أخبار جرائد الإسكندرية من سنة ١٨٦٩ إلى ١٨٧٦
(١) الكوكب الشرقي – شعاع الكوكب
«الكوكب الشرقي» هو صحيفةٌ سياسيةٌ أدبيةٌ أسبوعية أنشأها في ٢٠ تموز ١٨٧٣ سليم باشا الحموي وأخوه عبده، و«شعاع الكوكب» جريدةٌ يوميةٌ أدبيةٌ تجارية نشرها الأخوان المشار إليهما في نهاية السنة المذكورة، فالأولى هي جدة الصحف العربية والأخرى هي أم الجرائد اليومية في مدينة الإسكندرية، فكان يكتب فيهما صاحباها مع الشيخ حمزة فتح الله الذي صار فيما بعدُ مفتشًا للمدارس الأميرية المصرية، ولكن لم يطل عمرهما حيث أصدرت الحكومة أمرًا بإلغائهما بلا ذنب ولا سبب، فاستدعى محافظ الإسكندرية إليه صاحب الامتياز سليم الحموي وأجبره بالعنف على إرجاع الرخصة إلى الحكومة تنفيذًا لإرادة الخديو بإلغاء الجريدتَين، فتظلم سليم الحموي للخديو إسماعيل باشا بواسطة خيري باشا نثرًا وشعرًا، ومما قاله في هذا الموضوع:
ومن النوادر الجميلة عن فقر الصحافة وتعاستها في ذلك العهد البعيد ما رواه لي صديقي المرحوم خليل أفندي إبراهيم مأمور إدارة المحلة الكبرى سابقًا، وقد كان، رحمة الله، عليه من رجال الفضل والأدب قال: لما صدر الكوكب اجتمع عشرون سوريًّا من نزلاء المحلة الكبرى ودفع كلٌّ منهم فرنكًا واحدًا ليشتركوا جميعًا في نسخةٍ واحدة من الكوكب؛ لأن قيمة الاشتراك كانت عشرين فرنكًا، وجعلوا ينتظرون يوم الجمعة من كل أسبوع انتظار هلال العيد، ولما يحضر القطار ويوزع البريد يقف نبيه القوم عند دار البريد وباقي المشتركين وراءه على صفٍّ طويل، وينادي أبعدهم عن القوم سائلًا بملء فيه «ما أجا الكوكب؟» فإذا أجابه المتقدم سلبًا ينهال المشتركون على المسكين «الحموي» بالسباب وأنواع الشتائم، وقد أكد لي راوي هذا الخبر أنه تاريخيٌّ صحيح، وفي هذه النادرة ما يدل على تقدم الصحافة في هذا العهد لأن قراء بعض الصحف أصبحوا بفضل العلم والعرفان يعدُّون بالألوف.
وكان عنوان الجريدة «الكوكب الشرقي» محفورًا على صحيفة مزينة برسوم تمثل أهرام مصر ومسلة فرعون وتمثال أبي الهول وغيرها من الرموز المصرية القديمة، يعلو جميع ذلك شعار الأسرة الخديوية تيمنًا وافتخارًا، وإلى جانبَي العنوان المذكور أسماء وكلاء الجريدة في أنحاء القطر المصري وسائر البلدان الخارجية، وكان «الكوكب الشرقي» مكتوبًا بعبارةٍ بسيطة ومطبوعًا على قرطاسٍ رقيق بالحرف البولاقي القديم.
(٢) الأهرام
رحم الله من قال عن جريدة الأهرام إنها «مدرسة الصحافيين» بلا معارض، ورحم الله الشيخ علي يوسف الذي وصفها سنة ١٩٠١ عند وفاة أحد مؤسسيها بشارة باشا تقلا في جريدة «المؤيد» بقوله: «الأهرام ثبتت بين زلازل الحوادث في ربع قرنٍ ثبات تلك الأهرام الشامخة في أربعين قرنًا.»، ولا غرو فإنها الآن أقدم صحيفةٍ حية على الإطلاق بين جميع الصحف السياسية التي أنشأها الناطقون بالضاد قديمًا وحديثًا في العالم بأسره، ورحم الله الشيخ نجيب الحداد حفيد الشيخ ناصيف اليازجي إذ نظم الأبيات الآتية في وصف جريدة «الأهرام» قال:
تأسست هذه الجريدة السياسية التجارية الأدبية في ٥ آب ١٨٧٦ لصاحب امتيازها ورئيس تحريرها سليم بك تقلا ومديرها بشارة باشا تقلا، فكانت في أول أمرها أسبوعيةً صغيرة الحجم جامعةً من المباحث ما يستخف له إذا قابلناه بما نعهده اليوم، ولكن ترتيب الجريدة كان أساسًا للوضع الحسن الذي انتهت إليه الأهرام في وقتٍ قصير ثم جرت عليه جميع صحف الشرق بعدها، وما زالت تنمو حتى صارت صحيفةً يوميةً كبرى يقرؤها الأكابر والأصاغر في داني البلاد وقاصيها، وقد لاقى صاحباها من المصاعب في مهنتهما ما يقصر عن وصفه قلم الكاتب البليغ، وناهيك أنه في سنة ١٨٧٩ سجن أحد صاحبَيها لأنه ندد بالخديو إسماعيل يوم مد يده إلى الخزانة المصرية، فكان ذلك منتهى الإقدام وكبر النفس؛ لأنه لم يكن أحد يجسر في ذلك الزمان أن يقابل إسماعيل باشا ببسمةٍ فضلًا عن طعنة، ولم يخرج من الحبس إلا بعد ثلاثة أيام بتوسط حكومة فرنسا.
