوسًا ثمينًا مرصَّعًا بحجرٍ كريم، ولما أقبل الغراندوق نيقولا شقيق قيصر الروسية للسياحة في سورية رفع إليه نقولا نقاش قصيدةً فريدة في بابها فأهدى إليه خاتمًا ثمينًا.

مؤلفاته وترجماته

أما ما للفقيد من الآثار العلمية والأدبية في عالم المطبوعات تأليفًا وتعريبًا فهي كما يأتي:
  • أولًا: رواياته: «الشيخ الجاهل» «والموصي» و«ربيعة» فضلًا عن غيرها من الروايات الأدبية.
  • ثانيًا: ديوانه، وهو يشتمل على منظومات في الآداب والحكم والرثاء والمديح والأخلاق.
  • ثالثًا: ترجماته القانونية التي أضاف إلى شرحها كثيرًا من آرائه والفوائد التي اقتبسها بالمزاولة والاختبار، وهاك أسماء الكتب المذكورة: قانون الأراضي، قانون الجزاء، قانون أصول المحاكمات الجزائية، قانون أصول المحاكمات الحقوقية، قانون التجارة، شرح قانون التجارة، ذيل قانون التجارة (نقل بمناظرته)، رسالة في القانون (تأليف)، قانون الأبنية، قانون تشكيلات المحاكم، تعريفة الخروج في المحاكم النظامية والدوائر العدلية، ثم ترجمة كليات شرح الجزاء وهو سفر ذو ٤١٤ صفحةً، ثم بعض أجزاء من شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية، وهذه الترجمات معتمد عليها في جميع المحاكم النظامية والدوائر العدلية، ثم ترجمة كليات شرح الجزاء وهو سفر ذو ٤١٤ صفحة، ثم بعض أجزاء من شرح قانون أصول المحاكمات الجزائية، وهذه الترجمات معتمد عليها في جميع المحاكم النظامية في كل من ولايات سورية وبيروت وحلب ومتصرفيتَي لبنان والقدس الشريف وغيرها.
  • رابعًا: مقالاته العدلية التي نشر أكثرها في جريدة المصباح بعنوان «آثارٌ عدلية».
  • خامسًا: كتاب «تكريم القديسين» أثبت فيه ما للأولياء من الشفاعة.
  • سادسًا: جريدة «المصباح» التي أنشأها سنة ١٨٨٠.

وفي ٤ كانون الأول ١٨٩٤ انتقل إلى دار البقاء فشيعت جنازته باحتفال إلى الكنيسة المارونية الكاتدرائية ثم إلى المقبرة، وقد أبَّنه الخوري أسطفان الشمالي وأنطون قيقانو والدكتور سليم جلخ والشيخ سعيد الشرتوني وإبراهيم الأسود ويوسف خطار غانم وأنطون شحيبر بما شفَّ من شديد الأسف على خسارته، فإنه كان واسع الاطلاع خبيرًا في أحوال الزمان موصوفًا بالتأني وتوقُّد الذهن وذكاء القريحة، وقد رثاه فارس شقير بقصيدة نفيسة نورد منها هذه الأبيات:

من كان بالأمس نقاش الصحاف هدى
ينسيك حسان أو يزري بسحبان
إذا انبرى لا يبارى في مناظرةٍ
وإن جرى لا يُجارى بين أقران
مضى إلى الله حيث الدار خالدة
مستوفيًا أجر أعمالٍ وإيمان

الدكتور يعقوب صروف

أحد مؤسسي مجلة «المقتطف» في بيروت والقاهرة وجريدة «المقطم» في القاهرة.

***

هو يعقوب بن نقولا صروف وُلد في الثامن عشر من شهر تموز سنة ١٨٥٢ في قرية «الحدث» بلبنان، وتلقى العلوم العالية في «المدرسة الكلية السورية» في بيروت ونال سنة ١٨٧٠ شهادة «بكالوريوس» في العلوم مع أول فرقة خرجت منها، وأقام سنتين في صيدا يُدرِّس المرسلين الأميركيين اللغة العربية، وأنشأ المرسلون حينئذٍ مدرسةً عالية في طرابلس الشام وعرضوا عليه رئاستها فتولَّاها سنةً واحدة، وفي آخرها اختارته عمدة «المدرسة الكلية السورية» لتدريس العلوم الرياضية والفلسفة الطبيعية فيها فاستعفى من رئاسة مدرسة طرابلس في أواخر سنة ١٨٧٣ وعاد إلى المدرسة الكلية، وعكف على الدرس والتدريس وقرن العلم بالعمل وجعل تلامذته يطبقون علم الهندسة وحساب المثلثات على مساحة الأراضي ويصنعون الآلات الطبيعية كلفائف الحدة والأجراس الكهربائية، وكان ذلك دأبه وهو تلميذ فإنه صنع آلة تدور بالماء على مبدأ مطحنة «باركر» وهو يدرس علم السائلات، فأخذها رئيس المدرسة وحفظها بين أجهزة الفلسفة الطبيعية وهي التي ذكرته بهِ حينما كانت المدرسة تفتش عن أستاذ لتدريس علم الطبيعيات.

واستعفى أستاذ الكيمياء بعد حين فوقع الاختيار على يعقوب لتدريسها بدلًا منه، وجعل يدرس الكيمياء الوصفية والتحليلية، ويقرن القضايا النظرية بالتجارب العلمية حتى لم يترك تجربةً كيماوية تذكر في كتب التدريس إلا امتحنها أمام تلامذته ولو تحت الخطر الشديد، ودرَّس تلامذة الطب الكيمياء الباثولوجية والإقرباذينية وعلم السموم (التكسكولوجيا)، وهذه العلوم الثلاثة لم تكن تدرَّس في المدرسة الكلية قبلًا؛ فاضطر أن يؤلف لها خطبًا جمعها من المطوَّلات الإنكليزية فأنهك الشغلُ جسمه وكاد يذهب ببصره، وكان إذا كلَّ عقله من البحث في موضوع يريحه بالبحث في موضوعٍ آخر، ودام على ذلك إلى أن ترك المدرسة الكلية في أواخر سنة ١٨٨٤ بعد أن أقام فيها خمس عشرة سنة أربعًا كتلميذ وإحدى عشرة كأستاذ.

وألَّف وهو في المدرسة الكلية كتابًا كبيرًا في الكيمياء وخطبًا في العلوم الثلاثة المتقدمة، وترجم كثيرًا من الكتب الأدبية ككتاب «سر النجاح» و«الحرب المقدسة» و«الحكمة الإلهية»، وترجم بالاشتراك مع رصيفه الدكتور فارس نمر كتاب «سير الأبطال والعظماء» وكتاب «مشاهير العلماء»، وأنفقا أجرة ترجمتهما على مدرسةٍ يومية كانا يقومان بنفقاتها، ووضعا هذه التراجم في اللغات العربية والإنكليزية والفرنسوية.

ولكن العمل الأعظم والتأليف الأكبر الذي وقف له العمر ولم يزل قائمًا به حتى الآن هو «المقتطف» المجلة العلمية الشهيرة، فقد أنشأه بالاشتراك مع رصيفه الدكتور فارس نمر سنة ١٨٧٦ وهما في المدرسة الكلية، وظلا يحررانه سويةً إلى أن أصدرا المقطم سنة ١٨٨٩ فانقطع الدكتور نمر لإنشاء «المقطم» والدكتور صروف لإنشاء «المقتطف».

ولما انتقلا بالمقتطف إلى القطر المصري سنة ١٨٨٥ كانت شهرتهما العلمية قد سبقتهما إليه فرحب بهما عظماء مصر وعلماؤها، والدكتور صروف مولع بالمقتطف فيقضي أكثر أوقاته مهتمًّا بما يكتبه فيه ولا سيما بعد أن تفرغ له، فهو الكاتب الآن لكل مقالاته إلا ما ينشر منها تحت اسم غيره، وهو الكاتب أيضًا لكل أبوابه كباب الصناعة وباب الزراعة وباب تدبير المنزل وباب التقاريظ وباب المسائل والأخبار. وقد يمضي عليه أسبوعٌ كامل وهو يبحث عن المواد اللازمة لمقالةٍ واحدة، بل قد يمضي عليه أيام وهو يبحث عن كلمةٍ واحدة، والغالب أنه يشرع في الكتابة عند الساعة السادسة أو السابعة صباحًا، فلا يأتي الظهر حتى يكون قد كتب ما يملأ خمس صفحات أو ستًّا من صفحات المقتطف على ما تقتضيه من التدقيق والتحقيق والمراجعة في الكتب والصحف المختلفة، ويقضي بقية النهار في المطالعة وقراءة المسودات والاهتمام بشئون الإدارة، ولعلمه أن قراء المقتطف مختلفون علمًا ومشربًا، وأنه لا بد من جر النفع إليهم كلهم حتى يجد كلٌّ منهم ما يفيده في كل جزء من أجزائه تراه يبذل جهده لكي ينشر في كل جزء مقالاتٍ مختلفة المواضيع بين فلسفية وعلمية وأدبية، عدا ما ينشره في أبواب «المقتطف» الخاصة من الفوائد الصناعية والزراعية والمنزلية والأخبار المتقطفة من أشهر الصحف العلمية في أوروبا وأميركا.

ويختلف إنشاؤه في هذه المواضيع باختلافها، فالمواضيع الأدبية «كالصداقة» و«نعيم الدنيا» و«الاغتراب» و«المهاجرة» و«فوائد الغنى ومضاره» أكثر فيها من السجع والتمثُّل بالأشعار، ومن قبيل ذلك الفصول التي كتبها في رحلته إلى الصعيد الأعلى وسمَّاها «رسائل النيل» وفي رحلته إلى عواصم أوروبا وسماها «مشاهد أوروبا» ونُشرت كلها في المقطم والمقتطف، والمواضيع الفلسفية «كقياس العقول» و«الحياة وآراء الفلاسفة فيها» و«آراء الناس في النفس» و«غرائب العقول» و«حرية الإرادة» بدأها غالبًا بالأمثلة لكي يتدرج القارئ من المحسوسات إلى المجردات ومن الجزئيات إلى الكليات فلا يعزُّ إدراكها على جمهور القراء، والمواضيع العلمية سواء كانت طبيعية أو صحية أو اجتماعية وهي الجانب الأكبر من مقالات المقتطف سلك فيها مسلك البسط والإيضاح، وغرضه الذي يرمي إليه في كل ما يكتبه جمع الحقائق وبسطها لتقريبها من أذهان القراء والاقتصار على ما ترتاح النفس إلى مطالعته ويتصفَّحه المرء من غير ملل.

ومن مذهبه أن العلم للعقل كالطعام للمعدة فيجب أن يكون صحيحًا خاليًا من كل الشوائب معدًّا لدخول العقل والبقاء فيه، وأن يكون أيضًا في حد الكفاف غير زائد عليه وإلا أُتخِم العقل به ولم ينتفع منه، كما أن الطعام يُتخِم المعدة ويضرُّها إذا كان فاسدًا أو مشوبًا بالشوائب أو غير معدٍّ للهضم بالطبخ والمضغ أو زائدًا عن الكفاف.

ولا يذخر وسعًا ولا يضنُّ بتعب مهما كان شاقًّا في تكثير منافع المقتطف وتعميم فوائده، وكثيرًا ما تدعوه كتابة مقالةٍ واحدة إلى تصفُّح كتابٍ كبير أو كتبٍ كثيرة كمقالاته في «نوابغ العرب والإنكليز»، فإنه لما أخذ يقابل بين أبي العلاء المعري والشاعر ملتن الإنكليزي اضطر أن يتصفح ديوان المعري المعروف بسقط الزند وديوان ملتن المعروف بالفردوس المفقود، ثم عاد إلى ديوان المعري وأشار إلى كل الأبيات التي حسب أن لها ما يقابلها في أشعار ملتن، وكرر على ديوان ملتن حتى اختار منهما أبياتًا متشابهة اتفق خاطراهما فيها، وفعل مثل ذلك لما قابل بين سيرة السلطان صلاح الدين الأيوبي والملك رتشرد قلب الأسد الإنكليزي، ومن هذا القبيل تلخيصه لكتاب سلاتين باشا «السيف والنار في السودان» في فصولٍ قليلة.

ولحرصه على تعميم الفوائد يبحث عن كل الخطب والمقالات التي تنشر في الصحف والكتب الإفرنجية وأعمال الجمعيات العلمية، حتى إذا وجد فيها فوائد يرغب أبناء العربية في الاطلاع عليها ترجمها أو لخَّصها أو اقتطف منها ما منه فائدةٌ كبيرة، ولذلك قلما تُتلى خطبةٌ كثيرة الفوائد في نوادي أوروبا وأميركا أو تُنشر مقالة عميمة المنافع في صحفها العلمية إلا ترجمها أو لخَّصها ونشرها في المقتطف أو نشر فيه شيئًا من فوائدها، فألِف قراؤه أسماء أساطين العلم وأراكين الفلسفة كهكسلي وسبنسر وتندل وكلفن وورخوف وبستور ولنغلي ومركوني وكوخ وغيرهم، كما ألِف قراء الصحف السياسية اسم غلادستون وبسمارك وسلسبري وجيرس وغمبتا وهنوتو، وجارَوا أكثر فروع العلم في تقدمها.

وله طريقةٌ مبتكرة في المقابلة بين أقوال المتقدمين والمتأخرين، فإذا وصف حيوانًا أو نباتًا ذكر ما قاله فيه المتقدمون من علماء العرب واليونان. وإنشاؤه سلس بعيد عن التعقيد كما هو بعيد عن أساليب الأعاجم ولو كان المكتوب مترجمًا. وهو يكره غريب الألفاظ ويبعد عنها جهده؛ لأنه يحسب اللغة وسيلة لا غاية، فما أدى المراد منها على أسهل السهل وأقربها ولم يخالف قواعد اللغة فهو الفصيح الجدير بالاتباع.

ونظم الشعر الجيد وهو في الرابعة عشرة من عمره، لكنه سمع أستاذه في اللغة العربية الشيخ ناصيف اليازجي يقول: إن بضاعة الشعر بارت وسوق الأدب كسدت وانحطَّ مقام الشعراء، فرغب عن الشعر وعقد النية على ألَّا يقوله في التزلُّف إلى مخلوق، ولهذا تجد أشعاره كلها في وصف أو رثاء كوصف «مشاهد أوروبا» ولا سيما «وداع باريس» و«وداع لندن» و«وصف رأس البر»، وإذا أراد التمثل ببيت وخانته الذاكرة نظم بيتًا في معناه، وعلى سبيل المثال نورد قصيدته في «وداع باريس» قال:

ودَّعتُ باريس مفتونًا بمرآها
وآي حسنٍ تجلَّى من محياها
وجاه ملكٍ رفيع الشان جاورها
دهرًا طويلًا ولم يبرح بمغناها
رواقه مسيطر في معالمها
وبدره مشرق في أوج علياها
مرسومة في جبين الدهر صولته
تتيه عجبًا بأولاها وأُخراها
وعصبةٍ عَصَمتْهم في صناعتهم
إلهة الحسن فاستهدوا بسيماها
وخلدوا ذكر أرباب السيوف ومن
فاق الورى حجةً أو فاقهم جاها
أو خاض بحر المعاني فاجتنى دُررًا
وصاغ منها حلًى حسنٍ بها باهى
أو غاص في لج بحر العلم مجتليًا
غوامض الكون تعميمًا لجدواها
وآل علمٍ وفضل طار صيتهمُ
فطبَّق الأرض أقصاها وأدناها
هم الألى في سماء المجد قد رفعوا
لها منارًا وأعلوه فأعلاها
هذي كليمات صدقٍ صُغتُها قدمًا٢
في وصفها قبل أن تجلى خباياها
وقبلما تتجلَّى في مرابعها
آيات حسنٍ يهيج الشوقَ ذكراها
وقبلما تتبارى في معارضها
ممالك الأرض أقصاها وأدناها
نثرًا ونظمًا قصدت الوصف فامتلكت
يراعتي مدهشات لست أنساها
والمرء يحصر والأقلام يودي بها
في موقف المجد روعٌ أن تولاها
فكيف أسطيع وصفًا بعدما نشرت
بيارق المجد أعلاها وأسناها
وبعدما ملئت من كل مفخرة
من واسع الأرض أعيانًا وأشباها

وأقام أربع سنوات يكتب أكثر ما ينشر في مجلة «اللطائف» لمنشئها شاهين مكاريوس من مقالات وفكاهات ونُبذٍ مختلفة، وينقح ما ينشر فيها من غير قلمه، وإذا غاب رصيفه الدكتور فارس نمر أو امتنع عن التحرير بسببٍ ما؛ تولى تحرير المقطم بدلًا منه وأكبَّ على كتابة المقالات الإنشائية فيه وإلا فما يكتبه فيه قليل جدًّا. ولما كان في بيروت تولى رئاسة «جمعية شمس البر» بضع سنوات ثم رأس «المجمع العلمي الشرقي» وهو الذي وضع قانونه وله اليد الطولى في تأسيسه، وفي سنة ١٨٩٠ نال لقب دكتور في الفلسفة من المدرسة الجامعة في نيويورك.

وزار عواصم أوروبا سنة ١٨٩٣ ولقي كثيرين من علمائها وفضلائها، وانتدبته لجنة مجمع المعرض الأميركي العام مع رصيفه الدكتور نمر للكتابة عن أحوال القطر المصري ومستقبله؛ فأنشأ في ذلك رسالةً مسهبة باللغة الإنكليزية تُليتْ في إحدى جلسات ذلك المجمع، ثم زار أوروبا مرةً أخرى عام ١٩٠٠ في أثناء معرض باريز العام. وفضله في نقل علوم الأوروبيين والأميركيين إلى ربوع المشرق بواسطة المقتطف لا ينازع فيه أحد، وله فضلٌ آخر لا يعلمه أبناء المشرق وهو أن كثيرين من علماء أوروبا وأميركا يعتمدون عليه في تحقيق المسائل العلمية التي في الكتب العربية، فيكاتبونه في ذلك وهو يبذل الجهد في إجابة طلبهم.

ولاشتغاله الطويل بالعلم والفلسفة اطلع على آراء أكثر علماء العصر وفلاسفته، فشرح كثيرًا منها في صفحات المقتطف وتابع أصحابها فيما ظنه صوابًا، وخطَّأهم في ما ظنه خطأ؛ فشرح أن العربية لغات قبائلَ مختلفة بدليل كثرة مترادفاتها وأن الدخيل فيها أكثر مما يُظَن كثيرًا، وأن أصل كلماتٍ كثيرة غمض بخطأ النساخ كما في كلمة «يحيا» فإن أصلها «يحنا»، وأن على الحكومة أن تضع حدًّا لمطامع الأغنياء ومالكي الأرض كما تضع حدًّا لأقوياء الأبدان والمهرة في استعمال السلاح حتى لا يستعملوا أبدانهم وأسلحتهم للإضرار بالغير، وأن تجيز صك النقود الفضية من غير قيد ثم تبدلها كل بضع سنوات بما يساوي قيمتها الأصلية وتتحمل الخسارة كما فعلت إنكلترا لما استردت أنصاف الجنيهات الناقصة بطول الاستعمال وأبدلتها بما يساوي قيمتها الأصلية، إلى غير ذلك مما تراه مسطورًا في صفحات المقتطف.

واقترن سنة ١٨٧٨ بالسيدة ياقوت بركات وهي من فضليات النساء ومن أوفرهن علمًا وأبلغهن إنشاءً، فرأست بيته وجعلته ناديًا لأصدقائه الكثيرين من أهل العلم والفضل ونشرت على صفحات المقتطف كثيرًا من المقالات التي تدل على باعٍ طويل في العلم والأدب، وهو ينسب نجاحه وتمكُّنه من مواصلة أشغاله العقلية إلى مشاركتها له في الرأي وإلى الراحة البيتية التي متَّعته بها. هذا ما علمناه من أخبار صاحب الترجمة استنادًا إلى ما ورد في كتاب «مرآة العصر» المطبوع في القاهرة سنة ١٨٩٧ وأضفنا إلى ذلك معلوماتنا الخاصة.

خليل سركيس

رسم أُخذ في سنة ١٩١٢.
صاحب امتياز جريدة «لسان الحال» ومجلة «المشكاة».

***

هو خليل بن خطار سركيس وُلد في ٢٢ من كانون الثاني ١٨٤٢ في «عبيه» من لبنان، وفي عام ١٨٥٠ قدم مع عائلته إلى بيروت حيث انتظم في سلك طلبة المدرسة الأميركية التي كان يديرها وقتئذٍ القس طمسن، وكانت المدرسة الوحيدة في بيروت فأخذ من العلم فيها ما تضمنته لائحة دروسها في تلك الأيام. ولما كانت المدرسة بجوار المطبعة الأميركية كان يتردد إليها وقد وجد من نفسه نزوعًا طبيعيًّا إلى الصناعة، وما لبث أن حقَّق رغبته في تعلم صناعة الطباعة، فدخل إلى المطبعة عام ١٨٦٠ ولم يكن إلا القليل من الزمن حتى أتقن هذا الفن، فأنشأ مطبعة عام ١٨٦٨ بشركة سليم البستاني سماها «مطبعة المعارف»، وفي عام ١٨٧٣ تزوج السيدة لويزا إحدى كريمات المعلم بطرس البستاني وهي من خيرة النساء وأفضلهن، وفي عام ١٨٧٥ رغب عن الشركة في استحصال امتياز مطبعةٍ خاصة به سماها «المطبعة الأدبية» وامتياز جريدة دعاها «لسان الحال» وامتياز مجلة دعاها «المشكاة»، ولما تم له ذلك وانفرد في العمل لم يدخر الوسع في إعطاء كلٍّ من المطبعة والجريدة حقها من الرقي والنماء، ففي المطبعة عدة آلات للطباعة على اختلاف حجمها، فمنها لطبع المؤلفات والجرائد ومنها للأشغال التجارية وكلها تُدار بالبخار.

figure
رسوم المطبعة الأدبية وجريدة لسان الحال: (١) المكتب (٢) مسبك الحروف (٣) المطابع.

وقد وجَّه عنايته إلى سبك الحروف التي اشتهرت بالجودة والإتقان في القارات الخمس، فبعد أن كانت من قبلُ محصورة بالحرف الأميركي أوجد بمعاونة الشيخ إبراهيم اليازجي الحرفَين الأول والثاني الإسلامبولي، وما عتم أن استصنع أيضًا بعد حين سائر أجناس الحروف التي اشتهرت عنه كالثلث الأكبر والثلث الأوسط والثاني السميك والرقعي، وهو أول من أوجد أكبر حرفٍ عربيٍّ رصاصي يبلغ طوله ميليمترًا وأكبر حرف خشبي يبلغ طوله ٢٥ سنتيمترًا، وكذلك له الفضل في إيجاد الحرف الفارسي في الطباعة على ثلاثة أنواع واستحضار مسابك الحروف على الاصطلاح الجديد الذي يمكنه من سبك ١٧٠ ألف حرف في اليوم الواحد لمن شاء، وأكثرها يكون صالحًا للترتيب كما يتوضح ذلك في برنامج المطبعة.

figure
فؤاد سركيس.

