الباب الثاني

تراجم مشاهير الصحافيين في أوروبا في الحقبة الثانية

١٨٧٠–١٨٩٢

خليل غانم

أحد منشئي مواد الدستور العثماني ومؤسس جريدتي «البصير» العربية و«تركيا الفتاة» العربية الفرنسية، والصحيفتين الفرنسيتين «الهلال» و«لافرانس إنترناسيونال» في باريز، وجريدة «الكروزان» في سويسرا، ومحرر جريدة «مشورت» و«الديبا» و«الفيغارو» و«تركيا» في باريس وغيرها من الصحف.

***

هو خليل بن إبراهيم بن خليل بن إبراهيم بن إلياس بن إبراهيم بن زيتون بن خليل بن إبراهيم بن سرجيس بن جرجس من سلالة موسى ابن المقدم سعادة اللحفدي الذي اشتهر في جبل لبنان في أوائل القرن الرابع عشر، وأمه مريم بنت عبود بن نصر بن نجم بن ضو بن نصر، وهي لبنانية الأصل أيضًا من قرية «شننعير».

وُلد بتاريخ ٨ تشرين الثاني ١٨٤٦ في بيروت ولما بلغ الحادية عشرة من عمره دخل مدرسة عينطورا، فجلى في مضمار اللغة الفرنسية وكان فيها شاعرًا مطبوعًا وكاتبًا ضليعًا وخطيبًا بليغًا ورياضيًّا بارعًا، ثم أخذ اللغة العربية عن الشيخ ناصيف اليازجي، واللغة التركية عن المعلم إبراهيم الباحوط، وأحكم أصول اللغة الإنكليزية حتى بلغ من هذه الألسنة شأوًا بعيدًا.

وقد بدأت حياته السياسية عام ١٨٦٢ بتعيينه عضوًا في محكمة التجارة، وفي السنة التابعة عينه إبراهيم باشا متصرف بيروت ترجمانًا للمتصرفية وأنهى له بالرتبة الثانية وزاده إنعامًا بزيادة المعاش. ولما تولى راشد باشا سنة ١٨٦٥ ولاية سورية جعله ترجمانًا للولاية فخدم هذه الوظيفة بعزة النفس وحرية الضمير في مدة الوالي المشار إليه ومدة الواليين صبحي باشا وأسعد باشا، وعندما أسندت الصدارة العظمى لعهدة هذا الأخير استصحبه معه وجعله ترجمانًا للوزارة الخارجية، فبقي في هذا المنصب إلى غاية سنة ١٨٧٥؛ إذ فيها تقلد ترجمة الصدارة العظمى ورئاسة تشريفاتها، وفي سنة ١٨٧٧ انتخبه سكان سوريا نائبًا عنهم في مجلس المبعوثان.

وقد عهد إليه مدحت باشا أن يطالع مع أغوب باشا قانون حكومات الدول الدستورية ويؤلفا منه قانونًا ملائمًا وموافقًا لحالة الدولة، فقام هذان العظيمان خليل وأغوب بوضع القانون الأساسي بإخلاص للدولة والأمة، وأظهر خليل في جلسات ذاك المجلس ما اختل من النظامات ودافع عن كيان الدولة، وأعلن بحرية ضمير وثبات جأش مطامع الدول الأجنبية والدسائس الخفية مظهرًا واجبات المندوب الأمين والنائب عن قوم وبلاد يعلقون عليه الآمال الطوال.

وقد حمل حملةً شديدة في المجلس مع أحمد أفندي مبعوث أزمير على الحكومة لنفيها مدحت باشا، وقاوم آراء حسين فهمي باشا الذي تعرض لمناقشة المجلس في نفي مدحت باشا، وكانت قد بلغت الجاسوسية وأعداء الوطن والدولة العثمانية غايتها من إقناع السلطان عبد الحميد بفضِّ مجلس المبعوثان فأمر بفضِّه، فتعرض خليل لإرادة عبد الحميد بحل ذاك المجلس وكان أول المعارضين فيه، عندئذٍ خطب خطابه المشهور ولفظ فيه آيته المأثورة: «أيد حرية المنبر وأسندها إلى القانون، ومنذ شاء السلطان أن يمنح الدستور فلا يحق له الرجوع عما صدَّق عليه ومنحه وصدرت إرادته به رسميًّا، والسلطان تحت الدستور لا فوقه.» فلما نقلت الجاسوسية حرية أفكار خليل لعبد الحميد أصدر أمره بالقبض على بعض أعضاء المجلس الأحرار وبإعدامهم، وفي مقدمتهم الخليل الذي هيأت له العناية أحد الأمناء فأعلمه بالدسيسة فاضطر مكرهًا للالتجاء إلى السفارة الفرنسوية، فللحال أرسلته على إحدى بواخرها التجارية إلى مرسيليا، ومنها يمم باريس، وليس من درهم في الكيس؛ لكونه مع كل المناصب السامية التي تقلدها لم تشبه شائبة الارتشاء.

وبعد وصول المترجم إلى باريس خالي الوفاض أنشأ جريدةً عربية ودعاها باسم «البصير» خدمة للوطن ولكسب المعاش الضروري معًا، غير أن جريدته لم تطُلْ حياتها؛ حيث إن الحكومة العثمانية منعت دخولها إلى بلادها وأنذرت بالعقاب الشديد كل من وُجدت عنده، وقد شددت المراقبة على دخولها بالبريد العثماني والأجنبي فاضطرته هذه المضايقة إلى العدول عن نشرها، وقد انصبَّ بعدها على التأليف والتحرير في الجرائد ليكتسب ما يسد به الرمق في ذلك المنفى الطويل، فألف كتاب «الاقتصاد السياسي» بالعربية وكتيبًا أنكر فيه حماية الأجانب للعثمانيين المسيحيين نشرته جريدة «تركيا»، ونظم قصيدة بالفرنسوية على أثر الثورة الإيطالية واستقلال إيطاليا، وألَّف كتاب «تاريخ سلاطين آل عثمان» في مجلدَين بالفرنسية وهو تأليف نادر المثال، وله قصيدة قدمها للبرنس كلوتيلد والبرنس نابوليون حينما كانا في سوريا، وقد أظهر عدة جرائد كان يقدمها تقدمةً مجانية خدمةً للدولة والوطن كجريدة «تركيا الفتاة» بالفرنسية والعربية و«الهلال» بالفرنسية و«لافرنس انترناسيونال»، وكان يحرر بجريدة «مشورت» لصاحبها أحمد رضا بك، وله كتاب «حياة المسيح» بالعربية، وأنشأ كثيرًا من المقالات الشائقة التي كانت تزدان بها أعمدة جريدة «الديبا» و«الفيغارو» وغيرهما من الجرائد.

فطار ذكره في أوروبا عامة وفي باريس خاصة لسمو مداركه وغزارة علمه وأصالة رأيه وشدة إخلاصه لوطنه، فأصبح محجة خواطر العلماء وأرباب السياسة وذوي النفوس الشماء وأصحاب المقامات العالية من مثل المسيو هانوتو سفير الدولة الفرنسوية في لندن، والفيلسوف الشهير جمال الدين الأفغاني شهيد الحرية، ومدحت باشا شهيد الإنسانية والعثمانية، والعلامة الشيخ محمد عبده، وغمبتا رئيس الوزارة الفرنسوية الذائع الصيت بين أهل السياسة. وكان غمبتا يعتمد على آرائه وقد أحبه وآخاه وكان يتأبط ذراعه في ساحات باريس العمومية وهما يتجاذبان أحاديث السياسة؛ وهو ما دعا الباريسيين أن ينظروا إليه بناظرة الاعتبار والإكرام كما ينظر الناس إلى الرجل العظيم والسياسي الخطير والفيلسوف الشهير. وسنة ١٨٩٣ أنشأ في سويسرة جريدة «الكروازان» الفرنسية وحمل بها على السلطان وحاشيته وجاهد لأجل القانون الأساسي.

وبعد جهادٍ طويل في سبيل الوطن بما كان يحرره في الجرائد الفرنسوية من المقالات السامية في المسائل الشرقية عرف الأتراك فضله وحرية ضميره وصدق وطنيته، فوافاه منهم إلى باريس جمهورٌ كبير قد هجروا الأوطان هربًا من الاستبداد وفي مقدمتهم محمود باشا داماد صهر السلطان عبد الحميد، وأحمد رضا بك رئيس مجلس النواب سابقًا، والأمير صباح الدين، وأديب بك إسحاق، والأمير أمين مجيد أرسلان صاحب جريدة «كشف النقاب» التي كان يطبعها في باريس، وسليم سركيس صاحب جريدة «المشير» سابقًا ومجلة سركيس حاليًّا.

وقد يمم باريس غير من تقدم ذكرهم كثير من الرجال الأحرار فأثار فيهم خليل غانم روح النهضة الوطنية، وألَّف لهم «جمعية تركيا الفتاة» فرأَّسوه عليهم، وبقي رئيسًا لتلك الجمعية المقدسة إلى الممات، وأخذوا ينشرون على صفحات الجرائد مبادئهم الشريفة، فلما أدرك السلطان عبد الحميد جهاد المترجم أهدى إليه بواسطة سفيره في باريس «النيشان العثماني» من الصنف الأول وإلى قرينته «نيشان الشفقة» من الطبقة الأولى مع خمسة عشر ألف ليرة عثمانية راجيًا منه قبولها وكفَّ جهاده في طلب الدستور ونشره نور الحرية، وعرض عليه أن يكون معتمدًا للدولة في باريس بمعاشٍ وافر مدى حياته وكان ذلك إثر الحوادث الأرمنية الهائلة، بيد أنه رفض بعزة نفس قبول النيشان والوظيفة والمبلغ الطائل قائلًا: «إنني لا أحب أن أدنِّس صدري وصدر امرأتي بنياشينَ مهداةٍ من يدٍ أثيمةٍ سفاكة دماء عباد الله، ولا أقبل نقودًا جُمعت من الرشوة أو سُرقت من بيت مال الدولة وكان حقها أن تُبذل في إصلاح شئون الأمة العثمانية، ولا أرغب مطلقًا في أن أكون معتمدًا لمن لا يُعتمد عليه لا في مصلحة نفسه ولا في مصلحة دولته وتبعته.»

figure
أحمد رضا بك؛ رئيس مجلس النواب العثماني سابقًا ومنشئ جريدة «مشورت» ورفيق خليل غانم في الجهاد لإنقاذ السلطنة العثمانية من نير الظلم والاستبداد.

فمن هذا الجواب ومن المقالات التي كان ينشرها في الجرائد العربية والفرنسية والتركية في الحوادث الأرمنية عن سوء السياسة الحميدية أقام عليه السلطان عبد الحميد دعوى في محاكم باريس بكونه اتهمه وتعدى عليه بما هو بريء منه وطلب مجازاته، فأقيمت الدعوى على المترجم وعلى رفيقه أحمد رضا بك منشئ جريدة «مشورت» فاضطربت لهذه الدعوى باريس وقامت وقعدت، وهبَّ عامة المحامين الشهيرين من مثل «روشفور» وخلافه وقدموا أنفسهم للمحاماة مجانًا في هذه الدعوى عن المدعى عليهما، وقد صار طبع متفرعات هذه الدعوى ومحاماة المحامين بظروفها وماجرياتها في جريدة «مشورت» المذكورة، وقد جُمعت في كتابٍ خاص وهي من أهم الكتب التي تشتاق النفس مطالعتها، وقد أسفرت هذه الدعوى عن لا شيء.

وفي غرة حزيران سنة ١٨٨٣ اقترن بالسيدة ماري رينو من أسرةٍ شهيرة في باريس ولم يرزق منها سوى ابنة افترطها في السنة السابعة من عمرها، ونال في باريس أوسمةً عديدة منها وسام جوقة الشرف «اللجيون دونور» وانتخب عضوًا عاملًا في الجمعية العلمية الوطنية في باريس، فأحيا بذلك شأن الاسم السوري وعرف فيه الغربيون مقدرة العقل الشرقي، وقد كان قدوة كمال ومشكاة فضائل ومرآة محاسن المبادي للجميع، ولم يتعرض حياته كلها لدين من الأديان، وكان مع احترامه لرؤساء جميع الأديان ذا ميلٍ خاص إلى رؤساء طائفته المارونية وإجلالهم.

وقد واصل جهاده المبرور وسعيه المشكور بالدفاع عن الوطن محاربًا الاستبداد ومحييًا النهضة الراقية وخادمًا أمينًا لجمعية «تركيا الفتاة» متفانيًا في بث مبادئها الشريفة إلى أن دعاه ربه لملاقاته فوافاه براحة ضمير، وقد أتمَّ أنفاسه المعدودة في أرض الغربة في باريس في غرة حزيران سنة ١٩٠٣ فذهب شهيدًا في سبيل الحرية والوطن والإنسانية، وكانت آخر نفثات قلمه مقالةٌ فرنسوية نشرتها جريدة «مشورت» في أول شباط سنة ١٩٠٣ عنوانها «خاتمة سنة عمل وجدٍّ» فكانت كنبوءة لخاتمة عمله وجدِّه. ولما طار منعاه للعالم الإنساني اهتزت له جوانبه وأثَّر خَطْبه تأثيرًا عظيمًا على جمعية «تركيا الفتاة» لفقدها رئيسها الأعظم، وشهد مشهده نخبة رجال الفضل والحرية من العثمانيين والفرنسويين فندبوه وبكوه وأبَّنوه ورثوه، واشتركت الحكومة الفرنسية رسميًّا في جنازته؛ لأنه كان حاملًا لوسام «جوقة الشرف» منذ كان صديقًا لغمبتا، وقد أبَّنه صديقه الحميم وخله الوفي أحمد رضا بك صاحب جريدة «مشورت» ورئيس مجلس النواب تأبينًا باللغة الفرنسوية نثرًا أظهر فيه شرف عواطفه وصدق ولائه وإخائه للفقيد، فترجم يوسف خطار غانم هذا التأبين وألبسه حلة شعر عربي ننقله عن «الرسائل الغانمية» بالحرف الواحد:

اليوم أطفئ نور بدرٍ لامعٍ
بسما المَواطن فالمصاب به وقع
وخبا شهاب فؤاد حرٍّ صادقٍ
ومجاهد أضناه بالوطن الولع
قد فاجأتنا الحادثات وأسرعت
بسقوط صاعقةٍ لها القلب انصدع
في يوم محمودٍ١ تعلمت الأسى
وقبيله كنا وما كان الوجع
والآن قد سالت جراح قلوبنا
بعد الخليل الغانم المنشي البدع
رجل الكمال بعينه عرفوا به
رجل الضمير الحر بل رجل الورع
إن المصاب به مصابٌ محرق
كلسان «بركان» على الأرض اندلع
ما خص فيه حزبنا متفردًا
بل كل أحزاب المواطن قد جمع
مذ غاب عن بيروت مسقط رأسه
في مجلس النواب فالظلم ارتفع
وأنال سوريا بنسبته لها
فخرًا ومجدًا خالدًا لا ينتزع
بجدارةٍ وبجد عزمٍ ثابت
لإراحة الأهلين جهدًا لم يدع
ومضى لباريس يواصل نفعه
في كل رأيٍ صائب فيه نفع
بجرائد الأعراب والأتراك والـ
إفرنج راح محررًا أسمى القطع
فيها لإصلاح البلاد نصائح
عن خبرة وسعت وعن علم وسع
مشروعه ما شابه غبن ولا
غرض سوى النهج القويم بما شرع
قراء «مشورت» لقد حفظوا له
تلك المقالات التي فيها طبع
منها لقد عرفوا جدارة كاتبٍ
بعواطف كرمت بها الشأن ارتفع
ما كنت في هذا المقام مبينًا
شرف الحياة به وفخر المجتمع
مع أنه فرض عليَّ وواجبٌ
لكنما حزني الشديد له منع
بعد البواكر من دموعي والأسى
آتيكمُ في بسط تاريخ سطع
لكن قصدي الآن كان مجردًا
في وقفتي هذي لأصرخ عن جزع
أنا ترجمان يا ضريح فقيدنا
للسان حزبٍ للوداع قد اجتمع
بتلهُّف يبكي رئيسًا أعظمًا
حجبته ظلمتك التي فيها انصرع
يسدي فروضًا بالأسى لأقاربٍ
في غربةٍ فقدوه قبل المرتجع
وجعًا تذوق «فتاة تركيا» به
وأنا أشد مرارةً ذقت الوجع
قد كنتَ يا شخص الخليل بغربتي
خلًّا وفيًّا ثابتًا فيما اتبع
أواه لو سمح الزمان بفرصةٍ
حتى أذكركم به وبما صنع
عن فرط حبيه لكم وثباته
بحياته قطعًا فما عنه انقطع
يا أهل ودي خطبنا أضحى به
خطبًا جسيمًا سهمه لا يندفع
أمثولة وافى يعلمنا بها
هذي الحقيقة بالعيان وبالسمع
فمرارة المنفى تُقصِّر عمرنا
حقًّا وهاكم سيفها فينا لمع
فنلسرعن لنصرنا بتضافرٍ
قبل الوصول ليوم سوءٍ لم يدع
من دون إبطاءٍ بنهضة عاملٍ
أفتى بحب مواطن وبها شفع
رجل الحقيقة لن يموت لدى الأُولى
سمعوه واعتبروه بالحق ادَّرع
ما مات غانمنا بل يحيا إذن
في نهجنا في فكرنا فيما وضع
وفؤاده كنه الطهارة إنه
لقلوبنا يوحي ثبات المجتمع
ومحرك فيها صلاح مواطنٍ
عظمت وبالنصر القريب المرتفع
هذا النشيط قد استراح اليوم من
تعب الحراثة والزراعة واضطجع
لكن فما زرعت يداه لم يضع
إذ لا نزال الحافظين لما زرع
كيلا يجفَّ الزرع في بستانه
ويرى الفريسة للنسور وللبجع
فبذاك في حضن المواطن خلنا
يحيا بأمنٍ لن يخامره فزع
ويدوم معتزًّا بما أهداه من
حريةٍ في نورها وطن رتع

إبراهيم بك المويلحي

منشئ جريدة «الخلافة» في نابولي وصحف «الاتحاد» و«الأنباء» و«الرجاء» في باريس، ومؤسس جريدتَي «نزهة الأفكار» و«مصباح الشرق» ومحرر جريدة «سوق العصر» وغيرها من الصحف في القاهرة، وناشر بعض المقالات في جريدة «العروة الوثقى» بباريس ومراسل جرائدَ شتى من القسطنطينية.

