الفصل الثاني

أخبار جرائد الإسكندرية من سنة ١٨٧٧ إلى ١٨٨٠

(١) حقيقة الأخبار

هي نشرةٌ سياسية أصدرها الأخوان سليم بك وبشارة باشا تقلا سنة ١٨٧٧ لإذاعة الأنباء البرقية التي ضاقت عن نشرها صفحات جريدتي «الأهرام» الأسبوعية و«صدى الأهرام» اليومية في أثناء الحرب الروسية العثمانية، وكانت تظهر مرةً أو أكثر في النهار ومثل ذلك في الليل لسرعة نقل الأخبار إلى القراء والمشتركين، وهي النشرة الدورية الوحيدة التي كانت تُطبع وتُوزع ليلًا على المشتركين فيها بين جميع الصحف العربية قديمًا وحديثًا، وقد خصص صاحباها نصف دخلها بمساعدة الجنود العثمانية واحتجبت بانتهاء الحرب المذكورة.

(٢) التجارة

صحيفةٌ يومية أصدرها في ١٥ آيار ١٨٧٨ سليم نقاش وأديب إسحاق بالشركة بينهما لنشر الأخبار المالية وحركة السوق التجارية وأنباء الكون عمومًا، فراجت كثيرًا بإقبال الناس على مطالعتها والاشتراك فيها من كل ناحية، وقد وصفها سليم بك عنحوري بقوله:١ إن الشيخ محمد عبده وإبراهيم اللقاني كانا يخدمانها قلمًا وسعيًا ما استطاعا إلى ذلك سبيلًا، وكان السيد جمال الدين الأفغاني يواصلها بشذرات من قلمه البديع وخطرات من فكره حتى كان سبب شهرتها كما كانت بتعظيمها له في النعوت والألقاب من مثل «مهبط أسرار الحكمة وأسطرلاب فلك العلوم»؛ إلى غير ذلك مما اعتادت أن تصفه به سبب نماء شهرته وانتشار صيته.

وكان جبرائيل مخلع وحنين بن نعمة الله خوري من كرام السوريين في الإسكندرية وأفاضل علمائها يجودان بسخاء لمساعدة هذه الجريدة التي بلغت حد الشهرة والانتشار. ولا حاجة بنا أن نذكر ما كانت عليه من الانحياز إلى جانب المصريين؛ فإن ذلك لا يزال معروفًا بين الناس يردده من لا يزال يحفظه من الأبناء عن الآباء ما توالت الأيام، ولما كان مشرب «التجارة» لا يوافق هوى الحكومة إذ ذاك أخذت الحكومة في معاكسة صاحبَيها بموالاة الإنذارات إليهما، وانتهى الأمر بإلغاء الجريدة.

وقد صرح جرجي بك زيدان٢ بأن هذه الجريدة مع شقيقتها «مصر» كانتا من أعظم أركان النهضة الإنشائية في الجرائد، وتحداهما الكُتاب ونسجوا على منوالهما من أساليب التحرير البسيط الخالي من التعقيد أو التقييد، فأحدث ذلك حركةً في الأفكار وحرية في الأقوال لم تكن معروفةً من قبلُ فأصدرت الحكومة أمرها بإلغائها.

(٣) الإسكندرية

كان لسليم باشا حموي ولعٌ مخصوص بالصحافة التي خدمها خمسًا وثلاثين سنة متوالية، وإنما لم يكن كسواه من أفاضل رصفائه في ذلك العهد يستخدمها بنزاهة وعزة نفس، ولذلك طاش سهمه في الجرائد الكثيرة التي نشرها باللغة العربية في وادي النيل وباللسان التركي في القسطنطينية فضعفت ثقة الناس بها، وأغلب الأحياء من القراء يعرفون خطتها القائمة على أساس المنفعة الخاصة مما لا يختلف فيه اثنان، ويسوءنا كثيرًا التصريح بمثل هذه الحقائق الجارحة التي كنا نود السكوت عنها لولا الواجب التاريخي.