وفي سنة ١٨٩٢ شخص إلى الآستانة وكان موضوع اعتبار وإكرام أولياء الأمر فيها بدليل تقليده الوسامَين «المجيدي الثالث» و«العثماني الرابع» بكل استحقاق، وله كتاب في هذه الرحلة يشتمل على ما راق وطاب من الحوادث التاريخية والفوائد الجليلة، وفي السنة عينها أعلنت الدولة العثمانية اشتراكها في «معرض شيكاغو» فنهض كثيرون من أبناء الوطن يريدون الذهاب إليه لاستعراض ما عندهم من الطرف الشرقية من صناعية وغيرها، وخطر لبعضهم أن ينشئوا مرمحًا في ذلك المعرض فألَّفوا شركة لذلك، ولما شقَّ عليهم جمع المال المطلوب للقيام بهذا المشروع طلبوا إليه مُلحِّين أن يتولى إدارة الشركة، وما زالوا به حتى أقنعوه على الرئاسة، فتعيَّن رأس مال الشركة عشرين ألف ليرةٍ إنكليزية، وفي أقل من أربع وعشرين ساعة تغطت القيمة ضعفَين، ولكن لم تصادف هذه الشركة نجاحًا لما اعترض في سبيلها من المصاعب التي لا محل لسردها هنا، فانتهت بخسائرَ فادحةٍ كان حظ صاحب الترجمة منها الأوفر، وقد جمع في كتابٍ خاص أخبار رحلته إلى الآستانة وأوروبا وأميركا بعد أن نشرها تباعًا في جريدة «لسان الحال» وضمنها من الفوائد الأدبية والأخلاقية والتجارية وغيرها ما يستعين به الإنسان في سفراته إلى البلاد التي ذكرنا.

figure
سلمى سركيس.

وفي سنة ١٨٩٥ التهمت النار بقضاء وقدر قسمًا من مطبعته الكاملة المعدات، ولما نمى إليه الخبر بادر مسرعًا إلى السوق وعندما اقترب من محل المطبعة وقد اندلع لسان اللهيب من جهاتها الأربع قال لمن كان يرافقه: «إن جرائد الثغر لا تُعدم في هذا الصباح نشر أهم خبر محلي.»، ومما اشتهر عنه ثبات الجنان ورباطة الجأش والحزم والعزم في كل ما انتابه من النوائب وألمَّ به من المصائب، ثم جلس في غرفة احترمتها النار وهي الغرفة التي كان قد اتخذها مكتبًا له ومحلًّا لاستقبال الزائرين فاستقبل وفود المسلِّين على اختلاف الطبقات، وأما ما أتلفته النار فقوِّم بخمسة آلاف ليرة ولم تكن هذه القيمة مضمونة، وكتب على أثر ذلك في «لسان الحال» مقالةً محبرةً حكمية رددت صداها الجهات المختلفة بدليل توارد الرسائل عليه، فلم يدع واحدة منها بدون جواب، وقد أفرز لها كتابًا سماه «عنوان الشهامة».

وفي سنة ١٨٩٦ قبل أن ينسى تينك النكبتَين استقبل ثلاثًا أشد منهما وقعًا في النفس، بل دونها كل نكبة، لا يصبر عليها إلا من أوتي نعمة خارقة من لدن الله؛ فُجع بكبير أولاده المرحوم «فؤاد» في الخامسة عشرة من عمره، وفي ثلاثة أيام من بكائه عليه دهمه خطبٌ ثانٍ بفقد شقيقه الوحيد «أمين» الذي كان قد بقي له من إخوته الذكور، وفي ثلاثة أشهر منه مُني بفقد «سلمى» إحدى بناته، وفي عشر سنوات نزلت به النكبة الرابعة؛ إذ ابتلاه الله بدعوة ابنةٍ ثانية إليه تُدعى «ندى»، وكان في جميع هذه النكبات موضوع حيرة ودهشة في صبره وتجلُّده وتسليمه حتى صار معارفه يضربون به المثل في احتمال النكبات والصبر على الشدائد.

هذا ومع توفر مشاغله لم يتقاعد عن الاشتراك في كل مشروعٍ نافع يُنتدب إليه، فانتخب عضوًا في «مجلس المعارف» في الولاية ورئيسًا «للجمعية الخيرية الإنجيلية» وعضوًا لقومسيون «مكتب الصنائع» وعضوًا مؤسسًا «لجمعية مستشفى السل»، وفي سنة ١٩٠٢ كان «لسان الحال» قد استوفى السنة الخامسة والعشرين من ظهوره فأجمع مريدوه ومقدرو فضله على أن يُقيموا له عيدًا وأن يُقدموا له تذكارًا ناطقًا بخدمته الصادقة للدولة والوطن، فألَّفوا لجنة دعت جميع أصدقائه ومعارفه ومنهم العلماء والأدباء والوجهاء إلى داره حيث صرحوا بفضله نظمًا ونثرًا، وعلى إثر ذلك انتصب صاحب الترجمة وخطب فيهم الخطاب الآتي:

نظرتم إليَّ بعين الرضى، وعين الرضى عن كل عيب كليلة، فأرتكم القليل الذي قدر لي الله أن آتية كثيرًا، فإني وإن كنت بعيدًا من الإعجاب والتيه، فلا يسعني الآن إلا أن أعجب، كيف لا أعجب وجلَّة من ذوات الثغر اهتمَّت لشأني، والتفتت إلى أعمالي فأنزلتها منزلة الرضى والقبول! على أنني لست إلا خادمًا للدولة وللوطن المحبوب، سعيت وأسعى ما دامت الروح في الجسد في هذه الخدمة المقدسة، وحسبنا دليلًا واحدًا من ألف ما جاء من إحصاء الكتب المطبوعة في المطبعة الأدبية في مدة ثماني عشرة سنة، فقد بلغ عدد الكتب التي طُبعت فيها ستمائة وخمسين مؤلفًا ما بين أدبية وعلمية ودينية وزراعية وصناعية، وبلغ عدد نسخ هذه المؤلَّفات مليونًا ومائة وتسعين ألف نسخة ما عدا جريدة «لسان الحال» وغيرها من الجرائد والمجلات.

شرفتموني يا سادتي بمناسبة بلوغ جريدتكم «لسان الحال» السنة السادسة والعشرين؛ أي لربع قرن مضى من خدمتها، فلا أجازف إذا قلت: إنني خدمتها في هذه المدة لتقوم بخدمتكم، فلم أكتب فيها حرفًا إلا كان مظهرًا لفضل الدولة العلية وإصلاح شئونها، ولم أسطر على صفحاتها كلمة إلا قصدت فيها فائدة التاجر والصانع والزارع وتوقعت منها خيرًا للوطن عمومًا.

ولا يخفى عليكم أن الصحفي مكلف إرضاء التاجر والصانع والشيخ والشاب والأوانس والعقائل والعازب والمتزوج والذاهب والآيب والبائع والشاري مما يقرح القلب، فلا أعرض عليكم ابتياعه واستبداله بقلبٍ ليس بذي قروح شأن ذاك المغرم، فقد اعتدت حمله حتى صرت أقول:

وصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال

وإذا كان قد بدر من «لسان الحال» بعض عبارات لم تجئ في الوضع موافقة لما قُصد منها فلم يعجز عن إصلاحها والتماس العذر فيها والعصمة لله، ولئن كنت قد أفرغت أيام الشباب في هذه الخدمة حتى ضعفت النواظر وأزهر اللوز وبطئت حركة المطاحن وودعت الشبيبة بقول ابن الوردي:

ودِّع الذكرى لأيام الصبا
فلأيام الصبا نجمٌ أفل

فقد لقيت من عملكم يا سادتي ما يعيد الشباب ويرد في العروق دمه وعزيمته ونشاطه.

بعثتْ محبتُكم بكل جوارحي
عزمًا أعاد إليَّ عزم شبابي

أجل لقد تجددت في عروقي قوة الشباب بما تلقيت من إحسانات ولي النعم مولانا وسلطاننا الأعظم، وما رأيت من عناية وجهائنا في الثغر وغيره، ولا سيما من عناية وإخلاص الصديق الحميم صاحب الوجاهة عين أعيان الشهباء عزتلو جورجي أفندي خياط الذي اقترح هذا المشروع على مواطنيه وإخوانه، ومن غيرة رصفائي الأفاضل في بيروت ولبنان الذين اهتموا لهذا الأمر، فأتوسل إليه تعالى أن يتيح لهم الاحتفال بالأعراس الثلاثة وإن أكن وقتئذٍ في غير هذا العالم فإن عظامي تشترك بأفراحهم.

وفي العام الماضي قبل أن يبلغ «اللسان» نهاية السنة الخامسة والعشرين سألني كثير من الأصدقاء أن نحتفل بمرور ربع قرن من صدوره، فشكرت لهم هذه العناية وسألتهم الإغضاء عن ذلك، فتكرر هذا الطلب فكررت الرجاء بالإغضاء إلى أن ترجَّح عندي قبول رجائي، ولما كان شهر من دخول «اللسان» في السادسة والعشرين كتب إليَّ عزتلو خياط أفندي في الموضوع الذي كنت قد اعتقدت دخوله في خبر كان، فسألته الإضراب عنه شاكرًا لحسن ظنه بي مبينًا له أن ما فعلته لم يكن من خوارق العادات؛ لأنني إذا كنت قد نشرت اللسان فقد أفدت واستفدت، وأين ما أتيته في جانب آثار ذوي الفضل المشهورة الذين سبق أبناء الوطن فاحتفلوا لهم بأعيادٍ فضية كسيادة الحبر العلامة المفضال المطران يوسف الدبس الذي بنى كنيسة مار جرجس الشهيرة وغيرها من المعابد، ورفع عماد «مدرسة الحكمة» التي أهدت للوطن أولادًا مثقفين فضلًا عن تصانيفه العديدة ما بين علمية وأدبية ودينية، وكذلك السعيد الذكر المرحوم الدكتور فانديك الذي تشهد له كتبه العديدة عند الناطقين بالضاد بعلو الهمة ورفعة المقام بين العلماء الأعلام، فضلًا عن خدمته الطويلة للطب خدمةً يقر بشكرها ألوف من الطلبة في أنحاء المعمور، وكذلك حضرة الشيخ الجليل العالم الدكتور دانيال بلس الذي شيد بسعيه «المدرسة الكلية» التي يندر مثلها في أوروبا وأميركا والتي انبثَّ المتخرجون فيها في القارات الخمس، فكررتُ رجائي عند صديقي المذكور بغضِّ الطرف فألحَّ عليَّ بضرورة إتمام مرتآه، وطال بيننا الجدال في هذا الموضوع حتى استغرق عدة رسائل، وبينا كنت أعتقد الإجابة إلى التماسي والإضراب عن الأمر الذي أطال مراجعتي فيه أضاءت النار من خلال الرماد؛ أي أن القول برز إلى حيز العمل، ووردني على أثر ذلك كتاب من صديقي يقول إننا باشرنا العمل رضيتَ أو أبيت.

فبأي لسان أشكر الذين أعلنوا رضاهم عني بالاشتراك في هذا المشروع؟ وأي عبارة تفي بالثناء على الذين قاموا به ولا سيما حضرة الشيخَين الفاضلَين محمد أفندي بدران والعلامة الدكتور ورتبات اللذين خصَّصا وقتًا لهذا العمل مع تكاثر أشغالهما؟ فاللهَ أسأل أن يتولى مكافأتهم عني وأن يوفق حضرات زملائي إلى مشاهدة أعراسهم الثلاثة، وأختم كلامي بالدعاء المفروض على كل عثماني ببقاء الحضرة العلية السلطانية وحفظ أنجالها العظام ووزرائها الفخام وتأييد ملكها ما توالت الأيام.

figure
تابع لرسوم المطبعة الأدبية وجريدة لسان الحال: (١) دائرة التجليد (٢) الإدارة (٣) دائرة صف الحروف (٤) الأشغال التجارية.

نشرنا خطابه لبيان ما أتاه من الخدم الوطنية منذ بدء عمله حتى الوقت الحاضر، فمن خدماته الأدبية تنقيح كتابَي «عنترة» و«ألف ليلة وليلة» وطبعهما بحيث تسنَّى للمخدَّرات الاطلاع عليهما، وطبع «مقدمة ابن خلدون» و«مقامات الحريري» وقدمهما لطلاب العلم بثمن يُسهِّل لهم اقتناؤهما، وخدم المدارس بتأليف كتاب «سلاسل القراءة» وهو ستة أجزاء قد ذاع حتى دخل المدارس في أكثر جهات المعمور؛ لأنه لم يُنسج على منواله كتابٌ سهل التناول على الطلاب، وخدم السيدات بتأليف «أستاذ الطباخين وتذكرة الخواتين»، وخدم القوم بإهدائهم إلى أشرف العادات في تأليفه كتاب «العادات»، وخدم المحامين والأطباء وغيرهم «بالمفكرة» التي يصدرها سنويًّا من المطبعة الأدبية، وخدم محبي الرياضة برواية «سعيد وسعدى» في سن الصبوة وكذلك بكتاب «نزهة الخواطر»، وخدم محبي التاريخ بتأليف «تاريخ القدس الشريف» وكتاب «معجم اللسان» وهو قاموسٌ هجائي يحتوي على أسماء القواد والسفن والأماكن التي ورد ذكرها في أخبار الحرب سنة ١٩٠٤ بين روسيا واليابان، وخدم التاجر والبائع والشيخ والشاب والعجوز والصبية بالروزنامة السورية التي أصدرها في سنة ١٨٦٨؛ أي في سنة إنشائه المطبعة، فصادفت إقبال جميع الناطقين بالضاد، وهي ثاني روزنامة عربية ظهرت في المعمور، وخدم الدولة والوطن بجريدته «لسان الحال» ومجلته «المشكاة».

وفي سنة ١٨٩٨ زار إمبراطور ألمانيا أنحاء سورية وفلسطين فأمَّ ركبه بصفةٍ رسمية وكتب رحلته في رسائلَ متواصلةٍ برقية وبريدية نشرت تباعًا في جريدة لسان الحال ثم طبعها في كتاب على حدة، وفي سنة ١٩١١ اعتراه مرض تصلب الشريانات فاضطر أن يعتزل معترك العمل، فاعتمد في إدارته الواسعة الأطراف نجله الوحيد رامز سركيس فقام بإدارة المطبعة قيام الأب من حيث ضبطها وانتظام أعمالها حتى صحَّ قول القائلين «إن هذا الشبل من ذاك الأسد».

ذكرنا ترجمة حياته على أننا لم نذكر شيئًا عن صفاته التي اتفقت الكلمة على الثناء عليه واعتباره، فقد جمع بين اللطف والذكاء والغيرة والنشاط والحزم، وله اصطلاح في الكتابة يعرفه عددٌ كثير من الكتبة والأدباء، ومن محسنات كتاباته أن القارئ لا يمل منها بل إنه يتبع قراءتها مهما كانت كبيرة حتى النهاية؛ إذ لا بد من إدخال بعض الاستعارات والأمثال التي تزيد كتاباته فكاهةً وتحببًا. وكتاباته الإصلاحية والاجتماعية والفكاهية في لسان الحال دليل على سلامة ذوقه في التحبير والإنشاء واختياره الأمور بدقائقها ومعالجته الداء بدواءٍ ناجع، وله في سرعة الخاطر نوادرُ مستغربة يحوي صدره لكثير من النكات والنوادر والأشعار.

وخليل سركيس كريم الأخلاق واسع الصدر هني في معيشته مع عائلته وأصحابه، قدير وجسور على العمل، وكثيرًا ما شاهدناه في بيته كالولد الصغير وفي إدارة أعماله الواسعة كالقائد عند هجوم العدو على جيشه، قلت له مرةً «لماذا هذه الحدة؟» فأجاب: «الأعمال لا تقوم إلا بالحدة.»

زاره صديق يومًا فصادف ورود طابعةٍ جديدة إليه فرآه يُفكِّكها، فسأله صديقه: «ولماذا التعب ولا أرى في الآلة ما يستوجب ذلك؟»، فأجاب: «من رئيسياتي أن كل آلة مهما كان نوعها لا بد لي من فكها وتركيبها قبل تشغيلها حتى إذا توقفت يومًا أقدر أن أصلح الخلل في الحال.»

ويمكننا أن نقول بكل حرية إن صاحب الترجمة خير من ضبط إدارة العمل، وعلم كيف يستفيد منها ويفيد؛ بدليل تقدمه في الأعمال وانتشار حركة أعماله، يذكره المتعاملون معه وأصدقاؤه بكل خير، وهم شديدو الاحتفاظ بصداقته؛ لأنه صادق وحر لا يصاحب أحدًا لمأربٍ خاص، ومن أجمل ما عُرف فيه المحافظة على الصداقة في الحالين لين وشدة والسراء والضراء والميل إلى عمل الخير على يقين لا على رغبة في الشهرة، وهو سليم النية طيب السريرة، وعلى الجملة فسوريا تبتسم فرحًا بأن يكون من أبنائها وطنيٌّ فاضل كخليل سركيس خدم الوطن والبلاد خدمة يسطرها له التاريخ جيلًا بعد جيل، ونجعل مسك الختام هذه الأبيات التي نظمها إلياس حنيكاتي عندما أنعم على صاحب الترجمة بالوسام المجيدي الثالث في سنة ١٨٩٧ واختتمها بتاريخ هجري لسنة ١٣١٧ وهي:

لخليلنا سركيس غُرُّ مآثر
ومكارم موروثة عن وارث
شهم زها خلقًا ورقَّ شمائلا
وتراه عند الوعد ليس بناكث
إخلاصه في حب دولتنا العلية
ظاهر لم يفتقر لمباحث
لما رأت منه الوفاء تعطَّفت
أرخْ عليه بالوسام الثالث

الدكتور فارس نمر

أحد مؤسسي مجلة «المقتطف» في بيروت والقاهرة وجريدة «المقطم» في القاهرة وجريدة «السودان» في الخرطوم.

***

هو فارس بن نمر بن فارس أبي ناعسة، وُلد في بلدة «حاصبيا» من أعمال ولاية سوريا في ٦ كانون الثاني سنة ١٨٥٦، وبعد خمس سنين من ولادته حدثت المذابح الهائلة في سوريا المعروفة بسنة ستين، وكانت حاصبيا إحدى النواحي التي عمتها تلك المصائب فقُتل أبو صاحب الترجمة أوانئذٍ، فحملته أمه مع أخيه نقولا وأخته مريم إلى مدينة بيروت حيث اتخذتها سكنًا لها، ولما بلغ منتصف السادسة وضعته المرحومة والدته في المدرسة الإنكليزية لتعلُّم مبادئ العلوم اللازمة لمن كان في سنه، وفي نهاية السنة الأولى رُفع إلى منبر في الاحتفال السنوي فلفظ خطبةً أدهش بها السامعين، وقد تنبأ بعضهم بأنه سيكون أول خطيب في الشرق.

وفي أواخر سنة ١٨٦٣ ذهبت به والدته إلى القدس الشريف وأدخل هناك إلى «المدرسة الصهيونية الإنكليزية» فبقي فيها نحو خمس سنين تعلم في أثنائها الإنكليزية والجرمانية ومبادئ التاريخ والحساب، ثم عاد إلى بيروت ودخل في أواخر سنة ١٨٦٨ مدرسة «عبيه» في لبنان وفيها تلقَّى مبادئ الصرف والنحو، ولم يُقمْ في تلك المدرسة أكثر من أربعة أشهر فتركها وسافر إلى حاصبيا مسقط رأسه حيث مرض مرضًا ثقيلًا بالحمَّى، وبعد سنة جاء بيروت حيث كانت أمه قد عادت إليها واستخدم في مخزنٍ تجاري مدة ثم تركه طامعًا بتعلم العلوم العالية، فدخل «المدرسة الكلية السورية» وجعل همه التقاط الفوائد واكتساب العلوم السامية فسهر وجدَّ واجتهد، وكان في مقدمة مؤسسي «جمعية شمس البر» الشهيرة في بيروت وله فيها الخطب الرنانة والمباحث الجليلة ولم تمنعه وفرة دروسه عن خدمتها وتوطيد أركانها، وكان أيضًا وهو في حين تعلمه في المدرسة المذكورة يُدرِّس وقتًا في مدرسة البنات البروسية العالية، وكان يصرف ما يسرقه من أوقاته المدرسية في ترجمة الكتب الدينية والتاريخية والعلمية وقد طبعت في «النشرة الأسبوعية».

وبعد أن انتهى من دروسه القانونية نال الشهادة البكلورية سنة ١٨٧٤ وعُين معاونًا للدكتور فانديك في المرصد الفلكي في بيروت ومعلمًا لعلمي الجبر والهيئة في المدرسة الكلية، وكان يعلِّم أيضًا اللغة الإنكليزية في المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك، وفي عام ١٨٧٥ ترجم كتاب «الظواهر الجوية» للأستاذ لومس الأمركاني وطبع الكتاب في مطبعة الأمركان في بيروت، ثم أنشأ في عام ١٨٧٦ بالشركة مع يعقوب صروف مجلة «المقتطف» التي اكتسبت شهرةً عظمى وثبتت على خطةٍ واحدة حتى اليوم، ثم عُين مدرسًا للعربية وآدابها وللاتينية في نفس المدرسة الكلية، وبعد ذلك مدرسًا للرياضيات العليا والهيئة والظواهر الجوية.

وفي عام ١٨٨٢ أنشأ مع جماعة من أهل الفضل كالدكتور كرنيليوس فانديك والدكتور يعقوب صروف والدكتور بشارة زلزل وجرجي بك زيدان وغيرهم «المجمع العلمي الشرقي» في بيروت، وقد افتتحه بخطابٍ نفيس في «علم الهيئة القديم والحديث» طبع في المقتطف وفي كتاب أعمال المجمع المذكور.

وفي عام ١٨٨٣ عين مديرًا للمرصد الفلكي والمتيورولوجي؛ إذ كان قد استعفى الدكتور فانديك، وبقي عاملًا على الرصد فيه إلى حين تركه المدرسة الكلية وإتيانه إلى الديار المصرية وذلك في أواخر عام ١٨٨٤، وفي سنة ١٨٨٥ نقلت مجلة المقتطف إلى مصر وصارت تصدر في القاهرة، وكان لما بلغ كبراء مصر وعلماءها الأعلام خبر التصميم على نقل إدارة المقتطف إلى وادي النيل سُرُّوا سرورًا عظيمًا، فكتب كل من الوزيرين الخطيرين شريف باشا ورياض باشا يرحبان به، وهاك ما كتبه رياض باشا بعد الديباجة:

أُخبرت أنكم عزمتم على نقل جريدتكم الغراء إلى الديار المصرية، فسرني ذلك لما تحويه من الفوائد الجليلة والنفع الدائم لكل بلاد رُفعت راية علومكم فيها، وقد اغتنمت هذه الفرصة لأبدي بها نصيحتي لأبناء هذا القطر بمطالعتها واجتناء فوائدها، فإن للمقتطف عندي منزلةً رفيعة وقد ولعت بمطالعته منذ صدوره إلى اليوم، فوجدت فوائده تتزايد وقيمته تعلو في عيون عقلاء القوم وكبرائهم، ولطالما عددته جليسًا أنيسًا أيام الفراغ والاعتزال ونديمًا فريدًا لا تنفد جعبة أخباره ولا تنتهي جدد فرائده سواء كان في العلم والفلسفة أو في الصناعة والزراعة التي عثرت فيها على فوائدَ لا تُثمَّن، هذا علاوة على ما فيه من المباحث الآيلة إلى تهذيب العقول وجلاء الأذهان وتفكيه القراء، فلذلك تترحب مصر بالمقتطف الأغر وتحلُّه محل الكرام الذين اشتهر فضلهم وعمت فواضلهم.