***

يتصل نسبه ببيت من البيوتات الكريمة التي ظهرت بمصر بعد الانقلاب في أول القرن الماضي، وكان جده السيد إبراهيم المويلحي في أول أمره كاتبًا للمرحوم حبيب أفندي «كخيا» المغفور له محمد علي باشا الكبير، ثم ارتقى كما ارتقى سواه من ذوي المواهب في مثل حال مصر في دورها الانتقالي من عصر الأمراء المماليك إلى عصر التمدن الحديث؛ إذ هددتها مطامع الدول وحام حولها طلاب السيادة من الوزراء والقواد، فتسابقت العقول واختلفت الأغراض ففاز كلٌّ بما بلغ إليه إمكانه وساقته إليه فطرته، فارتقى بعضهم إلى منصات الحكم وأثرى آخرون بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها، فكان للسيد إبراهيم المويلحي جد المترجم حظٌّ كبير من ذلك الارتقاء. ومع انغماس أهل ذلك الانقلاب بالمطامع السياسية والمكاسب المالية واشتغالهم بالملاذِّ والملاهي لتسلط الجهل على معظمهم فالسيد إبراهيم كان محبًّا للأدب، لا يخلو مجلسه من الأدباء والشعراء يطارحهم ويذاكرهم، وقد أدى لمحمد علي في أوائل ولايته خدمًا جليلة حفظها له البيت الخديوي فانتفع بها المترجم في حال ضيقه كما سترى.

ولد صاحب الترجمة في أوائل سنة ١٢٦٢ﻫ/١٨٤٦م في بيت وجاهة وعز، وكان والده مشهورًا بصناعة الحرير نسيج مصر وله فيها بيتٌ تجاريٌّ كبير فجمع ثروةً طائلة، ونشأ إبراهيم في سعة ورغد وهو يتهيأ للعمل في تجارة والده، ولكنه كان مولعًا بالأدب والشعر من حداثته وورث ذلك من جده، ولم يخطر له ولا لوالده أنه سيجعل الأدب مهنته وهي يومئذٍ مهنة الفقراء … ولكن الأقدار ساقته إلى الاشتغال بها في كهولته فكان من أعظم نوابغها.

ظل إبراهيم في حجر والده آمنًا سعيدًا حتى تُوفي الوالد سنة ١٢٨٢ﻫ والمترجم في العشرين من عمره، فتولى تجارة أبيه وقبض على ثروته وجرى على خطته في العمل حينًا فازداد تقدمًا، وكانت مضاربات البورصة حديثة العهد في هذا القطر وقد تحدث الناس بمعجزاتها وبهروا من سرعة الإثراء بها، وكان إبراهيم طَلَّابًا للعلى فلم يكتفِ بما بين يديه من الرزق الواسع وحدثته نفسه أن يطلب الزيادة بالمضاربة، فضارب وهو يكسب تارةً فيطمع بالمزيد ويخسر أخرى فيطلب التعويض على نحو ما نشاهده الآن مع ما يعلمه الأكثرون من عواقبها الوخيمة، فما زال المترجم يتدرج في المضاربة حتى استنزفت ثروته وأثقلته بالديون.

على أن فروغ يده من المال لم يذهب بما نشأ عليه من العز والأنفة، ولا ضاعت مآثر جده لدى البيت الخديوي، فنظر إسماعيل باشا الخديو يومئذٍ في هذا البيت نظر الانعطاف وكان إسماعيل إذا أعطى أغنى، فوهبه هبات الملوك فوفى الديون ووسع التجارة، ثم أنعم عليه بالرتبة الثانية وعيَّنه عضوًا في مجلس الاستئناف وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وأنعم على أخيه عبد السلام باشا بتلك الرتبة أيضًا وأبقاه في مزاولة التجارة محافظةً على ذلك المعهد التجاري، وتأييدًا لذلك أصدر أوامره لجميع من في قصوره من النساء أن يعدلن عن لبس الأنسجة المصرية من صنع هذا البيت، وألَّا يدخل في تشريفات السيدات سيدة لابسة غير هذه الأنسجة، وأمر باصطناع كمية منها لإرسالها إلى معرض فينا في تلك الأيام.

وما زال المترجم في وظيفته بمجلس الاستئناف حتى أفضت رئاسته إلى المرحوم حيدر باشا يكن فوقع بينهما شقاق انتهى باستقالة المترجم، ولكن عناية الخديو إسماعيل ما زالت شاملة له فأمر بإعطائه مصلحة تمغة المشغولات والمنسوجات على سبيل الالتزام، واتفق في أثناء ذلك سقوط وزارة نوبار باشا المختلطة التي كان فيها عضوان أجنبيان وخلفتها وزارة شريف باشا المعروفة بالوزارة الوطنية، وهموا بإنشاء اللائحة الوطنية لتأسيس مبادئ الحكومة الدستورية، فانتدب المترجم للاشتغال في ذلك مع المرحوم السيد علي البكري، ثم صدر الأمر بتعيينه سكرتيرًا للمرحوم راغب باشا ناظر المالية ولم يتولَّ هذه الوظائف إلا لما ظهر من نجابته وسداد رأيه.

على أن ميله إلى الأدب والشعر كان ينمو فيه بين مشاغل السياسة والإدارة، فاتفق مع المرحوم عارف باشا أحد أعضاء مجلس الأحكام بمصر وصاحب المآثر الكبرى في نشر الكتب على تأسيس جمعية عرفت بجمعية المعارف غرضها نشر الكتب النافعة وتسهيل اقتنائها، وأنشأ هو مطبعةً باسمه سنة ١٢٨٥ لطبع تلك الكتب وهي من أقدم المطابع المصرية، على أن الجمعية كانت تطبع كتبها أيضًا في مطابعَ أخرى وخصوصًا المطبعة الوهبية، ولهذه الجمعية شأنٌ كبير في تاريخ هذه النهضة؛ لأنها نشرت كثيرًا من الكتب المهمة ككتاب «تاج العروس» و«أسد الغابة» و«رسائل بديع الزمان» و«سلوك الممالك» و«ألف باء» وغيرها من كتب التاريخ والأدب والفقه.

أما صاحب الترجمة ففي السنة التالية لإنشاء مطبعته اتحد مع محمد عثمان بك جلال لإنشاء جريدةٍ عربية ولم يكن من الجرائد العربية بمصر يومئذٍ إلا الجريدة الرسمية وجريدة وادي النيل، فنال رخصة بجريدة سماها «نزهة الأفكار» ولكنه لم يُصدِر منها إلا عددَين ثم حالت العوائق دون إصدارها، ويقال عن السبب في ذلك إن المرحوم شاهين باشا أظهر لإسماعيل باشا تخوُّفه من أنها تثير الأفكار وتبعث على الفتن فصدر الأمر بإلغائها، وظلت المطبعة تشتغل بطبع الكتب لجمعية المعارف وغيرها، وقد طبع فيها كتبًا على نفقته.

فترى أن المترجم قد تقلَّب في أعمالٍ مختلفة بين تجارة وخدمة في الحكومة وإنشاء المطابع والجرائد ونشر الكتب وغيرها وهو دون الثلاثين من العمر، ولم ينل كل مرامه من واحد منها مع اقتداره وذكائه، ولعل السبب في ذلك لحاجته في استثمار عمله قبل أن ينضج وعدم ثباته في خطةٍ واحدة؛ لأنه لو ثبت في التجارة مثلًا ولم يرغب عنها في خدمة الحكومة لكانت تجارته من أوسع التجارات، أو لو ثبت في الخدمة ولم يعدل عنها إلى الصحافة والطباعة لكان من أكبر أصحاب المناصب، ولو ثبت في الصحافة إلى الآن لكانت صحيفته من أكبر الصحف وأهمها، ولكنه لم يكن يستقر على حال، والأذكياء الذين لا يثبتون في عمل إنما يكون سبب تقلبهم الرغبة في النجاح السريع يريدون الطلوع إلى الأوج دفعةً واحدة، فإذا استبطئوا الوصول إلى قمة النجاح في عمل تركوه وانتقلوا إلى سواه فيئول ذلك في الأكثرين إلى ضياع العمر في بناء القصور بالهواء، ولو ثبتوا في عملٍ واحد مهما يكن نوعه لكفاهم مئونة الشكوى من معاكسات الزمان.

على أن المترجم لم يشكُ ضيمًا؛ لأنه كان مرعي الجانب، وما زال الخديو إسماعيل يذكر صدق خدمته له، فلما حدث التغيير في منصب الخديوية سنة ١٨٧٩ وأبعد الخديو إلى أوروبا واستقر في إيطاليا استقدم المترجم إليه فجاءه وأقام في معيَّته بضع سنوات كان في أثنائها كاتب يده (سكرتيره العربي) يكتب عنه الرسائل إلى الملوك والأمراء، ولم يكن ذلك ليمنعه من العمل لنفسه فأنشأ في أثناء إقامته بأوروبا عدة جرائد كجريدة «الاتحاد» وجريدة «الأنباء» ولم يثبت في واحدة منهما أو لعله كان ينشئها لغرضٍ مؤقت فإذا ناله عطلها.

في سنة ١٣٠٣ﻫ ذهب إلى الآستانة على أثر إنشائه تلك الجرائد فأكرم السلطان وفادته وعيَّنه عضوًا في مجلس المعارف، وناظرها يومئذٍ منيف باشا العالم الشهير؛ فقدر الرجل حق قدره وقربه منه وعول عليه في كثير من شئون النظارة، وبعد أن أقام في هذا المنصب نحو عشر سنوات عاد إلى مصر وعاد إلى الاشتغال بالكتابة وقد نضجت مواهبه الإنشائية، واكتسب ملكة الصحافة لطول ممارسته إياها مع ما اختبره بنفسه في أثناء أسفاره ومخالطته كبار رجال السياسة واطلاعه على مخبآت الأمور، فعمد أولًا إلى مراسلة الجرائد بمقالاتٍ جامعة بين السياسة والأدب وقواعد العمران أشهرها ما جمع على حدة في كتاب «ما هنالك»، ثم أنشأ جريدة «مصباح الشرق» الأسبوعية وهو يتردد في خلال ذلك إلى الآستانة ويعود منها مشمولًا بالنعم السلطانية من العطايا والرتب؛ حتى بلغ الرتبة الأولى من الصنف الأول، وما زال عاملًا في خدمة الصحافة العربية مخلصًا للبيت الخديوي شديد التعلق بمرضاة الجناب العالي، وسموه يخصه بالمنح والمنن حتى توفاه الله في ٢٩ يناير سنة ١٩٠٦ وهو في الستين من عمره.

كان ربع القامة ممتلئ الجسم حسن الملامح كما ترى رسمه في صدر هذه الترجمة، وكان حلو الحديث لطيف النادرة سريع الخاطر حسن الأسلوب نابغة في الإنشاء الصحافي وفي الطبقة الأولى بين كتاب السياسة رشاقةً ومتانةً وأسلوبًا مع ميل إلى النقد والمداعبة. ولا يخلو نقده من لذع أو قرص لا يراعي في ذلك صديقًا ولا قريبًا حتى قيل «لم ينجُ من قوارص قلمه إلا الذي لم يعرفه.» وقد انتقدوا عليه تقلُّبه في خطته وذلك تابع لتقلُّبه في سائر أحوال معايشه لما قدمناه من تردده في أعماله حتى قضى العمر في التنقل من عمل إلى آخر، وضاعت الفائدة التي كان يرجى استثمارها من مواهبه؛ لأنه كان نادرة في الذكاء وحدة الذهن والاقتدار على تفهم الأمور والإحاطة بخفاياها وكشف غوامضها، فلو رافقه الثبات في المبادئ والأعمال لكان من هذا الرجل غير ما كان.

جرجي زيدان

عبد الله مراش

محرر جريدة «مرآة الأحوال» في لندن وصحف «مصر القاهرة» و«الحقوق» و«كوكب المشرق» في باريز وناشر المقالات المفيدة في مجلتَي «البيان» و«الضياء» في القاهرة؛ وغير ذلك من الصحف.

***

هو عبد الله بن فتح الله بن نصر الله بن بطرس مراش، من أسرةٍ عريقة في الفضل والوجاهة معروفة بالعلم والأدب، وكفاه شهرةً أنه أخو فرنسيس مراش كبير شعراء حلب، وشقيق مريانا مراش الشاعرة العربية ومن شهيرات النساء الكاتبات في سوريا. وُلد في حلب في ١٤ آيار سنة ١٨٣٩ ونشأ بها وتأدب على والده وغيره، فتلقَّى في حداثته مبادئ علوم العربية والخط والحساب ثم دخل مدرسة الرهبان الفرنسيسيين فأخذ عنهم أصول اللغة الإيطالية، وبعد ذلك انصرف إلى أعمال التجارة فتخرج في أبوابها وفنونها، ولما بدت نجابته فيها انتدبته جماعة من جلَّة تجار حلب لعقد شركة تجارية ينشئ لها محلًّا في منشستر من بلاد الإنكليز، فسافر إليها سنة ١٨٦١ ولبث بها إلى سنة ١٨٦٩ واشتهر بما كان عليه من الأمانة والدراية، فكان له مقامٌ محمود بين معامليه من أرباب التجارة وأحرز منها ثروةً صالحة، وفي تلك السنة تم فتح خليج السويس فاستشفَّ من وراء هذا الفتح أنه سيكون ضربةً قاضية على تجارة حلب؛ لأنه قدر أن البضائع التي كانت ترسل إليها فتحملها القوافل برًّا إلى نواحي العراق وبلاد العجم لا بد أن ترسل بعد ذلك بحرًا عن طريق السويس ثم البصرة، ولهذا السبب ولأسبابٍ أخرى نوى العدول عن التجارة بتةً وشرع في حل الشركة وتصفية أعمالها.

