المقدمة
- (١)
سجل دولة «جو الغربية»، جزء واحد في سبعة عشر فصلًا.
- (٢)
سجل دولة «جو الشرقية»، جزء واحد في اثنين وعشرين فصلًا.
- (٣)
سجل دولة «تشين»، خمسة أجزاء في أربعة وستِّين فصلًا.
- (٤)
سجل دولة «تشي»، ستة أجزاء في سبعة وخمسين فصلًا.
- (٥)
سجل دولة «تشو»، أربعة أجزاء في اثنين وخمسين فصلًا.
- (٦)
سجل دولة «جاو»، أربعة أجزاء في ستة وستين فصلًا.
- (٧)
سجل دولة «وي»، أربعة أجزاء في واحد وثمانين فصلًا.
- (٨)
سجل دولة «هان»، ثلاثة أجزاء في تسعة وستين فصلًا.
- (٩)
سجل دولة «يان»، ثلاثة أجزاء في أربعة وثلاثين فصلًا.
- (١٠)
سجل دولة «سونغ ويه»، جزء واحد في عشرة فصول.
- (١١)
سجل دولة «جونشان»، جزء واحد في عشرة فصول.
وجملتها ثلاثة وثلاثون جزءًا تشتمل على أربعمائة وستة وثمانين فصلًا، ومع ذلك وبرغم دقة التصنيف، ووضوح الترتيب، وتمام وشمول أجزائه وفصوله لكلِّ ما اتصل من قريب أو بعيد بوقائع الصراع بين الدول الصينية المتحاربة، فقد لاقت نسخة الكتاب المصير نفسَه الذي آلت إليه معظم كتب التراث الصيني القديم — على نحو ما ذكرت في مقدمة كتاب «الطاو» (المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة) — من أن طريقة تدوين الكتب القديمة في الصين، لم تكن تُعنى كثيرًا بضبط المتون ودقة التصنيف؛ إذ كانت توضع لفائف الأوراق متجاورة ومتراصة دون فواصل واضحة، ممَّا أدى إلى خلطٍ هائل بين المؤلفات المختلفة؛ فتجد عدة فصول مثلًا من كتاب «المحاورات» قد اندسَّت وسط أحد نصوص كتاب «فن الحرب»، أو العكس، فلم يكن غريبًا إذن أن يتعرض نص «سياسات الدول» لشيءٍ من التشويه، فتضيع فصوله وسط متاهة تقاليد حفظ المصادر والمدونات القديمة، بل قد أُحيطت نسبة الكتاب إلى مؤلفه — أو بالأحرى — مُوثقه، بظلالٍ قاتمة من الشك. ففيما يتعلق بالنص الأصلي، لم يسلَم الكتاب، في أماكن متفرقة من نسخته القديمة، من تصرُّف النُّسَّاخ بالحذف والتعديل، إذ امتدت أقلام كثيرة تحذف هنا وتزيد هناك باعتبار أن الحذف واجب مَذهبي وقومي، من وجهة نظر كونفوشية رأت في نصوص الكتاب دعوةً صريحة للتفوُّق الأناني، وإشادة بطرائق الحِيَل السياسية الماكرة، والدسائس الدبلوماسية الخبيثة، وهو ما يُخالف صحيح مذهبها الذي كان وقتَ توثيق الكتاب وتجميعِه رقيبًا صارمًا. وفي أواخر عصر أسرة خان الشرقية (٢٥–٢٢٠م) قام أحد المؤرخين بإضافة الشروح الكونفوشية إلى المتن وحواشيه، فلمَّا كان عصر أسرة سونغ (القرن الخامس الميلادي) تصادف أن كان أحد أشهر أدباء ذلك الزمان اسمه «سن فان» يُطالع أوراقًا قديمة، فاكتشف — بالصدفة — الأجزاء المفقودة من النُّسخة المتداولة ﻟ «سياسات الدول»، فراجع النص، وأثبت الأجزاء والفصول بعد أن ضمَّ إليها المُتفرِّق. لكن، ولأسبابٍ يطول ذكرُها دون داعٍ، ولأننا لسنا بصدَد المراجعة الدقيقة في تاريخ الوثائق والمُدوَّنات التاريخية الصينية، أقول لعدة أسباب، فقد اختلفت النُّسخة التي أعدها «سن فان» عن سابقتها التي وثَّقها «ليو شيانغ»؛ فقد نقصت بعض الفصول هنا وزادت هناك، لكن الذي بقِيَ في آخِر المطاف أن أمست محفوظات التراث القديم تحتوي على نُسختَين مختلفتَين لكتابٍ واحد، واعتُبِرت النسخة التي حقَّقها «ليو شيانغ» هي الأقدم.