رياض
وهذا ما كتبه محمد شريف باشا:

إن الذين خبروا حال العالم واستقصوا سنن الهيئة الاجتماعية واستقروا أسباب ترقية البلدان واتساع نطاق الحضارة في كل مكان أجمعوا على أن العلم أعظم ركن في بناء التمدن والمعارف وأوثق رباط لحفظ الأمم وتعزيز شأنها، ولذلك عظمت قيمة العلماء عند أرباب العقول واعتبرت الوسائط التي من شأنها بثُّ العلوم وتعميم المعارف في البلدان. ولما كان المقتطف خير ذريعة لنشر المعارف بين المتكلمين بالعربية فلا عجب إذا نال ما نال من رفعة المقام في اعتبار الخاصة والعامة معًا. وقد بلغني في هذه الأثناء خبر نقله إلى القطر المصري بعدما خبرتُه وخبرتُ معارفكم زمانًا، فاستحسنت أن أُبدي مسرَّتي بذلك لما فيه من الفوائد التي لا تستغني عنها البلاد، ولا ريب عندي أن عقلاء مصر ونبهاءها لا يغفلون عن تعميم فوائده ولا يتقاعدون عن السعي لنشر علومه بينهم، لا سيما وقد علموا أن إنارة الأذهان وتثقيف العقول أقوى واسطة لحفظ الأمة وشدِّ عرى اتحادها.

محمد شريف
وبعد مضي سنتَين من وجود صاحب الترجمة في القاهرة أنشأ بمعاضدة بعض أصدقائه «جمعية الاعتدال» في مصر وذلك في عام ١٨٨٧ ثم انتخب عضوًا لمجمع بريطانيا الفلسفي، وسنة ١٨٨٩ أنشأ مع زميلَيه الدكتور يعقوب صروف وشاهين بك مكاريوس جريدة المقطم التي نالت الشهرة العظيمة في الشرق والغرب، وأُهدي إلى صاحب الترجمة أوانئذٍ من جلالة أوسكار ملك أسوج ونروج بصفة كونه رئيس المؤتمر الشرقي «وسام المعارف الذهبي» مكافأة له على خدمائه الجليلة العديدة في تعزيز المعارف ونشر العلوم، وهاك نص ما كتبه إليه معتمد الدولة الأسوجية في مصر:

حضرة الفاضل الأديب فارس أفندي نمر حفظه الله

معلوم لجنابكم ما نحن عليه من حب أرباب المعارف ومساعدتهم بما تحتمله القدرة رغبةً في تنشيط الهمم وإعلاء كلمة الأدب، وقد رأينا من آثاركم العلمية على تنوع مواضيعها ما تقصر عنه عبارات البلغاء لو عمدوا إلى بيانه، فلذلك طلبنا إلى جلالة مولانا الملك أوسكار بلسان الرجاء أن ينظر إلى جنابكم بعين لا ترى منه غير عضو من جسم الهيئة العلمية، فوقع الطلب موقع القبول؛ إذ أنعمت الحضرة الملكية على الجناب بوسامٍ ذهبي (ميداليا) لا يحمله إلا رجال الفنون والصناعات العالية، وسنقدُم إلى مصر به عما قريب فيزدان بصدر الجناب لا زال في المجالس صدرًا وفي المطالع بدرًا والسلام عليه ورحمة الله.

الكونت كرلودي لندبرج
قنصل دولتي أسوج ونروج العام
ووكيلها السياسي بمصر

وفي ١٨ تموز من عام ١٨٨٨ اقترن بكريمة قنصل الإنكليز سابقًا في الإسكندرية فسافرا إلى سوريا لصرف صيف تلك السنة في لبنان، وفي أواخر الصيف عاد إلى مصر، وفي شهر تموز عام ١٨٩٠ نال رتبة دكتور في الفلسفة من مدرسة نيويورك الجامعة، ومن ثم زار عواصم أوروبا في السنة نفسها وجاء لوندرا واجتمع بكبار السياسيين فيها ونشرت جرائدها الشيء الكثير عنه وعن آرائه، ثم زار أوروبا مرارًا وذهب سنة ١٩٠٠ لزيارة معرض باريس، وفي سنة ١٩٠٣ أنشأ جريدة «السودان» باللغتَين العربية والإنكليزية في مدينة الخرطوم، وهي ذات ست صفحات كبيرة تبحث في جميع الشئون التي تعود بالنفع على البلاد السودانية لا سيما الزراعة والتجارة.

وله في خلال السنين الطويلة التي صرفها ما بين التعليم والعمل بالعلوم خطبٌ كثيرة طبع قليلها، وبالاختصار أن شهرته تغني عن كثرة الإطناب به، ومعارفه المعروفة عند الخاصة والعامة تشهد له بعلو المنزلة في عالم الفضل، والفوائد العميمة التي بذلها للبعيد والقريب حملت جماهير العلماء والفضلاء على الاعتراف له بالسبق في مضمار العلم والأدب، ولا يقوى السامع لكلامه والقارئ لمقالاته على النكران، وقد قال اللورد كتشنر باشا معتمد بريطانيا العظمى في مصر إذ سمعه ذات مرة يوضح خطابًا إنكليزيًّا للجنرال «سمث» في إحدى الجلسات في مصر «إن الدكتور نمر كله عقل.» وقال غيره «إن عبارته العربية أفصح من عبارة الخطاب الإنكليزية.» وهو يحسن الإنكليزية عدا لغاتٍ متعددةٍ أوروبية.

وكان قبل إعلان الدستور في الدولة العثمانية لا يستطيع الرجوع إلى وطنه، فجاء بيروت سنة ١٩١١ بعد غيابه عنها ستًّا وعشرين سنة، فاحتفل العلماء والأصدقاء بقدومه وأقامت المدرسة الكلية السورية حفلةً خاصة في ناديها إكرامًا لهذا الزائر الذي تعلَّم وعلَّم فيها، وكنا حينئذٍ في جملة المدعوين وقد سمعناه يخطب بفصاحته المشهورة التي أعجب بها كل الحاضرين، وهو الآن أبلغ كاتبٍ سياسي في الشرق وأفصح خطيبٍ عربي بشهادة الذين عرفوه واختبروه، ومنذ إنشاء جريدة «المقطم» انقطع إلى تحريرها مع مشاركة في تحرير مجلة «المقتطف» عند سنوح الفرص، فنال المقطم مركزًا عاليًا بين الصحف السياسية عمومًا والعربية خصوصًا بقوة برهانه وغزارة مادته وحرية مبادئه، وتعدُّ هذه الجريدة ترجمان أفكار صاحب الترجمة ولسان حاله، وقد أنفق عمره بين المحابر والأقلام وسعى كثيرًا في ترقية أحوال الشعب العثماني وتنبيه أفكاره إلى المطالبة بالحرية وكسر قيود استبداد الحكام الظالمين، وترجم مع زميله الدكتور يعقوب صروف كتاب «سير الأبطال والعظماء» وكتاب «مشاهير العلماء» وغيرهما.

إلى هنا انتهى ما أمكننا الوقوف عليه من أخبار صاحب الترجمة سواء كان بما نقله إلينا الرواة الموثوق بهم أو بما اقتطفناه من كتاب «مرآة العصر».

جراسيموس مسرة

مطران بيروت للروم الأرثوذكس وأحد منشئي جريدة «الهدية» لجمعية التعليم المسيحي.

***

هو جرجي بن أسبيريدون بن نقولا بن مسرة مسرة، ووالدته حنة بنت ميخائيل بن عطا الله العايق. أبصر نور الوجود في الثامن عشر من شهر آب سنة ١٨٥٨٣ في مدينة اللاذقية، فتعلم في مطلع حداثته في أحد مكاتبها البيتية مبادئ القراءة العربية، وعندما ترعرع أدخله أبواه المدرسة الأرثوذكسية التي أنشأها في ذاك العهد السيد ملاتيوس دوماني مطران اللاذقية، فتلقَّى فيها اللغة العربية على الأستاذَين جبران نقولا جبارة (السيد غريغوريوس جبارة مطران حماة الحالي) وشاكر شقير، وألمَّ باللغتَين اليونانية والتركية، وكان منذ نعومة أظفاره مولعًا بمطالعة الكتب الدينية والتراتيل الكنسية؛ مما حمل صاحب المدرسة على أن ينظمه في سلك الكهنوت، فرقَّاه في ٢٥ كانون الأول ١٨٧٣ إلى درجة الرهبنة وأبدل اسمه الأصلي المتعارف «جرجي» بجراسيموس، فكان في هذه الدرجة مشكاة الفضائل ومثال الاجتهاد الروحي والأدبي، ولما رأى راعي الأبرشية نشاطه وأمانته أرسله على نفقته إلى كلية «خالكي» اللاهوتية التابعة للبطريركية المسكونية في القسطنطينية.

وفي سنة ١٨٧٩ هزَّه الشوق إلى مسقط رأسه لمشاهدة أهله وإخوانه وترويح النفس من عناء الدرس، فما وصله حتى سامه معلمه شماسًا إنجيليًّا وذلك في ٦ آب من السنة المذكورة فكان هذا الترقي باعثًا لنشاطه وإقدامه، ثم قفل راجعًا إلى مدرسته حيث أتمَّ علومه ونال قصب السبق على أقرانه بإحرازه شهادةً قانونيةً موقَّعة من رئيس المدرسة ومصدَّقًا عليها من بواكيم الثالث البطريرك المسكوني المنتقل إلى رحمته تعالى من عهدٍ قريب، وذلك في سنة ١٨٨٢ وهي أول شهادة حاز عليها أحد أبناء سورية فخوَّلته لقب «دكتور» في اللاهوت، ثم عاد إلى اللاذقية حيث أقام في خدمة كنيستها مدة سنتَين يدرس في غضونهما اللغة اليونانية والموسيقى فضلًا عن الوعظ والإرشاد. فاتصل أمره بمسمعَي السيد إياروثاوس البطريرك الأنطاكي في دمشق فاستدعاه إليه وأناط به إدارة القلم اليوناني، فخفَّ صاحب الترجمة في ١٥ آب سنة ١٨٨٤ إلى مركزه الجديد الذي لم يتربَّع فيه أحد قبله من السوريين في مدة البطاركة الأنطاكيين الذين كانوا إلى ذلك العهد من اليونان الأصليين، فوفى وظيفته حقَّها فضلًا عن توليه في ساعات الفراغ تدريس اللغة اليونانية وموسيقاها في المدرسة الأرثوذكسية الدمشقية.

وفي أواسط سنة ١٨٨٧ باشر في دمشق بناء منارة في صحن الكنيسة المريمية لتعليق جرسٍ كبير كان أُهدي إليه من عهدٍ بعيد ولم يكن له قبة ليعلق فيها، وقد شارف ذلك البناء بنفسه مدة سنةٍ كاملة. وبعد وفاة البطريرك إياروثاوس المومأ إليه تضاربت الآراء واختلفت الأهواء على من يخلفه، فأخذ المترجم يبين لجماعة الإكليروس والشعب شدة احتياج الملة إلى حبر من أحبار الكرسي الأنطاكي خبير بحاجاتها ومتفانٍ في تحقيق رغائبها، وأراد به سيادة معلمه المطران ملاتيوس دوماني مشيرًا من طرفٍ خفي إلى محاسن صفاته وجليل مناقبه.

فكان أن عاكست الظروف فأصاب الانتخاب السيد جراسيموس أحد مطارنة الكرسي الأورشليمي، فامتعض من هذا الأمر وخصوصًا مما كان يسمعه من أغلب الشعب وبعض رجال الكهنوت من أن المطارنة الوطنيين لا يصلحون ولا يجوز لهم أن يكونوا بطاركة، فعوَّل على إزالة تلك الأوهام من عقولهم، وكان أول ما نشره على صفحات جريدة «الهدية» وهي في أوائل نشأتها نبذةٌ تاريخية عنوانها «سلسلة البطاركة الأنطاكيين» وتطرق منها إلى المناظرات الدينية بينه وبين أصحاب جريدة «البشير» حتى حمل «جمعية التعليم المسيحي» صاحبة تلك الجريدة على أن تصدرها أسبوعية بعد أن كانت تصدرها شهرية. وقد أقام له البطريرك الأنطاكي حفلةً خاصة في الكنيسة المريمية وسماه فيها «واعظًا للكرسي الأنطاكي».

figure
رسوم قسم من الأبنية التي شيدها المطران جراسيموس مسرة في دير القديس جرجس بسوق الغرب.

على أن المترجم لم يكتفِ بما كان يحرره في «الهدية» بل أخذ في تعريب وتأليف الكتب الدينية، فترجم أولًا عن اليونانية رسالة السيد أفجانيوس البلغاري «البينات الجلية» ثم ألَّف كتاب «الأنوار في الأسرار» وغيرهما. ولما ذاع صيته وطارت شهرته دعاه الشعب الإسكندري لرعايته وخدمة كنيسته، فارتاح إلى هذه الدعوة؛ لأن الشعب الإسكندري كان في مقدمة الشعوب التي خطبت وده وقدرت قدره. وقد رغب البطريرك الأنطاكي أن يكافئه على خدمه المبرورة قبل مبارحته دمشق فسامه في ٢١ من تشرين الثاني سنة ١٨٨٨ كاهنًا فأرشمندريت، وقد شُيِّع من أهالي الشام كما استُقبل من الإسكندريين بمجالي الاحتفاء والتكريم، وهناك تولى خدمة الشعب والكنيسة بهمة لم يعترها ملل حتى ترطبت الألسنة بإطرائه والثناء عليه.

وفي ٢٨ حزيران سنة ١٨٨٩ انتخبه المجمع الأنطاكي مطرانًا لأبرشية حلب غير أنه لأسبابٍ صحية لم يستطع الإذعان لدعوته، فلبث في القطر المصري نحو ١٤ سنة مواظبًا على الخدم الدينية والتأليف والوعظ والإرشاد. ومن حميد مساعيه في القاهرة تأسيسه «الجمعية الخيرية الأرثوذكسية» التي لا تزال إلى يومنا هذا معترفة بجميل مآتيه السابقة.

وفي عام ١٩٠٠ يمم الحمامات المعدنية في أوروبا استشفاء مما ألمَّ به على أثر مرض الحمى (التيفوئيد)، وهناك زار معرض باريس وتعرف إلى كبار رجالها، وبعد إبلاله قصد سويسرا ثم انتقل إلى إيطاليا فتفقد معالمها ومعاهدها ولا سيما قصر الفاتيكان وآثار روما الشهيرة، وحظي بشرف المثول أمام قداسة الحبر الأعظم لاون الثالث عشر فأكرم وفادته ونال من لدنه وسامًا فخريًّا. وبعد عودته إلى الإسكندرية رأى أن المجمع الأنطاكي أعاد انتخابه مرةً ثانية أسقفًا لأبرشية حلب فلم يجد سيادته بدًّا من إجابة طلبه، غير أن الأطباء لم يرخصوا له لأسباب صحية أيضًا، وبينما هو والمجمع في هذه المفاوضة وإذ رزئت أبرشية بيروت بمطرانها السيد غفرئيل شاتيلا، فحامت أفكار البيروتيين على طلب صاحب الترجمة غير أن فريقًا منهم ظن أن لأبرشية حلب شأنًا في هذا الانتخاب فأخذ يعاكس ويحتج على انتخابه، وكثر التشيع والتحزب للفريقين ورنَّ صدى مقالاتهما في جريدة «الرقيب» الإسكندري وغيرها فانقلبت المناظرة إلى المهاترة وكاد الأمر يفضي إلى سوء المغبة.

أما المنتخب فكان لا يُبدي ولا يُعيد بالنظر لما رآه من حراجة الموقف وخطورته، غير أن العناية الإلهية ألهمت المجمع الأنطاكي بعد ردح من الزمن أن يلبي نداء البيروتيين، فقرر انتخاب سيادته في يوم الخميس ٢٨ آذار شرقي سنة ١٩٠٢ فقطعت إذ ذاك جهيزة قول كل خطيب، وترنحت عواطف البيروتيين من خمرة الحبور وباتوا يهنئون نفوسهم ويعلِّلونها بقرب مشاهدة مطرانهم الجديد، وبعد ظهيرة السبت في ٩ آيار سنة ١٩٠٢ احتفلت أهالي الإسكندرية على اختلاف نِحَلها بوداع سيادته وأهدته أبناء طائفته صليبًا مع سلسلة من الذهب الخالص مرصعًا بالحجارة الكريمة. وقد جرى له استقبال في بيروت نادر المثال وأنشده كاتب سيادته الحالي إلياس حنيكاتي وهو على ظهر الباخرة البيتَين الآتيًين:

يا قلب وافاك الذي قربه
مسرة يزهو بها العمر
فاطرب بمرأى خير حبرٍ بدا
واعجب ببحرٍ فوقه بحر
figure
رسم الدار الأسقفية التي شيدها المطران جراسيموس مسرة في بيروت.

ثم توجه المترجَم إلى دمشق وبمعيته وفد من سَراة طائفته، وبعد الاحتفال الشائق بسيامته مطرانًا بوضع يد البطريرك ملاتيوس الثاني عاد إلى بيروت على قطار خاص، وقد أقيمت له الزينات الباهرة في كل محطة وكانت بيروت لابسةً حلة من الأزهار والأنوار لم تقع العين على أجمل منها، ولو شئنا أن نأتي على وصف حفلة استقباله ونعدد ما أُنشد من النشائد وتُلي من الخطب والقصائد في تهنئته ومدحه لضاق بنا المقام، ومن أراد الوقوف على ذلك فعليه بكتاب «روض المسرة» المشهور. أما مآتيه ومساعيه الخيرية في بيروت منذ تبوأ كرسي أبرشيتها فهي عديدة، أهمها ترميم كنيسة القديس جاورجيوس الكاتدرائية وإنشاء سوق لها مؤلفة من ست دور وثلاثة وأربعين مخزنًا، ثم تجديد دار المطرانية على أبدع طرز مما جعلها في مقدمة جميع الدور المطرانية في الشرق، وإنشاء مستشفًى فخيم في محلة «الغابة» بدلًا من المستشفى القديم الكائن على طريق النهر، ومباشرته «مدرسة السلام» التي أتم منها بناء الطابق السفلي، وتجديد كنيسة «مارديمتريوس» وتنظيم مقبرتها وغير ذلك، وفي قرية «سوق الغرب» التابعة لولايته الروحية جدد بناء كنيسة دير القديس جورجيوس وأنشأ لها أوقافًا مهمة أشهرها نزل «نزهة لبنان» على رابية مرتفعة من أجمل المواقع، وتذكارًا لترميم بيعة القديس جرجس وإنشاء سوقها في بيروت صار نقش هذا التاريخ فوق باب الكنيسة المذكورة:

لبيعة مار جرجس شيد سوق
وأبنية على ركن موطد
فقل مع راقم التاريخ دامت
بسعي جراسموس الدهر تشهد
سنة ١٩٠٦
figure
المطران جراسيموس مسرة؛ أحد رسم أخذ له وهو متقلد أوسمة الشرف.
وأما ما كان من مآثره الأدبية والعلمية فإنه ترجم رسالة «البينات الجلية» و«منشور المجمع القسطنطيني» من اليوناني إلى العربي، ونقل كتاب «إسحاق الكندي» من اللغة العربية إلى اليونانية، ونشر كتاب «الأنوار في الأسرار» وكتاب «تاريخ الانشقاق» وكتاب «التيبيكون» و«خدمة القداس» لرئيس الكهنة والكاهن والشماس، ومن مآثره المبرورة أنه عزَّز شئون الجمعيات الخيرية في أبرشيته ومدَّ يد المساعدة للمشاريع العمومية في الوطن ورتَّب أحوال الديوان الأسقفي ونظَّمه وزاد في ريع الأوقاف. ومما يُذكر عنه أنه عندما احتفل المسلمون بإقامة تذكار للذين ذهبوا ضحايا القنابل الإيطالية في ٢٤ شباط سنة ١٩١٢ ذهب بنفسه إلى مقبرة «الباشورة» الإسلامية ووزَّع الصدقات السخية على عائلات القتلى في الحادثة المذكورة، وفي ٢٥ شباط ١٩١٣ وزَّع منشورًا على عموم أبناء الوطن فروت عنه مجلة «المشرق» للآباء اليسوعيين ما يأتي:

هو منشور لسيادة جراسيموس مسرة مطران بيروت على الروم الأرثوذكس يدعو فيه المحسنين من كل الطوائف إلى مساعدة عيال الجنود الأبطال الذين قتلوا في ساحة الحرب البلقانية، وهي مرة ثانية استحق سيادته شكر العموم لأريحيته في تخفيف بلايا الأهلين الذين ضحوا أولادهم في سبيل الوطن.

وقد برهن صاحب الترجمة عن هذا القول بالعمل فكان في مقدمة الذين قاموا بالواجب الوطني وأدى لعائلة كل عثماني مات في ساحة الحرب مبلغًا من المال، ولذلك فإنه جدير بما ناله من علائم الشرف وهي: وسام «المجيدي الأول» ووسام «اللياقة» الذهبي من الدولة العثمانية ووسام «جمعية فلسطين» الذهبي من روسيا، وهو من أكثر الأحبار الشرقيين لطفًا وأوفرهم إحسانًا وأشدهم تأنقًا في معيشته وأعظمهم إقدامًا على الأعمال الكبيرة، يقرن القول بالفعل ويبذل الدينار في سبيل إعانة البائس ويأخذ بناصر المظلومين لدى الحكام ويعامل الفقير من بني ملَّته كالغني، وكتاباته كلها التي نشرها إما دينية وإما جدلية، إلا أنه بعد عهد أسقفيته انصرف بكليته عن التأليف إلى سياسة الرعية وتوثيق عرى الوئام والوفاق بين جميع العناصر، يخطب على المنابر وفي جميع المجالس بوجوب الألفة وضرورة الاتحاد؛ فاكتسب محبة الرفيع والوضيع والقريب والبعيد حتى أصبح ناديه من الصباح إلى المساء تؤمه أصحاب المصالح من كل طبقة ورتبة على اختلاف الأديان والطوائف.

سليم عباس الشلفون

المحرر في جرائد «ثمرات الفنون» و«التقدم» و«بيروت» و«المحبة» و«المصباح» و«لسان الحال» ببيروت، وجرائد «العصر الجديد» و«المحروسة» في و«البرهان» و«البيان» و«مرآة الشرق» في القاهرة.

***

هو سليم بن عباس الشلفون وأمه وردة حاتم، وُلد في شهر نيسان ١٨٥٣ في بيروت، ولما بلغ الثامنة من عمره أدخله أبواه المدرسة اليسوعية حيث أحكم أصول اللغتَين العربية والفرنسية وشيئًا من الإيطالية، وفي السنة الرابعة عشرة ترك تلك المدرسة ولازم العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي مدة خمسة أعوامٍ متوالية حتى برع في اللغة العربية نثرًا ونظمًا، وكان في أثناء ذلك يتردد على إدارة مجلة «النجاح» لنسيبه يوسف الشلفون فتعلَّم صفَّ الحروف، ومن ذلك الحين نزعت به نفسه إلى فن الصحافة التي خدمها إلى آخر أيامه. ولما أنشئت جريدة «ثمرات الفنون» سنة ١٨٧٥ انتظم في سلك محرريها فلبث فيها مدة أربع سنوات، وكان في الوقت نفسه ينشئ بعض الفصول في جريدة «التقدم».

ورأى صديقاه سليم نقاش وأديب إسحاق فرط أدبه فأوعزا إليه أن يسافر إلى الإسكندرية لمساعدتهما في تحرير صحيفتَي «العصر الجديد» و«المحروسة»، فباشر معهما سنة ١٨٨٠ بتحرير الجريدة الأولى التي لم يطل أمد حياتها، وقد خلف فيها المقالات الأدبية والتاريخية والسياسية مما يشهد له بطول الباع وغزارة المادة، ثم انتقل منها إلى «المحروسة» فتولَّاها مدة سنتين حتى احتجبت بظهور الفتنة العرابية المشهورة، وقد تعرَّف حينئذٍ بكثير من علماء مصر لا سيما السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وإبراهيم بك اللقاني وعبد الله نديم وغيرهم فأدرك لديهم منزلةً رفيعة. وانخرط في الجمعيات المصرية وكان من أهم أركان الحزب الوطني القائل بأن «مصر للمصريين».