وكتابات جريدة «الإسكندرية» الأسبوعية التي أنشأها على أنقاض «الكوكب الشرقي» و«شعاع الكوكب» في ١١ تموز ١٨٧٨ مع سائر ما أنشأه من الصحف هي شاهد حي على صحة هذا القول، وقد أوقف نشرها سنة ١٨٨٢ عندما حدثت الفتنة العرابية فسافر إلى القسطنطينية فتونس فأوروبا فسوريا، وبعد رجوعه من رحلته المذكورة أعاد نشر هذه الجريدة وجعل لها فرعًا يوميًّا سماه «روضة الإسكندرية» كما سترى، وكان احتجاب هاتين الصحيفتَين الشقيقتَين في سنة ١٨٨٥ بحيث سافر منشئهما إلى القاهرة وأصدر فيها جريدة «الفلاح» التي كتبنا أخبارها في الباب الأول من هذا الجزء.

(٤) مصر الفتاة

figure
أديب إسحاق؛ منشئ جريدة «مصر الفتاة» و«مصر» و«التجارة» في مصر، والمحرر في جريدة «التقدم» البيروتية.

جريدةٌ أسبوعيةٌ سياسية شعارها «البحث عن حقوق كل إنسان فاكر» برزت لعالم الوجود عام ١٨٧٩ بعد اعتلاء توفيق الأول مسند الأريكة الخديوية، فصدرت باللغتَين العربية والفرنسية وكان أديب إسحاق يحرر فيها ويعرِّب الفصول التي كانت تنشر في القسم الإفرنسي منها، وقد أصدرتها «جمعية مصر الفتاة» المؤلفة من أذكياء أبناء وادي النيل والنازلين بساحته، وغرضها تنبيه الغافل من الأمة المصرية وتوثيق عرى الألفة بين أفرادها، ودفع ما ألم بها من الأضرار المادية والمعنوية في آخر أيام الخديو إسماعيل، وبعبارة إجمالية كانت تروم حفظ الحقوق الوطنية وكف يد الأجنبي عن استقلال الوطن والسعي وراء ضالتهم المنشودة وهي أن تكون «مصر للمصريين».

وقد تعطلت بعد ظهورها بوقتٍ قصير بمساعي مصطفى رياض باشا رئيس الوزارة المصرية الذي كانت تطعن في سياسته طعنًا موجعًا، فأقام صاحب «مصر الفتاة» في شهر كانون الثاني سنة ١٨٨٠ الحجة على الحكومة المصرية في المجلس المختلط وقاد إليه وكيلها صاغرًا، وكان المحامي المشهور «وريجوس» وكيلًا للمدعي في المحاكمة فأطلق لسانه الفصيح في مجال الدفاع، وأظهر من معايب الإدارة ومفاسد الوزارة ما تقشعرُّ منه الأبدان حتى خُيل للسامعين أنهم يرون الإدارة متقمصة جسم إنسان منخطف اللون بادي النحول.

(٥) المحروسة – العصر الجديد

بعدما احتجبت جريدتا «التجارة» و«مصر» المار ذكرهما برزت في أوائل سنة ١٨٨٠ صحيفة «المحروسة» الأسبوعية لمنشئها سليم نقاش، وكان هو يحررها بمساعدة بعض الكتبة الأدباء كعبد الله نديم والشيخ محمد عبده وإبراهيم اللقاني وجرجس بن ميخائيل نحاس وأديب إسحاق وإسكندر نحاس وروفائيل الخوري وأمين البستاني وسليم بن عباس الشلفون، وكان الشيخ إسكندر العازار يراسلها من بيروت بمقالاته المشهورة فيطالعها أدباء القطرين.