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بين الفرنسيس والألمان سنة ١٨٧٠ انتقل إلى باريس فأقام بها يتعاطى التجارة وخدمة المعارف. ولما أنشأ رزق الله حسون سنة ١٨٧٦ جريدة «مرآة الأحوال» في لندن تولى عبد الله مراش تحريرها، ثم عاد إلى منشستر فلبث بها إلى سنة ١٨٨٠ كاتبًا لأشغال فتح الله طرازي وأعماله التجارية، وبعد ذلك فارقها فأتى باريس مرةً ثانية حيث حرر في جريدة «مصر القاهرة» لأديب إسحاق وجريدة «الحقوق» لميخائيل عورا وصحيفة «كوكب المشرق» لأحد رجال الفرنسيس، ثم زايلها وسافر إلى مرسيليا وألقى بها عصاه، ولم يزل مقيمًا فيها إلى أن توفاه الله إليه في ١٧ كانون الثاني ١٩٠٠.

هذا مجمل ما يُذكر من تاريخ هذا الرجل وما تقلَّب فيه من أطوار الحياة، وقد عبرت أيامه كلها على السكينة والدعة؛ لأنه كان قليل المزاحمة والتطالِّ إلى بعيد الشئون والتفاني في معالجة الحظوظ وابتغاء الشهرة والمقامات العلية بالإكثار من الجلبة والحراك، على أنه كان على حظ من الدنيا بلغ به مبلغ الرضى وهو الغنى كله فلم يكن بعد ذلك يحرص على حشد الدينار ولا يعاني الكسب، ولكنه انصرف إلى المطالعة والتوسع في العلم وهو ما لم ينقطع عنه قط مع اشتغاله بالتجارة أيضًا؛ فإنه كان كثير الاختلاف إلى مكاتب لندن وباريز يتصفح ما فيها من الأسفار قديمها وحديثها ولا سيما الخطية منها، فأدرك حظًّا وافرًا من لغة العرب وتواريخهم وآدابهم وانتسخ منها عدة كتبٍ عزيزة، نذكر منها كتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي وهو مصنفٌ ضخم يكوِّن نحوًا من ألف وخمسمائة صفحةٍ كبيرة انتسخه من مكتبة باريز، ثم عارضه بنسخة لندن وأشار إلى مواضع الفرق بين النسختَين ونبَّه على ما وجده مباينًا للصحة من غلط النساخ مما استدركه بنفسه، وبعد ذلك عارضه بالنسخة المطبوعة في دمشق، وبعد أن جمع بينها وبين نسخته وقد تتبعها صفحةً صفحة وسطرًا سطرًا علق على هوامشها كل ما وجده من الفروق والزيادات وغيرها، فكانت كل واحدة من هاتين النسختَين أصحَّ نسخ هذا الكتاب.

وهناك كتب ورسائل أُخر كلها من غُرر آثار الأقدمين ونوادر تآليفهم، انتسخها بخطه مع العناية والتدقيق في مقابلتها وتصحيحها. وكان مليح الخط نقي الرقعة كثير التأنُّق كأكثر خطاطي حلب، وكان يكتب أولًا بقلم من القصب الهندي وهو شديد الصلابة لا يكاد يتشعث ولا يتغير، ثم صار يكتب بأقلام الحديد؛ ولذلك ترى خطه من أول الكتاب إلى آخره واحدًا.

وكان عبد الله من أكابر أهل الإنشاء، حسن الترسل، سهل العبارة، واضح الأسلوب، بصيرًا باختيار الألفاظ والتراكيب، حسن النق، حريصًا على البلاغة ووضوح المعاني، آخذًا بالنصيب الأوفر من قوالب فصحاء العرب وألفاظ الخاصة من أهل الأدب. وكان مع ذلك متقنًا للغة الإنكليزية والفرنسوية والطليانية يكتب فيهن جميعًا، وكان له باعٌ طويل في التاريخ والفلسفة وعلم الأخلاق والأديان والشرائع المختلفة، مشاركًا في كثير من علوم المعاصرين كالطبيعيات والهيئة وسائر الفنون الرياضية. وكان بصيرًا بالسياسة مطلعًا على أسرارها ودقائقها، وله في كل ذلك مقالات ورسائلُ شتى، منها ما هو باقٍ بخطه ومنها ما نُشر في بعض الجرائد العربية في لندن وباريس وجرائد ومجلات القطر المصري، وأشهر ما طُبع له منها مقالة «التربية» التي نشرها تباعًا في مجلة «البيان» اليازجية؛ فلا حاجة إلى الإطناب في وصفها. وأما النظم فإنه مع تضلُّعه من فنون البلاغة وكثرة ما كان يحفظ من أشعار العرب والمولدين، ومع اشتهار بيتهم بالشعر؛ كان قليل الرغبة فيه والمعاناة له، ولا سيما مع ما بلغ إليه الشعر في هذا العصر من الانحطاط والتفاهة ومع قلة المميِّزين بين جيده ورديئه.

وأما صفاته الشخصية فقد كان ربعة القوام، معتدل الجسم، أبيض اللون طلق المحيا، فصيح اللسان، مهذب المنطق، واسع الرواية، لطيف المحاضرة. وكان رجلًا جليل القدر، كامل الصفات، قد جمع بين رزانة الإنكليز ورقة الفرنسيس وأريحية العرب. وكان على أعظم جانب من الزهد وخفض الجناح بعيدًا عن الزهو والخيلاء منزَّهًا عن الدعوى والكبر، حتى إنه مع سعة فضله ورسوخ قدمه في العلم والإنشاء وإجماع المطالعين على استحسان كلامه كان يتفادى من ذكر اسمه في أكثر ما كتبه وما طُبع له، ويشترط ذلك على من يروم نشر شيء من آثاره، هذا ولا جرم من عنوان تمام فضله وتناهيه في الكمالات الإنسانية؛ لأنه لم يكن يتوخى فيما يكتبه إلا نشر فائدة أو تقرير حقيقة دون ابتغاء الشهرة والتهالك على طلب الإطراء. وتوجد من آثار قلمه رسالتان إحداهما جمع فيها فوائدَ متفرقة في «علم الهيئة وتخطيط الأرض» والثانية عرَّب فيها خواطر الدوك دلارشفوكو في «الأخلاق والآداب».

وأما فصوله في «الهيئة» فإنها لا تخلو من إحياء ألفاظ من مصطلحات العرب في هذا العلم مما ذهبت بأكثره الأيام إلا من بعض الأسفار الباقية إلى هذا العهد في خزائن أوروبا؛ مما دلَّ على وفرة اطلاعه وإمعانه في البحث والتقييد، وله أيضًا نقدٌ مطوَّل على ترجمةٍ فرنسية لكتاب «مروج الذهب» بقلم واحد من أكابر علماء الفرنسيس يقال له بربياي دي مينار، وهو نقدٌ جزيل الفائدة نشرته مجلة «الضياء» اليازجية في القاهرة سنة ١٩٠٠.

الشيخ أبو نظارة

منشئ الصحف الآتية: «أبو نظارة زرقاء» و«رحلة أبي نظارة زرقاء» و«أبو زمارة» و«أبو صفارة» و«الحاوي» و«الوطني المصري» و«النظارات المصرية» و«أبو نظارة» و«الثرثارة المصرية» و«التودد» و«المنصف» و«العالم الإسلامي» وغيرها، وناشر المقالات الكثيرة في أشهر الصحف الفرنسية.

***

لا نظن أحدًا من كتبة الأعارب والأعاجم في هذا العصر يجهل اسم الشيخ أبي نظارة المصري الذي اشتهر ذكره في الخافقَين ورنَّ صدى مقالاته اللطيفة من مشارق الأرض إلى مغاربها، فهو الكاتب الانتقادي الكبير الذي علت شهرته في عالم السياسة، وذاع صيته بين خاصة الناس وعامتهم، وما زال منذ أكثر من نصف قرن يُدافع قولًا وعملًا عن وطنه المحبوب، بل يجاهد بثبات جأش وحماسة لا تُوصف عن مصلحة بلاده واستقلالها من نير الغرباء، فنرى من باب العدل تخليدًا لمآثره أن نكيل له بمكيال أعماله، ونزين صفحات هذا الكتاب برسمه وترجمته:

هو يعقوب بن رافائيل صنوع٢ وُلد في القاهرة بتاريخ ٩ شباط ١٨٣٩ من أبوين إسرائيليَّين، وأتقن منذ نعومة أظفاره تعاليم التوراة حتى استحق أن يكون لاويًا أي مؤمنًا بعقيدة وجود الله سبحانه، ثم درس الإنجيل والقرآن ووقف هكذا على عقائد الأديان القائلة بوحدانية اللاهوت. وكان أبوه مستشارًا لدى الأمير أحمد باشا يكن حفيد محمد علي باشا الكبير رأس العائلة الخديوية، وإذ شاهد هذا الأمير نباهة يعقوب أرسله على نفقته إلى أوروبا لإتقان العلوم العصرية، فذهب الفتى إلى مدينة ليفورنو Livourne في إيطاليا حيث تلقى العلوم وبرع فيها، ثم عاد منها بعد ثلاث سنين بالغًا الحول السادس عشر من عمره، وفي أثناء ذلك فقد أباه والمحسن إليه فتأسَّف عليهما كثيرًا وبكاهما بكاءً مرًّا، ومن ذاك العهد أخذ يُدرِّس اللغات لأغصان العائلة الخديوية وأبناء الأعيان حتى نبغ كثير من تلامذته الذين ارتقوا إلى أعلى المناصب والمراتب.

وسنة ١٨٧٠ أنشأ أول مرسحٍ عربي في القاهرة بمساعدة الخديو إسماعيل الذي منحه لقب «موليير مصر» ونشطه على عمله وشهد مرارًا تمثيل رواياته، فألف صاحب الترجمة حينئذٍ اثنتين وثلاثين روايةً هزلية وغرامية، منها بفصلٍ واحد ومنها بخمسة فصول، لم يزل صداها يرنُّ في آذان الشيوخ على ضفاف النيل، ثم أسس سنة ١٨٧٢ جمعيتَين علميتَين إحداهما «محفل التقدم» والأخرى «جمعية محبي العلم» وتولى رئاستهما، وسنة ١٨٧٤ سافر إلى أوروبا حيث بقي مدةً يدرس أحوالها السياسية وأخلاق شعوبها، ثم قفل راجعًا إلى وطنه مشغوفًا بتقدم الإفرنج وملتهبًا بنار الغيرة لبثِّ روح الحضارة العصرية بين الشعب المصري.

وكان السيد جمال الدين الأفغاني الفيلسوف المشهور، والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقًا متحدَين معه بعُرى المحبة، وقد درسا عليه شيئًا من اللغة الفرنسية، فاتفق ثلاثتهم على إنشاء جريدةٍ عربيةٍ هزلية لانتقاد أعمال الخديو إسماعيل، ثم قرَّ رأيهم على أن يتولى إدارتها صاحب الترجمة ويحرر فيها معه العالمان المذكوران، وقد أوعز السيد جمال الدين إلى يعقوب في إيجاد عنوان للجريدة يليق بمسلكها، فخرج هذا إلى بيته باحثًا عن حمار يركبه، فإذا بالفلاحين أصحاب الحمير قد تجمَّعوا حوله وأراد كل منهم أن يُركِبه حماره، فلما زاحموه أحب التخلص منهم وإذا بصوت من ورائه يناديه «يا أبا النظارة الزرقاء» وكان وقتئذٍ يستعمل النظارات الزرقاء وقايةً لعيونه من حرارة الشمس، فرنَّ هذا الصوت في أذنَيه واستحسن عبارة «أبي النظارة الزرقاء» وصمم على اتخاذها عنوانًا للجريدة الهزلية، فرجع من ساعته إلى السيد جمال الدين وأخبره بما جرى له مع أصحاب الحمير وباختياره العنوان المذكور للجريدة، فضحك من كلامه لكنه استحسن الاسم. وهكذا صدر العدد الأول سنة ١٨٧٧ من الصحيفة المذكورة التي تُعد أولى الصحف الهزلية عند الناطقين بالضاد، فانتشرت في أربعة أقطار المعمور حتى صار اسمها ملازمًا لصاحبها الذي أُطلق عليه من ذاك الحين اسم «الشيخ أبي نظارة». وكان يعقوب صنوع أول من استعمل القلم الدارج عند عامة المصريين في الكتابة فتبعه كثير من الكتَّاب الذين أنشئوا صحفًا شتى بالقلم العامي في جميع الأقطار العربية شرقًا وغربًا.

ولما كانت مقالات جريدته تنتقد أعمال خديو مصر بلهجةٍ شديدة أصدر إسماعيل باشا أمرًا بإبطالها بعد ظهور العدد الخامس عشر منها، وكان الخديو متعمدًا الانتقام من منشئها بكل الوسائل حتى القتل لو استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأوعز إلى قنصل إيطاليا بأن يطرده من الديار المصرية؛ لأنه كان محتميًا بالدولة المذكورة، فتوجه صاحب الترجمة إلى الإسكندرية ومنها ركب سفينة لتقلَّه إلى أوروبا، فمر الخديو بعربته أمام رصيف المينا ورأى بعينه ألوفًا من الناس يشعيونه، فصاح بعضهم وقال له: «انظر يا أبا النظارة الزرقاء كيف جاء شيخ الحارة٣ ليشتفي منك ويراك بعينه منفيًّا من بلاده!» فأجابهم بقوله: «بعد سنة يُنفى هو مثلي من مصر.» وفي الواقع خلع إسماعيل من سرير الخديوية بعد سنة من التاريخ المذكور.

فسافر صاحب الترجمة إلى باريس وهناك استأنف إصدار الجريدة بعنوان «رحلة أبي نظارة زرقاء» مُقبِّحًا فيها سياسة إسماعيل، ولبث الخديو يُصادر الجريدة محرمًا على الناس مطالعتها حتى اضطر الشيخ إلى تبديل اسمها تارة باسم «أبي زمارة» وطورًا باسم «أبي صفارة» وحينًا باسم «الحاوي» وآنًا باسم «الوطني المصري» أو «النظارات المصرية» لئلا تفوت القراء فائدتها. ثم أصدر مجلة «التودد» وجريدة «المنصف» وجريدة «العالم الإسلامي» وجريدة «أبي نظارة» وغيرها أيضًا، وقد أصدر سنة ١٨٨٦ جريدة بثماني لغات سماها «الثرثارة المصرية» أو «البافار إجبسيان» وهي أول جريدة في العالم صدرت بهذا العدد الكثير من اللغات على ما نعلم. ولم تقتصر همته على كتابة جرائده المذكورة، بل كان ينشر المقالات الضافية الذيول في الجرائد الفرنسية الكبرى من مثل «التان» و«الماتين» و«الفيغارو» وسواها.

وفي ٢٢ أيلول ١٩٠٠ ألقى في معرض باريز تحت رئاسة السيد حسن ابن السلطان عمر الهنزواني خطبةً بعشر لغات مختلفة رددت صداها جرائد العاصمة الفرنسية، وبعد ذلك حُمل على أكفِّ السامعين بموكبٍ حافل يتقدمه جوق الموسيقى إلى ساحة «برج إيفل» حيث دعا دعاءً حارًّا لفرنسا وللدول الشرقية، ثم ترنَّم القوم بالنشيدَين الفرنسي والخديوي، وفي تلك السنة دعاه شاه العجم إلى ضيافته في «كنتر كسفيل ليبين» وأهداه وسامًا عاليًا وخاتمًا ثمينًا.