وقد تم اكتشاف إحدى النسخ الأثرية من الكتاب في أواخر عام ١٩٧٣م بمنطقة «تشانغشا» (الصين الشعبية) بإحدى المقابر الملَكية التابعة لعصر أسرة خان الغربية (٢٠٦ق.م–٢٣م) وهي نسخة مطبوعة على الحرير، قام علماء الآثار بفحصها، فظهر أن ترتيب فصولها مُماثل لترتيب النص الأصلي «الأقدم»، ولكن مجموع أجزائها لم يتجاوز سبعةً وعشرين جزءًا فقط. وَوُجِد أن أحد عشر فصلًا منها مطابقة للنصوص الأصلية الواردة في أشهر مدوَّنة تاريخية قديمة، وأعرق المصادر الكبرى لتاريخ الصين القديم على الإطلاق وهي المعروفة بعنوان «سجلَّات تاريخية» بينما فُقِدَت تمامًا الأجزاء الستَّة عشر الباقية. وكانت هذه النسخة تحمِل عنوانًا مختلفًا بعض الشيء «كتاب مناورات الدول المُتحاربة». وهنا ينبغي توضيح مسألة مهمة جدًّا بخصوص عناوين الكتب التراثية الصينية، التي يلاحظ كثيرٌ من الباحِثين المُتخصِّصين وجمهور القراء عمومًا؛ أنها لا تثبت على حال، فتتغير مع العصور وتتبدَّل حتى في العصر التاريخي الواحد، من دون أي تبريرٍ أو سببٍ مفهوم، وبيان ذلك يتَّضح فيما درجت عليه تقاليد توثيق الكتُب القديمة التي تُنسَب إلى آحاد المؤلِّفين، من عدم الاعتداد بالتزام عنوانٍ واحد ثابت، بل كثيرًا ما جرى تغيير العناوين مع اختلاف ظروف النَّسخ وملابسات التدوين، ودواعي المُراجعات التاريخية للتراث، على ضوء المذاهب الفكرية والفلسفات السائدة، فمثلًا، كتاب «حوارات كونفوشيوس» عمدة التراث الكونفوشي، لم يحمل هذا العنوان على نحوٍ دائم إلا في بداية عصر أسرة خان (٢٠٦ق.م–٢٣م)، وكذلك فإن أشهر نص تراثي في التاريخ الصيني «سجلات تاريخية» لأعظم المؤرِّخين الصينِيِّين قاطبة «صما تشيان»، قل «هيرودوت» الصين، أو «أبو التاريخ الصيني القديم» من غير مُبالغة، كان يُطلَق عليه في القرن الأول لميلاد السيد المسيح «سجلَّات تايشي كون»، وأحيانًا «تايشي كون»؛ ومن ثَم كان مفهومًا أن يأتي تعديل المتن الأصلي تحت عنوانٍ آخر مختلف. وعمومًا فما إن جاء زمن أسرة سونغ الشمالية (٩٦٠–١١٢٧م) حتى كانت النسخة القديمة الكاملة من الكتاب قد فُقِدت تمامًا، ولم يَعُد من الممكن الحصول على نسخةٍ جديدة إلا بتجميع عدد من المخطوطات المتناثرة، حيث تَشكَّل منها جميعًا النص التام لكتاب «سياسات الدول المتحاربة» على النحو المتداول به