وأول فصلٍ كُتب فيها كان داعيًا لتعطيلها فظهرت جريدة «العصر الجديد» بدلًا منها جارية على خطتها ومشربها ومتهالكةً في الدفاع عن مصالح المصريين، ثم عفا الخديو توفيق الأول عنها فعادت إلى الظهور يوميةً، وبقي «العصر الجديد» يصدر أسبوعيًّا حتى بدت طلائع الفتنة العرابية، فاحتجبت الجريدتان بعد مذبحة الإسكندرية في ١١ حزيران ١٨٨٢ ولجأ صاحبهما إلى سوريا، ثم عادت «المحروسة» وحدها عام ١٨٨٤ بعدما قبض صاحبها مبلغ أربعين ألف فرنك من الحكومة تعويضًا عما لحق به من الخسائر باحتراق المطبعة، ومن ذاك العهد صدرت أسبوعيةً لحين وفاة منشئها في أواخر السنة المذكورة فكان بذلك نهاية دورها الأول، وقد اشتهرت حينئذٍ بمناظراتها السياسية مع صحيفة «الأهرام»؛ لأن «المحروسة» كان شعارها «مصر للمصريين» وكانت «الأهرام» تدافع عن مصر وتحاسن الحكومة الفرنسية.

وتولى إدارتها بطريق التوريث خليل نقاش والد مؤسسها الذي أصدرها يوميةً مدة سنتَين، وقد كتب فيها سليم عباس الشلفون المشار إليه وجرجس بن ميخائيل نحاس، فكانت خطتها معتدلة تستحسن الحسن وتقبح القبيح فيما يتعلق بالوطنيين والمحتلين، وقبيل وفاة خليل نقاش في ٢ تشرين الثاني ١٨٨٦ اشتراها يوسف آصاف ونسيبه عزيز بك زند، فنقلا إدارتها مع مطبعتها سنة ١٨٨٧ إلى القاهرة وعهدا بتحريرها تباعًا إلى يوسف البستاني وداود بركات ونقولا حداد وأيوب عون وغيرهم، وامتازت المحروسة إذ ذاك بالدفاع عن مصر تحت سيادة الباب العالي وبمناهضة الاحتلال الإنكليزي، ثم استقلَّ بها عزيز بك زند مع والده روفائيل زند وكانا يتقاضيان راتبًا سنويًّا من السلطان عبد الحميد الثاني للغاية المذكورة، واستمرت منتشرة مدةً من الزمان غير قصيرة إلى أن قضت دواعي الأحوال باحتجابها فكان بذلك نهاية دورها الثاني، غير أنها انحط شأنها في أيام روفائيل زند وولده عزيز وتلاعبت بها الأغراض الشخصية ففقدت ما كان لها من المنزلة السامية في عهد مؤسسها الفاضل.

وفي ١١ كانون الثاني ١٩٠٩ تحول امتيازها لمديرها الحالي إلياس زيادة الذي وسع نطاق مباحثها وسلك فيها خطة الاعتدال كمنشئها الأول، فأصدرها يوميةً وعهد بتحريرها إلى كُتابٍ أفاضل تولوا معه إنشاء فصولها واحدًا بعد الآخر وهم: إبراهيم الحوراني وإدوار مرقص وسليم قبعين وأمين تقي الدين وسيد علي ومحمد مصطفى الههياوي وفرح أنطون، وللكاتبة الرقيقة السيدة «مي زيادة» بنت صاحب الامتياز مقالاتٌ رائقة تواصل بها المحروسة من حين إلى آخر. ولما استلم إلياس زيادة إدارة الجريدة نشر في صدر العدد الأول هذه الأبيات:

قدم الزمان وما فتئت عروسًا
أسقي النديم من القديم كئوسا
محروسة مذ كنت عن قصد الهوى
لمؤذن أو ضاربٍ ناقوسا
أروي الصحيح من الحديث ولا أرى
غير الصحيح لصاحبي مأنوسا
وإذا رويت العلم أنشر ما بدا
كالصبح منه وأترك المطموسا
وأزفُّ من آداب أرباب النهى
أبكار طهر تشنأ التدنيسا
وإذا مدحتُ فلا أُدلِّس إنني
من بدء كوني أبغض التدليسا
أرضي فلاسفةً وما من مغضب
بمقالتي شيخًا ولا قسيسا
أبغي الإخاء فكل حرٍّ لي أخ
يرجى وأضرب بالسوى إبليسا
والسلم نهجي لست أسلك غيره
ما لم أرَ الحق المقدس ديسا
علمي بأن الكبر ذل ما نهى
عن أن أرى شرف النفوس نفيسا
فأنا الغزالة في الكناس فإن أهن
فأنا الغضنفر يهجر العرِّيسا
ونجهل السبب الذي حمل عزيز زند على إضافة خمس سنين إلى عمر الجريدة خلافًا لواقع الحال، فجرى إلياس زيادة مجراه وجعل أيضًا تأسيس المحروسة عام ١٨٧٥ بدلًا من عام ١٨٨٠ وهي سنة ظهورها لعالم الصحافة، ولدينا نسخٌ كثيرة من أعداد سنتها الأولى فما بعدت تثبت هذا القول، ومن المعلوم أن مؤسسها حينئذٍ كان مأمورًا في جمرك بيروت سنة ١٨٧٦ قبل ذهابه إلى القطر المصري، وأول جريدة أنشأها في حياته كانت «التجارة» عام ١٨٧٨ كما سبق الكلام في هذا الفصل، ولنا على صحة ذلك شهادة لا تُرد بقلم أديب إسحاق كما ورد في الصفحة ٧٤ من كتاب «الدرر» المطبوع سنة ١٩٠٩ في بيروت. وتحرير الخبر أنه لما ألغيت جريدتا «التجارة» و«مصر» عام ١٨٧٩ وُعد صاحباها سليم نقاش وأديب إسحاق بنيل الرخصة في إنشاء جريدتين أخريين باسم «المحروسة» و«العصر الجديد» من طرف الحكومة، ثم طال المطال في ذلك فكتب أديب إلى علي باشا مبارك ناظر الأشغال العمومية يومئذٍ يتقاضاه وعد الحكومة، وإليك نبذةً من الرسالة المذكورة ننقلها بالحرف الواحد:

ولقد صار (العصر الجديد) قديمًا بما مر عليه من مؤثرات الانتظار، وأصبحت (المحروسة) على قدم اليأس تستجير بالأولياء والأنصار، وتتلو وهي في عالم القوة بين المخاوف والأخطار، إذا ما الفكر حار، وإذا ما الزمان جار، أتنسى مصر مزية البِّر بالجار، أم لا يسمع بين براياها صدى نداء المستجير.

وفي ٤ حزيران ١٩١١ أصدر إلياس زيادة عددًا أسبوعيًّا يتضمن نفثات أقلام الجالية السورية في مصر وخلاصة المباحث الجليلة التي يكتبها الأدباء في سوريا، وقصد بذلك أن يجعل «المحروسة» رسول السوريين ولسان حالهم في القطرَين المذكورَين.

وفي شهر تشرين الأول ١٩١٣ ظهرت المحروسة في ثماني صفحاتٍ كبرى على مثال جرائد الأهرام والمقطم والمؤيد وغيرها طافحةً بالمواضيع المفيدة والمواد اللذيذة والأخبار الصادقة، ومنذ التاريخ المذكور قد تولى رئاسة تحريرها فرح أنطون منشئ مجلة «الجامعة» الذائعة الصيت، وتعد الآن هذه الجريدة من أرقى الصحف المصرية وأوسعها انتشارًا بعناية صاحب امتيازها الذي أعادها إلى منزلتها الرفيعة، وقد أخذت على نفسها أن تكون الآن هي هي جريدة المحروسة كما كانت عليه إبَّان نشأتها الأولى وزمن شهرتها من السير على الطريقة المثلى وسلوك الجادة الفضلى مُنكِّبة على طرفي التفريط والإفراط مبتعدة عن لغو الكلام وهجر القول، فلا تمدح إلا من استحق المدح ولا تذم وإنما تذكر الأعمال، وليست مصلحتها الخاصة إلا ما جاء من جانب مصلحة مصر العامة فهي بذلك بعيدة عن الغايات الشخصية.

١  راجع ديوان «سحر هاروت» صفحة ١٨٠ لسليم بك عنحوري.
٢  راجع ترجمة أديب إسحاق في كتاب «تراجم مشاهير الشرق» لجرجي زيدان (جزء ثان، صفحة ٧٧).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