وكان رياض باشا يتولى وقتئذٍ رئاسة الوزارة المصرية فأدرك ما للفقيد من المنزلة وما لكتابته من التأثير الكبير والوقع العظيم في نفوس سامعيه وقارئيه، فحصل بينهما المقيم المقعد وصدرت الأوامر بالقبض عليه، ففرَّ من القطر المصري إلى نابولي ونزل ضيفًا مكرمًا عند إسماعيل باشا الخديو الأسبق الذي كان يعجب بذكائه ودهائه وغزارة علمه وسعة اطلاعه على المسائل التاريخية والأحوال السياسية.

وسافر بعد ذلك إلى الآستانة مزوَّدًا بالتوصيات إلى حليم باشا الذي كان مرشحًا للأريكة الخديوية فنال فيها التفات أولياء الأمور ورجالها العظام، وكان حليم باشا والصدر الأعظم خير الدين باشا التونسي يحبَّانِه حبًّا عظيمًا ويقدران فضله وعلمه حق قدرهما.

وأنشأ خير الدين باشا في عاصمة السلطنة قصرًا فخمًا في أرض فسيحة أهداه إياها السلطان ونقش على كلٍّ من أبوابه الأربعة تاريخًا كلٌّ منها بلغة، فصادف التاريخ الذي نظمه صاحب الترجمة باللغة العربية استحسان اللجنة التحكيمية؛ لأنه مع إيجازه تضمن حكاية إنشاء القصر والهبة السلطانية وفيه اقتباس بديع من كتاب القرآن، ففضلته اللجنة على سواه وأمر صاحب القصر بنقشه فوق بابه. وبعد سكون الأحوال في القطر المصري عاد إلى الإسكندرية ولكنه لم يلبث أن سافر منها إلى القاهرة؛ لأنه كان يخشى القبض عليه، ثم نال العفو الخديوي فأخذ يحرر في جرائد «البرهان» و«البيان» و«مرآة الشرق» الفصول المدهشة ببلاغتها إلى أن قضت عليه الظروف بالعودة إلى وطنه ومسقط رأسه.

ولما أنشأ الحاج محمد رشيد الدنا جريدة «بيروت» عام ١٨٨٦ تولى صاحب الترجمة تحريرها مدة ١٨ سنة، وانتقل منها إلى تحرير جريدة «المحبة» فصحيفة «المصباح» فجريدة «لسان الحال» التي لبث فيها تسعة أعوام وقُضي عليه وهو قائم في خدمتها، وحلت وفاته في ٩ كانون الثاني ١٩١٣ وفي اليوم التابع شيعت جنازته بالاحتفال اللائق، وقد أبَّنه في مضجعه الأخير الشيخ إسكندر العازار ويوسف خطار غانم بما تستحقُّه منزلته الأدبية وخدمته للصحافة العربية مدة أربعين سنة. ومن لطيف شعره ما نظمه في تهنئة خليل سركيس ببلوغ جريدة «لسان الحال» العيد الفضي لتأسيسها قال:

أحيك الشعر من منسوج فكري
بألفاظٍ عِذابٍ كالزلال
وأنسج برده نسجًا قشيبًا
وأنظم عقده نظم اللآلي
وأسبك كل قافيةٍ ببيتٍ
لأمدح فيه محمود الخصال
تركت الشعر قبل الآن لكن
بمدح خليلنا يحلو مقالي
أديبٌ فاضلٌ فطنٌ نجيب
فريد في الفعال وفي المثال
مآثره الكثيرة ليس تحصى
وأين العدُّ من حصر الرمال
لقد أنشا لسان الحال حتى
أفاد بنشره كل الأهالي
ففيه كل فائدةٍ ونصحٍ
وفيه كل إنصاف المقال
طوى خمسًا على عشرين عامًا
بنظم العقد منه بلا كلال
أفاد به وأحيا كل صاد
بمورده الشهي العذاب الوصال
ففي يوبيله الفضي فخر
وإن الفخر صعب في المنال
عسى الذهبي أن يأتي عليه
وكل الحاضرين بحسن حال

رشيد الشرتوني

المحرر في جريدة «البشير» من سنة ١٨٩١ إلى ١٩٠٦.
ويراعة فجعت بفقد وحيدها
كالأم قد فجعت بفقد وحيد
كل المصائب هينات عندها
إلا المصيبة بالإمام رشيد

***

هو شقيق العلامة الكبير والجهبذ الشهير الشيخ سعيد الشرتوني الذي رفع لواء الفصاحة والبيان بتآليفه الكثيرة. وُلد صاحب الترجمة سنة ١٨٦٤ في بلدة «شرتون» من أعمال جبل لبنان، وأبوه عبد الله بن ميخائيل بن إلياس ابن الخوري شاهين الرامي، وقد غلبت عليه وعلى أخيه النسبة إلى بلدتهما شرتون فعُرفا بها بدلًا من كنيتهما «الرامي» الأصلية.

سعيد الشرتوني

أحد أعلام اللغة العربية ومنشئ المقالات المعتبرة في «البشير» و«المشرق» و«المصباح» في بيروت ومجلة «المقتطف» في القاهرة.
يحاول المرء في الدنيا البقاء وما
تفوت قدرته تصوير تمثال
والرسم يبقى زمانًا بعد صاحبه
دليل عجزٍ وهاكم شاهد الحال

***

تلقَّى اللغات العربية والسريانية والفرنسية مع مبادئ العلوم في مدرسة «مار عبدا هرهريا» المنسوبة لعائلة بني آصاف في قضاء كسروان، فكان آية في الذكاء والاجتهاد بين أقرانه. ثم درس حينًا في مدرسة «عين تراز» للروم الكاثوليك ومدرسة «عين طورا» للآباء العازريين، وبعد ذلك انقطع لخدمة العلم والصحافة عند اليسوعيين في بيروت، فلبث يدرس الآداب العربية في كليتهم ٢٣ سنة ويحرر في جريدتهم «البشير» ١٥ سنة متوالية، وقد تخرجت على يده حينذاك فئةٌ كبرى من الشبيبة التي أخذت عنه ونهجت منه في طلاوة الإنشاء وتحدي الذوق في العبارة، وكنا نودُّ ذكر بعض تلامذته الذين نبغوا في المعارف لولا كثرة عددهم. وكان «البشير» في عهده من أرقى الصحف العربية في السلطنة العثمانية ومن أكثرها جرأةً وأبلغها كتابةً. وفي ٢٤ أيلول ١٩٠٦ ذهب إلى القاهرة حيث تولى تدريس اللسان العربي في مدرسة اليسوعيين وفي مدرسة القديس يوسف للطائفة المارونية.

وفي صيف السنة التابعة عاد لمشاهدة الأهل والوطن وكان متمتعًا بالصحة ففاجأته المنية في ٢٣ تشرين الأول ١٩٠٧ في بيروت، فجرى له مأتمٌ حافل، وأبَّنه يوسف خطار غانم تأبينًا مبتكرًا في بابه؛ فأظهر جسامة المصاب به على العلم والوطن، ثم نقلت جثته إلى مسقط رأسه ودُفنت بضريح المرحوم والده.

وقد عُرف هذا الأستاذ بسلامة السريرة ورقة الأخلاق وجزيل الفضل، فإنه صرف حياته بين المحابر والكتب واقفًا أتعابه على المعارف ومحييًا لياليه في خدمة الأدب كما تشهد بذلك تآليفه العديدة وهي: أولًا «تمرين الطلاب في التصريف والإعراب» وهو قسم للتلميذ وقسم للمعلم في ٨ أجزاء، ثانيًا «نهج المراسلة»، ثالثًا «مبادئ العربية» في الصرف والنحو على طريقةٍ مستحدثة في ٣ أجزاء، رابعًا «مفتاح القراءة والخط والحساب»، خامسًا مقالاتٌ لغوية وتاريخية نشرها في مجلة «المشرق».

ثم نشر بالطبع مع تصحيح العبارة: أولًا «تاريخ الطائفة المارونية» للبطريرك أسطفان الدويهي، ثانيًا «منارة الأقداس» في مجلدَين للدويهي، ثالثًا «شرح الشرطونية» للدويهي، رابعًا «سلسلة بطاركة الطائفة المارونية» للدويهي أيضًا، خامسًا «بعض المجامع المارونية الإقليمية» وغيرها.

ونقل الكتب الآتية من اللغة الفرنسية إلى العربية: (١) «التوفيق بين العلم وسفر التكوين»، (٢) «الزنبقة البهية في سيرة مؤسس الرهبنة اليسوعية»، (٣) «ريحانة الأذهان» في سيرة مار لويس غنزاغا ومار استنسلاوس كوستكا، (٤) «مظهر الصلاح» في سيرة القديس الفونس رودريكس، وهذه الكتب من تأليف الأب ده كوبيه اليسوعي، (٥) «تاريخ لبنان» للأب مرتين اليسوعي، (٦) «السفر العجب إلى بلاد الذهب» للأب ريغو اليسوعي، (٧) «حبيس بحيرة قدس» للأب هنري لامنس اليسوعي، (٨) «الرحلة السورية في أميركا المتوسطة والجنوبية» للأب لامنس أيضًا، (٩) «علم الفلسفة» للأب طونجورجي اليسوعي (لم يُطبع). وعدا ذلك فإنه تولى تصحيح بعض الكتب في «المطبعة الكاثوليكية»، وقد اعتمد عليه يوسف خطار غانم في مراجعة ما نشره على صفحات «برنامج أخوية القديس مارون» من الفصول التاريخية.

الأب أنطون صالحاني اليسوعي

مدير جريدة «البشير» ورئيس تحريرها سابقًا.

***

هو أنطون بن عبد الله صالحاني، وأمه مريم بنت شحادة نعسان، ينتمي إلى أسرة من أقدم عائلات الطائفة السريانية الكاثوليكية في سوريا ومصر، وُلد في ٥ آب ١٨٤٧ في دمشق وأخذ مبادئ العلم في مدرسة طائفته ومدرسة الآباء اللعازريين، ولما بلغ السنة الثالثة عشرة من عمره قدحت في ٩ تموز ١٨٦٠ شرارة تلك الفتنة المشهورة التي ذهب فيها العدد الكبير من المسيحيين الدمشقيين ضحايا الظلم والاعتساف، وكان في جملتهم والد صاحب الترجمة الذي قتله الثائرون بعدما أنزلوا به كل أنواع العذاب والإهانة.

إلا أن أنطون نجا من القتل مع رفيقَين له في المدرسة بعناية إلهية، فصعدوا إلى السطح وأخذوا يقفزون من بيت إلى بيت حتى بلغوا القلعة، فبقي هناك مع سائر اللاجئين إليها مدة أربعة أسابيع حتى جاء فؤاد باشا من القسطنطينية ووطد أركان الأمن في المدينة واقتص من الثائرين، ثم أخذ هذا الوزير بالاتفاق مع الرؤساء الروحيين يجمع شمل النصارى ويطيب نفوسهم بكلامه العذب ويوزع عليهم الإحسانات بسخاء، وتولى بنفسه ملاحظة أيتامهم الذين جمعهم في أمكنةٍ مخصوصة وشملهم بألطافه.

أما صاحب الترجمة فقد أرسله مطرانه حينئذٍ السيد يعقوب حلياني إلى محلة «الميدان» في دمشق ثم إلى بيروت وهو يجهل مصير والده الذي غدرت به يدٌ أثيمة، فدخل مدرسة الآباء اليسوعيين ثم انتقل منها إلى مدرستهم في غزير حيث تلقَّى كل العلوم الثانوية وشيئًا من الفلسفة، وأحكم معرفة اللغات العربية والفرنسية واللاتينية وبعض المبادئ اليونانية، وكان يقضي أكثر أيام العطلة الصيفية في مدرسة الشرفة للسريان الكاثوليك حيث كان لا يُضيع ساعةً واحدةً بلا مطالعة أو عملٍ مفيد، وفي سنة ١٨٦٧ رافق الأب دي داماس De Damas رئيس اليسوعيين عندما افتقد أديرتهم في سوريا ولبنان وزار معه داود باشا متصرف الجبل في «بيت الدين».
ومنذ حداثته نزعت به نفسه إلى اتباع السيرة الرهبانية وطلب من اليسوعيين أن ينتظم في سلكهم، فأجابوا إلى رغبته وأرسلوه مع الأب عطاء الله فرنيه إلى ديرهم في كلرمون Clermont بفرنسا، وكان دخوله في ٣١ آب ١٨٦٨ إلى الدير المذكور حيث قضى سنتَين يتمرن على السيرة الرهبانية وقوانينها.
وفي ٨ أيلول ١٨٧٠ أدى النذور الرهبانية الثلاثة وهي العفة والطاعة والفقر، ثم أرسله رؤساؤه إلى دير Sons le Sonier فلبث هناك مدة سنتين (١٨٧٠–١٨٧٢) يزيد تعمقًا في المعارف البيانية، وعلى أثرها قضى ثلاث سنين (١٨٧٣–١٨٧٥) في دير فلس Valse يدرس الفلسفة ونال شهادتها العالية، وفي سنتي ١٨٧٦–١٨٧٧ تولى التدريس في مدينة أفينيون Avignon بكل نشاط، ومنها انتقل إلى دير إكس Aix حيث تلقى علم اللاهوت مدة ثلاثة أعوام (١٨٧٨–١٨٨٠) أحرز في نهايتها شهادة ملفان (دكتور) في العلم المذكور.

وفي ٢٢ آيار ١٨٨٠ نال الدرجة الكهنوتية بوضع يد السيد فوركاد مطران إكس وعاد إلى الوطن على أثر طرد اليسوعيين من فرنسا في السنة المذكورة، فلبث في بيروت عامًا واحدًا (١٨٨١) ثم ذهب إلى مصر فعلم فيها مدة أربع سنين (١٨٨٢–١٨٨٥) واحدة في الإسكندرية وثلاثًا في القاهرة، وفي أثناء ذلك جرت الثورة العرابية فتجند صاحب الترجمة لخدمة المنكوبين وتعزية المصابين اكتسابًا للأجر، وفي سنة ١٨٨٥–١٨٨٦ سافر إلى دير رهبانيته بالقرب من وندسور في إنكلترا فقضى هناك سنةً درس في خلالها اللغة الإنكليزية.

ثم عاد إلى بيروت ولم يزايلها إلا مدة عشرة شهور من سنة ١٨٩٤ قضاها في الإرشاد وخدمة النفوس في مدينة حمص، وفي شهر آيار ١٨٩٣ حج إلى الأماكن المقدسة وشهد المجمع القرباني الذي الْتأم في أورشليم برئاسة الكردينال لنجينو رئيس أساقفة رمس وحضور عددٍ كبير من بطاركة الطوائف الشرقية وأحبارها، ومن أخباره في بيروت أنه تولى فيها أولًا تدريس صفَّ الخطابة وإدارة المدارس العربية في كلية القديس يوسف، ثم عهد إليه بإدارة المدارس المجانية التي أنشأها اليسوعيون في بيروت وضواحيها للذكور والإناث، وتعيَّن مرشدًا لرهبانية «أخوات القلبَين الأقدسَين» مدة طويلة.

وتولى مرتين إدارة جريدة «البشير» ورئاسة تحريرها (١٨٩١–١٨٩٣) و(١٨٩٥–١٨٩٩) فأظهر من الجرأة والإقدام والثبات في خدمة الصحافة ما لم يقدم عليه سواه من الصحافيين العثمانيين في عهد الاستبداد، وكانت المراقبة على المطبوعات حينئذٍ في إبان اشتدادها؛ إذ كان يدير شئونها حسن فائز الجابي وعبد الله أفندي اللذان تركا في قلوب حملة الأقلام تذكارًا سيئًا، فإنهما حملا على «البشير» وأصحابه حملةً شديدة لا يصبر على احتمالها إلا من كان كصاحب الترجمة جسورًا مقدامًا مشهودًا له بالحزم وصدق المبادئ، فكان المراقبان المذكوران مع شدة ضغطهما على الصحف المحلية عمومًا يتساهلان أحيانًا مع بعضها في نشر مقالات لا يسمحان للبشير بنشرها في الوقت نفسه، وقد اتصل بهما التحيز إلى غض النظر عن تلك الصحف أن تطعن في البشير بلا حق، وإلى منع البشير من الدفاع عن نفسه ولو كان الحق بجانبه، فكان صاحب الترجمة يحتمل كل ذلك ويلجأ إلى نفوذ قنصلية فرنسا وإنصاف الولاة كإسماعيل كمال بك (الزعيم الألباني المشهور) وعزيز باشا وخالد بك ونصوحي بك الذين كانوا يعلمون فضله ويساعدونه على تخفيف وطأة المراقبين عن الجريدة.

وحدث مرة أن حسن فائز الجابي منع «البشير» من نشر رسالة حبرية أذاعها البابا لاون الثالث عشر وهي تحتوي على نصائحَ مفيدة ليس فيها شيء من السياسة كسائر الرسائل البابوية، فأبان له الأب أنطون صالحاني خطأه ومعاملته المخالفة للقانون وحرية الأديان في السلطنة، ولما لم تنجح مساعيه بالوسائل المعقولة نشر الرسالة البابوية في الجريدة ووزعها غير مبالٍ بالمنع المذكور، فأصدر المراقب أمرًا بتعطيل الجريدة أوجب استياء كل عاقل من تلك المعاملة الظالمة، وللحال سافر الأب كليرة رئيس اليسوعيين مع صاحب الترجمة إلى القسطنطينية، وهناك قدما تقريرًا بواقع الحال إلى المسيو كمبون سفير فرنسا ورضا باشا وزير العدلية ويوسف بهجت بك مدير مطبوعات السلطنة، وفي الوقت نفسه أرسل البابا على يد وزيره الكردينال رمبلا يحتج لدى «الباب العالي» على تلك المعاملة التي تمس حرية الأديان، فما كان من السلطان إلا أن أصدر أمرًا بإعادة نشر «البشير» وعدم التعرض لكتاباته.

والأب أنطون صالحاني رجلٌ نشيط لا يأخذه الملل في جميع ما يُعهد إليه من الأشغال مهما كانت شاقة، وهو عصبي المزاج نحيف الجسم قليل الطعام كثير الاجتهاد يصبر على التعب ولو كان مصابًا بأعظم الأوجاع، وقد خدم المعارف العربية خدمةً كبيرة بما نشره من التآليف القديمة التي علق عليها الشروح الوافية وهي: (١) كتاب «تاريخ مختصر الدول» لابن العبري، (٢) كتاب «ألف ليلة وليلة» في خمسة أجزاء، (٣) كتاب «طرائف وفكاهات في أربع حكايات»، (٤) كتاب «رنات المثالث والمثاني في روايات الأغاني» في جزأين، (٥) ديوان «شعر الأخطل» في خمسة أجزاء وقد أعاد طبعه.

وألَّف كتبًا ومقالات في مواضيعَ مختلفة نذكر منها: (١) نبذة عنوانها «التوفيق بين السنين المسيحية والهجرية» وجعلها جدولًا في مقابلة السنين الهجرية بما يوافقها من السنين المسيحية منذ ابتداء تاريخ الهجرة سنة ٦٢٢ إلى سنة ١٩٠٢ لتاريخ المسيح، (٢) نبذة عنوانها «رد على منشور بطريرك الروم القسطنطيني فيما يتعلق بعقيدة الحبل بلا دنس»، (٣) رسالة سماها «الطلاق عند المسيحيين»، (٤) رسالة «إيضاح مسألة في العماد»، (٥) مقالة «قبل الولادة وبعد الموت» رد فيها على مجلة المقتطف، (٦) رسالة في «الخمير والفطير»، (٧) مقالة سماها «نقائض جرير والفرزدق»؛ وغير ذلك مما نشره على صفحات مجلة «المشرق» أو لم يزل باقيًا بلا طبع.

سليمان البستاني

أحد المحررين في مجلة «الجنان» وجريدتي «الجنة» ومنشئ مجلة «شيكاغو» التركية في شيكاغو بأميركا الشمالية.

***

نشأته

هو سليمان بن خطار بن سلوم شقيق المطران بطرس بن نادر شقيق المطران عبد الله البستاني، وُلد في ٢٢ آيار سنة ١٨٥٦ في «بكشتين» إحدى قرى إقليم الخروب التابع قضاء الشوف في لبنان، وتلقَّى مبادئ العربية والسريانية من عمِّ جده المطران عبد الله؛ إذ كان مقيمًا مع عائلة خطار حفيد أخيه نادر، وفي السابعة من عمره دخل المدرسة الوطنية في بيروت لنسيبه المعلم بطرس وبقي فيها ثماني سنوات مجدًّا في التحصيل ممتازًا بحسن الصفات، وقد مثل مرة دور «منتور» في رواية «تليماك» بمهارة يندر أن يأتي بمثلها من كان في سنه، وهذه الرواية لأحد معلمي المدرسة الوطنية الشاعر سعد الله البستاني مؤلف بعض الروايات والمحرر في «الجنان» و«الجنة» و«الجنينة»، وقد ورد رسمه في [الكتاب الأول – الباب الثاني] من هذا الكتاب.

وكانت ذاكرة سليمان قويةً فساعدته على التوسع بالمعارف والتمكن من حفظ المعاني حتى إذا احتاج إلى شيء منها تذكرها دون أن يبحث عنها، وقد سرد مرةً «على الغيب» كأنه يقرأ في كتاب نشيدًا ونصف نشيد من نشائد ملتن الشاعر الإنكليزي في «فردوسه المفقود» مع قسمٍ وافر من قصيدة «سيدة البحار» لولتر سكوت كاتب الإنكليز الروائي، واستظهر ألفية ابن مالك وأنشد بناءً على طلب رئيس المدرسة في حفلةٍ عمومية مائتي بيت منها ولم يتلعثم.

ومكث يتعاطى التعليم حيث تعلم ويحرر في «الجنة» و«الجنان» وتولى تحرير «الجنينة» وساعد في تأليف «دائرة المعارف» وانتظم في جمعية «زهرة الآداب» وترأسها مرتَين.

وجاهد في سبيل النهضة الأدبية وعُدَّ من مؤسسيها في سوريا يوم لم يكن يهتم بهذا الأمر إلا القليل النادر من بني البلاد. وفي السن الذي ينصرف فيه المرء إلى اللهو والتمتع بالملذات الجسدية كان سليمان البستاني منصرفًا إلى ترقية نفسه وتهذيبها، بل إلى زيادة معارفه وتوفير آدابه، ولم يكتفِ بشهادة المدرسة النهائية ولا بمهنة محرر ولقب أديب، بل عكف على الدرس والتبحر والاستفادة عارفًا بأن العمر مهما طال أقصر من استيعاب مطامع الإنسان وشاعرًا بأن الشباب حري بهذا الجهاد.

في العراق

فبعد صيتُه وامتدت شهرته إلى العراق فدعاه وجهاء البصرة بزعامة قاسم باشا زهير لإنشاء مدرسة ونشر جريدة، فذهب إليها وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، فأنشأ مدرسة أدارها سنة ثم تركها لغيره واشتغل في التجارة، وقد دعاه إليها ما رآه فيها من بواعث الأسفار مما ينيله بغية استطلاع أحوال بلاد يرغب في درسها، واتخذ بغداد مقرًّا له وتعيَّن عضوًا في محكمتها التجارية ومديرًا لبواخر عمان بينها وبين البصرة.