الآن، علمًا بأن المتن قد تعرَّض لمراجعات مُتتالية وعمليات ضبط وتصحيح أهمها ما جرى له من تحقيق في عصر أسرة «يوان» الملكية (١٣٢٥م)، حيث تم الأخذ ببعض ما قام به الأديب الشاب «سن فان» من تصويبٍ في بعض المخطوطات المُتناثرة الباقية من العصر القديم. هذا فيما أحاط بتدوين النص الأصلي من اضطراب، أمَّا فيما أثير من جدلٍ حول نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه «ليو شيانغ»، فقد أثيرت الشكوك وتضاربت الأقوال؛ ذلك أن النسخة الأصلية المُثبتة ليست سوى محصلة متون مُتعددة تُعزى إلى مصادر مختلفة. ثم إن أقلامًا أضافت وأخرى عدَّلت، وبين التغيير والحذف والإضافة ضاعت ملامح القلَم الأصلي الذي قام على التحقيق الأول. عمومًا فقد خرجت نتائج بحوثٍ مُستفيضة حول هذه النقطة، بالتقديرات التالية: أولًا: لا بدَّ أن يكون المؤلف الأول واحدًا ممَّن عاصروا فترة الدول المُتحاربة (٤٧٥–٢٢١ق.م.)؛ ثانيًا: ربما كان هذا الكاتب الأول مُقيَّمًا بإحدى الدولتَين «جو» أو «هان»، ثالثًا: إن جزءًا من محتوى الكتاب قد قام على جمعه أحد الأقلام المجهولة إبَّان عصر أسرة خان الغربية (٢٠٦ق.م–٢٣م) ومن هنا جاء استنتاج كثير من المُتخصِّصين في مبحث التراث الصيني القديم بأن «قدرًا كبيرًا» من المادة التي استفاد منها ليو شيانغ في إعداد نص كتاب سياسات الدول المتحاربة لا يعدو كونه مقاطع مُطولة ممَّا تم تسجيلُه على يد الكتَّاب والمُحققين في عصر أسرة خان الغربية، بل ذهبت بعض التقديرات — في شطحاتها — لتزعُم أن هذا الكتاب بالتحديد، ليس سوى سطوٍ جريءٍ قام به «ليو شيانغ» على كتابٍ آخر بعنوان «جوانيون» يعني «كنز المعاني» حرفيًّا، وهو لِمؤلفٍ مغمور اسمه «كواي تونغ»، وقيل إن هذا المؤلف واحد من المؤلِّفين المُحتمَلين لكتاب «سياسات الدول» لولا اعتراض معظم المُتخصِّصين على هذا الزعم الذي لا يستنِد إلى شواهد قوية، وبراهين قاطعة، ولعلَّ الباعث على إثارة المزاعم حول نسبة الكتاب إلى«ليو شيانغ» يتمثل فيما هو مقطوع به من أنه — حسب اعترافه هو نفسه في مقدمة كتابه — لم يزد عن أن جمع وثائق مدرسة المناورات السياسية وأقوال المُخطِّطين السياسِيِّين ليضمَّها في كتابٍ واحد، أما إضافته الوحيدة فلم تكن سوى اختياره لعنوان الكتاب، على هذا النحو «سياسات الدول المتحاربة» فقط لاغير!