وسنة ١٩٠١ زار الشيخ أبو نظارة سمو الخديو عباس الثاني في مدينة ديفون بفرنسا، فأوعز إليه الخديو بالرجوع إلى وادي النيل ممتعًا بالحرية التامة، لكن شيخنا رفض إجابة الطلب: ما زال القطر المصري مقيدًا بالاحتلال الإنكليزي. وفي السنة ذاتها زاره في مصيفه الواقع في شامبيني Champigny السلطان عمر حاكم الهنزوان فتناول عنده طعام الظهر وتبادل الاثنان نخب المحبة ثم تصوَّرا في رسمٍ واحد. وسنة ١٩٠٢ وافق مرور خمسة وعشرين عامًا على ظهور جريدته الأولى فاحتفل أصحابه بذلك احتفالًا شائقًا وأقاموا له مأدبةً أنيقةً جمعت مائة نفس من مصريين وسوريين وتونسيين وجزائريين وفرنسيس وسواهم. وسنة ١٩٠٥ جرى الاحتفال باليوبيل الخمسيني لدخوله في سلك التأليف والتدريس، فكان هو أول صحافيٍّ عربي نال هذه الكرامة الشريفة في حال حياته.
ولصاحب الترجمة معرفةٌ تامة بلغاتٍ شتى قديمة وحديثة بحيث إنه كان يكتب نثرًا وشعرًا في العبرانية والعربية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية والألمانية مع إلمام بالإسبانية واليونانية وغيرها. ثم أتقن بعض الفنون الجميلة كالموسيقى والرسم فإنه ألَّف ألحانًا بديعةً للملوك والأمراء ورسم بقلمه أكثر التصاوير التي نشرها في جرائده منذ نشأتها حتى احتجابها. وكان في الخطابة آية عصره ولو جُمعت خطبه لبلغت المجلدات، وقد أعجب الغربيون بفصاحة لسانه وقوة حجته، وكان مرتبطًا بعلائق المودة مع أكبر علماء زمانه في مصر وسوريا والعراق وتونس والمغرب الأقصى والهند، فضلًا عما أحرزه من الاعتبار لدى جهابذة الفرنسيس كالجنرال دودس وجول سيمون ولمبرت وسواهم. وابتكر في اللغة الفرنسية طريقة النثر المسجوع كما هو شائع عند العرب، فألَّف من هذا النوع مقالاتٍ شتى وخطبًا عديدة نذكر منها النبذة المعروفة بالعنوان الآتي Constitution Ottomane et ses héros فإنها بليغة المعاني والمباني، وقد كتبها احتفالًا بإعلان الدستور في السلطنة العثمانية، وله مؤلفاتٌ كثيرة غير ذلك.

وبمناسبة يوبيله الخمسيني المذكور أجمعت الجرائد العربية والإفرنجية على تقريظه؛ فتواردت عليه رسائل الإطراء بكثرة من الأمراء والشعراء والعلماء والعظماء شرقًا وغربًا، ونال من رؤساء الحكومات وسامات الشرف الكثيرة التي زيَّنت صدره، فجاءت مصداقًا على سمو منزلته الأدبية عندهم، ولولا اتضاعه لأحرز أضعافها، وإليك أسماء البعض منها:

الوسامات ذات الدرجة الأولى أو غران كردون: وسام «النجوم الثلاث» من محمد سلطان جزائر القمور، وسام «الكوكب الدري» من السيد برغش سلطان زنجبار، وسام «الهنزوان» من السيد عمر سلطان الهنزوان.

الوسامات ذات الطبقة الثانية أو غران أوفيسيه: وسام «سام مارينو» من رئيس جمهورية سان مارينو في إيطاليا.

الوسامات ذات الطبقة الثالثة أو قومندور: «الوسام العثماني» من السلطان عبد الحميد، وسام «الشمس والأسد» من ناصر الدين شاه إيران، ووسام «إنج» من سلطانها، وسام «الافتخار» من محمد الهادي باي تونس، ووسام «أوبوك» من حاكم هذه الولاية.

الوسامات ذات الطبقة الرابعة أو أوفيسيه: «الوسام المجيدي» من السلطان عبد الحميد، ووسام «المحفل العلمي الفرنسي» أو أكاديمي من رئيس جمهورية فرنسا، ووسام «كمبودج» من دولة الكمبودج، ووسام «أنام» من ملك هذه الدولة.

الوسامات ذات الطبقة الخامسة أو كواليير: وسام «إيزابلا الكاثوليكية» من ملك إسبانيا، ووسام من ليوبلد الثاني ملك بلجيكا؛ وغير ذلك من الأوسمة وعلامات الشرف التي نالها من الحكومات والجمعيات الأدبية والمحافل العلمية.

وله مع أكثر الملوك المشار إليهم لا سيما مع سلاطين الإسلام وأمرائهم وعلمائهم وشعرائهم ومشاهيرهم؛ مكاتبات تضمنت آيات الثناء على مآتيه الحسنة، وقد أتحف بها قبل وفاته مؤلف هذا التاريخ على سبيل الهدية والتذكار، وهي مجموعة أدبية ثمينة يندر وجود نظيرها عند أحد الشرقيين الذين لا يكترثون عادة لصيانة الآثار القديمة أو النفيسة.

ونال الشيخ أبو نظارة ألقابًا مهمة من السلاطين والملوك نذكر منها: لقب «موليير مصر» من إسماعيل باشا خديو مصر على أثر حضوره تمثيل بعض روايات من قلمه، ولقب «صديق الإسلام» سنة ١٨٩١ عندما زار السلطان عبد الحميد الثاني في القسطنطينية، فكلفه السلطان تبليغ سلامه إلى كرنو رئيس الجمهورية الفرنسية، ثم كان سنة ١٨٩٩ الواسطة الودية بين السلطان المشار إليه وبين لوبه رئيس جمهورية فرنسا، ونال سنة ١٩٠٠ لقب «صديق فرنسا الكبير» من حكومة فرنسا عند افتتاح معرض باريس العام، وأحرز لقب «شاعر الملك» من شاه إيران، ولقب «كوكب الشرق» من سلطان الهنزوان، ولقب «الوطني المخلص» من عباس الثاني خديو مصر، ولقب «مقوي الرابطة الأخوية العامة» من «دون بدرو» إمبراطور البرازيل.

وبعد إعلان الدستور في السلطنة العثمانية بثلاثة أيام سافر إلى الآستانة للاشتراك مع العثمانيين في أفراحهم الوطنية، ثم عاد مشيعًا بالإكرام إلى باريس، ومن ذاك الحين أخذ نور عينَيه يضعف حتى كفَّ بصره، وفي ٣١ كانون الأول ١٩١٠ أصدر العدد الأخير من جريدة «أبي نظارة» … بعد انتشارها أربعًا وثلاثين سنة ودفاعها عن حقوق وادي النيل بثباتٍ لا يُوصف، وبعدما قضى أربعًا وسبعين سنة توفاه الله في ٣٠ أيلول ١٩١٢ في باريس فنقلت شركة «روتر» التلغرافية خبر نعيه إلى الشرق والغرب.

الشيخ محمد عبده

الشيخ محمد عبده؛ محرر جريدة «الوقائع المصرية» في القاهرة و«العروة الوثقى» في باريس.

***

نشأته الأولى

نشأ في قرية صغيرة «محلة نصر» من أبوَين فقيرَين، فلم يمنعه ذلك من الارتقاء بجده واستعداده حتى بلغ منصب الإفتاء، وأصبح علمًا في الشرق وقطبًا من أقطاب الدهر سيُنقش اسمه على صفحات الأيام، ويبقى ذكره ما بقي الإسلام.

وُلد عام ١٢٥٨ﻫ/١٨٤٢م، وأبوه يتعاطى الفلاحة وقد أدخل فيها أولاده إلا محمدًا، لأنه توسم فيه الذكاء؛ فأراد أن يجعله من الفقهاء فأدخله كُتَّاب القرية، تردد إليه حينًا، ثم أرسله إلى «الجامع الأحمدي» في طنطا، أقام فيه ثلاث سنوات ثم نقله إلى «الجامع الأزهر» فقضى فيه عامَين لم يستفد فيهما شيئًا. وهو ينسب ذلك بالأكثر إلى فساد طريقة التعليم، ثم انتبه لنفسه ولم يرَ بدًّا من تلقِّي العلم فاستنبط لنفسه أسلوبًا في المطالعة وأعمل فكرته في تفهُّم ما يقرؤه، فاستلذ العلم واستغرق في طلبه فأحرز منه جانبًا كبيرًا على ما يستطاع إدراكه بتلك الطريقة.

واتفق أن ورد على مصر سنة ١٢٨٨ﻫ/١٨٧١م السيد جمال الدين الأفغاني فيلسوف الإسلام وصاحب الترجمة لا يزال في الأزهر وقد أدرك الثلاثين من عمره، وتولى جمال الدين تعليم المنطق والفلسفة فانخرط محمد في سلك تلامذته مع جماعة من نوابغ المصريين تخرجوا على جمال الدين، فخرجوا لا يشقُّ لهم غبار كأن الرجل نفخ فيهم من روحه ففتحوا أعينهم وإذا هم في ظلمة وقد جاءهم النور، فاقتبسوا منه فضلًا عن العلم والفلسفة روحًا حية أرتهم حالهم كما هي؛ إذ تمزقت عن عقولهم حجب الأوهام، فنشطوا للعمل في الكتابة فأنشئوا الفصول الأدبية والحكمية والدينية، وكان صاحب الترجمة ألصق الجميع به وأقربهم إلى طبعه وأقدرهم على مباراته، فلما قُضي على جمال الدين بالإبعاد من هذه الديار قال يوم وداعه لبعض خاصته: «قد تركت لكم الشيخ محمد عبده وكفى به لمصر عالمًا!»

وتقلَّب محمد في بعض المناصب العلمية بين تدريس في المدارس الأميرية وتحرير في «الوقائع المصرية» وكتابة في الدوائر الرسمية حتى كانت الحوادث العرابية، فحمله أصحابها على السير معهم وهو ينصح لهم ألَّا يفعلوا وينذرهم بسوء العاقبة، ولما استفحل أمر العرابيين اختلط الحابل بالنابل وسبق الناس بتيار الثورة وهم لا يعلمون مصيرهم، فدخل الإنكليز مصر والشيخ محمد عبده في جملة الذين قُبض عليهم وحوكموا، فحُكم عليه بالنفي؛ لأنه أفتى بعزل توفيق باشا الخديوي السابق، فاختار الإقامة في سوريا فرحب به السوريون وأعجبوا بعلمه وفضله، فأقام هناك ست سنوات فاغتنموا إقامته بينهم وعهدوا إليه بالتدريس في بعض مدارسهم.

وانتقل من سوريا إلى باريس فالتقى فيها بأستاذه وصديقه جمال الدين وكانا قد تواعدا على اللقاء هناك، فأنشئوا جريدة «العروة الوثقى» وكتابتها منوطة بالشيخ محمد؛ فكانت لها رنةٌ شديدة في العالم الإسلامي ولكنها لم تعش طويلًا، وتمكن الشيخ في أثناء إقامته بباريس من الاطلاع على أحوال التمدُّن الحديث وقرأ اللغة الفرنساوية على نفسه حتى أصبح قادرًا على المطالعة فيها، ثم سعى بعضهم في إصدار العفو عنه فعاد إلى مصر، فولَّاه الخديو السابق القضاء وظهرت مناقبه ومواهبه فعُيِّن مستشارًا في محكمة الاستئناف وسمي عضوًا في مجلس إدارة الأزهر، وعُين أخيرًا مفتيًا للديار المصرية سنة ١٣١٧ﻫ/١٨٩٩م، وما زال في هذا المنصب حتى توفاه الله في ١١ تموز ١٩٠٥ ولم يعقب ذكرًا يبقى به اسمه، ولكنه خلف آثارًا يخلد بها ذكره.

مناقبه وأعماله

كان ربع القامة، أسمر اللون، قوي البنية، حادَّ النظر، فصيح اللسان، قوي العارضة، متوقِّد الفؤاد، بليغ العبارة، حاضر الذهن، سريع الخاطر، قوي الحافظة؛ وقد ساعده ذلك على إحراز ما أحرزه من العلوم الكثيرة الدينية والعقلية والفلسفية والمنطقية والطبيعية، وتلقى اللغة الفرنساوية وهو في حدود الكهولة في بضعة أشهر، وكان شديد الغيرة على وطنه حريصًا على رفع شأن مِلَّته وذاع ذلك عنه في العالم الإسلامي، فكاتبه المسلمون من أربعة أقطار المسكونة يستفتونه ويستفيدون من علمه وهو لا يرد طالبًا ولا يُقصر في واجب.

ناهيك بما عُهد إليه من المشروعات الوطنية؛ فقد كان القوم لا يقدمون على عملٍ كبير إلا رأَّسوه عليه أو استشاروه فيه، فرأس «الجمعية الخيرية الإسلامية» وألَّف «شركة طبع الكتب العربية» وشارك مجلس شورى القوانين في مباحثه، وآخر ما عهد إليه تنظيم مدرسة يتخرج فيها قضاة الشريعة ومحاموها، فضلًا عما اشتغل فيه من التأليف والتصنيف وما كان يستشار فيه من الأمور الهامة في القضاء أو الإدارة بالمصالح العامة والخاصة، وبالجملة فقد كان كنز فوائد للقريب والبعيد، بين إفتاء ومشورة، وإحسان وكتابة، ومداولة ووعظ وخطابة، ومباحثة ومناظرة، واستنهاض وتحريض وتنشيط وغير ذلك.

إصلاح الإسلام

على أن عظمته الحقيقية لا تتوقف على ما تقدم من أعماله الخيرية أو العلمية أو القضائية، وإنما هي تقوم بمشروعه الإصلاحي الذي لا يتصدَّى لمثله إلا أفراد لا يقوم منهم في الأمة الواحدة مهما طال عمرها إلا بضعةٌ قليلة، وهذا ما أردنا بسطه على الخصوص في هذه العجالة:

العظمة الحقيقية

تختلف العظمة شكلًا وأثرًا باختلاف السبيل الذي يسعى صاحبها فيه أو الغرض الذي يرمي إليه، فمنهم العظيم في السياسة أو الحرب أو العلم أو الدين، ومن العظماء من يوفق إلى إتمام عمله ومنهم من يرجع بصفقة الخاسر من نصف الطريق أو ربعه أو عُشره. على أن أكثر العظماء إنما يأتون العظائم لمجرد الرغبة في الشهرة الواسعة ويغلب أن يكون ذلك في رجال الحرب، وهؤلاء تنحصر ثمار أعمالهم في أنفسهم أو أهلهم أو أمتهم على أنهم لا يستطيعون نفعًا لأنفسهم إلا بضر الآخرين، اعتبر ذلك في سير كبار الفاتحين كالإسكندر وبونابرت وغيرهما، فكم سفكوا في سبيل عظمتهم من الدماء أو ارتكبوا من المحرمات، وكان النفع عائدًا على أنفسهم أو أمتهم ولم يطل مكثه فيهم إلا قليلًا!

وأما رجال العلم فعظمتهم تقوم بما ينيرون به الأذهان من الأصول العلمية أو يكتشفونه من أسباب الأمراض والوقاية منها أو يضعونه من النظامات والقوانين أو غير ذلك، ونفعهم يشمل القريب والبعيد، الرفيع والوضيع، ولا يسفكون في سبيل نشره دمًا، ولا يرتكبون محرمًا، وهو باقٍ ما بقي الإنسان وينمو بنمو المدنية.

وأما رجال الدين ومَن جرى مجراهم من واضعي الشرائع والأحكام فتأثيرهم أوسع دائرةً وأعمُّ شمولًا؛ لأنه يتناول البشر على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم رجالًا ونساءً كبارًا وصغارًا، وعليهم يتوقف نظام الاجتماع وآدابه وأخلاق الناس وعاداتهم وعلائقهم بعضهم ببعض. وعظماء الدين فئتان: الفئة الأولى واضعو الشرائع كالأنبياء أو من في معناهم ممن ينسبون أعمالهم إلى ما وراء الطبيعة، والفئة الثانية المصلحون الذين يصلحون الدين بعد فساده؛ لأن الدين إذا مر عليه بضعة قرون فسد وتغير شكله، وانقلب وضعه تبعًا لمطامع الذين يتولون شئونه؛ فتفسد الأمة وينحطُّ شأنها حتى يقوم من يصلحه ويعيده إلى رونقه. ووضع الأديان عملٌ شاقٌّ قل من يفوز به، والإصلاح الديني لا يقل مشقة عنه، وربما كان إدخال دينٍ جديد أيسر من إصلاح دينٍ قديم، فالديانة المسيحية لم تكلف البشر في قيامها من الدماء أكثر مما كلفتهم في إصلاحها، على أن ما يضيعه رجال الدين في نشره من الدماء يعوضونه بسرعة انتشاره، اعتبر ذلك في الفرق بين النصرانية والإسلام في قيامهما، ويقال نحو ذلك في الإصلاح فقد طلبه وسعى فيه غير واحد من رجال النصرانية فلم يتفق منهم إلى إصلاحٍ كبير غير «لوثير» لأن أهل السياسة نصروه، ولا بد من استعداد الأذهان لقبول الإصلاح وتهيئة الأسباب الأخرى، فكم نهض من المصلحين بالسيف فغُلبوا على أمورهم وذهب سعيهم عبثًا! وأقربهم عهدًا منا صاحب مذهب «الوهابية» في نجد فقد استفحل أمره في أوائل القرن الماضي وأراد في الإسلام نحو ما أراده لوثير في النصرانية، فلم يوفَّق إلى غرضه؛ لأن الجنود المصرية غلبته وفلَّت عزيمته، أما المصلحون بالموعظة الحسنة والتعليم فعملهم بطيء ولكنه أرسخ في الأذهان وأصبر على كوارث الحدثان — والشيخ محمد عبده واحد منهم.