وبعد حدوث مذبحة الإسكندرية سنة ١٨٨٢ هجم الثائرون على مطبعة الأهرام فأحرقوها؛ لأنها كانت مناصرةً للخديو ضدهم، فاضطر بنو تقلا إلى نشر جريدتهم في مطبعةٍ غريبة ريثما ابتاعوا مطبعةً جديدة، فصدرت الأهرام مشحونة بالمقالات العائدة على الوطن بالخير الحقيقي فقدر المصريون هذه الخدمة الشريفة، ثم تألف وفدان من أعيانهم ونواب مجلس شورى القوانين والمجالس العمومية فزارا إدارة الأهرام سنة ١٨٨٤ وأهديا كلًّا من صاحبَيها ساعةً ذهبيةً مرصعة بالجواهر الكريمة؛ فاستاءت الحكومة من ذلك وعطلت جريدة الأهرام في ٢٠ أيلول للسنة المذكورة بحجة أنها كتبت فصلًا قالت فيه: إن الحكومة لا تخدم مصر بل إنكلترا، ثم انجلت المسألة عن حضور نفس المأمورين الذين أقفلوا المطبعة إلى الباب الذي أوصدوه وختموه، وقد فتحوه باليد بعد الاعتذار والترضية الرسمية لقنصلية فرنسا من قبل نوبار باشا رئيس النظار.
وكانت خطة الأهرام الداخلية مصريةً عثمانية بمعنى أنه يجب أن تكون مصر للمصريين تحت سيادة الدولة العثمانية، وكانت سياستها الخارجية تميل إلى فرنسا لعدة أسبابٍ ذاتية وعامة، فأما الأسباب الذاتية فهي أن فرنسا حمت مؤسس الأهرام من إسماعيل باشا أيام سجنه وكان على وشك أن يأمر بقتله، وأما الأسباب العامة فهي أن الخطة التي جرت عليها فرنسا وُجدت مطابقة للمرام من حيث صداقتها التاريخية للباب العالي ومناظرتها لإنكلترا في وادي النيل واهتمامها بمصالحه.
وقد نالت جرائده الثلاث ولا سيما الأهرام العربية منها أعلى مكان من الأهمية في المقامات الرسمية، وحاز لأجلها المكافآت الجمة من أكثر الدول، وكان لها من الفائدة بين قراء العربية وعلى الخصوص في القطر المصري ما لا يسع أحدًا إنكاره، فإنها بُدئت وليس في القطر المصري من يقرأ جريدة، ولا يعلم شيئًا من أمور السياسة والحقوق، ولا يهتم لسماع حادث من الحوادث الخارجية ولا الداخلية، فما لبثت بضع سنين حتى انتشرت الرغبة في المطالعة بين خاصة الناس وعامتهم، وازداد عدد القراء سنة بعد سنة حتى صاروا يعدون بالآلاف، وتتابعت بعد ذلك الجرائد في القطر فلم تعدم واحدة منهن عددًا كبيرًا من القراء، فكانت منزلة الأهرام ولا جرم منزلة أستاذ لأهل القطر وممهد لسائر الجرائد وموطِّئ لانتشار العلم والإقبال عليه، وهو فضلٌ لو لم يكن لصاحب الأهرام سواه لكفى، وليس هنا محل ترجمة حياته بالتفصيل، وإنما ذكرنا ما ذكرنا بيانًا لمزية الرجل وإلماعًا إلى ما استحق به المنزلة التي بلغها من الجاه العريض والدنيا الواسعة مما لم يبلغه كاتب قبله في الشرق.