وزعم بعض الباحثين أن مؤلف الكتاب الحقيقي هو ابن ليو شيانغ، المُلقب ﺑ «ليوشين»، وأنه — أي الابن — صاحب الفضل الأول والأخير في ترتيب وضبط النص، واختيار العنوان أيضًا، بالإضافة إلى مزاعم أخرى تجِد صدًى عند عددٍ من الباحثين المُعاصرين في وثائق التاريخ الصيني. تردَّد أن المؤلِّف الأصلي للكتاب هو«كواي تونغ» — المشار إليه سابقًا، صاحب كتاب «كنز المعاني» — وكان هذا الرجل أحد أشهر رجال التخطيط السياسي في عصر الدول المتحاربة، وقد شارك بنفسه في جهود مدرسة المناورات السياسية؛ لترويج أفكارها. ومدرسة المناورات عبارة عن مذهبٍ فكري شائع في ذلك الزمان، وذلك بإصدار التوصيات واقتراح السياسات والخُطط للملوك ورجال الدول المختلفة، وقد عمل لفترة مُستشارًا سياسيًّا لعددٍ من قصور الحكم، وكان قد وضع، من قبلُ كتاب «كنز المعاني» — المشار إليه سابقًا — ليُضمِّنه الأفكار السياسية الرائجة في ذلك العصر فيما لم يتجاوز واحدًا وثمانين فصلًا، ثم قيل — ردًّا على هذا الزعم وضبطًا لما جمحت به التقديرات: إن كواي تونغ هذا، كان قد بدأ في كتابه «سياسات الدول»، لكنه لم يُكمِله، فجاء ليو شيانغ، من بعدِه، ليستكمل رصد الوقائع التي بدأت بتسجيل عصر «الربيع والخريف (٧٧٠–٤٧٦ق.م.) وينجز التدوين فيُتمُّه عند أحداث توحيد الصين تحت راية دولة تشين (٢٢١–٢٠٦ق.م.).
وربما كان من بين الأسباب التي دعت إلى رواج مختلف المزاعم التي نالت من دقَّة المتن وصحَّة إسناد الكتاب إلى مؤلِّفه أو مُوثِّقه أومُحققه أن طبيعة ذلك العصر — عصر الدول المتحاربة — كانت تحتمل، بل تشجع على تنوع المصادر بما يسمح للوقائع والأحداث التاريخية بأن تُروى بأكثر مِن طريقة وعلى ضوء أكثر من وجهة نظر. وقد كان في ذلك العصر أيضًا، بما شهِده من نشاط فكري هائل، وجدل محموم للآراء، كل الأسباب التي تُبرز نسبة وضع الكتاب إلى دستةٍ من المؤلفين، فلم يكن زمن الدول المتحاربة بالذات زمنًا عاديًّا، بل كان الزمن الذي اشتدَّت فيه الصراعات بين الملوك وحكام الأقاليم، في وقتٍ لم تكن قد تأسَّست فيه — بعد — سلطة حاكمة مركزية تتمتع بدرجةٍ من النفوذ والقوة مثلما تحقق — فيما بعد — على يد «تشين»، ولا كانت «الكونفوشية» أو «الطاوية» أو غيرها من المذاهب الفكرية والفلسفية القديمة قد تمتَّعت بالاعتراف الرسمي والرواج الشعبي؛ وبالتالي فقد تهيأت بيئة اجتماعية وسياسية وفكرية مُتفتحة، نشطة، وحيوية استصفت من لهب النزاعات مشاعل وأنوارًا للفكر، واستقْطرت نيران المعارك وحرابها معدنًا أصيلًا انصهر في تركيبة آلتها الحضارية الجبارة. كان ذلك هو العصر الذي أُقيمت فيه معجزة البناء العتيد «سور الصين العظيم» كأقوى وأقدم حاجز دفاعي أقامته يد الإنسان على مرِّ التاريخ، وكان ذلك أيضًا هو العصر الذهبي لحضارة تفرَّدت بخصائص ثقافية وحضارية، واستضاءت بهَدْي تجربتها الفريدة.