وهذه البواخر تخصُّ الحكومة وقد أصلح إدارتها مدحت باشا مؤسس أول مطبعة وأول جريدة في العراق، وأنشأ معملًا للحديد كبيرًا ألحقه بها إذ كان واليًا لبغداد، ولكنها ما برحت أن ساءت أحوالها وتقهقرت وانحطت بعد ذهاب مدحت وتمادى فيها الخلل وعمَّها التشويش، فانتُهِبت ورزحت عاجزة تحت أثقال الديون إلى أن تولى البصرة ثابت باشا، ففاوض العاصمة بأمرها ففوَّضوه بإصلاحها وبالاتفاق مع مجلس إدارة الولاية بعد البحث الطويل عينوا البستاني مديرًا لها وسلموه زمامها، وعهدوا إليه أيضًا بإدارة المعمل وأطلقوا يده في التصرف الداخلي والعزل والتنصيب، فاشتغل ثلاثة أشهر فقط فرتب الأشغال وأحسن اختيار العمال واقتصد بالنفقات وأخلص بالعمل، فأصلحها ووفى الديون وجمع ألوف الليرات أرباحًا.

وأقام في العراق ثمانية أعوام ساح في خلالها مرات في بلاد العرب والعجم والهند سياحاتٍ علمية مكنته من تثبت أحوال تلك البلاد، وسار أيامًا في البادية ممتطي الإبل حيث لا بشر ولا ظل، وزار «الرقمتَين» وجميع الأماكن المشهورة ودرس القبائل وعاداتها وفهم أخلاقها وأساليب حياتها، وأحصاها بسبعة ملايين بدويًّا إحصاءً دقيقًا لم يسبق إليه ولا فاقه أحد فيه مبتدئًا به من سوريا فالعراق فأطراف الأناضول فنجد والحجاز واليمن وعمان وحضرموت وغيرها، وألَّف من أخبارها كتابًا كبيرًا يثبت أن المؤلف من أدق الباحثين ومن أصدقهم رواية وأقواهم حجة، وجمع من مرويات أهلها قصائد شتى في ديوان كبير وعد بتمثيل منتخباته للطبع مذ أصدر الإلياذة وحالت أشغاله دون طبعه، وإليه ينسب اكتشاف قبيلةٍ عربية ما دوِّن اسمها في كتاب بعدُ ولم يعلم بها عالم قبله.

في الآستانة

وجاء بيروت فاشتغل في «دائرة المعارف» وكان نسيبه سليم أحد مؤلفيها قد شرع في ترجمتها إلى اللغة التركية، وعهد بذلك إلى لجنة من خيرة كتَّاب الترك برئاسة خلقي أفندي رئيس المكتب السلطاني فأنجزت منها نحو مجلدَين وتوفي سليم قبل مباشرة الطبع، فعزم سليمان وإخوة الفقيد على إتمام العمل فسافر إلى الآستانة يستأذن وزارة المعارف بذلك، فاتصل بكامل باشا وكان يومئذٍ وزير الأوقاف وبسعيد باشا الصدر الأعظم وغيرهما من الوزراء كجودت وصبحي، وظل يتردد على الوزارة ثلاثة أشهر وهي تماطله إلى أن علم الصدر الأعظم بذلك بإشارة كامل فقال له: «لو خطر لي أنك لقيت هذه المماطلة لأغنيتك من تلقاء نفسي عن هذا العناء، فاذهب الآن مطمئنًّا وعُدْ إليَّ بعد ثلاثة أيام.»، وفي اليوم التالي فاز بالإذن وصارت الرخصة بيده فزار سعيد باشا في اليوم الثالث ليشكره لا ليشكو إليه، غير أن اشتداد المراقبة والضغط على المطبوعات بعدئذٍ وأسبابًا غيرها معها آلت إلى إهمال المشروع فبقي طي الخفاء.

وما طال غياب البستاني كثيرًا عن بغداد بل عاد إليها وتزوَّج كلدانيةً غنية هي ابنة المثري أنطون البغدادي، ولكنه لم يبقَ في الزوراء أكثر من عامَين؛ إذ رجع إلى الآستانة وصرف فيها سبعة أعوام غادرها في أثنائها إلى أميركا لتولي إدارة القسم العثماني في معرض شيكاغو سنة ١٨٩٣، وأنشأ مجلةً تركية مدة المعرض باسم «شيكاغو» هي أول وآخر صحيفةٍ تركيةٍ أميركية، بل هي الوحيدة التي لن يماثلها غيرها أبد الدهر بالإرادة سنية، حتى أحرفها نالت نصيبًا من سوء السياسة وسخافة الأوهام؛ إذ اشترتها سفارة تركيا بعد توقف المجلة لئلا يستخدمها حر في نقد سياسة الدولة، وكان نصيب منشئها الخسارة؛ لأنه لم يملق الباب العالي ولا أطرأ المابين الهمايوني كما أُشير عليه، وبعد رجوعه سأله جواد باشا الصدر الأعظم بعض نسخ منها فأرسلها إليه وكتب في صدرها هذه الأبيات:

هذي صحيفتي التي سودتها
بدم الفؤاد وقد شططت مزارا
أعظمت قدر كولمبوس فتبعته
بمشقةٍ فيها شققت بحارا
ولقيت ما لاقاه من أهل النهى
فكفى بذا أهل النهى تذكارًا

ومن أشغاله في الآستانة سعيه لدى وزارة النافعة لإصلاح الري في العراق وعمله تقريرًا مسهبًا بذلك ضمنه معلوماته الواسعة عن تلك الأرجاء الخصبة، فكان أول من كتب رسميًّا بهذا الشأن وقد طلب الترخيص بإرواء بغداد وضواحيها بالرافعات البخارية فصمَّت مفاسد الدولة آذان الوزارة.

ومما شاهده فيها من فظائع الاستبداد مذبحة الأرمن عام ١٨٩٦ شهدها من أولها إلى آخرها بما فيها من الهول المرعب، وكان مقيمًا في «فنار باغجه» مجاورًا لفؤاد باشا منفي الشام المعروف بلقب «الدلي فؤاد» فرآه صاحب الترجمة بعينه يطوف الشوارع بين الرعاع مسلحًا جريئًا ناهيًا عن سفك الدم واعظًا منذرًا متلطفًا متهددًا يؤمن الخائف ويرعب الخائن.

في مصر

وأقام البستاني بعد ذلك في مصر إلى سنة ١٩٠٨ يضارب بالأسهم والأطيان ويشتغل بالمعارف والآداب، فأصدر فيها سنة ١٩٠٤ «الإلياذة» الشهيرة وسيأتي وصفها في الصفحات التالية، ونشر بالاشتراك مع نسيبيه نجيب ونسيب البستاني الجزأين العاشر والحادي عشر من دائرة المعارف، وألَّف كتابه «عبرة وذكرى» على أثر الانقلاب العثماني وأصدره بسرعة أُعجب الناس بها. وترأس «جمعية الكتاب» وانتخب عضوًا في عمدة «الجامعة المصرية» ونال من حفاوة العظماء ما هو جدير به، ولما صدرت إلياذته احتفى به أعاظم المصريين والسوريين احتفاءً شائقًا في نزل «شبرد» في القاهرة في ١٤ حزيران من تلك السنة، فخطب في الاحتفال أعلم علمائهم، وكان لذلك تأثيرٌ جميل رأى كاتب هذه السطور أن يُردِّد صداه عامئذٍ في بيروت باحتفال مثله عندما جاءها سليمان، فما استطاع لضغط المراقبة واستبداد الحكومة، وعبثًا كان اقتراحه ذلك في جريدة لبنان. وقد جمع نجيب متري صاحب «مطبعة المعارف» في مصر كل ما قالته الجرائد في الإلياذة وما قيل في ذاك الاحتفال بكتابٍ على حدة نشره بيانًا لما نالته من الأهمية عند العلماء.

وكان يأتي لبنان في الصيف وقد شيد للتصييف منزلًا كبيرًا في مسقط رأسه «بكشتين»، وكثيرًا ما جال في أوروبا وأميركا باحثًا منقبًا يدرس التمدن الحديث مباشرة ويقتبس معارف الإفرنج وآدابهم حسًّا ومعنًى، وما زال متمصرًا إلى حين إعلان الدستور؛ إذ غادر مصر عائدًا إلينا فانتخبناه نائبًا عنا في مجلس المبعوثان، وقد كتبت حينئذٍ مقالةً كبيرة بهذا الشأن في جريدة لسان الحال في ١٣ تشرين الأول سنة ١٩٠٨، ولما تم انتخابه نظمت فيه نسيبتي السيدة وردة اليازجي نزيلة الإسكندرية هذين البيتَين وقالتهما في وداعه:

أخلق ببيروت دار العلم من قدمٍ
أن تصطفيك على الأيام معوانا
فالله لما ارتأى إعلان حكمته
ما اختار من شعبه إلا سليمانا

في المبعوثان والأعيان

ومذ تعيَّن مبعوثًا سكن الآستانة ولا يزال ساكنًا فيها، وقد انتخبه المبعوثان رئيسًا ثانيًا للمجلس سنة ١٩١٠ وأوفدته الدولة إلى أوروبا مرات بصفةٍ رسمية ورأسته بعض الوفود، فزار العواصم الكبرى توثيقًا لعرى الولاء بين الدولة والدول وحلًّا للمشاكل المهمة، وقابل ملك الإنكليز ورئيس جمهورية فرنسا وغيرهما من أعاظم السياسيين وكان خطيب الوفد ومجلى محامده، وقد خطب في حضرة الملك إدوار وفي الحفلة السنوية لجامعة أكسفورد إذ انتدبته عمدتها ليكون خطيبًا لها، وإذ أعجب الأوروبيون به تناقلوا رسمه بجرائدهم ونشروا سيرته في إنسكلوبيدياتهم. وعندما هم عبد الحميد بالفتك بالاتحاديين بفتنة نيسان المشهورة عام ١٩٠٩ بقي البستاني في العاصمة إلى التئام الجمعية العمومية في «سان استفانو» فحضر الاجتماع وقرر مع المجتمعين خلع السلطان، ولما جاء وفد مسلمي الهند لاستطلاع أسباب الخلع أقنعهم بصحته ولزومه. وحالما ارتقى إلى عرش آل عثمان السلطان محمد رشاد سار سليمان في طليعة معلني ذلك إلى دول أوروبا كما سار قبلًا في مقدمة الوفد النيابي لرد زيارة النواب الأوروبيين.

ومن مآثره في المبعوثان تأليفه اللجنة النيابية الدولية للتعارف وتأييد علائق الوداد بين المجلس وبقية مجالس النواب في العالم، ولجنة التحكيم الدولي العثمانية لإزالة سوء التفاهم في المشاكل التي تحصل بين الدولة والدول وفضِّها بالتي أحسن، ودعمها بجمعيةٍ مرتبطة بها لتمد فروعًا لها في الولايات تحكيمًا لعرى الإخاء بين العثمانيين على اختلاف عناصرهم، وهذه قد صدق عليها مجلسا المبعوثان والأعيان وتلك عززها البستاني بترؤسه لها كما أيد لجنة الأعمال الخارجية في المجلس، وهو قد عضد اللغة العربية وأيدها في المحاكم ومدارس الحكومة وبقية الدوائر في بلاد العرب، واستصدر الأوامر الرسمية بمنع توظيف جاهليها في هذه البلاد، ومنع غير أبنائها من تدريسها في المدارس الإعدادية والرشدية والسلطانية وإرجاع من عزلوا من وظائفهم إليها لجهلهم لغة الأتراك، ونقض الأمر بمنع الأطباء والصيادلة المتخرجين في المدارس الأجنبية من الاستخدام في البلديات ومستشفياتها واهتم بمواطنيه مهاجري سوريا فألَّف لجنة رسمية للنظر في أمورهم، وسعى فأنشأت الدولة بسعيه قنصليات لها حيث يكثرون وبهمته قرر المبعوثان النفقات اللازمة لذلك. وجاهد لصيانة حقوقنا نحن البيروتيين في «مكتب الصنائع» فمنع الحكومة من الاستيلاء عليه، وبما أن هذا المكتب قد أنشئ بمالنا فحفظه سالمًا لنا، وحمل وزارة النافعة على تقرير إصلاح طريق المركبات من هنا إلى الشام، واعتنى بالتوفيق بين الإكليروس والعلمانيين الأرثوذكسيين في فلسطين عندما تنازعوا على إدارة الأوقاف وتأليف المجلس الملِّي المختلط، وساعد على منع الضرائب غير المشروعة من العراق واليمن وأوضح أحوال بعض العشائر البدوية لتتحسن معاملتها الرسمية، ونفى التهم الموجهة إلى جرائد السوريين إنْ في المهجر أو في الوطن، وحاول إزالة سوء التفاهم بين الترك والعرب والتقريب بين قلوب العنصرَين ورغَّب في وفاقهما حبًّا بمصلحة الدولة، كما أنه كان صلة خير بين جميع العناصر، وقد دافع عن سمعة الأمة دفاعًا مجيدًا في صحف الفرنسيس والإنكليز وأقنع الأوروبيين وغيرهم بموافقة الدستور لشرع الإسلام وأن هذا لا ينافي ذاك إن فهمت أصوله.

ولم يطل أجل النيابة على سليمان إذ انتخبه جلالة السلطان عضوًا في مجلس الأعيان، وكان ولا يزال لجلالته نظر عليه يستحقه فضله، وقد قابله مرارًا وأناله منه التفاتًا سنيًّا. والصدور العظام قد عرضوا عليه تولي بعض الوزارات أكثر من مرة فلم يرضَ بها، وله في هذا المجلس مآثرُ عظيمة وهو ما فتئ يشتغل لخير البلاد وفي كل يوم له مأثرة.

علومه وآدابه

على أن شهرة البستاني السياسية لم تكن شيئًا بجانب شهرته العلمية، ومجده الأدبي فاق مجده السياسي، وهو مُتحِف اللغة العربية بإلياذة هوميروس وكفاه بهذه ذكرًا خالدًا، وقد عرَّبها عن اليونانية شعرًا ونظمها بأحد عشر ألف بيت في خلال سبعة عشر عامًا، وصدَّرها بمقدمةٍ فضَّلها بعضهم عليها، وشرحها ونظم بعضها بأسلوبٍ جديد بعد أن طالع ترجماتها إلى اللغات الفرنسية والإنكليزية والإيطالية، ودرس لأجلها لغة اليونان القديمة، وتمكَّن منها تمكُّنه من سبع لغات غيرها عدا إلمامه بخمس؛ فجاءت تحفةً مبتكرة أصحَّ منها في جميع اللغات المترجمة إليها، وبلغ عدد صفحاتها ألفًا ومائتين وستين صفحة.

والإلياذة أربعة وعشرون نشيدًا تتألف من زهاء ستة عشر ألف بيت نظمها هوميرس الشاعر اليوناني من نحو ثلاثة آلاف سنة في وصف حادثة مفادها: أنه كان في جملة السبايا التي غنمها اليونانيون من الترواديين في حرب تروادا فتاة جميلة وقعت في سهم «أخيل» بطل اليونان فانتزعها منه أغاممنون زعيمهم الأكبر، فعظم الأمر على الأول وكاد يبطش بالثاني ولولا نزول أثينا إلهة الحكمة من السماء ومنعها له قسرًا، فانكفأ عنه واعتزل القتال هو ورجاله، فاشتد لاعتزاله الترواديون ونكلوا بأعدائهم منتصرين عليهم في مواقعَ عديدة، ولما ضايقوهم استعانوا بأخيل وهو في عزلته يتلهب غيظًا فردَّ وفودهم خائبين، وإذ تواصلت انكسارات قومه وأشرفوا على الاندحار التام أجاز لصديقه فترقل بناءً على إلحاحه الشديد بأن ينجدهم برجاله، ففعل وكاد يغلب الأعداء لو لم يُقتل، ولما علم أخيل بمصرعه التاع فؤاده وأسرع ليثأر له فصالح أغاممنون وخاض المعامع فانتصر وقتل هكتور زعيم الترواد وشتت شملهم. وكان سبب هذه الحرب أن فاريس بن فريام ملك تروادا أوفد برسالة إلى إسبرطة ونزل ضيفًا في بيت ملكها منيلاوس، وكان هذا غائبًا عن عاصمتهم وله زوجةٌ جميلة تُسمى هيلانة فأحبها فاريس وأغراها على الذهاب معه إلى بلاده، فثار الإسبرطيون واليونان يحاولون استرجاعها بالسِّلم فخابوا، فحاربوا الترواديين حربًا هائلة وحاصروا عاصمتهم «اليون» عشر سنين إلى أن فتحوها ودمَّروها وعادوا بمن كانت السبب إلى زوجها.

وقد تخلل موضوع «الإلياذة» حوادثُ علميةٌ دينية وصفها الشاعر مع جغرافية محلاتها، وجميع العلوم التي كان لها اتصال بها كالسياسة والدين والطب والفلك والصنائع وسائر الفنون الجميلة؛ مما جعلها دائرة معارف عصرها، وأنالها من الأهمية ما جعل اليونان يتناقلونها من القرن العاشر قبل المسيح ويتناشدونها في كل مكان، وحسْبُ هوميرس منها أن عدُّوه لأجلها في مصاف الآلهة وسكوا النقود باسمه ورسمه وشيدوا له الهياكل كإله وعبدوه فيها.

أما تعريب «الإلياذة» فقد صدره البستاني بمقدمةٍ نفيسة أورد فيها سيرة ناظمها وبيان منظوماته ومنزلته عند القدماء ورأي المتأخرين فيه وأقوال العرب في شعره. وبحث في إلياذته وموضوعها وطرق تناقلها قبل الكتابة ثم في جمعها وكتابتها وسلامتها من التحريف مع ما فيها من قليل الدخيل والساقط والمكرَّر والمغلق، وأتى على تحليلها وتشريحها وبسط فوائدها للأدب والتاريخ وسائر العلوم والفنون والصنائع، وأوضح الأسباب الداعية إلى إغفال العرب نقلها إلى لغتهم في صدر الإسلام، وروى كيف عرَّبها وذكر مناهج العرب في نقل الكتب الأعجمية وما يجب أن يُعوَّل عليه من أساليبها، وقارن بين الإلياذة والشعر العربي وأسهب في ذلك إسهابًا كليًّا مع المقابلة بين اليونان والعرب، ووصف آدابهم وأشعارهم وكل ما له تعلق بهذا الموضوع وشرحها بإسهاب شرحًا مفكهًا مفيدًا رصَّعه بزهاء ألف بيتٍ عربي في مثل معاني الإلياذة وحوادثها لنحو مائتي شاعر، ومثل المتن الشعري بالشكل الكامل وزين الشرح بالرسوم وأضاف فهرسًا مستوفيًا لكل محتويات الكتاب ومعجمًا لغويًّا تاريخيًّا.

وسلك في النظم مسالكَ جديدةً منها «المثنى» تبنى قصيدته على قافية يرجع إليها في كل بيتَين مرة، وعروض البيت الثاني فيه مطلقة من القافية على نحو ما اصطلح عليه المتأخرون في «الرباعي» أو «الدوبيت الأعرج» ومثاله:

لو تربصت والعجاج استطارا
ونجيع الدماء سال وفارا
وتبصرت بابن تيذيسٍ لم
تدرِ أي الجيشين منه أغارا
مستشيطًا ينقد فوق الأعادي
ينهب السهل بين عادٍ وغاد
كخليج يضيق بالسيل مجرا
هُ فيستأصل الجسور الكبارا

والمربع ومثاله:

كسا الفجر وجه الأرض ثوبًا مزعفرًا
وزفس أبو الأهوال في أرفع الذرى
على قمة الأولمب تصغي مهابة
لمنطقه الأرباب ألف محضرا
فقال: ليعلم كل رب وربة
بما اليوم في صدري فؤادي أضمرا
فلا ينبذن الأمر عاصٍ بل أذعنوا
لأنفذ ما أبرمت أمرًا مقدرا

***

لنصرة أي القوم من يجر منكم
يأوبن منكوبًا يخضبه الدم
وإلا فمن شم الأولمب براحتي
إلى ظلمات الدهم يلقى ويرجم
إلى حيث أبواب الحديد قد استوت
على عتب الفولاذ والقعر مظلم
إلى هوةٍ بين الجحيم وبينها
مجال كأقصى الجو عن أسفل الثرى

والمثمن أو المربع المسمط ومثاله:

قضيض الجيش مذ ذعرا
هزيمًا كالظبا نفرا
إلى إليون حيث هنا
ك خلف حصاره انحصرا
يجفف في ظلال قلا
عه عرقًا به سبحت
كتائبه ويروي غـ
ـلةً فيها قد استعرا
وراءهم الإخاءة والجوا
ئن في عواتقهم
جرو لكن هكتورًا تربـ
ـص يرقب القدرا
لدى أبواب أسكيا
قضاء الشوءم مثبطه
وبابن إياك آفلون
أحدق يصدق الخبرا

والموشح المثمن ومثاله:

سار هكتور حثيثًا وأتى
باب أسكية والزان ظليل

***

فتلقته نساء وبنات
منه علمًا تتقصى سائلات
عن بنيهن وأخوات ثقات
وبعول وأخلا فأمر
أن يبادرن على ذاك الأثر
ويُصلِّين لأرباب البشر
علَّها ترفع عنهن الأذى
ولزاهي قصر فريام مضى
هو صرح شيد بالنحت الجميل
فوق أبواب رواقٍ مستطيل

***

•••

ضمنه صف بديع المنظر
غرف قد بنيت بالمرمر
كلها خمسون ملس الحجر
لبني فريام شيدت مضجعا
وثوت أزواجهم فيها معا
ويجاذبهن صف رفعا
فيه بالإيناس والرغد ثوى
مع كل ابنةٍ الصهر الحليل

وتصريع المتقارب ومثاله:

خلت ساحة الحرب من كل رب
فعج العجاج بطعن وضرب
فمن سمويس إلى زنثس
قراع السيوف ومد القسي

هذه أمثلةٌ وجيزة مما أحدثه البستاني في نظم الإلياذة نكتفي بها للدلالة على شيء منها عدا وصفها وشرح مقدمتها بيانًا لما حوته من الفوائد والمستحدثات، ولذلك لا غرو إذا حسبنا إلياذته تحفة يحق للغة العربية أن تُفاخر فيها.

وهو قد نظم أيضًا نحو خمسة آلاف بيت شعر لم يُحفظ عنده منها إلا ما اقتصر على وصف الحوادث وفلسفة الأخلاق. ومن نظمه هذان البيتان عرَّبهما عن الفارسية:

قضيت إلهي بالعذاب ويا ترى
بأي مكان بالعذاب تدين
فليس عذاب حيثما أنت كائن
وأي مكان لست فيه تكون

وبيتان أيضًا عرَّبهما عنها في المعنى الآتي:

وحقك أدركت شفتي روحي
ومن شفتيك تنتظر الإفادةْ
فديتك عجلي بالأمر واقضي
بموت اليأس أو عيش السعادةْ

ومن نظمه أيضًا:

أنا ما أنا أمسي ويومي وفي غدي
سواء توالى الخير أو عظم الشر
أحب محبي نابذًا حاسدي الذي
قلاني كما لو كان قد ضمَّه القبر

ومن تواريخه الشعرية ما قاله في تهنئة صديقه يورغاكي أفندي إليان أحد وجهاء حلب الأماثل عندما نال الرتبة المتمايزة:

لا زالت الشهباء أكرم موطنٍ
فيها المناقب بالمناصب فائزة
وبآل إليان تعزُّ شئونها
فلكم بهم غرُّ المآثر بارزة
ولكم ليورغاكي بها فضل سمى
فحباه مولى الملك أفخر جائزة
واحتل منصب عزةٍ تاريخه
قد نال أصدق رتبةٍ متمايزة
سنة ١٨٨٥

ومنها تاريخ لأحد جوامع البصرة نظمه باقتراح قاسم باشا زهير ونال عليه جائزة فنقشوه على باب الجامع أثرًا خالدًا، ومن مؤلفاته تاريخ مطول للعرب في ألفي صفحة لم يطبعه بعدُ. وقد كتب سياحاته لحين إعلان الدستور في نحو ألف صفحة، وله مقالاتٌ عديدة في الجرائد والمجلات الإفرنجية أخصُّها الفرنسية والإنكليزية. ومع تعمُّقه بالعلوم والآداب أتقن درس لغات العرب والترك واليونان والفرس والسريان والفرنسيس والإنكليز والإيطاليان وألمَّ باللاتينية والعبرية والهندية والألمانية والروسية، وعُدَّ أعرف سوري بعادات وأخلاق الشرقيين والغربيين.