هو وجمال الدين

نشأ الشيخ المفتي نيِّر البصيرة حر الضمير ورُبِّي في الإسلام وتعلم علومه فشبَّ غيورًا عليه، ثم اطلع على علوم الأمم الراقية من أهل هذا التمدن ودرس تاريخ الاجتماع ونواميس العمران، فرأى الإسلام في حاجة إلى نهضة ترفع شأنه وتجمع كلمته، واتفق اجتماعه بالسيد جمال الدين الأفغاني فأخذ عنه الفلسفة والمنطق والحكمة المشرقية، وكان جمال الدين غيورًا على الإسلام راغبًا في جمع كلمته ورفع شأنه، فتوافقا في الغاية ولكنهما اختلفا في الوسيلة؛ لأن جمال الدين سعى في ذلك من طريق السياسة فأراد جمع شتات المسلمين في أربعة أقطار العالم تحت ظل دولةٍ إسلاميةٍ واحدة، وقد بذل في هذا المسعى جهده وانقطع عن العالم من أجله فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبًا، وإنما جعل همه السعي إلى تلك الغاية فلم يُوفَّق إلى غرضه لأسبابٍ عمرانيةٍ طبيعية لا محل لذكرها، وكان الشيخ محمد عبده رفيقه في كثير من مساعيه واطلع على دخائل أموره وعرف أسباب حبوطه، فعلم أن جمع كلمة المسلمين ورفع شأنهم من طريق السياسة لا يتيسر الوصول إليه؛ فسعى فيه من طريق العلم، فجعل همه رفع منار الإسلام وجمع كلمة المسلمين بالتعليم والتهذيب وتقريبهم من أسباب المدنية الحديثة ليستطيعوا مجاراة الأمم الراقية في هذا العصر، ورأى ذلك لا يتأتى إلا بتنقية الدين مما اعتوَره من الشوائب التي طرأت عليه بتوالي العصور وتغالب الدول واختلاف أغراض أصحابها وأئمتها كما أصاب النصرانية في القرون المتوسطة؛ إذ تمسك الناس بالعرض وتركوا الجوهر، واستغرقوا في الأوهام ونبذوا الحقائق. والسبيل الوحيد لمغالبة الأوهام والخرافات إنما هو العلم الصحيح على ما بلغ إليه في هذا العهد. وعلم صاحب الترجمة أن محور العلوم الإسلامية اليوم مصر ومركز العلم بمصر أو في العالم الإسلامي كافة «الجامع الأزهر»، فرأى أنه إذا أصلح «الأزهر» فقد أصلح الإسلام؛ فسعى جهده في ذلك؛ فاعترضه أناس من أهل المراتب يفضلون بقاء القديم على قدمه، واستنصروا العامة عليه، وغرسوا في أذهانهم أن المفتي ذاهب بالمسلمين إلى مهاوي الضلال والبدع. فلم يهمه قولهم لعلمه أن ذلك نسيب أمثاله من قديم الزمان، على أنه لم ينجح في إصلاح الأزهر إلا قليلًا، ولكنه وضع الأساس، ولا بد من رجوع الأمة إلى تأييد هذه النهضة ولو بعد حين فيكون الفضل له في تأسيسها.

على أن الجانب الأعظم من عقلاء المسلمين وخاصتهم يرون رأيه في إصلاح الدين ورجاله، وربما سبقه كثيرون منهم إلى الشعور بحاجة الإسلام إلى ذلك ولا سيما المتخرجين بالعلوم العصرية من الناشئة المصرية، ولكنهم لم يجسروا على التصريح بأفكارهم في غير المجتمعات الخصوصية لئلا ينسبهم الناس إلى المروق من الدين، فلما جاهر محمد عبده برأيه وافقوه وصاروا من مريديه ونصروه بألسنتهم وأقلامهم. فحاجة الإسلام إلى الإصلاح ليس هو أول من انتبه إليها ولكنه أول من جاهر بها، كما أن لوثير المصلح المسيحي ليس أول من انتبه لحاجة النصرانية إلى الإصلاح، ولكنه أول من جاهد في سبيلها وقد فاز بجهاده لقيام السياسة بنصرته، وأما مصلح الإسلام فكانت السياسة ضده وإنما حمله على تلك المجاهرة حرية ضميره وجسارته الأدبية ومنصبه الرفيع في الإفتاء.

الإسلام والمدنية

فلما صرح الشيخ محمد عبده بحاجة الإسلام إلى الإصلاح انقسم المسلمون إلى فئتَين: فئة ترى بقاء القديم على قدمه وهم حزب المحافظين، وفئة ترى حل القيود القديمة وإطلاق حرية الفكر والرجوع إلى الصحيح من قواعد الدين ونبذ ما خالطه من الاعتقادات الدخيلة، وكان زعيم هذه الفئة يناضل عن مبادئها بلسانه وقلمه وبكل جارحة من جوارحه، وكانت مساعيه من هذا القبيل ترمي إلى غرضَين رئيسيَّين: الأول تنقية الدين الإسلامي من الشوائب التي طرأت عليه، والثاني تقريب المسلمين من أهل التمدن الحديث ليستفيدوا من ثمار مدنيته علميًّا وصناعيًّا وتجاريًّا وسياسيًّا، فأهل العصبية الإسلامية يرون هذا التقريب مغايرًا لما يرجونه من استقلال المسلمين بالجامعة السياسية؛ لأن مجاراة أهل التمدن الحديث بأسباب مدنيتهم وتسهيل الاختلاط بهم يضعف عصبية الإسلام على زعمهم، ويبعث على تشتيت عناصره فيستحيل جمعها في ظل دولةٍ واحدة، ولكن الشيخ المفتي كان يرى ذلك الاجتماع السياسي مستحيلًا في هذه الحال؛ فلم يشأ أن يضيع وقته سدًى كما أضاعه أستاذه وصديقه جمال الدين وأن يخسر فائدة تقرب المسلمين من أسباب هذا التمدن؛ فسعى في ذلك بما نشره من فتاويه المتعلقة بالربا والموقوذة ولبس القبعة ونحو ذلك مما يقرب المسلمين من الأمم الأخرى ويسهل أسباب التجارة.

تنقية الدين

وأما تنقية الدين الإسلامي من الشوائب الطارئة عليه فأساس سعيه فيها أنه أطلق لفكره الحرية في تفسير القرآن، ولم يتقيَّد بما قاله القدماء أو وضعوه من القواعد التي يُحرِّم الأئمة تبديل شيء منها، فرأى أن يحل نفسه من هذه القيود ويفسر القرآن على ما يُوافق روح هذا العصر، فيجعل أقواله وآراءه فيه موافقة لقواعد العلم الصحيح المبني على المشاهدة والاختبار ولنواميس العمران على ما بلغ إليه هذا العلم إلى الآن مع مطابقته لأحكام العقل وأصول الدين كما فعل النصارى في تفسير الكتاب المقدس بعد ثبوت مذاهب العلم الجديد، وهو أوعر مسلكًا في الإسلام لارتباط الدين بالسياسة فيه، والقرآن أساس الدين والدنيا عندهم فيعلِّقون على تفسيره أهميةً كبرى؛ لأنه مرجع الفقه وغيره من الأحكام الشرعية والسياسية، ولذلك رأى أهل السنة تقييده بأقوال الأئمة الأربعة وخالفهم الشيعة باستبقاء باب الاجتهاد مفتوحًا فلا يرون بأسًا في العدول عن تفسير إلى آخر بشروط يشترطونها في مفسريهم، وهم يُعرَفون عندهم بالأئمة المجتهدين.

التفسير

وقد توالى على تفسير القرآن أحوال تختلف باختلاف العصور من الإسلام إلى الآن ترجع إلى أربعة أعصر:
  • الأول العصر الشفاهي: وهو ينحصر في أيام النبي وأصحابه فقد كانوا عند ظهور الدعوة كلما تُليت عليهم سورة أو آية فهموها وأدركوا معانيها بمفرداتها وتراكيبها؛ لأنها بلسانهم وعلى أساليب بلاغتهم، ولأن أكثرها قيلت في أحوال كانت القرائن تسهل فهمها، وإذا أشكل عليهم شيء منها سألوا النبي فيفسره لهم، وكان التفسير مختصرًا بسيطًا لسذاجة الدولة الإسلامية يومئذٍ.
  • ثانيًا العصر التقليدي: ونريد به عصر التابعين أو حواليه وكانت الدولة الإسلامية قد أخذت في النمو والارتقاء فاحتاجوا إلى التوسع في التفسير، وكان أكثرهم أميين فإذا أعجزهم تفسير بعض الآيات سألوا عنها من أسلم من أهل الكتاب، ولا سيما اليهود المقيمين في اليمن وكانوا قد أسلموا وظلوا على ما كان عندهم من التقاليد المتناقَلة شفاهًا أو كتابة مما لا تعلُّقَ له بالأحكام الشرعية.
  • ثالثًا العصر الفلسفي المنطقي: ونريد به تدوين التفسير وضبطه بالقياس الفلسفي والحكم المنطقي بعد أن اختلط المسلمون بأهل العلم القديم في الشام والعراق وفارس واطلعوا على علوم القدماء وفلسفة اليونان والهند ونقلوا ذلك إلى لسانهم واستخرجوا منه علم الكلام، وكان العرب قد وضعوا العلوم اللسانية وضبطوا معاني الألفاظ وأساليب التعبير، فنظروا في التفاسير السابقة نظر الناقد ومحَّصوها وضبطوها بالقياس العقلي بالاعتماد على قواعد المنطق بما تقتضيه الفلسفة اليونانية القديمة على نحو ما فعله لاهوتيو النصارى قبل ذلك.
  • رابعًا العصر العلمي: الذي نحن فيه، وهو عصر الفلسفة الجديدة المبنية على العلم الطبيعي الثابت بالمشاهدة والاختبار، ويمتاز عن العصر السابق بإطلاق حرية الفكر من قيود التقليد القديمة التي أغلَّت ألسنة أسلافنا وأقلامهم وأوقفت مجاري التمدن أجيالًا متطاولة. فالشيخ المفتي أراد أن ينقل التفسير إلى روح هذا العصر فيفسر القرآن بما يطابق أحكام العقل ويحل الإسلام من قيود التقليد، فسار في هذا الطريق شوطًا بعيدًا فألقى على طلبة «الأزهر» خطبًا كثيرة في التفسير نُشرت في مجلة «المنار» وطبع بعضها على حدة وكان لها تأثيرٌ حسن في نفوس العقلاء، ولو مد الله في أجله لأتم هذا العمل، ولكنه قضى آسفًا خائفًا ولسان حاله يردِّد هذين البيتَين وقد قيل إنهما من قصيدة نظمها في أثناء مرضه وهما:
    ولست أبالي أن يقال محمد
    أبلَّ أو اكتظت عليه المآتم
    ولكن دينًا قد أردت صلاحه
    أحاذر أن تقضي عليه العمائم

على أنه خلَّف جماعة من تلامذته ومريديه أكثرهم من أهل العلم وأرباب الأقلام، وفيهم نخبة كتاب المسلمين وشعرائهم في هذا العصر، وأكثرهم مجاهرة بنصرته وإذاعة لآرائه رصيفنا السيد رشيد رضا صاحب «المنار» الإسلامي.

والشيخ محمد عبده زعيم نهضةٍ إصلاحية لا خوف منها على الدماء أو الأرواح، وأكثر نهضات الأمم في سبيل إصلاحها لا تخلو من إهراق الدماء، فهو رجلٌ عظيم يجدر بالمسلمين أن يبكوه وأن يقتفوا آثاره في التوفيق بين الإسلام والمدنية الحاضرة وتنقيته مما ألمَّ به بتوالي الأزمان، وذلك ميسور لمن أطلق فكره من قيود التقليد واسترشد بما يهديه إليه العقل الصحيح بالإسناد إلى العلم الصحيح، على أننا نرجو ألَّا تعدم هذه النهضة من يخلف الإمام في الانتصار لها والعمل بها. والله على كل شيء قدير.

جرجي زيدان

جمال الدين الأفغاني

فيلسوف الإسلام وأحد مؤسسي جريدة «العروة الوثقى» في باريس ومدير سياستها وناشر المقالات الشائقة في جرائد «مرآة الشرق» بالقاهرة و«مصر» و«المحروسة» بالإسكندرية.
هذا جمال الدين أمسى نازلًا
جدثًا تضمَّن منه أي دفين
قدر به عم البكاء على امرئ
فقدت به الدنيا جمال الدين

***

هو السيد محمد جمال الدين الحسيني ابن السيد صفتر ينتمي إلى أسرةٍ عريقة النسب كانت تحكم قسمًا من أراضي الدولة الأفغانية في خطة «كنر» من أعمال كابل، وإنما نزع السيادة من أيديها دوست محمد خان أمير الأفغان وأمر بنفي السيد صفتر وسائر آله إلى مدينة كابل، ويتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدث الشهير، ويرتقي إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب.

ولد السيد جمال الدين في «أسعد آباد» التابعة لخطة كنر سنة ١٢٥٤ هجرية/١٨٣٨ مسيحية، وتلقَّى العلوم العقلية والنقلية في كابل على أشهر الأساتذة حتى استكمل دروسه في الثامنة عشرة من عمره، ثم سافر إلى الهند حيث أتقن العلوم الرياضية على الطريقة الأوروبية، ومنها ذهب في سنة ١٨٥٧ إلى الحجاز لأداء فريضة الحج فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته، وبعد عودته إلى وطنه انتظم في سلك خدمة الحكومة مدة إحدى عشرة سنة على عهد الأمير المشار إليه، ثم لأمورٍ سياسية اضطر أن يفارق بلاده فارتحل عن طريق الهند إلى القطر المصري على نفقة الحكومة الإنكليزية ومنه إلى عاصمة تركيا.

وفي أثناء إقامته في الآستانة أحرز كرامةً عالية في عيون رجال السلطنة العثمانية لا سيما أمين عالي باشا الصدر الأعظم فعرفوا له فضله، وبعد ستة شهور عُيِّن عضوًا في مجلس المعارف فخدم وظيفته بنشاط وأشار إلى طرق لتوسيع نطاق العلوم خالفه فيها زملاؤه في المجلس المذكور. ولما كلفه الصدر الأعظم للخطابة في دار الشورى ارتجل خطبةً في الصنائع غالى فيها إلى حد أن أدمج النبوة في عداد الصناعات المعنوية، فشغب عليه طلبة العلم وشددت جريدة «الوقت» عليه النكير بما ألجأ الصدر إلى إبعاده عن تركيا، فزايلها في ٢٢ آذار سنة ١٨٧١ متوجهًا إلى وادي النيل حيث عينت له الحكومة المصرية راتبًا شهريًّا بمساعي رياض باشا. وهناك التفَّ حوله كثير من طلبة العلم الذين قرءوا عليه ونقلوا عنه وأذاعوا بين طبقات المصريين فنون الكلام الأعلى والحكمة النظرية وعلم الهيئة الفلكية وعلم التصوف وأصول الفقه الإسلامي، ولذلك دعاه تلامذته بفيلسوف الشرق وفاخروا به سائر علماء عصره. وإليك ما ورد عنه في كتاب «العروة الوثقى» المطبوع ببيروت:

وكانت مدرسته بيته من أول ما ابتدأ إلى آخر ما اختتم، ولم يذهب إلى الأزهر مدرسًا ولا يومًا واحدًا، نعم كان يذهب إليه زائرًا وأغلب ما كان يزوره يوم الجمعة، ثم وجَّه عنايته لحل عقل الأوهام عن قوائم العقول، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه.