كان ذلك عصر الجدل الكبير، جدل الآراء والأفكار والتصوُّرات والاتجاهات، مِثلما كان عصر المُساجلات بين قادة الدويلات والحكماء والأبطال والشعراء والفنانين، حيث تشكَّلت ملامح الشخصية الصينية في جوانبها الفكرية والفنية، فظهرتِ الفلسفات والمذاهب الكبرى: «الكونفوشية»، و«الطاوية»، و«القانونية»، و«الموهية»، و«المذهب الأسمى»، و«اليين يانغ»، و«المذهب المختلط»، و«المذهب الريفي»، وغير ذلك من المذاهب الفرعية. ومن بين هذه الاتجاهات ظهرت مدرسة، أو بعبارةٍ أخرى، المذهب الفكري المعروف كمُصطلَح تاريخي باسم: «تسون هنغ»، أي «المناورات السياسية». وقد ظهر هذا المذهب في أجواء المواجهات القتالية الدامية والمعارك التي عمَّت أرجاء الدويلات الصينية في نهاية عصر الربيع والخريف، وظل الناس إبان تلك الفترة يرتدون دروع الحرب، ويحملون الرماح، وينضمُّون تحت رايات الفرق المحاربة؛ إما للعمل ضمن تشكيلات القوات بهدف القتال مع الأطراف المتصارعة، أو للانخراط في صفوف المقاومة الأهلية ضد محاولات الاختراق أو الضم أو الاحتلال. وأصبحت الموضوعات العسكرية القتالية ومسائل العلاقات السياسية تلقى رواجًا بين الناس ووسط دوائر العمل الرسمي، مثلما شغلت أذهان رجال البلاط الحاكم في كل دولة، وبطبيعةِ الصراع الدائر على المُستوَيين العسكري والسياسي، فقد تشعَّبت الأفكار في اتجاهين، ودائمًا أبدًا تتشعب أفكار الصين في اتجاهَين متقابلين أو متناقضَين، وليس بالضرورة متضادَّين؛ فدائمًا ما كان الجدل بين أطراف متنازعة سمةً كامنة في حركة الفكر والحياة في الصين، حتى قبل أن تأتي إليها المادية الجدلية والماركسية بقواعد المنطق الجدلي، بزمان طويل، وتقريبًا منذ أن اهتدت بتأمُّلاتها الفلسفية إلى المقابلة بين الأرض والسماء، ثم بين السماء والإنسان، وبعد ذلك استطاعت بَنظرية «اليين يانغ» أن تؤصِّل رؤية المُتناقضات وتعزو أسرار البقاء إلى التنازُع الدائم بين طرفَين يتجاذبان قُطبَي الصراع لتدور وتتجدَّد دورة الحياة.
- الاتجاه الأول: رأى في الموضوعات العسكرية مادةً خصبة للدراسة والتأمُّل، فمن ثم بدأت مدرسة الفكر العسكري تصبُّ جهودها في التأليف ووضع الكتب وعمل المناظرات حول أربعة أقسام محددة، هي: «المناورات»، و«الطبوغرافيا»، و«اليين يانغ»، و«الفنون القتالية»، وكان أهم قسمٍ فيها جميعًا هو «المناورات»، وأشهر روَّاد هذه المدرسة اثنان؛ «سون تزي» صاحب كتاب «فن الحرب» و«سون بين» تلميذُه النجيب الذي أكمل رسالته الرائدة في نظرية الحرب.
- الاتجاه الثاني: اتخذ من الدسائس والمؤامرات والخطط السياسية موضوعًا للمناظرات الفكرية وتحقيق أغراض التفوُّق والمطامع التوسعية لدى الأقاليم والدول في نزاعاتها المتبادلة خلال ذلك الزمان الذي يُسمَّى بطبيعة وقائعه ﺑ «زمن الدول المتحاربة»، وأهم قادة الرأي في هذا الاتجاه الفكري، ثلاثة هم: «سوتشين»، و«تشانغي»، و«كويكو تزي»، فأولئك هم أرباب فنون التخطيط السياسي، ومن مجموع اجتهاداتهم تشكَّلت مدرسة الفكر السياسي القديمة، التي اشتُهرت باسم مدرسة أو مذهب «المناورات السياسية» وهي المدرسة الفكرية التي راجت مقولاتها بين قادة الدول وحكام الأقاليم في صراعهم لتحقيق أطماعهم التوسُّعية. ولئن كان الجميع