ومع كل ما فعله من عظيم الأعمال لم يتخذ رتبة ولا لقبًا حتى ولا وسامًا، بل كثيرًا ما كان يرفض ما يعرض عليه منها، ومع تباعده عن أمجاد العالم وتجنبه التظاهر والمباهاة ما بلغ مكانًا يُعرف فيه قدر العلم وقيمة الفضل إلا فاح طيبه كالعنبر فاحتفي به واحترم، ولا شبهة عندي بأن أخلاقه مبعث الاحترام له فضلًا عن معارفه الغزيرة التي ندر أن يستجمعها رأسٌ واحد، وأخلاق البستاني من أشرف أخلاق الناس وأسماها.

جرجي نقولا باز

نجيب البستاني

صاحب الامتياز الثالث لمجلة «الجنان» وجريدة «الجنة».

***

هو ثالث أنجال المعلم بطرس بن بولس بن عبد الله بن كرم بن شديد بن أبي شديد بن محفوظ بن أبي محفوظ البستاني، وُلد في ٧ كانون الأول ١٨٦٢ في بيروت، فدخل أولًا المدرسة الوطنية التي أسسها والده ثم الكلية الأميركية، فأتقن العلوم العقلية والنقلية ودرس اللغات العربية والتركية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، وسنة ١٨٧٨ عيَّنه أبوه مساعدًا له في تأليف كتاب «دائرة المعارف» وكان العمل جاريًا حينئذٍ في المجلد السادس منها، فكان في جملة ما أنشأه مقالةٌ ضافية عن روسيا، أجازه عليها القيصر بعد ذلك بوسام القديس استانسلاس من الطبقة الثالثة. ولما أدركت الوفاة المعلم بطرس البستاني سنة ١٨٨٣ ثم سليم البستاني سنة ١٨٨٤ خلفهما في امتياز جريدتَي الجنان والجنة، وحررهما مدة سنتَين وأودعهما المقالات السياسية والأدبية والتاريخية والروايات، وبعد احتجابهما تفرغ لتأليف «دائرة المعارف» بمساعدة أخويه أمين ونسيب وابن عمهم سليمان فأصدروا المجلد التاسع، ثم اتفق ورثة أبيه على أن ينيطوا به إتمام هذا المشروع العظيم فكتبوا له العقود الرسمية وحوَّلوا إلى اسمه حقوق اشتراك الحكومة المصرية في الكتاب المذكور، وفي السنة ١٨٨٦ استقدمه رياض باشا إلى مصر للنظر في بعض شئون دائرة المعارف، فحظي مرارًا بمقابلة توفيق الأول خديو مصر الذي شمله بالتفاته ووعده بالعطف على مشروع «دائرة المعارف» شدًّا لأزره في تأليفه ونشره.

وسنة ١٨٩٣ اشترك مع بعض أبناء سوريا في تأليف شركة لتمثيل العادات الشرقية في «معرض شيكاغو» العام، وفي السنة التابعة سافر إلى مصر فنال شرف المثول لدى خديويها عباس الثاني، وبعد عودته إلى سوريا تعين عضوًا فخريًّا في دائرتي الحقوق والجزاء في بيروت وعضوًا عاملًا في مجلس المعارف فأقام في هذه الوظيفة سنةً كاملة.

وسنة ١٨٩٥ انتدبه نعوم باشا حاكم جبل لبنان لرئاسة محكمة المتن فخدمها ست سنين بالنزاهة المشهورة عن آل بستاني، وفي تلك الأثناء اتفق صاحب الترجمة وأخوه نسيب مع ابن عمهما سليمان على نشر كتاب دائرة المعارف في مصر لما كان يحول دون ذلك من العثرات في الدولة العثمانية، فسافر نسيب مصحوبًا بمكتبة الدائرة إلى مدينة القاهرة حيث جرى فيها إتمام وطبع الجزأين العاشر والحادي عشر.

وسنة ١٩٠٠ تولى نجيب وظيفة المدعي العمومي الاستئنافي في مركز متصرفية لبنان، فقضى فيها خمس سنين ونالت لعهده شأنًا كبيرًا في القضاء بحكومة الجبل المذكور، وسنة ١٩٠٥ استقال منها وسافر إلى وادي النيل لمزاولة فن المحاماة، فتولى رئاسة قلم القضايا في عدة شركات بلجيكية وقيدته محكمة الاستئناف المختلطة في عداد المحامين لديها.

ولما ارتقى السلطان محمد الخامس إلى عرش الخلافة سنة ١٩٠٩ ألف المسيحيون العثمانيون المقيمون في مصر وفدًا من الأعيان ينوب عنهم في تهنئة جلالته، فكان صاحب الترجمة في جملة أعضائه ونال معهم شرف المثول والرعاية لدى الخليفة الأعظم، وعدا وسام «القديس استانسلاس» المارِّ ذكره فقد أحرز المترجم وسام «القديس غريغوريوس الكبير» من البابا لاون الثالث عشر، وحاز على «الرتبة المتمايزة» والوسامَين «العثماني الثالث» و«المجيدي الرابع» من الحضرة السلطانية وعين عضوًا في «الجمعية الآسيوية الإيطالية».

وقد دُعي مرتين إلى مؤتمر المستشرقين في استوكهلم وروما فأعد خطبةً عن تاريخ النَّوَر وحكاية أحوالهم وعاداتهم وأخلاقهم، ولما كانت أشغاله الكثيرة قد منعته من الحضور بالذات في مؤتمر روما فجرت تلاوة خطبته في جملة محاضرات المؤتمر المذكور، على أنه قدَّم لملك أسوج ولرئيس الجمهورية الفرنسوية مجموعة مؤلفات والده مشفوعة بأجزاء الجنة والجنان ودائرة المعارف، فورد إليه جوابان يتضمنان الاعتراف بالفضل الأدبي والعلمي.

ولنجيب البستاني منظوماتٌ شعرية مختلفة المواضيع لم تُنشر بالطبع، وله خطبتان ألقاهما في «جمعية شمس البر» في بيروت إحداهما عن «فينيقيا والفينيقيين» والأخرى في «غرائب العلم» طبعتا في مجلة المقتطف، وله أيضًا مقالاتٌ شتى فرنسية نشرت في جريدة Journal du Caire سنة ١٩٠٩ أتى فيها على وصف مدينة القسطنطينية وآثارها وجمالها الطبيعي وسياسة الدولة العثمانية قبل إعلان الدستور وبعده. وسنة ١٩١٢ سافر إلى إيطاليا وسويسرا وفرنسا وحظي في باريس بمقابلة حضرة وزير المعارف وعدد من كبراء السياسة والمؤلفين والصحافيين. وهو أبيُّ النفس لطيف المحاضرة حسن المبادئ ورث عن أبيه محبة نشر العلوم، غير أن شدة المراقبة على المطبوعات في السلطنة العثمانية سابقًا حملته على كسر القلم في سبيل خدمة الصحافة والعلم؛ فاضطر إلى ترك هذه المهنة الشريفة التي رفع البستانيون شأنها في الأقطار العربية شرقًا وغربًا، ولا يزال الأدباء يعلقون عليه الآمال في إكمال طبع كتاب «دائرة المعارف» الذي لا تخفى فوائده العظيمة عن كل ناطق بالضاد.

سليم دي نوفل

أقدم محرر في جريدة «حديقة الأخبار» وأحد مؤسسي «الجمعية العلمية السورية» ومجلتها.

***

لما نشرنا تاريخ جريدة «حديقة الأخبار» في الجزء الأول من هذا الكتاب فاتنا ذكر صاحب الترجمة الذي حرر في تلك الصحيفة لأول عهدها، ولما كان سليم دي نوفل من ذوي الوجاهة والفضل والعلم الذين خدموا النهضة الأدبية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر رأينا أن نثبت ترجمته في هذا الجزء، وقد استندنا فيما رويناه عنه إلى ما نشرته مجلة «الجامعة» في الإسكندرية٤ لمنشئها فرح أنطون وإلى ما أمكننا الوقوف عليه بعد البحث الطويل من مصادرَ شتى يُوثق بها:

هو سليم بن عبد الله بك ابن جرجس نوفل، وُلد في سنة ١٨٢٨ مسيحية في طرابلس الشام ورُبِّي فيها تربيةً كريمة؛ لأن عائلته المشهورة في الفيحاء كان معظم رجالها من موظفي الحكومة العثمانية، وقد استدل الجميع منذ صغره على حسن مستقبله بما كان يلوح على وجهه من لوائح النباهة والذكاء، ولكنه لم يدُرْ في خلد أحد منهم أنه سيكون يومًا من الأيام من الرجال الذين يفتخر بهم الشرق ويدل الغرب على استعداد الشرقي لكل تقدم وارتقاء. ولما كانت مدارس طرابلس مقصورة على تدريس المبادئ العربية ذهب سليم إلى بيروت لداعٍ عائلي وتلقَّى في إحدى مدارسها من اللغة الفرنسوية ما يمكنه من الفهم والتفهيم بها، وبعد خروجه من المدرسة بقي في بيروت فلازم علماءها الأعلام كالشيخ ناصيف اليازجي والمعلم بطرس البستاني، وهو الذي أنشأ معهما ومع بعض الفضلاء سنة ١٨٥٢ «الجمعية العلمية السورية» ومجلتها المشهورة.

ثم عاد إلى وطنه طرابلس وأكبَّ على الدرس والمطالعة بغير أستاذ، وفي سنة ١٨٥٨ عهدت إليه وكالة البواخر الروسية، ولكنه لم يقم فيها سنةً واحدة حتى خرج يطوف في أنحاء أوروبا لا سيما فرنسا وإنكلترا واكتسب كثيرًا من آثار التمدن العصري. وبعد رجوعه من طوافه اتخذه خليل الخوري مساعدًا له في تحرير صحيفة «حديقة الأخبار» وترجمة ما يلزم لها من الصحف الإفرنجية. وفي سنة ١٨٦١ طلبته حكومة روسيا إلى بطرسبرج بواسطة البطريرك الأنطاكي والبطريرك الأورشليمي للروم الأرثوذكس؛ وذلك ليكون أستاذًا للغة العربية في كلية بطرسبرج، فسار على نفقة حكومة روسيا ولم تكن السكة الحديدية قد اتصلت يومئذٍ بعاصمة القياصرة، فاضطر إلى أن يبتاع مركبة بخيلها لتنقله إليها هو وعائلته، وكان ذلك في فصل الشتاء القارس وما أدراك ما هو الشتاء في روسيا، والذي زاد مشقة السفر جهله اللغة الروسية ومحاولة الفلاحين الروس تعطيل مركبته ليضطروه إلى أن يشتري منهم غيرها.

ولما استقر في بطرسبرج دخل في الجنسية الروسية، وانصبَّ على درس لغة سكانها والتأليف والخطابة باللغة الفرنسوية والتدريس باللغة العربية للشبان الروسيين الذين يتهيئون للمناصب السياسية في الشرق الأدنى، ولما اطلع القيصر إسكندر الثاني على بعض خطبه ومقالاته أعجبته رشاقة أسلوبها، واتفق أن الشيخ شامل الشركسي المشهور الذي حارب روسيا مدة ٣٢ سنة خضع وسلم لها في ذلك الزمن وكان لا يحسن اللغة الروسية بل العربية، فكان سليم ترجمانًا بينه وبين القيصر، ومنذ هذا الحين بدأ تقدمه الحقيقي؛ فإن القيصر أحبه لذكائه ونشاطه ودقة نظره فقرَّبه منه ووهبه دارًا ومنحه لقب شرف وهو «دي» فصار يسمى «سليم دي نوفل» أو «إيرنه دي نوفل».

وفي سنة ١٨٧٦ عهد إليه القيصر رئاسة قلم في وزارة الداخلية، وفي سنة ١٨٧٧ مُنح رتبة «مستشار للبلاط الإمبراطوري» وفي سنة ١٨٧٩ مُنح رتبة «مستشار الدولة»، وأرسلته الحكومة الروسية في مأمورياتٍ سرية إلى بعض البلاد الأوروبية منها سفارة إلى روما لمخابرة الحضرة البابوية في مسألةٍ متعلقة بأهالي فنلندة الكاثوليك التابعين لروسيا، وانتدبته عدة مرات للنيابة عنها في المؤتمرات الشرقية، وكان يقوم بواجباته خير قيام؛ فمنحته حكومته عدة وسامات منها «وسام القديسة حنة» من الدرجة الأولى، وقد جاء في براءة هذا الوسام أن القيصر منحه إياه «مكافأة له على خدماته السارة وتآليفه الممتازة»، ومنها «الوسام الروسي»، وقد منحته فرنسا رتبة غران كوردون من وسام «جوقة الشرف».

معارفه ومؤلفاته

كان المترجَم يعرف اللغة الفرنسية والعربية والروسية والإنكليزية والتركية ويكتب فيها بفصاحة، وقد تلقى اللغة الحبشية أيضًا وطريقة درسه هذه اللغة لا تخلو من فكاهة؛ ذلك أنه ورد في ذات يوم على القيصر كتاب سري من النجاشي باللغة الحبشية فعهد القيصر إلى سليم بأن يترجمه له، فأخذه ثم التمس إنجيلًا باللغة الحبشية وأخذ، على ما يُقال، يتصفحه ويقابل كلماته بكلمات الكتاب، وأقام على ذلك حتى فهم معنى الكتاب، ولعله استعان على ذلك بعارف باللغة الحبشية وإنما كان يعرض عليه كلمات الإنجيل بلا انتساق ويطلب منه تفسيرها دون أن يوقفه على الكلمات الشبيهة بها في الكتاب.

أما مؤلفاته فهي كلها باللغة الفرنسوية وكان في هذه اللغة كاتبًا نحريرًا، وكفى دليلًا على ذلك أن الخطبة التي ألقاها في مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في باريز في نواحي سنة ١٨٩٥ كتبها في أقل من ساعة قبل انعقاد الجلسة، ولكن الذي سهل له هذا الأمر الصعب أن ذهنه كان مفعمًا بموضوعها «مطابقة الدين الإسلامي الحقيقي للمدنية»؛ ذلك أن جميع مؤلفات هذا الجهبذ كانت في المواضيع الشرقية الإسلامية، منها كتاب في ترجمة «صاحب الشريعة الإسلامية» وقد حذا فيه حذو الفيلسوف رنان في ترجمة السيد المسيح، ومنها كتاب عنوانه «الزواج في الإسلام» وآخر عنوانه «الملكية في الإسلام» وآخر عنوانه «النسل والطلاق»، ونقل من اللغة الفرنسية إلى العربية رواية «المركيز دي فونتانج» وطبعها سنة ١٨٦٠ في بيروت، وله شعرٌ رقيق نذكر منه أبياتًا من قصيدة رثى بها صديقه سليم دي بسترس وهي:

العيد وافى يا سليم إلاما
هذا التنائي عن الديار إلاما
ما حظنا فيه التهاني وإنما
أهدي إليك من الدموع سلاما
هاجت شجوني بعد موتك كلها
واسودَّ عمري حاضرًا وأماما
أقفرت قلبي والديار كلاهما
أضحى ببعدك يا سليم ظلاما
أبكيك لا أسف الحياة فإنها
حلم تبطن جوفه أحلاما
أبكيك لا أسفًا لفقد شبيبة
مرت كما خرق الشعاع غماما
أجل الزهور موقت بصباحها
وكذا الملائك لا تطيل مقاما
لكنني أبكي السماحة والنُّهى
أبكي العُفاة إذا أتوك زحاما
أبكي الفقير على ضريحك واقفًا
يذري الدموع على الخدود سجاما
أبكي اليتيم وقوله أين الذي
كنا نقبل كفذَّه إكراما

وختمها بقوله:

أعجزت شعري يا سليم فلا تلم
هذي دموعي فلا تسلني كلاما

أخلاقه وآراؤه

كان رحمه الله ربعة الجسم كساه المشيب وقارًا، وكان في لوائح وجهه أنفة العالم واتضاع الفيلسوف، ومما يروى عن فرط اتضاعه وكراهته للفخفخة الباطلة أنه لما كان في باريز أيام اجتماع مؤتمر المستشرقين فيها أراد الذهاب مع أعضاء المؤتمر لزيارة رئيس الجمهورية بصفته نائبًا عن روسيا فيه، ولكنه لم يلبس لباسه الرسمي ولم يضع عليه وسام «جوقة الشرف» من درجة غران كوردون، فألحَّ عليه صديقه ورفيقه في المؤتمر حضرة الأمير أمين أرسلان في وضع الوسام؛ لأن رئيس الجمهورية يبالغ في إكرامه متى رآه حائزًا عليه، فرضي أخيرًا بذلك إكرامًا لنائب روسيا إن لم يكن إكرامًا لنفسه، ولكنه لما كان على الطريق في مركبة مع الأمير أمين غطى الوسام بملابسه لكيلا يظهر إلا في حين الحاجة إليه.

أما آراؤه في الشرق والعرب والفلسفة فيقتضي بسطها مقالًا على حدة، إنما نكتفي هنا بذكر رأي له في ارتقاء الآداب الكتابية في اللغة العربية؛ فإنه يرى أن السجع والشعر على الطريقة القديمة من أشد العوامل الحائلة دون ارتقاء الكتابة في هذه اللغة؛ لأن الكاتب العربي لا يكون ذهنه إلى درر المعاني واعتبار الألفاظ لباسًا لها؛ أي أن اهتمامه يكون بالقشر لا باللباب وهذا من أعظم مصائب بعض الكتَّاب، على أننا نظن أنه رأى هذا الرأي قبل هذا العصر بعشر سنين أو عشرين سنة؛ لأن أسلوب الكتابة العربية قد تغير الآن تغيرًا عظيمًا، وذلك الأسلوب القديم لم يبقَ منه إلا الأثر وهو آخذ في الزوال شيئًا فشيئًا، فلا يبقى إلا الأسلوب الطبيعي الذي مقتضاه كتابة الكاتب كما يتكلم؛ لأن المقصود إبلاغ المعاني لا صفُّ الألفاظ.

مقامه في روسيا

وقد ذكرنا فيما تقدم منزلة المترجم في البلاط الروسي، ونزيد على ذلك الآن أنه كان الصلة بين روسيا وجميع العناصر الشرقية، فإن أمراء الشرق المسلمين الذين يفدون على بطرسبرج كانوا يتعرفون به، وكان مقصدًا لكل شرقي مسلم أو مسيحي يفد إلى بطرسبرج لحاجة، سواء كان من القوقاز وبخارى وغيرها من البلاد الروسية التي يتكلم أهلها اللغة العربية أو من الولايات العثمانية، وكانت له مراسلات مع السيد جمال الدين الأفغاني وأكثر بطاركة الشرق الذين كانوا يحتاجون شيئًا في روسيا، فكانت علائقهم معها على يده، وحلَّت وفاته في أوائل شهر تشرين الثاني من سنة ١٩٠٢ في مدينة بطرسبرج.

نجيب حبيقة

مدير جريدة «المصباح» وأحد المحررين فيها.

***

ولد في «الشوير» بلبنان سنة ١٨٦٩ وتلقَّى دروسه في كلية القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت، فنبغ بين أترابه حتى إن ذكاءه كان ينبئ إذ ذاك بما سيصير إليه، وما لبث أن دعاه رؤساء الكلية المذكورة إلى التدريس عندهم، فظل مدةً طويلة يُدرِّس صفي البيان العربي والفرنسي، ثم انتدب للتعليم في «مدرسة الحكمة» المارونية و«المدرسة العثمانية» للشيخ أحمد عباس الأزهري فقام بمهمته خير قيام، وفي شهر شباط ١٩٠٣ تولى مع أشغاله الكثيرة تحرير جريدة «المصباح» فكان يُتحف عالم الصحافة بكتاباته الأنيقة ومقالاته الشائقة وأفكاره المبتكرة، ونشر على صفحات الجرائد لا سيما مجلة «المشرق» وجريدة «المحبة» فصولًا شتى تدل على طول باعه في صناعة الإنشاء، وكان ولعًا بفن التمثيل؛ لأنه رأى فيه وسيلة لتهذيب الأخلاق وترقية الآداب، فكتب فيه الفصول الطويلة ونشر رواياتٍ تمثيلية منها مؤلَّفة ومنها معرَّبة نالت كلها صيتًا بعيدًا، وله عدة تآليفَ مدرسية وأدبية طبع بعضها في المطبعة الكاثوليكية نذكر منها:

(١) كتاب «درجات الإنشاء» في ستة أجزاء ثلاثة للمعلم وثلاثة للتلميذ. (٢) رواية «الفارس الأسود». (٣) رواية «شهيد الوفاء». (٤) مقالة في «فن التمثيل». (٥) مقالة في «الانتقاد». (٦) عرَّب روايتي «خريدة لبنان» و«الشقيقتَين»؛ وله غير ذلك مما يبلغ الخمس عشرة رواية تأليفًا أو تعريبًا، وكان شعره لا يقل عن نثره في سلالة التعبير وبلاغة المعاني لا سيما في رواياته التمثيلية، وما عدا ذلك فإنه كان قليل الاكتراث لفن القريض الذي لم يمارسه إلا ما ندر، ومن نظمه قصيدة سماها «السفينة البطرسية» تبريكًا للبابا لاون الثالث عشر سنة ١٨٨٧ في يوبيله الكهنوتي الذهبي، وهي من أوائل نظمه:

عصفت على بحر الأنام رياحُ
حجب النهار من الظلام وشاحُ
وهوت صواعق مصعقات أزعجت
بشرًا فكادت تزهق الأرواح
والبحر عاد عرمرميًّا مصخبًا
والموج ثار فساء منه جماح
والناس في غمر الخضم جميعهم
خاضوا فليس من الغمار براح
رأوا المياه تلاطمت أمواجها
وعلت عليهم كالجبال وصاحوا
طمت المصيبة فالمنية قد دنت
آهًا أليس من الهلاك مراح
لكن على سطح الخضمِّ سفينة
وعلى مقدَّمها يُرى مصباح
قد أقبلت وتطايرت لخلاصهم
شكرًا لجدك أيها الملاح
فيك النجاة وليس غيرك يرتجى
وإليك كلٌّ قلبه ملتاح
ها قد تقدَّمَت السفينة نحوهم
فنجا بها قوم وفيها راحوا
لم ينأْ عنها غير من قد آثروا
شرب الحتوف فذي الفعال قباح
شاموا البروق فأملوا منها الهدى
خابت ظنونهمُ فليس نجاح
لا نور في غير السفينة فاعلموا
من ينأ عنها ضاع منه صلاح
جدُّوا أيا غرقى وأُمُّوها يقو
دُكُمُ إليها نورها الوضَّاح
جدُّوا فليس لكم خلاص دونها
ولجمعكم فيها الدخول مباح
أعداؤها سخروا بها قبحًا لهم
قالوا بأنْ ستحطَّم الألواح
فالموج يصدمها فيدفعها فلا
أمل لنفس بالنجاة متاح
وإذا بصوتٍ صارخ: كن آمنًا
بين السفينة والخضم كفاح
فسفينة الصياد تقهر خصمها
أبدًا لأن لها الصفا ملَّاح
للحين عاد النوء صفوًا رائقًا
وعن البلايا زالت الأتراح