وقد وصفه سليم عنحوري في ديوان «سحر هاروت» بالعبارة الآتية: «يلبس السواد ويتزيَّا بزي العلماء، طلي الكلام ذرب اللسان … مليح النكتة سمح الكفِّ طلق المُحيَّا وقور السمت، يجتنب النساء ويعظم نفسه عن الشهوات، يكره الحلو ويحب المر، وقلما خلت جيوبه من خشب الكينا والرواند يتنقل فيهما تفكهًا، يأكل الوجبة (مرة كل يوم) ولا يأكل إلا منفردًا، يكثر من شرب الشاي والتبغ وإذا تعاطى مسكرًا فقليلًا من الكونياك، وليس له من التآليف المطبوعة سوى «تتمة البيان في تاريخ الأفغان»، يكره الكتابة ويتثاقل منها، فإذا رام إنشاء مقالة ألقى على كاتب من مثل إبراهيم اللقاني إلقاءً قلَّما يراجعه ويصلحه، فيجيء من أول وهلة مسبوكًا مفرغ المعالي بقوالب لفظٍ لا تنقص عنها ولا تزيد.»

وكان السيد جمال الدين ذا إلمامٍ واسع في الشئون السياسية، إلا أنه كان متطرفًا في حرية الأفكار إلى درجةٍ متناهية، فأخذ يعقد الاجتماعات السرية والعلنية ويلقي الخطب الرنانة حاضًّا المصريين بلهجةٍ شديدة على المطالبة بحقوقهم والتنصل من ربقة الظلم. وقد وقف يومًا سنة ١٨٧٩ في «ساحة محمد علي» المعروفة بالمنشية الكبرى في الإسكندرية وخاطب الفلاح المصري على مسمع من محافظ المدينة وقواد الجيش والعلماء والأعيان قائلًا: «أنت أيها الفلاح المسكين تشقُّ قلب الأرض لتستنبت منها ما تسدُّ به الرمق وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟ لماذا لا تشق قلوب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟»

وكان السامعون ينظر بعضهم إلى بعض مندهشين؛ لأنهم لم يسمعوا في حياتهم مثل هذا الكلام، فوشوا به إلى الخديو الذي أمر بتوقيفه في دار المحافظة ونفيه إلى بلاده في شهر أيلول ١٨٧٩ فأُخذ غلسًا وقبض على من كان في حلقته، وأرسل هو وخادمه الأمين «أبو تراب» مخفورَين إلى السويس، وقبيل السفر أتاه السيد النقادي قنصل إيران بذلك الثغر ومعه نفر من تجار العجم وقدموا له مقدارًا من المال على سبيل الهدية أو القرض الحسن فرده وقال لهم: «احفظوا المال فأنتم إليه أحوج، إن الليث لا يعدم فريسةً حيثما ذهب.»، ونزل إلى الباخرة ميممًا البلاد الهندية وأقام بمدينة «حيدر آباد الدكن».

figure
جمال الدين الأفغاني وهو في مرضه الأخير.

ولما قدحت شرارة الثورة العرابية بمصر كلَّفته الحكومة الإنكليزية إلى الإقامة في مدينة كلكتا حتى استتبَّ الأمن في وادي النيل، ثم رخص له بالسفر إلى حيث شاء فجاء أوروبا وأقام في باريز نيفًا وثلاث سنين، وهناك أنشأ مع الشيخ محمد عبده المصري جريدة «العروة الوثقى» لدعوة المسلمين إلى الاتحاد سياسيًّا ودينيًّا تحت لواء الخلافة الإسلامية، فنشر منها ثمانية عشر عددًا ثم قامت الموانع دون استمرارها، كما سبق الكلام عن أخبارها في الباب السابق. وكتب في جرائد باريس فصولًا تبحث في سياسة روسيا وإنكلترا وتركيا ومصر فنقلت كثيرًا منها صحف إنكلترا، وجرت له أبحاثٌ فلسفية في «العلم والإسلام» مع رينان الكاتب الفرنسي الذي شهد له بقوة البرهان وغزارة المعارف، ثم شخص إلى لندن بإيعاز من اللورد شرشل واللورد سالسبري ليطلعا على رأيه في «المهدي» وظهوره في السودان.

وبعد رجوعه إلى فرنسا استقدمه إلى طهران ناصر الدين شاه الفرس على لسان البرق، فسار إليها وأكرم الشاه وفادته وجعله وزيرًا للحربية، فنال لدى أمراء تلك البلاد وسراتها وعلمائها منزلةً سامية حتى صاروا يتسابقون إلى منزله للاستفادة من علمه، فخشي الشاه من ذلك وتغيَّر عليه، فأدرك السيد جمال الدين ارتياب الشاه منه فاستأذنه في السفر تبديلًا للهواء، فسافر إلى روسيا واختلط بمشاهير أرباب العلم والسياسة فيها، وكتب في صحفها فصولًا طويلة تبحث في أحوال الدول الفارسية والأفغانية والعثمانية والروسية والإنكليزية، كان لها تأثيرٌ عظيم في عالم السياسة، وهنا ننقل ما رواه جرجي بك زيدان عن بقية أخبار صاحب الترجمة قال:

واتفق إذ ذاك فتح معرض باريس لسنة ١٨٨٩ فشخص جمال الدين إليها، فالتقى بالشاه في مونيخ عاصمة بافاريا عائدًا من باريس فدعاه الشاه إلى مرافقته، فأجاب الدعوة وسار في معيته إلى فارس، فلم يكد يصل طهران حتى عاد الناس إلى الاجتماع به والانتفاع بعلمه، والشاه لا يرتاب من أمره كأن سياحته في أوروبا محت كثيرًا من شكوكه، فكان يُقرِّبه منه ويوسطه في قضاء كثير من مهام حكومته ويستشيره في سن القوانين ونحوها، فشق ذلك على أصحاب النفوذ وخصوصًا الصدر الأعظم فأسرَّ إلى الشاه أن هذه القوانين وإن تكن لا تخلو من النفع فهي لا تُوافق حال البلاد فضلًا عما ستئول إليه من تحويل نفوذ الشاه إلى سواه، فأثر ذلك في الشاه حتى ظهر على وجهه، فأحس جمال الدين بالأمر فاستأذنه في المسير إلى بلدة «شاه عبد العظيم» على ٢٠ كيلومترًا من طهران فأذن له، فتبعه جمٌّ غفير من العلماء والوجهاء وكان يخطب فيهم ويستحثُّهم على إصلاح حكومتهم، فلم تمضِ ثمانية أشهر حتى ذاعت شهرته في أقاصي بلاد الفرس وشاع عزمه على إصلاح إيران، فخاف ناصر الدين عاقبة ذلك فأنفذ إلى شاه عبد العظيم خمسمائة فارس قبضوا على جمال الدين وكان مريضًا، فحملوه من فراشه وساقوه يخفره خمسون فارسًا إلى حدود المملكات العثمانية، فعظم ذلك على مريديه في إيران فثاروا حتى خاف الشاه على حياته.

أما جمال الدين فمكث في البصرة ريثما عادت إليه صحته، فشخص إلى لندرا وقد عرفوه الإنكليز من قبلُ فتلقَّوه بالإكرام ودعوه إلى مجتمعاتهم السياسية وأنديتهم العلمية ليروه ويسمعوا حديثه، وكان أكثر كلامه معهم في بيان حال الشاه وتصرفه في المملكة وما آلت إليه حالها في عهده مع حث الحكومة الإنكليزية على السعي في خلعه، وفيما هو في ذلك ورد عليه كتاب من المابين الهمايوني بواسطة رستم باشا سفير الدولة العلية في لندرا إذ ذاك أن يقدم إلى الآستانة، فاعتذر لأنه في شاغلٍ وقتي لإصلاح بلاده، فورد عليه كتابٌ آخر وفيه ثناء وتحريض، فأجاب الدعوة تلغرافيًّا على أن يتشرف بمقابلة جلالة السلطان ثم يعود، فقدم الآستانة سنة ١٨٩٢ فطابت له فيها الإقامة لما لاقاه من التفات الحضرة السلطانية وإكرام العلماء ورجال السياسة، وما زال فيها مُعزَّزًا مكرمًا وجيهًا محترمًا حتى داهمه السرطان في فكه أواخر سنة ١٨٩٦ وامتد إلى عنقه، فتوفاه الله في ٩ مارس سنة ١٨٩٧ واحتفل بجنازه ودفنه في مدفن «شيخلر مزارلغي» قرب «نشان طاش».

صفاته الشخصية

كان أسمر اللون بما يشبه أهل الحجاز، ربعة ممتلئ البنية، أسود العينين، نافذ اللحظ، جذاب النظر مع قصر فيه، فإذا قرأ أدنى الكتاب من عينَيه ولكنه لم يستخدم النظارات، وكان خفيف العارضين مسترسل الشعر بجبة وسراويلات سوداء تنطبق على الكاحلين وعمامةٍ صغيرةٍ بيضاء على زي علماء الآستانة.

طعامه

كان قانتًا قليل الطعام لا يتناوله إلا مرة في النهار ويعتاض عما يفوته من ذلك بما يشربه من منقوع الشاي مرارًا في اليوم، والعفة في الطعام لازمة لمن يعمل أعمالًا عقلية؛ لأن البطنة تذهب الفطنة، وكان يدخن نوعًا من السيكار الإفرنجي الجيد، ولشدة ولعه بالتدخين وعنايته في انتقاء السيكار لم يكن يركن إلى أحد من خدمه في ابتياعه فيبتاعه هو بنفسه.

مسكنه

كان يقيم في أواخر أيامه بقصر في «نشان طاش» بالآستانة أنعم عليه به السلطان وفيه الأثاث والرياش وعربة من الإصطبل العامر يجرها جوادان، وأجرى عليه رزقًا مقداره خمس وسبعون ليرةً عثمانية في الشهر، فكان قبل مرضه الأخير يقيم معظم النهار في منزله، فإذا كان الأصيل ركب العربة لترويح النفس في متنزه «كاغد خانة» بضواحي الآستانة، وكان كثير القيام لا ينام إلا الغلس إلى الضحى.

مجلسه وخطابه

كان أديب المجلس، كثير الاحتفاء بزائريه على اختلاف طبقاتهم، ينهض لاستقبالهم ويخرج لوداعهم، ولا يستنكف من زيارة أصغرهم على امتناعه من زيارة أكبرهم إذا ظن في زيارته تزلُّفًا. وكان ذا عارضة وبلاغة لا يتكلم إلا اللغة الفصحى بعباراتٍ واضحةٍ جلية، وإذا آنس من سامعه التباسًا بسط مراده بعبارةٍ أوضح، فإذا كان السامع عاميًّا تنازل إلى مخاطبته بلغة العامة، وكان خطيبًا مصقعًا لم يقم في الشرق أخطب منه، وكان قليل المزاح رزينًا كتومًا قد يخاطب عشرات من الناس في اليوم فيبحث مع كلٍّ منهم في موضوع يهمه، فإذا خرج جليسه كان خروجه آخر عهده بذلك الموضوع حتى يعود هو إليه بشأنه.

أخلاقه

كان حر الضمير، صادق اللهجة، عفيف النفس، رقيق الجانب، وديعًا مع أنَفة وعظمة، ثابت الجأش، قد يساق إلى القتل فيسير إليه سير الشجاع إلى الظفر. وكان راغبًا عن حطام الدنيا لا يذخر مالًا ولا يخاف عوزًا، وكان مقدامًا حاثًّا على الإقدام فلا يخرج جليسه من بين يديه إلا وقد قام في نفسه محرض على العلى منشط على السعي في سبيلها، ولكنه كان على فضله لا يخلو من حدة المزاج ولعلها كانت من أكبر الأسباب لما لاقاه من عواقب الوشاية.

عقله

كان ذكيًّا فطنًا حاد الذهن سريع الملاحظة يكاد يكشف حجب الضمائر ويهتك أسرار السرائر، دقيق النظر في المسائل العقلية قوي الحجة ذا نفوذٍ عجيب على جلسائه، فلا يباحثه أحد في موضوع إلا شعر بانقياد إلى برهانه وربما لا يكون البرهان بحد ذاته مقنعًا، وكان مع ذلك قوي الذاكرة حتى قيل إنه تعلم اللغة الفرنساوية أو بعضها وصار يقدر على الترجمة منها ويحفظ من مفرداتها شيئًا كثيرًا في أقل من ثلاثة أشهر بلا أستاذ إلا من علَّمه حروف هجائها يومَين.

علومه

كان واسع الاطلاع في العلوم العقلية والنقلية وخصوصًا الفلسفة القديمة وفلسفة تاريخ الإسلام والتمدن الإسلامي وسائر أحوال الإسلام، وكان يعرف اللغات الأفغانية والفارسية والعربية والتركية والفرنساوية جيدًا مع إلمام باللغتين الإنكليزية والروسية، وكان كثير المطالعة لم يفته كتاب كتب في آداب الأمم وفلسفة أخلاقهم إلا طالعه، وأكثر مطالعاته في اللغتَين العربية والفارسية.

آماله وأعماله

يؤخذ من مجمل أحواله أن الغرض الذي كان يصوب نحوه أعماله والمحور الذي كانت تدور عليه آماله توحيد كلمة الإسلام وجمع شتات المسلمين في سائر أقطار العالم في حوزة دولةٍ واحدة إسلامية تحت ظل الخلافة العظمى، وقد بذل في هذا المسعى جهده وانقطع عن العالم من أجله؛ فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبًا، ولكنه مع ذلك لم يتوفق إلى ما أراده، فقضى ولم يدون من بنات أفكاره إلا رسالة في نفي مذهب الدهريين ورسائل متفرقة في مواضيع مختلفة قد تقدم ذكرها. ولكنه بثَّ في نفوس أصدقائه ومريديه روحًا حية حركت هممهم وحدَّدت أقلامهم فانتفع الشرق وسوف ينتفع بأعمالهم.

ميخائيل عورا

منشئ جريدة «الحقوق» في باريس ومؤسس مجلة «الحضارة» وجريدة «البيان» ومحرر صحيفة «الزمان» في القاهرة ومراسل جريدتَي «الأهرام» و«المحروسة» وغيرهما من الصحف السيارة.

***

أسرته

قليلةٌ هي العائلات السورية التي يتسلسل فيها الكُتَّاب والمنشئون والخطاطون من قديم الزمان بلا انقطاع، وأقدم عائلة استحقت هذه الكرامة — على ما نعلم — أسرة «عورا» التي قضى أفرادها السنين الطوال بين المحابر والأقلام أو في خدمة دواوين الحكومة العثمانية والخديوية المصرية، فإنها نشأت في مدينة صيدا أولًا ثم انتقلت منها إلى عكا في عهد وإليها أحمد الجزار. ويتصل نسبها بميخائيل جدها الأعلى الذي عاش في أوائل القرن السابع عشر، غير أن أخبارها طمس عليها الزمان ولم يحفظ منها التاريخ سوى ما كتبه سليلها إبراهيم (١٧٩٦–١٨٦٣) أحد أحفاد الجد المشار إليه أو ما نقله بعض الرواة الموثوق بصدقهم.

