الفصل الأول

أخبار مجلات الإسكندرية من سنة ١٨٨١ إلى ١٨٨٨

(١) التنكيت والتبكيت

من أوليات الصحف التي كان لها شأنٌ عظيم في إثارة الخواطر وإحداث القلاقل قبل الاحتلال البريطاني مجلة «التنكيت والتبكيت» لعبد الله نديم، ولا نبالغ إذا قلنا إنها كانت مع رصيفاتها «المفيد» و«الفسطاط» و«الطائف» ينبوع الفتنة الأهلية ومصدر الثورة العسكرية بشهادة كثيرين من عقلاء الأمة المصرية، وهي صغيرة القطع ذات ثماني صفحات ظهرت في ٦ حزيران ١٨٨١م/٨ رجب سنة ١٢٩٨ﻫ وكان القصد من وضعها انتقاد أعمال الحكومة وتحريض الوطنيين على مقاومة الأجانب في وادي النيل، فأخطأت المرمى وكان ما كان من النتائج الوخيمة التي سردنا تفاصيل حوادثها المشئومة في كتابنا «تاريخ الخديوية المصرية في عهد السلالة المحمدية العلوية» الذي سننشره قريبًا بالطبع إن شاء الله تعالى. وقبل تمام السنة الأولى من عمرها انقرضت فحوَّلها صاحبها إلى جريدةٍ سيارة باسم «الطائف» التي سيأتي ذكرها، وكان يكتب هو مقالاتها بالاشتراك مع أحمد سمير، وهاك ما رواه عنها نجيب غرغور١ بالحرف الواحد:

وظلت الحال كذلك حتى أصدر المرحوم عبد الله نديم جريدته الهزلية الأخلاقية «التنكيت والتبكيت» فأعجب وأطرب، ووصف مصر إذ ذاك وصفًا دقيقًا في مقالة خالدة عنوانها «مجلسٌ طبي على مصاب بالإفرنجي» وكانت الشعلة الأولى من حركة الأفكار التي انتهت بثورة عرابي واحتلال الإنكليز لهذه الديار الأسيفة.

واشتهرت هذه المجلة بالمناقشة التي حمي وطيسها بينها وبين جريدتَي «المحروسة» و«العصر الجديد» لأجل مقالة كتبها عبد الله نديم بعنوان «حفظ الذات بحفظ اللغة» فردَّ عليه العلامة أمين شميل ردًّا محكمًا أثبت فيه أن «حفظ اللغة لا يكون إلا بحفظ الذات» وهو أمر لا يحتاج إلى برهان، فاشتد الجدال بين الفريقَين ثم انضم إلى كليهما بعض الأدباء كأحمد سمير والدكتور شبلي شميل ونجيب غرغور وإسكندر نحاس وغيرهم، وانتهت المناظرة بتفرق شمل المتناقشين لدى نشوب نار الثورة العرابية.

(٢) الراوي

كانت مدينة الإسكندرية تزاحم عاصمة القطر المصري بكثرة جرائدها الراقية في الحقبة الثانية من تاريخ الصحافة العربية، لكنها كانت أقل منها حظًّا بعدد مجلاتها المهمة التي تستحق الوصف المخصوص، ومن أشهرها مجلة «الراوي» الأدبية الفكاهية الشهرية التي ظهرت في غرة شهر آذار ١٨٨٨ لمنشئها خليل زينيه. ومن مميزاتها أن كل جزء منها كان بمثابة حديقةٍ صغيرة فيها من كل فاكهة زوجان، فكان القارئ يتنقل فيها من المباحث الاجتماعية إلى الفصول الأدبية إلى أفكار العلماء وآراء الحكماء إلى الفكاهات والنكات والقصص والروايات، ونشر فيها أيضًا «تاريخ مصر» منذ العصور الخاوية إلى عهد الدولة الخديوية، لكن الحظ عثر بها إذ أدخل صاحبها فيها السياسة ووقف في وجه رياض باشا رئيس الوزارة المصرية عندما حمل حملته المشهورة على السوريين، فوقف رياض باشا في وجه المجلة وكان بالطبع أقوى من صاحبها الذي عطلها بعد إصدارها بسنتَين، وفي خلال هذه العطلة شاع في بيروت بين بعض الأدباء أن خليل زينيه عازم على إعادة إصدار «الراوي» بعد احتجابه، وبلغت الإشاعة إلى الإمام الشيخ إبراهيم اليازجي أستاذه الأكبر فكتب إليه تلك الرسالة التي صارت بين الأدباء أشهر من «قفا نبكِ» وهي التي جاء فيها:

أسألك أين الذي كنا نسمع عن نهضة الأدب عندكم وغيرة الوطنيين في تلك الناحية وسخاء أيديهم على أدبائهم؟ ألم يكن في فضلات أموالهم ما يقوم بمجلةٍ صغيرة في حجمها، رخيصة في ثمنها، قليلة المزاحم في خطتها، تشغل فراغهم سلوةً، وتملأ مجالسهم أدبًا، وتُسوِّد صفحاتها بذكر مآثرهم والذود عن حياضهم؟ وتقول إن في عزمك الرجوع إلى مجلتك، كلا ثم كلا، إنه الرأي الفائل وإنه لمن وساوس الباطل، وقد بلوتَ من أمره أولًا وثانيًا ما يغنيك عن إطالة النصيحة، وإن كنت فاعلًا ولا بد فأصدر منها جزءًا واحدًا تقوم فيه على ضريح الشرق خطيبًا مؤبِّنًا وشاعرًا راثيًا يستعير يراعة أرميا في مراثي قومه وأرضه حتى تبكي وتستبكي إن وجدت في تلك الرمم المتحركة قلبًا يشعر أو عينًا تدمع، ثم انقش ما تكتبه على لوح ذلك الضريح وشجَّ رأس القلم وادفنه في تلك الرمم إلى أن يبعثه الله فيهم مرحومًا مرتضى عنه، وإن توخيت بعد ذلك وجهًا من المعاش فاستعر لك ثوبًا من الجهل تتردَّى به وبرقعًا من الخلاعة تستر حمرة وجهك أمام عينَي نفسك وتمسح ندى جبينك عن بشرتك الرقيقة، ثم اتبع القوم في سبيلهم إنه اليوم هو السبيل … وإنني لا أراك إلا متحاملًا على نفسك بما لا تحتمله جاهدًا إياهًا في إدراك خطة ليس في وسع الأيام أن تمالئك على نيلها؛ لأنه ما دامت بضاعة الأدب كاسدة وأهلها معدومين فأنت أشبه بمن يطلب الثلج من الرمضاء ويلتمس العشب في ظهر الصفاة الصماء.

وكتب في «الراوي» أدباءُ كثيرون من السوريين والمصريين كنجيب غرغور والآنسة سلمى بنت نعمان قساطلي الدمشقي وغيرهما، ونشر فيه الشيخ إبراهيم اليازجي خطابًا عنوانه «أدب الدارس بعد المدارس» والشيخ نجيب الحداد قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

يا بني الشرق أين ذاك الضياء
أين تلك النفوس والآلاء

(٣) حديقة الأدب

مجلةٌ روائية أنشأها سنة ١٨٨٨ نجيب غرغور لينشر فيها الروايات التي ألَّف بعضها وعرَّب البعض الآخر منها عن أشهر كتبة الإفرنج، وجعل عدد صفحات كل جزء منها ٦٤ صفحة بحجمٍ كبير وحرفٍ جميل وإتقانٍ بديع، فبدأ بنشر رواية «التعساء» التي عرَّبها عن فكتور هوغو وروايةً أخرى لا محل لذكرها، وقد راجت هذه المجلة رواجًا عظيمًا جدًّا، ولكنه اضطر إلى تعطيلها امتثالًا لأمر رجل من أعاظم رجال مصر، وأرادت نظارة الداخلية حينئذٍ أن تعامله بموجب قانون المطبوعات فكتبت كتابًا بسيطًا إلى محافظ الإسكندرية تطلب إليه أن يسأل صاحب المجلة عما إذا كان حاصلًا على رخصة طبعها، فبعث عرفي باشا يدعوه بواسطة معاون المحافظة الأول وبعض رجال البوليس، ولما تمثل نجيب غرغور بين يديه أخذ محافظ المدينة قانون المطبوعات بيده وبدأ يقرأ بدون أن يفهم حتى جعل مجموع الغرامات التي استحقها تسعين جنيهًا، وكلما حاول نجيب غرغور أن يفهمه بأن المجلة أدبية يزيد في نغمته حتى كادت العبرة والغيظ يخنقانه، فلحظ المحافظ ذلك وأشار بذهابه وبأخذ تعهد عليه بأن يطلب في المستقبل رخصة قبل الطبع.

١  نقلًا عن مقالة «الصحافة في ثلاثين عامًا» المنشورة في جريدة «الاتحاد المصري» بتاريخ ١٠ كانون الثاني سنة ١٩١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