ومنذ العدد ١٠٦٨٠ الصادر في ١٩ نيسان ١٩١٣ بدأ ظهور جريدة «الأهرام» مضاعفًا في ثماني صفحاتٍ كبرى لزيادة إقبال القراء على مطالعتها، فكان ذلك برهانًا ساطعًا على شدة عناية صاحبها جبريل بك بشئونها واهتمامه بتحسينها وتوفير مواضيعها والثبات على خطتها الرشيدة، وفي السنة ذاتها اتفقت مع إدارة جريدة «الديلي تلغراف» في لندن على أن توافيها الثانية بأنبائها البرقية الكونية في كل يوم ولا سيما فيما يتعلق بالشرق الأدنى، ثم صحت عزيمتها على إعادة نشر شقيقتها الفرنسية «البيراميد» في حجمٍ كبيرٍ يومي بعد احتجابها، وقد اتفقت مع عدد من كبار الكتاب الفرنسيس على التحرير فيها، فباتت إدارة «الأهرام والبيراميد» اليوميَّتَين من أكبر إدارات الصحف العربية والإفرنجية في الشرق كله، وهذه خطوةٌ عظمى في سبيل نهضة الصحافة الشرقية كما لا يخفى.
أما المحررون الذين كتبوا في جريدة الأهرام فهذه أسماؤهم نذكرها بترتيب التاريخ: إسكندر كسيب وفتح الله صوصة وإسكندر صباغ وجرجي نصار وقيصر زينية وخليل زيدان والشيخ نجيب الحداد ورشيد شميل وخليل زينية وخليل المطران وخليل جاويش وداود بركات ويوسف البستاني ونقولا حداد وأنطون جميل ونجيب هاشم وتوفيق فرغلي وإدوار مرقص وإبراهيم بن سليم نجار.
ونضيف إلى من تقدم ذكرهم اسم فتح الله بك جاويش الذي قام بوكالة هذه الجريدة في عموم سوريا وتولى مراسلتها مدة ١٩ سنة بأمانة ونشاط، وكان هذا الوكيل شديد الغيرة على ترويج مصالح الجريدة وإكثار المشتركين فيها حتى زاد عددهم في سوريا وحدها على ألف وخمسمائة مشترك، وقد كلَّفه بنو تقلا بتجهيز مطبعتهم بالأدوات والحروف التي اشتراها لهم من المطبعتَين الأميركية والأدبية في بيروت. وفي مدة وكالته توقفت «الأهرام» سبع مرات عن الدخول إلى الولايات العثمانية؛ فسعى بواسطة صديقه يوسف بك مطران لدى أولياء الأمور في القسطنطينية في إبطال المنع، ونال في كل مرة رخصةً بإعادة دخول الجريدة إلى سوريا، ولما توقفت في عهد حمدي باشا والي سوريا سنة ١٨٨٤ كان الوالي المشار إليه عند ورود البريد المصري إلى بيروت يستحضر رزم «الأهرام» ويأمر بإحراقها أمام عينَيه في دار الحكومة لئلا يفلت عدد منها إلى يد أحد الأهالي.
(٣) صدى الأهرام – الوقت – الأحوال
هي أسماء لثلاث صحفٍ يوميةٍ سياسيةٍ تجاريةٍ صغيرة الحجم أنشأها سليم بك تقلا وأخوه بشارة لنقل الأخبار السريعة التي كان يهم قراء «الأهرام» الأسبوعية أن يقفوا عليها، فكان صدور «صدى الأهرام» في ٣ أيلول ١٨٧٦ وهي الجريدة اليومية الثالثة التي برزت في وادي النيل، وقد تعطَّلت بعد سنتَين من ظهورها بأمر الخديو إسماعيل؛ لأنها انتصرت للفلاح المظلوم وطعنت في الحكومة عند اشتداد الأزمة المالية المصرية، فاستاء إسماعيل باشا من بشارة تقلا مدير «صدى الأهرام» وسجنه وأقفل جريدته، فلما أفرج عنه أنشأ مع أخيه سليم صحيفة «الوقت» التي عاشت إلى أيام الفتنة العرابية وتعطلت أيضًا، وفي ٩ حزيران ١٨٨٢ قامت على أنقاضها جريدة «الأحوال» فكانت أيامها قصيرة؛ لأن نجمها أفل باحتراق مطبعة الأهرام في الشهر التابع، وأخص الكتبة الذين حرَّروا في هذه الصحف الثلاث هم فتح الله صوصة وجرجي نصار وقيصر زينية من أدباء جبل لبنان.