أما منشأ هذه الأسرة فقد روى البعض أنه من أصلٍ يوناني، وذهب غيرهم إلى أنه يتصل بالكونت عورا أو «قنطورا» الذي كان حاكمًا على حاصبيا سنة ١١٧٣ في عهد الصليبيين، وقد ورد ذكر هذا الرجل في كتاب «تاريخ الأعيان في جبل لبنان» صفحة ٤٤-٤٥ لمؤلفه الشيخ طنوس الشدياق اللبناني، وهذا نصه بالحرف الواحد:

وكانت الإفرنج حينئذٍ قد استولت على وادي التيم وتوطنوا حاصبيا وحصنوها بالآلات الحربية والعساكر الوفية، فلما بلغهم نزول آل شهاب بعشايرهم في الظهر الأحمر جمع قنطورا قايدهم خمسين ألف مقاتل وطلب الإمداد من ذفاتر الإفرنجي صاحب قلعة الشقيف وما يليها، فأمده بخمسة عشر ألف مقاتل وزحف بعساكره لقتال الشهابيين، فلما التقى الجيشان استلَّ الأمير منقذ سيفه وتبعه قومه وغاروا على الإفرنج فكسروهم وقتلوا منهم ثلاثة آلاف رجل، وقتل من عشاير الشهابيين ثلاثماية فارس فدفنوهم بثيابهم وكتبوا إلى نور الدين يبشرونه، ولما طلع النهار زحف الجيشان للقتال فصرخ أحد قواد الإفرنج بالعربية «ليبرز إليَّ أشجعكم!» فبرز إليه الأمير نجم ابن الأمير منقذ وهجما على بعضهما وتضاربا، فلم يقدر أحدهما على الآخر فتعانقا حتى سقطا عن جواديهما على الأرض، فاستلَّ الأمير نجم خنجر الإفرنجي وضربه به فقتله، فانكسرت الإفرنج إلى الحولانية وقتل منهم خلقٌ كثير، وقتل من عشاير الشهابيين ستماية رجل وانهزم قنطورا بخمسماية رجل إلى حاصبيا، فأسر الشهابيون ذلك اليوم خمسماية أسير من الإفرنج وأرسلوهم إلى نور الدين فأجابهم مادحًا شجاعتهم وجهادهم، وفي اليوم العاشر قصد الشهابيون الإفرنج وتدرجوا إلى حاصبيا ليلًا فتملَّكوها بالسيف وبقي قنطورًا في القلعة مع خاصته الشجعان محاصرًا عشرة أيام، ثم تملكها الشهابيون بالسيف وقتلوا قنطورًا وأصحابه وأرسل الأمير منقذ رءوسهم إلى نور الدين، فسر بذلك وولاه أميرًا على تلك البلاد التي فتحها وأرسل له خلعةً سنية مع أحد خواصه، ولما بلغ ذفاتر الإفرنجي صاحب قلعة الشقيف ما جرى أرسل يطلب الصلح.

وأقدم من اشتهر من آل عورا المعلم ميخائيل بن إبراهيم بن حنا بن ميخائيل فإنه وُلد في سنة ١٧٤٦ وكان بارعًا في اللغات العربية والفارسية والتركية، فأحبَّه أحمد الجزار والي عكا لفضله وأدبه واستقامة مبادئه، وجعله بوظيفة «ديوان أفنديسي» فخدمها إلى نهاية أجله في ٥ شباط ١٧٧٦.

وقام من بعده بِكر أولاده حنا (١٧٦٣–١٨٢٨) الذي خلفه في منصبه وعمره ١٦ سنة وكان ذا خطٍّ حسن وأدبٍ جم، فلما افتكر الجزار بإعلان الحرب على الأمير بشير الشهابي الكبير والاستيلاء على جبل لبنان كما استولى على بلاد صفد وبلاد المتاولة أوعز إلى المعلم حنا عورا بمرافقة سليم باشا رئيس العساكر في الحملة المذكورة، وقد رافقهم بعض القواد كسليمان باشا وعلي باشا وسليم باشا الصغير، فبدلًا من محاربة اللبنانيين اتفق سليم باشا مع قواده على الرجوع إلى عكا بعد خروجهم منها للفتك بالجزار تخلصًا من مظالمه، غير أن الجزار أحسَّ بالمؤامرة فقابلهم بعساكر القلعة وبدد شملهم، وذهب المعلم حنا حينئذٍ إلى مدينة صور فأقام فيها حتى استقدمه إليه الجزار وأعاده إلى وظيفته، ثم أمر بحبسه في أحد الأيام ظلمًا وبتعذيبه ضربًا على رجليه حتى تناثر اللحم من ساقيه، وبعد ذلك أصدر أمره إلى السجان بقطع أنوف بعض المحابيس وبقلع عيون البعض الآخر فكان نصيب المعلم حنا أن قطعوا أنفه، فتظاهر الجزار بالاستياء من فعل السجان وأمر بقتله، وأطلق سبيل المعلم حنا الذي هرب إلى جبل لبنان ثم إلى دمشق، فلبث حنا هناك إلى سنة ١٨٠٤ وفيها عاد إلى عكا مع سليمان باشا واليها الذي جعله رئيسًا لديوانه، ثم توفي سنة ١٨٢٨ في عهد عبد الله باشا والي الأيالة المذكورة، وقد رزقه الله سبعة أبناء نجباء اشتهر منهم ميخائيل وإبراهيم وجبرائيل وروفائيل، فاعتنى بتربيتهم وتدريبهم على سنن الآداب فنبغوا في الكتابة وقضوا حياتهم في هذه المهنة الشريفة.

فأكبرهم ميخائيل (١٧٩٤–١٨٦٨) وضع مواد «تاريخ سوريا» التي جمعها ابنه يوسف من بعده وتوسع فيها كما سيأتي الكلام، وثانيهم جبرائيل الذي وُلد في تشرين الثاني ١٨٠٤ في دمشق وخدم الحكومة المصرية في عكا على عهد إبراهيم باشا، ثم انتقل إلى خدمة الحكومة العثمانية في بيروت سنة ١٨٤٠ عندما صارت هذه المدينة مركزًا لأيالة صيدا الملغاة، فأحرز مكانةً رفيعة وجاهًا عريضًا بآدابه وعفة نفسه. ومن مآثره أنه جمع في كراسٍ مخصوص «وقائع إبراهيم باشا المصري» وكتب أخبار الأربعة عشر واليًا الذين حكموا أيالة صيدا إلى سنة ١٨٦٠ ميلادية، وتوفي سنة ١٨٧١ فنقشوا على ضريحه هذا التاريخ الشعري:

شهم قضى من آل عورا نحبه
فغدت عيون المكرمات تسيل
سبعٌ وستونٌ سنوه قد مضت
وبصدق خدمة ربه مشغول
ولذا فضائله تؤرخ قائمٌ
في خدمة الرحمن جبرائيل
سنة ١٨٧١

وثالث أبناء المعلم حنا ابن المعلم ميخائيل عورا كان روفائيل الذي وُلد في شهر أيلول سنة ١٨٠٦ في عكا، فدخل في الخدم الأميرية حتى صار سنة ١٨٤٥ رئيسًا للديوان في عهد مصطفى باشا والي أيالة صيدا، وفي عام ١٨٦٥ تعين مديرًا لتحريرات بيروت فلبث في هذه الوظيفة عشر سنوات حتى استقال منها لمرض طرأ على عينَيه، وكان منشئًا بليغًا في اللغات العربية والتركية والفارسية مع إلمام بالإيطالية، واشتهر شهرة خاصة بإجادة الخطوط على اختلاف أشكالها ونسخ كتبًا عديدة من دينية وعلمية، ووضع جدولًا بديعًا لمطابقة السنين والشهور والأيام القمرية على السنين والشهور والأيام الشمسية، وجمع نبذًا فكاهية في كتابٍ خاص سماه «تحف وطرف الزمان» لم يُطبع، وقال الشعر منذ صباه ومن نظمه نذكر هذا التخميس:

إذا ما الشوق في قلبي ألمَّا
تذكرت الحبيب فزدت سقما
يذكرني الهوى شوقًا ولما
أمر على الديار ديار سلمى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
نسيم رسائل الأحباب هبي
على روحي ولحماني ولبي
خليلي سر بنا أحياء حبي
فما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا

ولما كان قليل الحرص على صيانة منظوماته فقد لعبت بأكثرها يد الضياع، وانتقل إلى جوار ربه في ٤ آب ١٨٧٩ في بيروت فدفن في ضريحٍ خاص ونقشت فوقه هذه الأبيات:

رمس به من بني العوراء مرتحل
أجرى العيون لدى ترحاله أسفا
ناحت عليه العلى والمكرمات كما
أبكى المحابر والأقلام والصحفا
مرت على الخير والإحسان مدته
حتى ثوى في جوار الله منصرفا
فقلت لما مضى أرِّخ لساحته
في جانب العرش روفائيل قد وقفا
سنة ١٨٧٩

ورابع أنجال المعلم حنا ابن المعلم ميخائيل عورا بل أشهرهم كان إبراهيم الذي ولد بتاريخ ٣١ آب ١٧٩٦ في صور بينما كان والده فارًّا من وجه الجزار، فتفقَّه باللسان العربي وأحرز شيئًا من اللغات التركية والإيطالية واليونانية، واتصل بسليمان باشا وعبد الله باشا من ولاة عكا فخدم في ديوانهما حتى سقطت سوريا سنة ١٨٣٠ فيما بعدُ بيد العساكر المصرية، فأبقاه إبراهيم باشا المصري في وظيفته ثم غضب عليه بدسيسة بعض الحساد وألقى القبض على أفراد عائلته وزجَّهم في الحبس، فتمكن إبراهيم من الهرب بواسطة قنصل روسيا وسافر إلى جزيرة قبرص، ولم يزايلها إلا بعد خروج المصريين من سوريا، وكان قدومه إليها مع الأسطول العثماني، ومن ذلك الحين عاد إبراهيم إلى خدمة الحكومة العثمانية فقام بمهام وظيفته بكل إخلاص ثم تركها لمعاطاة التجارة حتى توفاه الله في ٢ نيسان ١٨٦٣ في بيروت، فنظم الشيخ ناصيف اليازجي مؤرخًا وفاته في هذين البيتَين:

لا تجزعوا يا بني العوراء واصطبروا
بفقد ذخرٍ لكم بالأمس فقد فُقدا
من فوقه أحرف التاريخ ناطقة
في طاعة الله إبراهيم قد رقدا
سنة ١٨٦٣

وكان إبراهيم طاهر الذيل عالي الهمة قوي الحجة صبورًا على الأشغال راغبًا في العلوم لم يقع بيده كتاب إلا نسخه بخطه حتى أربى عدد المخطوطات التي كتبها بيده على المائتين عدًّا، إلا أن القسم الوافر منها غرق في مينا يافا ولم يسلم سوى ما هو محفوظ عند عائلته وفي بعض خزائن الكتب، وكان له ولع بتدوين أخبار أيامه وهذا ما دعاه إلى تأليف «تاريخ سليمان باشا» و«تاريخ عبد الله باشا» وهما من ولاة عكا، وجمع شذرات من حوادث سنة ١٢٤٨ إلى سنة ١٢٥٥ هجرية، وله رسائل وكراريس شتى مطبوعة بحث فيها عن الحسابين اليولي والغريغوري (أي الشرقي والغربي)، وله أيضًا مقالة في «الذمة» وأخرى في «صحة الاعتقاد» وغيرهما من المسائل الدينية لم تطبع، ونال في شهر رجب ١٢٦٨ هجرية «الوسام المجيدي» من السلطان عبد المجيد ثم وسام «القديس سلوسترس» في ٢٧ آذار ١٨٦٠ من البابا بيوس التاسع.

figure
حنا عورا؛ مراقب الجرائد سابقًا في بيروت.

وبين آل عورا الذين اشتهروا بخدمة المعارف حنا بن إبراهيم ابن المعلم حنا، وُلد بتاريخ ٢٩ حزيران ١٨٣١ في عكا وقضى حياته كلها في خدمة الحكومة العثمانية، فتقلب في مأمورياتٍ شتى وتولى في بيروت مديرية التحريرات ووظيفة مميز لقلم المكتوبي وعضوية محكمة الاستئناف ومراقبة المطبوعات والجرائد، ولما تشكَّلت حكومة لبنان بعد حوادث سنة ١٨٦٠ جعله داود باشا كاتبًا خاصًّا له، ومما يؤثر عنه أنه أول من هيأ المواد لنظام جبل لبنان سنة ١٨٦١ فكتبها بخط يده طبقًا لحاجة المكان والسكان بإيعاز من داود باشا الذي حوره بالاشتراك مع فؤاد باشا، وهو نفس النظام الذي أرسل بعد ذلك إلى القسطنطينية حيث جرى التصديق عليه من الدولة العثمانية والدول الكبرى الموقِّعة على النظام المذكور، وكانت وفاة حنا في ٩ تشرين الأول ١٩٠٧ وكان حائزًا على الرتبة المتمايزة والوسام المجيدي، ونسخ بيده بعض كتب وكان يعرف اللغات العربية والتركية واليونانية والإيطالية والفرنسية.

ومن آل عورا يوسف بن ميخائيل ولد سنة ١٨٢٨ وعاش في القسطنطينية ومات فيها سنة ١٩١٢ بالغًا شيخوخةً كبيرة، وقد ترك آثارًا كتابية أشهرها «تاريخ بونابرت» الذي وصفه جودت باشا الوزير العثماني قائلًا إنه شبيه بتاريخ نقولا الترك، وله في مدح نابليون الثالث قصائدُ نفيسة أيضًا، وجمع مواد «تاريخ سوريا» التي وضعها أبوه ميخائيل وزاد عليها ورتَّبها فجاءت وافية بالمقصود.

ومنهم بتراكي أخو يوسف بن ميخائيل وُلد في نيسان ١٨٣١ وتولى رئاسة كتاب الجمرك ثم أمانة الصندوق في لواء بيروت، ولما تشكلت المحاكم العدلية تعين مدعيًا عموميًّا للواء حماة، ثم استقال من وظائف الحكومة وتعاطى مهنة المحاماة في دمشق حتى توفاه الله في ٧ كانون الثاني ١٨٨٠ ميلادية، وكان بتراكي من أدباء عصره فإنه نشر مقالاتٍ عديدة في مجلة «الجنان» وجريدة «الجنة» البستانيتين، وترجم من اللسان التركي إلى العربي «قانون الإجراء» للمعاملات الجزائية وبعض شذرات في الحقوق وغير ذلك.

ترجمته

هو ميخائيل بن جرجس بن ميخائيل ابن المعلم حنا ابن المعلم ميخائيل بن إبراهيم بن حنا بن ميخائيل عورا وأمه حنة بنت ديمتري نحاس، وُلد سنة ١٨٥٥ في عكا، وما كاد يفطم عن الرضاع حتى فقد أباه فاعتنت والدته بتربيته، ولما تأسست المدرسة البطريركية سنة ١٨٦٥ في بيروت دخل إليها فكان من بواكير تلامذتها ونوابغهم، وتلقى فيها العلوم العقلية والنقلية وأحكم معرفة اللغات العربية والإيطالية والفرنسية والتركية فبرع فيها كلها مع إلمام بالإنكليزية. وكان أستاذه الشيخ ناصيف اليازجي فأخذ عنه أسرار اللسان العربي حتى صار يُشار إليه بالبنان في براعة الإنشاء شعرًا ونثرًا، وبعد إحرازه شهادة المدرسة أكبَّ في بيته على المطالعة ثم درس الفقه على الشيخ يوسف الأسير فأحكم أصوله.

ولما أنشأت الحكومة الفرنسية سنة ١٨٧٨ معرضها العام طمحت نفسه إلى التجارة، فذهب بالبضائع الشرقية إلى باريس ولكن تجارته لم تفلح فخسر مالًا كثيرًا، وفي أثناء إقامته في عاصمة الفرنسيس أصدر بتاريخ ١٦ نيسان ١٨٨٠ جريدة «الحقوق» التي عطلها بعد وقتٍ قصير بداعي سفره إلى مصر، وهناك عرفت الحكومة الخديوية فضله فجعلته مديرًا لمكتب الترجمة، ثم ترك وظيفته وأنشأ في ٢٢ آيار ١٨٨٢ مجلة «الحضارة» التي ما كادت تبرز لعالم الوجود حتى احتجبت بظهور الفتنة العرابية المشهورة. ولما كانت خطته السياسية تقبيح سياسة مصطفى رياض باشا رئيس الوزراء ألقت الحكومة المصرية القبض عليه، ولكنه نجا بفضل تداخل قنصل فرنسا فلجأ إلى بيروت ولبنان فلبث فيهما مدة سنة.