ومع ما كانت تقتضي أشغاله العقلية من الوقت كان يكرس الساعات الطوال لخدمة الجمعيات الخيرية وتخفيف وطأة الشقاء عن ذوي الفاقة، فخدم بغيرةٍ يذكرها الجميع شركة القديس منصور دي بول وأخويه القديس مارون، وأنشأ مع بعض أهل الفضل جمعية «أخواء الفقراء» المارونية وكان يدير مدرستها المجانية بنفسه، وقد خصَّه الله مع الذكاء والغيرة بدماثة الأخلاق ولين الطباع والذوق السليم والرزانة، وأنشبت المنية أظفارها فيه عند الساعة التاسعة من مساء يوم الثلاثاء الواقع في ٢٥ كانون الأول ١٩٠٦ إثر علةٍ أذبلت زهرة شبابه النضر دون أن يتوصل طبيب إلى اسئصال جراثيمها القتالة، وبعد أربعين يومًا لوفاته أقام له أصدقاؤه في نادي «أخوية القديس مارون» حفلةً تذكارية جمعت كل عارف بفضله، فكانت الحفلة الأولى التي أقيمت في بيروت من هذا النوع وتوالت فيها الشعراء والخطباء فضفروا إكليلًا من المجد خالدًا لمن قضى حياته في خدمة العلم الشريف، وقد ألقى حينئذٍ إلياس حنيكاتي خطبةً بليغة اختتمها بهذه الأبيات:

على ابن حبيقة الشهم النجيب
جديد تلهف ملء القلوب
ثوى في لحده غصنًا رطيبًا
فجفَّ الدمع من فرط النجيب
أرانا خطبه خطبًا جديدًا
بيوم الأربعين بلا ضريب
فليت يعاد مرآه قليلًا
لنشفي غلة القلب الكئيب
وليت لنا صدى ما كان يلقي
على الأسماع من درٍّ رطيب
مضت تلك الحقيقة والأماني
ولم يبق سوى ذكر النجيب

ثم خطر لبعض أحبائه وتلامذته أن يسعوا في إقامة أثر يخلدون به ذكره إقرارًا بفضله على الشبيبة البيروتية وخدماته العديدة في سبيل الصحافة والتعليم والأعمال الخيرية، فقيض الله لهم أن يجمعوا مبلغًا من المال يزيد على السبعة آلاف غرش ونصبوا له ضريحًا في المقبرة المارونية الواقعة في محلة «رأس النبع»، وهو أول عمل وطني من هذا النوع أقيم أيضًا في بيروت. وبعد ظهر الأحد ١٥ آيار ١٩١٠ اجتمع فريق من أهل الفضل واحتفلوا بنقل رفات صاحب الترجمة إلى القبر ولمعت الدمعة في كل عين، وقد تكلم باسم لجنة الاكتتاب يوسف بن نخلة ثابت ثم بشارة بن عبد الله الخوري منشئ جريدة «البرق» ونجيب مصور وجرجي بن نقولا باز منشئ مجلة «الحسناء» ويوسف غلبوني ويوسف كامل والدكتور سليم جلخ، وكانت الحفلة ظاهرة عليها أدلة التأثر؛ لأنها أعادت ذكرى الفقيد إلى كل قلب، وقد شيد الضريح بكل ذوق ونقشت على صدره هذه الأبيات:

حياك يا قبر منا غيث أدمعنا
وجادك الله من أسنى عطاياه
ضممت كنزًا ثمينًا دونه مهج
تسيل حزنًا وتدمي القلب ذكراه
قد قدر الله أن نبكي عليه فتى
غضًّا فصبرًا على ما قدر الله
يا ساهر العين في التاريخ دامعها
حيي النجيب فهذا القبر مثواه
سنة ١٩٠٦

نجيب إبراهيم طراد

محرر «التقدم» و«الصفا» في بيروت ومنشئ «الرقيب» ومحرر «الأهرام» و«البصير» في الإسكندرية.
ينوب عني رسمي حين يحجبني
عن العيون ستار اللحد والغسق
فإن عمري وإن طالت مسافته
في الأرض أقصر من عمري على الورق

***

أسرته

أسرة طراد قديمة العهد في بيروت رفيعة المقام غنية بالرجال وبالمال، جاء جدها يونس بن طراد من حوران وسكن «كفر حزير» في الكورة شمالي لبنان، ثم قدم بيروت سنة ١٦٤٣ على ما روى المؤرخ عيسى المعلوف في كتابه «دواني القطوف» واتصل بالأمير فخر الدين المعني وحظي عنده، فتوارثت سلالته الوجاهة جيلًا بعد جيل واشتهر منها أفرادٌ عديدون كالمطران جراسيموس أسقف حاصبيا وراشيا المتوفى سنة ١٨٦٧ وكان حبرًا فاضلًا، ومنهم أسبريدون ياور السلطان عبد العزيز الذي كبا به الجواد عام ١٨٧٠ فمات ورثاه كثير من الشعراء كخليل الخوري مؤسس «حديقة الأخبار»، ومن قوله فيه:

ويلاه كيف كبا الجواد ملاعبًا
أيدي الردى بابن الطراد الأمنع
أواه من أيدي المنية إنها
قنصت غريب الدار قبل المرجع
يا أيها الغصن الموسَّد في ثرى
دار السعادة بعد خصب المرتع
قم لم يأن وقت انقصافك يا فتى
قم لم يحن يا صاح يوم المصرع
قم وأجل لطفك للصحاب ترفقًا
فعساك تنعش مهجة المتفجع
قم واشفَ غلة من دعاك بلفظةٍ
من لي برقَّتها ترن بمسمعي

ومن أدباء آل طراد المتوفين المقدسي عبد الله بن مخايل مؤلف تاريخ «أبرشية بيروت» من أوائل القرن السادس عشر إلى ربع التاسع عشر، وقد اعتمد على هذا الكتاب أيضًا غطاس قندلفت أحد أساتذة مدرسة البلمند في تأليفه «تاريخ البطاركة الأنطاكيين» المنشور في السنة الأولى لجريدة «المنار» البيروتية، وبطرس بن شاهين طراد ألَّف بطلب من أحد الأمراء سنة ١٨١٧ وهو في جزيرة مدللي تاريخًا لحروب فرنسا وأوروبا في مدة أربع وعشرين سنة على عهد نابليون الأول، ولا يزال تاريخه غير مطبوع، وقد رأيت نسخة منه عند جرجي أبي مرعي بسترس مكتوبة بخط يد المؤلف في ٣٠٠ صفحةٍ صغيرة على ورقٍ متين، ومنهم جرجي بن إسحاق طراد (١٨٥١–١٨٧٧) كاتب المقالات المفيدة في جريدة «الجوائب» ومجلة «النحلة» وناظم ديوان شعر عندي نسخة منه بخط يده سأمثلها للطبع، وله أيضًا أرجوزة في الصرف وروايةٌ شعرية، ومن نظمه قوله في الحكم:

ما كل من رام نظم الشعر يدركه
ولا الذي رام يفدي الناس يفديها
ليس الذي عاش أيامًا مطولة
بل الذي عرك الأيام يدريها
بين الحياة وكل الناس معركة
بالحظ والبؤس تفنينا وتفنيها

وجبرائيل بن حبيب طراد (١٨٥٤–١٨٩٢) نظم الشعر وهو صبي، وفي السادسة عشرة من عمره، رثى نسيبه أسبيريدون بقصيدة، ومن رثائه لسليم دي بسترس ما يأتي:

على أنه قد كان أحرى بنا بأن
نغبط من مثل السليم نما سعدا
حصيف قضى دنياه في خوف ربه
فحدث ولا تطلب لأفضاله حدا
فكم غاث محتاجًا وأطعم جائعًا
وعاد أخا سقم فأوسعه رفدا
وكم من أيادٍ جاءها ومكارم
فكانت بجيد الدهر من فضله عقدا
جدير بأن الفخر يشكو فراقه
ومنه رواق الفخر قد كان ممتدا

وموسى بن نسيم طراد (١٨٨٣–١٩١١) كتب عدة مقالات في بعض الجرائد منها «المحبة» وترجم بضع روايات، وله خطب وقصائد في مواضيعَ مختلفة.

وكبير أدبائهم أسعد طراد الشاعر المشهور (١٨٣٥–١٨٩١) تلميذ مدرسة «عبيه» والموظف سنواتٍ عديدة في الحكومة والمتاجر في القطر المصري حيث توفي، وهو الذي قال فيه أستاذه الشيخ ناصيف اليازجي:

لقد سبق القوم الطراديُّ أسعدُ
إلى قصب السبق الذي ناله غصبا

ووصفته جريدة الأهرام بأنه «كان يتدفق الشعر من فيه كالماء» ووصفه سليم دي بسترس بما يأتي:

ذاك الفريد ومن بلطف صفاته
لا يلتقي بين الأنام مماثلًا
شهم بنظم الشعر أبدع إذ أتى
في سحره الفتان يسحر بابلا
لما بعقد النظم حلَّى عصرنا
ما عدت أنظر قط جيدًا عاطلا
يا أسعدًا في الناس إني أسعد
بك إذ رأيتك نحو ودِّي مائلا

وجاوبه سليم دي بسترس من مصر مرة على قصيدة أرسلها إليه بقصيدة نورد من أبياتها:

ويا شوقي لأرض أنت فيها
فيا بيروت غيرك ما حلا لي
رسالة أسعدٍ حملت إلينا
سلامًا من شذا زهر الجبال
سكرت بكأسها المملوء لطفًا
فسكري ليس من خمر الدوالي
وجدت بنظمها درًّا مصاغًا
عجبت لكاتبٍ صاغ اللآلي

فإن له قصائد وأبياتًا من أحسن ما نظم الشعراء في مواضيعها، جمع بعضًا منها فضل الله ابن شقيقه خليل في كتاب على حدة نشره سنة ١٨٩٩ مما ورد فيه قوله:

قل للذي قد ردَّ صبًّا سائلًا
ما ردَّ طرفي قط دمعًا سائلًا
لو كنت تنظر جود طرفي مرةً
ما كنت تبقى بالتداني باخلا
يا عاذلي في حبه مهلًا فما
من عاشق قبلي أطاع العاذلا
إني قتيل في الغرام على رضى
وبمهجتي أخفيت ذاك القاتلا

ومن قصيدة رفعها لتوفيق باشا خديوي مصر:

دع يوم دارة جلجل والغيدا
وظباء وجرة والعيون السودا
وحمى تكاد تعد من أطلاله
مما وقفت به تعد عميدا
إطلال خولة لا تخولك الوفا
وبكاك فيها لا يرد فقيدا
أفتسمع الصم الدعاء وأنت لم
تسمع هداية من أتاك رشيدا
سميت أشفق ناصح لك عاذلًا
ودعوت أصدق من هداك حسودا
وطفقت تفتقد الأحبة في الحمى
ونسيت تنشد قلبك المفقودا
وغدرت ذاتك عند ذات غوائر
قد قيدتك عقاصها تقييدا
تجري الدموع سُدًى فلا تطفي بها
نارًا جعلت لها حشاك وقودا

ومن قوله في وصف الاختراعات العصرية متنبئًا عن الفونغراف والغراموفون والسينما تغراف:

وجِّه لحاظك للبخار وقل به
إني أرى ماء يجر حديدا
وانظر لسلك البرق والتلفون كم
قد قرَّبا ما كان منك بعيدا
غنت سليمى في الحجاز فأطربت
مع بُعدها أهل العراق نشيدا
ولسوف أن رقصت بباريز ترى
في أصفهان لقدِّها تأويدا
أله الفؤاد بذكر ذاك وذا وذا
عجبًا وهاك الطائر الغريدا
يهدي إليك مع البريد بوصفه
فكأنما حمل البريد بريدا
يصف البريد ببره وببحره
وبجوه متنوعًا معدودا
ذاك الصديق الصادق الخل الذي
لا يعرف التأجيل والتعريدا
ويريك منه بوصفه خلًّا يرى
حفظ الأمانة سنةً وعهودا
حمل السفائح والنضار لأهلها
وسرى بحول الله يطوي البيدا
يطوي القفار فكم عليه حلة
منها وكم منه بها أخدودا
متفرع في أرض مصر كنيلها
يسقي التجارة سقي ذاك صعيدا
أبدًا يطوف بها كصاحب كرمةٍ
يهدي لكل محطة عنقودا
جلب الثمين لنا بوفدته وقد
نظر العظيم من العفاف زهيدا
يمسي ويصبح زائرًا بهديةٍ
ومودعًا بنظيرها تزويدا
ولكم وقفنا منه من سبأٍ على
نباءٍ يقين إذ أتى وأعيدا
وهو الذي قد عاد بالغصن الذي
عن كون غيض الماء كان مفيدا
فلأجل ذلك ذا تتوج رأسه
أجر الأمين وذا تتوق جيدا

وقوله في رثاء نسيبه أسبيريدون:

واهًا لقلب جواده فكأنه
قد كان ذاك اليوم مثل نعاله
والمرء ما حفظ الوداد فما الذي
ترجو من الحيوان في أفعاله

ومن مرثاته لسليم دي بسترس:

فالميْت حل برمسه والحي قد
نُصبت مضاربه على عتباته
يبكي الفقيد ولو تأمل نفسه
لبكى من استتباعه خطواته
أبني أبينا ليس يجمع شملنا
يوم المعاد بحسب قول ثقاته
وغدًا يعزي بعضنا بعضًا به
أبدا جزى الرحمن فضل رواته
والمرء لولا موته لحياته
بالله كان تعيس مخلوقاته
دنياه ذات مصائبٍ ونوائبٍ
لا تعتري الحيوان في فلواته
فالويل للإنسان إن ساورهما
عدم يضيع العقل في ظلماته
أمر به حار اللبيب وخاض في
بحر البيان فتاه في لجَّاته
والنفس ثابتة الوجود تحجبت
عن أن ترى بحجاب مكنوناته

ومن رثائه لأنطون لاذقاني:

سلبت به يا أيها البين درة
لها قيمة عند المحبين غاليةْ
كأن به الحمى التي قد قضى بها
رماها على قلبي لأعرف ماهيه
فيا نيل مصر هل أرى منك جرعةً
لقلب كواه البين يا نيل شافية
أغثني على ما أنت فيه من الوفا
بكأس وخذ من دمع عيني ساقية
ولكن على ما قيل للناس جنة
لمن سار في مرضاة مولاه باقية
فسبحان من لا يعلم الأمر غيره
إله الورى من عنه لم تخف خافية

ومن وجهائهم إسحاق طراد الشهم الوديع محب الإنسانية المحسن إليها ذو المآثر الطيبة خصوصًا في حوادث عام ١٨٦٠، وبولس طراد عين أرثوذكسي بيروت في عصره وخادم طائفته في عضوية مجلس الإدارة، وولداه إسكندر ترجمان قنصلية العجم ومعزز مدارس الطائفة وسليم ترجمان قنصلاتو روسيا ومنشئ مجلة «ديوان الفكاهة» ومدير مطبعة القديس جاورجيوس، وجرجس بن نقولا عضو محكمة التجارة وأول من أبَّن ميتًا في بلادنا على ما نعلم بتأبينه المطران بنيامين سنة ١٨٤٨. ومما يذكر من غرائب الاتفاق أن وفاة إسكندر سنة ١٨٨٨ كانت في مثل اليوم الذي توفي فيه والده بولس وبذات الساعة أيضًا بعد سبعة عشر عامًا، فقالت في ذلك مجلة «الصفاء»:

فكلاهما بين البرية نادر
ولذاك خطبهما غريبٌ نادر

وقد ابنه الشماس غريغوريوس حداد بطريرك أنطاكية الحالي ضيف قيصر الروس اليوم.

ومن أحيائهم المعاصرين الفقيه إلياس بن جرجس أحد أعضاء محاكم الاستئناف ونائب رئيس «الجمعية الخيرية الأرثوذكسية» ومدرس الفقه في مدرستَي «الحكمة» المارونية و«الأرثوذكسية الإكليريكية» ومؤلف كتاب «الترجمان الإنكليزي» باللفظ العربي ومصحح قاموس إنكليزي وعربي، وله شرح مختصر لأهم مواد أصول المحاكمات الحقوقية نشره في جريدة «لبنان» التي حرر فيها وفي «الصفا» و«المنار»، والمحامي إسكندر بن فرج الله مدير جريدة «المؤيد» في مصر والمحرر في جريدة «ثمرات الفنون» ومراسل جرائد «التقدم» و«لسان الحال» و«الأهرام» من الآستانة حيث اشتغل في المحاماة مدةً طويلة، والكاتب نجيب بن نسيم رئيس تحرير جرائد «المحبة» البيروتية و«باريس» و«نهضة العرب» الباريزيتين و«الجديد» البرازيلي ومساعد الدكتور نقولا فياض بتعريب رواية «الخداع والحب» لشار الألماني، والمحامي بترو بن إسكندر أحد مؤسسي «جمعية الإصلاح العمومية»، ونجيب بن نعمة عضو مجلسي الإدارة والملة وشقيقه ميخائيل عضو محكمة وغرفة التجارة، ونقولا بن يعقوب عضو المجلس العمومي، وحنا بن شكور مضيف الأمراء والحكام، ومتري مدير البنك العثماني في حلب وقونية وبيروت وشقيقه سليم الموظف في عدة مأموريات حتى عضوية الاستئناف وهما شقيقا «نجيب» صاحب هذه السيرة.

ومن فاضلاتهم وأديباتهم السيدة فريدة بنت إسحاق طراد مديرة مدرسة «زهرة الإحسان» ورفيقة حياة رئيستها الأخت مريم جهشان في الجهاد لتعليم البنات وتهذيبهن، والسيدة أدما ابنة جرجي بن حبيب طراد وشقيقة أنيس بك المالي المدقق وزوجة إلياس بك سرسق ورئيسة جمعية السيدات لمساعدة مستشفى القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس ونصيرة الجمعيات الخيرية، والسيدة ميليا ابنة فارس بك رئيسة المدرسة الوطنية في الشويفات ذات العناية بتهذيب الأحداث، ومنهن شقيقتا نجيب بن نسيم المأسوف على صباهما «حنينة وسلمى» وقد كانتا من خيرة الذكيات المستعدات، كتبت سلمى في بعض الجرائد كالنصير وغيرها وخطبت في الدفاع عن حق المرأة وهيأت نفسها بالدرس والاستطلاع إلى مستقبلٍ مجيد، ولكن المنية عاجلتها في ضواحي باريز قبل أن تبلغ العشرين، فأقامت لها إدارة مجلة «الحسناء» حفلةً تذكارية في شباط سنة ١٩١٠ في «النادي العائلي البيروتي» حضرها مائتان وخمسون نفسًا، فافتتح الحفلة واختتمها كاتب هذه السطور وتكلم فيها: فكتور شميل سكرتير النادي، وفليكس فارس منشئ «لسان الاتحاد»، وجرجي عطية صاحب «المراقب»، وشبلي بك ملاط منشئ «الوطن»، والدكتور إلياس عبيد عضو المجلس العمومي، وإلياس حنيكاتي كاتب مطرانخانة الروم، والأوانس جوليا طعمة، وروز ناصيف، والأميرة نجلا أبي اللمع، وناب بالتكلم عن داود مجاعص صاحب جريدة «الحرية» أمين بك خضر وعن قسطنطين يني رئيس تحرير «حمص» بترو باولي مدير «الوطن والمراقب».

وما خلت جمعيةٌ خيرية أرثوذكسية من عضو أو عضوين من آل طراد، وبالإجمال فإن أسرتهم لها عندنا في كل مأثرة يد.

نشأته

ولد نجيب بن إبراهيم بن متري طراد في بيروت في منتصف شهر كانون الأول سنة ١٨٥٩ وطلائع الاضطراب الأهلي في سوريا على وشك الظهور، تغذى جنينًا دم الارتياع، وفي عام الاستعداد للشر أبصر نور الوجود فرضع الحليب يكاد يحمر ونشق النسيم ممزوجًا برائحة الدم، وما بدأ يميز بين الأصوات حتى بلغ أذنَيه صليلُ السيوف ودويُّ الرصاص، وأول كلمات فهمها عويل الثكالى وصياح الأيتام؛ إذ تموج الهواء بهذه الأنغام من لبنان وحاصبيا والشام، ورأى في طفولته المنكوبين يتوافدون إلى المدينة فرارًا من المذابح وهم بحالة يرثى لها رعبًا وجوعًا، فبقي في نفسه أثر من فظائع البشر رافقه في حياته إلى الممات فكانت عبارته الأخيرة في نزعه الأخير «الإنسانية معناها السلام، ليعش الإنسان بسلام ليكون إنسانًا».

ونشأ في بيت فضل أراد ربه تنشئة بنيه على الحرية والاستقلال فشبَّ نجيب حرًّا مستقلًا وارثًا أطيب الخلال، وكان ذكيًّا جدًّا قوي الذاكرة سريع الخاطر تلقَّى مبادئ العربية في مدرسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس.

وفي التاسعة من عمره دخل مدرسة الآباء اليسوعيين ومكث فيها سنةً واحدة، ثم انتقل إلى مدرسة كنيسة اسكوتلاندا المعروفة باسم رئيسها «ستيكر» فمدرسة الإنكليز على عهد مستر «موط»، وقبل أن يتجاوز عمر البدر غادر المدارس إلى التجارة فاشتغل في محلَّين في الثغر وفي الشام ولم يطل عليه الأجل تاجرًا، بل عاد إلى العلم وانصبَّ على الدرس والمطالعة وشرع يزاول الإنشاء بمقالاتٍ مختلفة، ودُعي إلى حمص فعلَّم في إحدى مدارسها ثم دعاه زعيم البابيين «عباس بن بهاء الله» إلى عكا لتعليم أولاده فأقام في منزله مدة يعلمهم، وإذ رأى مجال التقدم ضيقًا على مواهبه في هذه البلاد غادرها إلى الإسكندرية حيث حرر في جريدة الأهرام تحت إدارة منشئيها سليم بك وبشارة باشا تقلا، وتعيَّن كاتبًا في إدارة سكة الحديد المصرية، وبعد ذلك توظف في وزارة الحربية في مصر، ومن أعماله المأثورة فيها تعيينه ترجمانًا لعرابي باشا في محاكمته بعد الفتنة المشهورة التي احتل الإنكليز بسببها وادي النيل، وتعليمه ونجت باشا الإنكليزي لغة العرب، وقد حضر الحوادث العرابية واستطلع جميع أحوالها ولم يخشَ منها بادرة الاغتيال، كما أنه لم يرهب الهواء الأصفر إذ فتك بالمصريين ولا جنح إلى الهرب، بل ثبت في مواقفه على أشدها خطرًا عليه ولم يترك مركزه أملًا بالترقي، ولكنه إذ رأى حقه مبخوسًا وترقيه بسلك الوظائف غير عادل آثر الاستقالة على البقاء وعاد إلى بيروت بعد أن رفضت الوزارة استقالته ووالاها ثلاث مرات.

رجوعه إلى بيروت

وشرع هنا يدرس الطب في الكلية الفرنسوية ولكنه لم يكمل درسه، وقد أبدى من الذكاء والاجتهاد ما دعا عمدة الكلية للإعجاب به والاهتمام بأمره حتى إنها قررت تعليمه مجانًا فيها وحرَّضته على إكمال الدرس بلا بدل، ومع كل هذا التنشيط والمآزرة أبى إلا أن يتركهم واقتصر على تعلم الحقوق وإتقان اللغات، فباشر بالألمانية وأتقنها مع الفرنسية والإنكليزية والعربية وألمَّ بالإيطالية والتركية، وكان أستاذه بلغة الألمان خليل الشماس مترجم «تاريخ حرب الإنكليز والحبش» تأليف ثيوفيل ولدمير مؤسس بيمارستان العصفورية قرب بيروت، ولكنه لم يدرس عليه إلا شهرًا واحدًا؛ إذ اكتفى بأن يحصِّل بنفسه دون أستاذ جميع ما حصَّل، وكان اجتهاده موافقًا لذكائه وتدقيقه ملائمًا لمطامعه وكانت رغبته في الاستفادة واسعة المدى ولا همَّ له إلا الدرس والاطلاع، ومع تعمقه في اللغات تعلم «الفرائض» جيدًا ودرس الحقوق على نفسه أيضًا وغيَّب بستة أشهر كود (مجموعة قوانين) نابليون الأول.

وألَّف تاريخ مكدونيا والممالك التي انفصلت عنها ونشره مطبوعًا سنة ١٨٨٦ بنحو مائتي صفحة، وتاريخ الرومانيين من بناء رومية إلى تلاشي الحكومة الجمهورية نشره بزهاء مائتين وثلاثين صفحةً في السنة ذاتها، وخصَّ الجزء الثاني منه بتاريخ سلاطين رومية ولم يطبعه، وكتب رسالةً انتقادية في عادات معاصريه، وناظر جريدة «ثمرات الفنون» مناظرةً قوية الحجة سديدة البرهان، وحرر في مجلة «الصفا» عام ١٨٨٧ على عهد مديرها جرجي غرزوزي ونشر فيها قسمًا من تأليفه تاريخ الدولة الرومانية الشرقية وهو الجزء الثالث من تاريخ الرومانيين، وتعريبه لمختصر تاريخ الفلسفة عدا النبذ والمقالات العديدة، وتولى بعدها تحرير جريدة «التقدم»؛ إذ كان يديرها إسكندر طاسو فقرظتها مجلة الصفا بقولها: «رأينا فيها ما يُحلُّها محلًّا رفيعًا ويشفُّ عن غزارة فضل المحرر وسعة اطلاعه.»

وعرب عن الفرنسية رواية «اليهودي التائه» تأليف «أوجان سو» ونشرها مطبوعة بأكثر من ألف وأربعمائة صفحة بمجلدَين، وهذه الرواية مشهورة في العالم لكثرة اللغات التي ترجمت إليها عربها بسرعةٍ زائدة وهو محاط بأشغال مهمة، ومع ذلك أحسن تعريبها ووافق فيه الأصل، ومثلها رواية «عثليا» عرَّبها حرفيًّا عن الشاعر راسين ونظمها شعرًا في واحد وعشرين يومًا، ولسببٍ مجهول أحرقها دون أن تُطبع أو تُمثَّل، وعرَّب عن الإنكليزية رواية «العبر» و«حداثة هنري الرابع»، ولعل هذه رابع رواية طالعها في حداثته كاتب هذه السطور.

وتعيَّن عضوًا في محكمةٍ بداية الولاية وكان شأنه في سكة الحديد ووزارة الحربية في مصر مثال الأمانة والنزاهة، وإذ رأى الفساد متمكنًا من الحكومة ويستحيل عليه الثبات في منصبه دون تزلُّف ومداجاة ووجد مبادئه تكاد ترزح تحت أثقال الظلم واستقلال وجدانه معرضًا للضرر؛ هجر الوظيفة مستقيلًا بعد أن عانى عداء المستبدين، وفضل الانزواء في البيت على الظهور في السراي.

ولم يمكث بعد استقالته طويلًا حتى سافر إلى الإسكندرية فحرر في جريدة «البصير» وأنشأ جريدة «الرقيب» سنة ١٨٩٨ وأصدرها بضع سنوات بأسلوبٍ حسن ومبدأٍ حر، ثم تركها لعهدة شريكه جرجي الغرزوزي مدير «الصفا» سابقًا وذهب إلى الآستانة فمرسيليا ورجع إلى بيروت واستقرَّ فيها بقية حياته.

وفي أثناء وجوده في الإسكندرية دعاه تلميذه ونجت باشا حاكم السودان ليوظِّفه في حكومته وظيفةً تليق به، فلم يرضَ بسبب الحر السوداني المشهور، وبعد أن عزم على طبع كتاب ألَّفه في «الحضارة والقانون» عدل عن عزمه، وقد عرَّب روايات «المتمولة الحسناء» و«خليلة هنري دي نافار» و«وقائع رنيه» و«الملكة كاترين» و«حصار باريز» و«ملكة النور» و«حبائل الشيطان» و«العاشق الروسي» ونشرها إلا الأخيرتَين في «الرقيب» وطبعها كلها كتبًا على حدة، ولاحظ طبع النبذة من ديوان أسعد طراد وذيلها بكلمة فيه.

الرجوع الأخير

ولازم بعد رجوعه بيته واعتزل فيه عن الناس تفرغًا للدرس والاطلاع إلى أن توعكت صحته واستولى عليه الضعف، فانتقل من دنياه في ٢٢ نيسان سنة ١٩١١ ودفن في مقبرة القديس ديمتريوس بمأتمٍ حافل شيَّعه فيه عارفو فضله، وقد رثاه إلياس حنيكاتي كاتب مطرانخانة الروم بهذه الأبيات:

جزعت من سكوتك الكتاب
قبل هذا السكون والآداب
وبكاك الوفا بدمع سخينٍ
ورثاك الخلان والأصحاب
لم يشأ بعدك «الرقيب» ظهورًا
إذ تولاه مثلك الاحتجاب
وعرى ذلك «التقدم» صمتٌ
حين لم يبقَ فيه منك خطاب
وجرى مدمع الصحافة حزنًا
وشكت فرط شجوها الأعراب
يا لها ساعة رأيناك فيها
فاقد الحس لا ندا لا جواب
لا خطاب يعيه سمعك منا
لا يراع تهزه لا كتاب
إن خطبًا دهاك في يوم عيدٍ
هو خطب قد ضاع فيه الصواب
وغشت شمسه غيومُ غمومٍ
وعرا الناس وحشة واكتئاب
أي فقيد الآداب كم لك فيها
من أيادٍ تجلُّها الكتاب
وتآليف سائغات المعاني
ثملت من رحيقها الألباب
في طراد العلوم كنت المجلي
ليس تثنيك يا نجيب صعاب
كنت قبل الدستور حرًّا أبيًّا
ناشرًا راية السوا لا تهاب
جاهدًا في نفع البلاد بنفسٍ
حرة ملوءها غنًى وشباب
فإذا لم تنل ثوابك فيها
فلك الأجر في السما والثواب
ألهم الله آلك الغرَّ صبرًا
وسقى رمسك الكريم السحاب

وكان نجيب أبيَّ النفس حرَّ الشمائل صادقًا مستقيمًا لا يخلو مجلسه من نكتة أو مباحثة ولا يملُّ عشيره أُنسه ولطفه، وعى رأسه معارفَ واسعة وآدابًا غزيرة، ومع وفرة اشتغاله باللغات الأعجمية ظل إنشاؤه محضًا عربيًّا، ولديه في كل حين براهين تؤيد رأيه، وهو أول صحافيٍّ عربي تعمق في اللغة الألمانية وعرَّب عنها ولعلَّه الوحيد بذلك بين صحافيي لغة العرب، وله قصائد ومقاطيعُ عديدة من الشعر مع عدم رغبته فيه نكتفي بذكر بعضٍ منها للدلالة على شعره، فمن ذلك تقريظ لرواية «ألم الفراق» تأليف سليم جدي أحد كتَّاب بيروت وشعرائها المجيدين عندما تمثلت سنة ١٨٨٨:

سحرتنا رواية أذكرتنا
بهجة العلم في العصور الشهيرة
نسجتها يراعة ابن جدي
حدث طاب سيرة وسريرة
أودع اللفظ كل معنًى لطيف
شفَّ عن جودة ونفس كبيرة
فهي مرآة قلبه عكس العلم
عليها نور الذكا والبصيرة

ومن قوله في رثاء سليم المشار إليه:

أنت بالطبع شاعر عربي
نظم الشعر منذ كان صبيا

وقوله في خزان مصر سنة ١٨٩٨:

نيل مصر يجري معينًا فيجري
منه خصب تحيا به السكان
إنما النيل للبلاد نضار
ولحفظ النضار ذا الخزان

ومن شعره تاريخ لضريح إسحاق طراد المشار إليه:

بنو طراد بكوا شيخًا تلألأ في
معالم المجد بالإحسان والجاه
قاسى البلايا كأيوب وهمته
ما لا يقاس بأمثال وأشباه
قد أنحلت جسمه التقوى وديدنه
ألَّا يعزيه في بلواه إلا هي
والله قال له أرخ على عجل
ضحيت نفسك يا إسحاق لله
١٨٨٧
جرجي نقولا باز

شاكر شقير

مترجم روايات مجلة «ديوان الفكاهة» في بيروت ومنشئ مجلة «الكنانة» في القاهرة وأحد أعضاء «الجمعية العلمية السورية».

***

هو شاكر بن مغامس بن محفوظ بن صالح شقير، وُلد سنة ١٨٥٠ في «الشويفات» بلبنان ودرس فيها مبادئ العلم على يوسف أبي ناصيف، ثم انتقل إلى مدرسة الروم الأرثوذكس في «سوق الغرب» وكانت بإدارة الدكتور يوسف عربيلي، فأحكم معرفة اللغتَين العربية والفرنسية وشيئًا من اليونانية على الأساتذة أسبر شقير قنشليار قنصلية إنكلترا حالًا في بيروت، وإلياس مالك الخوري أحد أعضاء مجلس إدارة لبنان ليومنا هذا، وشاهين عطية الذي انتقل في ٨ شباط ١٩١٣ إلى رحمته تعالى، وبعد خروجه منها جاء بيروت وصار يتردد على الشيخ ناصيف اليازجي فأخذ عنه فن القريض حتى برع فيه كما سيأتي الكلام.

وفي عام ١٨٦٧ انتدبه السيد ملاتيوس دوماني مطران اللاذقية وعهد إليه بإدارة المدرسة الأرثوذكسية فأقام هناك سنةً واحدة، ثم عاد إلى بيروت فتعيَّن أستاذًا في مدرسة «ثلاثة الأقمار» و«المدرسة الوطنية» فتخرج على يده كثير من التلامذة النابغين، وفي سنة ١٨٦٨ انتظم في سلك أعضاء «الجمعية العلمية السورية» فكان من أهم أركانها. ولما باشر بطرس البستاني وأنجاله سنة ١٨٧٥ تأليف «دائرة المعارف» اشتغل فيها شاكر شقير مدة عشر سنين متوالية، فأنشأ لها الفصول المفيدة ونشر على صفحاتها كثيرًا من المواد التي كان يترجمها من الأنسكلوبيديات الإفرنجية، وكان في الوقت نفسه يحرر في مجلة «الجنان» مقالات بعضها مُوقَّع باسمه وأكثرها خالٍ من توقيعه، وله مثل ذلك في صحفٍ أخرى.

وفي سنة ١٨٨٦ انتدبته إدارة مجلة «ديوان الفكاهة» لترجمة ما كان ينشر على صفحاتها من الروايات الفرنجية فلبث على هذه الحال ثلاث سنين، وبقي في بيروت يخدم المعارف بالتعليم والتأليف والصحافة حتى ضاق في وجهه سبيل الارتزاق بسبب شدة التضييق على حرية المطبوعات في السلطنة العثمانية؛ فسافر سنة ١٨٩٥ إلى عاصمة وادي النيل حيث أنشأ مجلةً نصف شهرية سماها «الكنانة» التي أودعها كثيرًا من المقالات العلمية والروايات التمثيلية والقصص الأدبية والانتقادات اللغوية وفنون الشعر وغير ذلك من المباحث الجليلة، وبعد صدور عشرة أعداد منها عطلها؛ لأن هواء مصر أضرَّ بصحته التي كان قليل العناية بها، فعاد إلى مسقط رأسه حيث اشتدت عليه العلة ومات في شهر تشرين الأول سنة ١٨٩٦.

ويحسب شاكر شقير من نوابغ حملة الأقلام السوريين في أواخر القرن التاسع عشر، فإنه كان حجةً في معرفة لغة العرب وأحوالهم وتواريخهم وعلومهم، وترك مؤلفاتٍ كثيرة تشهد بطول باعه في المعارف وتفنُّنه بالكتابة نذكر منها: كتاب «لسان غصن لبنان» في انتقاد العربية العصرية، وكتاب «أساليب العرب في صناعة الإنشاء»، وكتاب «مصباح الأفكار في نظم الأشعار»، وكتاب «منتخبات الأشعار»، وباشر تأليف معجم في اللغة العربية لم يفسح له الأجل بإتمامه، وله «أطوار الإنسان في أدوار الزمان» وهي مقالاتٌ هزليةٌ جديةٌ فكاهيةٌ أدبية تنطوي على مقاصدَ حكمية، وترجم «آثار الأمم» للكاتب الفرنسي فولني، وعُني بطبع «ديوان أبي العلاء المعري» وكرر طبعه، وألَّف وعرَّب رواياتٍ كثيرة منها تمثيلية ومنها قصصية لا ينقص عددها عن الثلاثين، وأشهرها «أسرار الظلام» وهي تاريخيةٌ أدبية، ورواية «العيلة المهتدية» وهي تمثيلية لتهذيب البنات مثلت عام ١٨٧٢ في مدرسة الثلاثة الأقمار، ومنها «الشجاعة الحقيقية» و«كنيسة الحرش» و«اللحام وابنه» و«الورد والنسرين» و«الصبية الخرساء» و«الابن الوفي» و«الولد الصياد» و«الزوجة المضطهدة» و«أنيسة الصغيرة» و«البيضة الثمينة» و«الكنار» و«اليتيمة المسكوبية» و«الغلام الحبيس» و«جزاء الخلوص» و«الولد الشريد» و«الأمير الصغير» و«فضل إكرام الوالدين» و«فريد ورشيد» ثم «الفتاة التقية والفتاة الشقية» و«اليتيم المظلوم» ورواية «ذي الضرتين» وغيرها.

وتعاطى فن الشعر في أول صبائه فنظم سنة ١٨٧٠ أرجوزة في المعاني والبيان، وسنة ١٨٧٢ نظم بديعية وشرحها شرحًا موجزًا وألحقها بالأرجوزة المذكورة، ومن شعره النفيس قصيدة «الهلال» التي نظمها وهو ابن عشرين سنة تبريكًا لإسماعيل باشا خديو مصر بوسامٍ مرصَّع أهداه إليه إمبراطور النمسا، وقد التزم في كل صدر من أبياتها تاريخًا هجريًّا لسنة ١٢٨٧ وفي كل عجز تاريخًا مسيحيًّا لسنة ١٨٧٠، ووزع على أوائل الأبيات حروفًا إذا جُمعت يتركب منها بيتان يتضمنان عشرة تواريخ: أربعة هجرية وذلك من الحروف المهملة من كل بيت منهما ومن الصدرين ثم من العجزين، وستة مسيحية وذلك من الحروف المعجمة من كل بيت ومن الصدرين ثم من العجزين ثم من صدر لعجز ثم من عجز لصدر، وقد جعل الأبيات المصدرة بحروف البيت الأول نسيبًا والأبيات المصدرة بحروف البيت الثاني مديحًا، أما البيتان فهما:

أدركت بالله مجدًا أنت رافعه الـ
باني ذراه ففي إدراكه رهج
فدمت تعلو بأوج السعد أكرم نسـ
ـلٍ رفده منه أكد مصر تبتهج

وبعد هذه القصيدة نظم «المحبوكات»؛ أي من الشعر المحبوك الطرفين جاريًا فيها على طريقة الصفي الحلي في ارتقياته، وهي تسع وعشرون قصيدة كل قصيدة منها تسعة وعشرون بيتًا على عدد حروف الهجاء، يبتدئ البيت منها بالحرف الذي ينتهي به على ترتيب الحروف من الهمزة إلى الياء، وسماها «الذهب الإبريز في مدح السلطان عبد العزيز» وقد صدر هذه القصائد بهذين البيتَين المبتكرَين في صناعة التاريخ إذ لم يسبق أحد إلى مثلهما:

بشر السنا، في جلا شكر، جنى شرفًا
في عصر صدق، بنشر النجح، عد مثل
قد قمت مرجاة، مرتدٍ، لنشر ندى
تسعى لأجمل، أجر تم، ثم عدل

وهما مركبان من خمسة وثمانين حرفًا ويتضمنان خمسة وثمانين تاريخًا هجريًّا لسنة ١٢٨٨ تستخرج بالطريقة الآتية: ترى أن البيتَين مقسومان بالنقط إلى ثلاثة عشر قسمًا فكل قسم منهما مع آخر مما سواه تاريخ، فيحصل من الأول إذا جمع مع كل واحد مما بعده اثنا عشر تاريخًا، ومن الثاني مع كل واحد مما بعده أحد عشر تاريخًا، ومن الثالث مع كل واحد مما بعده عشرة تواريخ، وهكذا حتى تنتهي إلى الثاني عشر فتجمعه مع الأخير فيحصل من كل ذلك ثمانية وسبعون تاريخًا، ثم تجمع كل ثاء في البيتين وكل ألف وكل عين فيحصل تاريخ، وتجمع كل جيم وكل باء (بالصورة) والكاف الوحيدة وكل نون فيهما مع كل شين في أول شطر فيحصل تاريخ، وتجمع كل راء فيهما والشينَين الباقيتَين وميمات العجزين ودالات البيت الأخير فيحصل مجموع تاريخَين، وتجمع كل تاء في الشطر الثالث وميمين منه وكل دال في الشطر الثاني فيحصل تاريخ، وتجمع كل لام فيهما والميم الباقية في الشطر الثالث وكل قاف فيه وكل تاء وجيم وألف في الشطر الرابع فيحصل تاريخ، وتجمع كل فاء وكل سين وكل ياء فيهما وكل صاد وقاف وحاء وياء في البيت الأول مع كل راء وجيم في صدره فيحصل تاريخ، ويكون مجموع تواريخ جمع الأحرف على النسق المذكور بدون إهمال حرف واحد ولا تكرار حرف سبعة تواريخ، ومجموع الجميع خمسة وثمانون تاريخًا، وهذا من الاتفاقات الغريبة.

ولشاكر شقير رواية صنفها سنة ١٨٦٩ عنوانها «سيرة مبارك بن ريحان مع محبوبته بنت الحان» وهي غراميةٌ أدبيةٌ علمية، وضمنها أبياتًا معجمة٥ وأبياتًا خيفاء٦ وأبياتًا رقطاء٧ وأبياتًا ثلاثة من عاطل العاطل٨ عارض بها أبيات الشيخ ناصيف اليازجي الذي ابتكر هذا النوع في فن الشعر وهي:
حلو وصل هل له للصد حد
ولحرٍّ حوله هل حل طرد
صدره للصد حر دهره
وصدود هل له وطد ود
ولوصل لحصور طل در م
له هول وهل للهول رد

وله من الجناس المربع هذه الأبيات التي تقرأ طردًا ثم تقرأ بنفس الألفاظ من أول كلمة من كل بيت فيتألف الأول، وهكذا ما يليها كما ترى أمامك:

رأيت حبيبي فزاد هيامي
حبيبي جفاني اشتياقي أمامي
فزاد اشتياقي وهاج غرامي
هيامي أمامي غرامي مرامي

وله غير ذلك من الفنون الشعرية والأساليب الكتابية التي برز فيها ففاق على كثيرين من نوابغ المنشئين والمؤلفين، وقد نظم الأشعار التالية عندما عرب مختارات من حكايات لافنتين:

أتحفتم الشرق يا إفرنج من زمن
بكل فن كثير النفع والطلب
ما بين علم وآداب ومخبرة
مما بقي غامضًا في سالف الحقب
من بعد آثارنا في المشرق اشتهرت
آثاركم فاستفدناها بلا تعب
من ذاك ما جاء لافنتين من حكمٍ
يشفُّ برقعها الهزلي عن الأدب
إن كان أبدع في ذا الفن شاعركم
فلا يقصر عنه الشاعر العربي

وكان مولعًا ببعض الفنون الجميلة أيضًا فإنه أحكم أصول فن الموسيقى فأحرز منه نصيبًا وافرًا، وكان شديد الذكاء سريع الخاطر ينظم الشعر ارتجالًا بلا تكلف، ولو جمعت أشعاره في ديوانٍ مخصوص لبلغت نحوًا من مجلدَين ضخمَين، على أن بعضها منشور في المجلات والكتب ولم يزل أكثرها غير مطبوع، وقد رثاه أخوه فارس شقير بقصيدةٍ عصماء نورد منها بعض أبيات:

لهفي عليه أخًا جرحت به
جرحًا بليغًا غير مندمل
فالشمس كاسفة عليه أسى
والأرض كاسية دجى حلل
والعين عين الفضل دامية
والزند زند النبل في شلل
أسفًا على نبراس ليلها
حزنًا على ابن العلم والعمل
عبثت به الأقدار غادرةً
واستحكمت منه على عجل
ولو أنه استوفى مقاصده
واستمهلته فسحة الأجل
لأتى بما لم يأته بشر
في علمه من جلة الأُوَل
كم خاض ميدان الهدى ظفرًا
ببراعةٍ أمضى من الأسل
وضع التآليف التي خلصت
من غلطةٍ ندرت ومن خلل
وله رسائل كلها غرر
يحكي ترسلها هدى الرسل
وله المقالات التي ذهبت
في كل نادٍ مذهب المثل
فالشعر مثل النثر يرسله
سهلًا بديعًا غير منتحل
فيصيب فيه وهو مرتجل
وسواه يخطئ غير مرتجل
والنثر مثل الشعر يرصفه
جملًا مرصعةً على جمل
يا شاكرًا لله منتقلًا
عنا إليه خير منتقل
أغناك ربك بالأمان وقد
غادرتني في ظلمة الوجل
١  كانت ولادة السيد محمد مرتضى الحسني الجزائري سنة (١٣٤٣ﻫ/١٨٣٨م) في «القيطنة» التابعة لولاية وهران من أعمال الجزائر في شمال أفريقيا، فنشأ فيها وحضر مع عمه الأمير عبد القادر الجزائري الشهير بعض الوقائع في حروبه مع الفرنسيس، وفي سنة ١٢٧٣ﻫ هاجر إلى البلاد السورية ونشر العلم والطريقة القادرية فيها، وكان إمامًا جليلًا سخيًّا ذا هيبةٍ عظيمة وفهمٍ عالٍ وحلَّت وفاته في بيروت بتاريخ ١١ ذي القعدة ١٣١٩ﻫ.
٢  الأبيات السابقة نظمها في «وداع باريس» في رحلته الأولى إليها سنة ١٨٩٣ ثم أضاف إليها هذه الأبيات بعد رحلته الثانية عام ١٩٠٠.
٣  ورد في كتاب «روض المسرة» أنه ولد في سنة ١٨٥٩، غير أننا بعد التحري رجح لنا أن ولادته كانت في السنة التي ذكرناها.
٤  عدد ١٢: سنة ٣: كانون الأول ١٩٠٢.
٥  كل حروفها منقطة.
٦  التي منها كلمة مهملة وكلمة معجمة.
٧  التي حرف منها مهمل وحرف معجم.
٨  عاطل العاطل هو الذي لا نقطة في اسمه ولا مسماه كالدال والصاد دون العين والسين وما شاكل ذلك، وليس من ذلك إلا ثمانية حروف وهي: الحاء والدال والراء والصاد والطاء واللام والهاء والواو، فلا يسع المتكلم أن يركب منها كلامًا كثيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