وبعد استتاب الراحة في وادي النيل وصدور العفو العام عن المتهمين بقضايا سياسية عاد إلى القاهرة فحرر في جريدة «الزمان» لصاحبها علكسان صرافيان، وقضى مدةً يراسل جريدتي «الأهرام» و«المحروسة» اللتين كان مركزهما حينئذٍ في الإسكندرية، وفي ١٣ آذار ١٨٨٤ أصدر بالشركة مع يوسف شيت صحيفة «البيان» التي عاشت ثلاث سنين ونالت نصيبًا وافرًا من النجاح، ثم ترك مهنة الصحافة وتعاطى فن المحاماة لدى المحاكم فاكتسب ثقة جميع المتعاملين معه، وفي سنة ١٩٠٦ سافر إلى أوروبا انتجاعًا للعافية فأدركته المنية في شهر تموز في مدينة نابولي بينما كان مستعدًّا للرجوع إلى مصر.

وكان حاد الذكاء صائب الرأي حر الضمير واسع الاطلاع يجيد الترجمة من اللغة العربية إلى الفرنسية والتركية وبالعكس، وكان كثير الإعجاب باللغة العربية فخاض عبابها واتسع في كشف غوامضها وإظهار محاسنها، قيل إنه ترك بعض التآليف النفيسة التي لعبت بها أيدي الضياع في أثناء هربه من وجه الحكومة المصرية. ومن مآثره الأدبية رواية «منتهى العجب في آكلة الذهب» المطبوعة عام ١٨٨٥ ورواية «الجنون في حب مانون» وغيرهما، وترك خزائنَ غنية بالأسفار الكثيرة والمخطوطات النادرة لا سيما في العلوم الفلسفية والشرعية، وشغف بنظم الشعر منذ حداثته ولكنه قلل منه في آخر حياته، ومن شعره الرقيق قصيدة في رثاء أديب إسحاق سنة ١٨٨٥ قال:

الصبر ليس على فراقك يحسن
ولمثل هذا الخطب تبكي الأعين
يا من تحركت النفوس تأسفًا
لفراقه هيهات بعدك تسكن
فلئن تمكَّن منك سلطان الردى
لَنفوسنا فيها الأسى متمكن
يا عين جودي بالبكا وتكلَّمي
بمدامعٍ إن المدامع ألسن
هل ثَمَّ عين لم تجد بدموعها
لهفًا عليك ومقلة لا تحزن
أو ثَم قلبٌ لم يمزقه الأسى
أو هل هنالك قوة لا توهن
تالله ما الدنيا بدار يبتغى
فيها الثوا ويطيب فيها المسكن
كلا ولا للدهر عهد يرتجى
منه الوثوق وليس منه مأمن
والأرض يورثها الإله عباده
وهمو مسيء نفسه أو محسن
كأس الممات على البرية شربه
حتم ومنه ليس ينجو ممكن
كيف النجاة من الممات وهذه
جند المنية بالأسنَّة تطعن
أم كيف يطمع في الصفاء فتًى له
بالطين والماء المهين تكون
والمرء مرمى الموت فهو إذا نجا
منه النهار ففي غد لا يمكن
لا ينفع الأسف الغموس ولا الأسى
الكف أولى والتصبر أحسن

يوسف باخوس

مؤسس جريدة «المستقل» في غلياري ومحرر صحيفة «البصير» في باريس.

***

أسرته

من العائلات الوجيهة في جبل لبنان أسرة «باخوس» التي تنتمي إلى أصلٍ آثوري من بلاد بين النهرين، وقد جاء سوريا أحد أفرادها في القرن السابع عشر وكان على مذهب السريان اليعاقبة القائلين بطبيعةٍ واحدة في المسيح، فانقسمت سلالته فيها من بعده إلى فرعَين كبيرَين: أولهما سكن في دمشق فتبع مذهب السريان الكاثوليك، وأقام الآخر في قصبة «غزير» من جبل لبنان فانحاز إلى الطائفة المارونية.

وقد اشتهر من الفرع الثاني اللبناني أبو أنطون يوسف الذي كان في سنة ١٨٠٥ مديرًا لأشغال الأمير حسن الشهابي أخي الأمير بشير الثالث الكبير، ومنهم الأستاذ الفاضل نجيب بن فارس الذي عولنا على أبحاثه في أخبار عمه يوسف صاحب هذه الترجمة، ومنهم سليم بك ناظر إدارة القسم المالي في محافظة القاهرة، ثم خليل بن طنوس منشئ جريدة «الروضة» حالًا، ونعوم بن جبرائيل الذي انتخبه سكان قضاء كسروان نائبًا عنهم في مجلس إدارة لبنان، ثم جددوا انتخابه بإجماع الآراء في شهر حزيران ١٩١٣ لما تزين به من الصفات التي رفعته بكل استحقاق إلى هذا المنصب الشريف. ومن أشهر العائلات المرتبطة بالنسابة مع أسرة باخوس آل أصفر وثابت وتيان وخضرا ودوماني وخوام وسواهم، وقد عُرف بنو باخوس بغيرتهم الوطنية وبكثير من الأعمال المبرورة.

ترجمته

هو يوسف بن حبيب باخوس وُلد في بلدة «غزير» قاعدة كسروان في ٥ آيار من سنة ١٨٤٥ ولما بلغ أشده أدخله والده مدرسة «ماري عبدا هرهريا» الشهيرة في ذلك الحين في عرامون بجوار غزير، فدرس فيها اللغات العربية والإيطالية واللاتينية والسريانية والعلوم الفلسفية والتاريخية وبرع في جميعها لا سيما في اللغة العربية التي جعلها غاية همِّه ومرمًى لسهمه.

وكان رئيسه ومدرسوه الأفاضل يعجبون بتوقُّد فؤاده وحدة ذكائه وخصوصًا بغرابة حافظته وسرعة خاطره، وبعد أن أنهى دروسه في المدرسة المشار إليها درس الفقه وقوانين الدولة العثمانية على الأب العالم الخوري أرسانيوس الفاخوري، ثم عُيِّن مدرسًا للبيان في اللغة العربية في مدرسة عينطورا للآباء اللعازريين على عهد رئاسة الأب كوكيل الطيب الذكر.

وفي مدة وجوده في هذه المدرسة انصبَّ على درس اللغة الفرنسية بمزيد الهمة والنشاط حتى حذقها ومهر فيها، وهناك ألَّف كتابه «الهدية السنية لأبناء المدرسة اللعازرية»، وهو مؤلَّفٌ جزيل الفائدة قد ضمَّنه جل القواعد الصرفية والنحوية في اللغة العربية جرى فيه مأمورًا على الخطة المتبوعة هناك في تعليم القواعد الإفرنسية، وقد نشر بالطبع مرتين.

ثم ما لبث أن ترك مدرسة عينطورا وانتدبه رهبان دير المخلص بالقرب من صيدا لتعليم الفلسفة والآداب العربية في مدرستهم، ومن تلاميذه فيها جرمانوس معقد مطران اللاذقية وأفتيميوس زلحف مطران صور وغيرهما من مشاهير الرهبان، ثم أبحر بعد سنتَين إلى الآستانة لقضاء بعض المهام فنال إذ ذاك حظوة في أعين رجال الدولة العظام، وامتدح بعضهم بقصائدَ غراء نذكر منها واحدة قد نظمها في مدح صفوت باشا وزير الخارجية في ذلك الحين قال في مطلعها:

هي المراتب قد عزت مبانيها
والحزم والعزم طبعًا من مباديها
وذي المعالي فمن رام الدراك لها
بالفخر فالجد يؤتيه معاليها
لا يدرك المجد إلا فارسٌ بطل
ولا يؤم المعالي غير واليها
لا بد للمجد من شهمٍ ومن نبهٍ
يزهى به المجد في عليائه تيها
كالفرد صفوت من تاهت بعزته
مراتب المجد دانيها وقاصيها
هو الوزير الذي شاعت مآثره
في المجد لا يبرح التاريخ يرويها
وأقبلت شعراء العصر تنشدها
وتستهل القوافي من معانيها

ومنها في الختام:

حمدًا وشكرًا لمولانا العزيز على
إنعامه حين أعطى القوس باريها
سلطاننا المالك الدنيا بقبضته
مولى الخلافة ملجاها وكاليها
يا رب خلَّد مدى الأيام شوكته
واحفظ عدالته وردًا لظاميها
يا رب نعِّم رعاياه برأفته
وغيث نعمته لا زال يحييها

ثم آب إلى بيروت واشتغل في إنشاء الفصول الفلسفية في كتاب «آثار الأدهار» لصاحبَيه سليم شحادة وسليم الخوري، وعُيِّن مدرسًا للفصاحة العربية في مدرسة الحكمة المارونية لسيادة مؤسسها المطران يوسف الدبس الذي قدَّره حق قدره فأجلَّه ورفع منزلته، وله في مدح سيادته القوافي المتينة والمنظومات الرائعة، منها قصيدة في بيان «محاسن اللغة العربية» رفعها لسيادة الحبر المشار إليه قال في مطلعها:

للشعر في خطرات الفكر آمال
وللقصائد إعراض وإقبال
وللعروض بحار عم طالبها
طورًا نداها وطورًا خاب تسآل
وللمعاني إذا جادت بها درر
يزينها النظم لا فعل وفعال
بيانها السحر من أسراره انكشفت
غوامض الحكم يروي سعدها الفال

ومنها:

نطوي وننشر من تدبيجها غُررًا
والطبق والجمع والتفريق إشكال
حلت عقود معاليها بتوريةٍ
حلت بها الذوق والتشبيه سلسال
عزَّت فلا وصل إلا من مكارمها
يرجى وبالفضل للآمال آجال
تلقي المدائح إسنادًا بمسندها
وتستقلُّ بها في الحمد أقوال
عن حسنها غرر الأشعار قد قصرت
وصفًا وبالقصر إحسان وإجمال
أنعم بها فهي إعرابية سفرت
وأسعد بطلعتها فالسعد إقبال
تفرَّدت بين أبكار اللغي وعلت
قدرًا وعزَّت بها بالفخر أجيال
صحَّت بإعلالها الأفهام واعتصمت
حكمًا وفي صحة الأحكام إعلال
وقد نحت نحوها الأفكار وارتفعت
بنصبها منصب التفضيل إبطال
تنازعتها معاني الوصف واشتغلت
بنعت عاملها الموصوف أشغال

ومنها:

وكم رجالٍ أفاض الدهر شهرتهم
براية المجد في مضمارها جالوا
هيهات هيهات إدراك لشوطهمُ
فدون ذلك أخطارٌ وأهوال
وكل علم وفن ظل ينشدهم
بدائع الشكر تقريظًا لما نالوا
لا زال يزهو سناهم كلما خطرت
للشعر في خطرات الفكر آمال
وفي ٣٠ تموز سنة ١٨٧٩ دعته الحكومة الإيطالية بواسطة قنصلها في بيروت ليتولى تحرير جريدةٍ عربية «المستقل» تطبع في غلياري Cagliari في سردينيا Sardaigne من أعمال إيطاليا، وشأنها أن تدرأ عن المصالح العربية وتدافع عن حقوقها وأبنائها، فأجاب إلى هذه الدعوى بطيب الخاطر وغاية ما يتمناه وقوف النفس للدفاع عن حقوق أمته العربية. وواقع الأمر أن أعداد «المستقل» الأولى ما تخطَّت ولا تعدَّت حد الإفصاح عن مجد العرب الباسق السابق وعن إمحاء ذلك البهاء في أخريات الأيام.

فغادر هذه الأصقاع مريدًا أولًا رومة العظمى حيث حظي بمقابلة البابا لاون الثالث عشر الذي رمقه بعين الرعاية والالتفات متمنيًا له الفوز والنجاح في مهمته الجديدة، وبقي يتنقل في البلاد الإيطالية من مكان إلى آخر متفقدًا ما فيها من جميل الآثار التي لم تقوَ عليها صروف الزمان، وفي أثناء ذلك كتب رسالته المُعنْوَنة «عشرون يومًا في رومة» أتى فيها بأطلى عبارة وأجمل أسلوب على ذكر ما تحويه المدينة الأبدية من الآثار التي تركها الأقدمون، وقد طبعت منها مقالةٌ نفيسة في وصف مشهد الألعاب القديم.

وفي ٢٨ آذار من سنة ١٨٨٠ ظهر العدد الأول من «المستقل»، فأحسن الأدباء استقباله وتهافتوا على الاشتراك بهذه الصحيفة التي عظم شأنها وانتشارها، واشتهر أمر محررها، ولعبت دورًا مهمًّا في عالم الصحافة والسياسة، فتشاغلت بها الجرائد الأوروبية لا سيما الإفرنسية وتحدثت عنها مرارًا عديدة كما أثبت ذلك من مقالة نشرها في أعمدة تلك الصحيفة، وبعد أن مرَّ على تحريره للمستقل نيف وسنة غادر غلياري قاصدًا باريس مدعوًّا من قبل الحكومة الإفرنسية لتحرير جريدةٍ عربية أيضًا تُعرف ﺑ «البصير» فوصلها في اليوم الثالث من شهر آيار لسنة ١٨٨١.

وعند وصوله إلى محطة السكة الحديدية أحسن استقباله بعض الكتبة ومحررو الجرائد الذين أظهروا مزيد الارتياح والسرور للتعرف بعالمٍ شرقي اشتهر أمره في بلادهم «وأعطي موهبة تنميق الألفاظ فسحر الألباب بعبارته الطنانة.» كما ذكروا ذلك مرارًا في بعض جرائدهم، ثم لم يلبث أن أصاب «البصير» من النجاح ما قد أصاب «المستقل» في إيطاليا، وكنا نود أن نأتي هنا على ذكر بعض عبارات من مقالاتٍ نفيسة نشرها في أعمدة تلك الجريدة إنما يمنعنا عن ذلك ضيق المجال.

وقد عرفت إذ ذاك الحكومة التونسية ما كان لمقالات محرر البصير وكتاباته من النفع والوقع في نفوس أبنائها وذويها، وما أتاه من الجد والجهد في سبيل إحياء روح اللغة العربية في تلك الأصقاع الغربية؛ فمنحته وسام كومندور من «نيشان الافتخار» وذلك في ١٥ تموز لسنة ١٨٨١.

وبقي متوليًا إدارة البصير وتحريره إلى أن أُصيب بمرضٍ عضال فأشار عليه الأطباء بالعود إلى وطنه، فعاد إليه وقد تخوَّن جسمه النحول والهزال حتى لم يعد ينجح به دواء ولا يُرجى له شفاء، فاستأثر به الله في شرخ الشباب ونضارة العمر غير متجاوز السابعة والثلاثين من سنِّه، فبكى عليه ذوو الأدب والمعارف الذين كانوا يتوسمون به حسن الاستقبال ودُفن في ضريحٍ خاص في غزير قد عُلق عليه تاريخ نظمه المرحوم الخوري الشاعر أرسانيوس الفاخوري.

وكان شهمًا ذكيًّا متضلِّعًا في العلوم الفلسفية والتاريخية وخطيبًا مصقعًا وشاعرًا مجيدًا له شعر أعذب من الماء الزلال وأغرب من السحر الحلال، وكان سريع الخاطر طلق اللسان لطيف المعاشرة يُطرب الألباب ويُسكر العقول، بل تعشق كلامه الطباع وتلذ به الأسماع، يشهد له بذلك كثير من ذوي الأدب والعلم في الديار الشرقية والغربية الذين كانوا يعجبون ويطربون بكلامه الدري، وله مع بعض محرري الجرائد في ذلك الحين ولا سيما مع أحمد فارس الشدياق محرر «الجوائب» المناقشات الحسنة والمجادلات اللطيفة التي تشفُّ عن دهاء ودراية في الأمور، واتساع في العلوم، وطول باع في الإنشاء.

١  هو محمود باشا الداماد صهر السلطان وأحد زعماء حزب «تركيا الفتاة» الذي اختتم حياته شهيدًا للحرية في أرض الغربة قبل خليل غانم بمدةٍ وجيزة.
٢  صنوع لفظةٌ عبرانية معناها محتشم ومتواضع.
٣  شيخ الحارة هو لقب أطلقه أبو نظارة في جريدته على الخديو إسماعيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