يعتمِد على القوة العسكرية بصورةٍ أساسية في ميادين القتال فإنهم قد أعطوا أهمية كبرى لآراء رجال التخطيط السياسي، وشاعت في ذلك العصر مقولة «إن النصر أو الهزيمة لا يتحدَّدان في نهاية الأمر بالقوة العسكرية وحدَها، بل بالاستخدام الجيد للوسائل السياسية.» شيء قريب ربما من مقولة «كلاوزفيتز» في العصر الحديث من أن «السياسة هي السلاح بوسائل أخرى.» لكن بمداخل وتفاصيل مختلفة. ولم تكن مهمة رجال السياسة هنالك سهلة؛ لأن تكلفة ما أقدموا عليه كانت تساوي نسف قواعد الأخلاق التي تم إرساء دعائمها في زمن الربيع والخريف — الزمن السابق مباشرة لاندلاع الحرب بين الدول القديمة — وتأسيس مفاهيم جديدة قادرة على استيعاب فنون الدهاء وألوان الدسائس والمُؤمرات؛ مما أفسح المجال لطُرق براغماتية في إدارة الصراع أن تحتلَّ موقعًا محترمًا وسط مذاهب فكرية لمعت بسبب ما أرسَتْ من قواعد للفضائل والأخلاق وأصول المعاملات. وكان طبيعيًّا أن يحدُث الصدام مع الكونفوشية أساسًا، لكن في مرحلةٍ متأخِّرة لأن المذهب الكونفوشي لم يكن قد تغلغل في نسيج الحياة الفكرية الصينية. وبالمناسبة، فلا يمكن في هذا السياق عقد مقارنةٍ بين أفكار مدرسة الخطط السياسية والآراء «الميكيافيللية» من ناحية؛ لأن رجال السياسة الصينِيِّين كانوا حريصين على التواصُل مع الإطار العام للمبادئ الإنسانية والأخلاقية، فليست هناك غاية يمكن أن تُبرر أي وسيلة، بل قد قيل أحيانًا إن مدرسة المناورات واءمت بين مبادئها ومقولات الفكر الطاوي، ومن ناحية أخرى، فقد كان «ميكافيللي» يملك رؤية، لكنه يحلم بشخصيةٍ أو بطل تاريخي يُجسد رؤاه وأفكاره، في حين كان فلاسفة المناورات في الصين يتجادلون حول أفكارٍ مُتعارِضة في ظلِّ صراع بين أبطال «جاهزين» لهم أدوارٌ واضحة، كل ما يُهمهم البحث عن نظرية واضحة تساعد على بلوغ قمة السيادة والتفوُّق، ولو أن فكرة البطل الرمزي (المُخلِّص الأسطوري) كانت تُراوِد أذهان الجميع.
لكن حتى الصدام مع المبادئ الأخلاقية لم يكن يُقارن بما كان يُؤمَل تحقيقه من مصالح لعروشٍ سعت سعيًا محمومًا لتكوين إمبراطورية عظمى، ولرجال سياسة ومُنظِّرين وجدوا الفرصة سانحة لعرض وجهاتِ نظرهم حول الصراع الدائر بين الدول والأقاليم، والترويج — مِن ثَم — لأفكارهم ونظرياتهم التي تباينَت في محتوها، لكنها كانت تؤلِّف اتجاهًا فكريًّا واحدًا يتزعَّمه قطبان اثنان بلغت شُهرتُهما درجة استحقَّا معها أن ينالا موقعًا فريدًا على ساحة الفكر، جنبًا إلى جنب «لاوتسي» فيلسوف الطاوية، و«سون تزي» المذكور آنفًا، بل يتقاسمون مع «كونفوشيوس» و«منشيوس» أكاليل الشهرة والمجد، وهما: «تشانغي»، و«سوتشين»، وقد اشتُقَّ اسم مدرسة المناورات من مواقفهما السياسية؛ ذلك أن المصطلح الصيني لذلك المذهب — كما سبق أن أوضحت — يُطلَق عليه «تسون هنغ» وهما كلمتان، أولاهما: بمعنى الخط الرأسي، والثانية: المحور الأفقي، فما علاقة ذلك بالصراع الدائر بين الدويلات؟ ولكي نفهم المسألة بوضوحٍ فلنعد إلى مشاهد الصراع التي شدت عصرًا بأسره إلى التناحُر الذي دام قرابة مائتَين وسبعين عامًا بين بضعٍ وعشرين دولة لم تزد أكبرُها قوة ومكانة عن سبع دولٍ كبرى، هي: «تشين»، و«تشو»، و«تشي»، و«يان»، و«هان»، و«جاو»، و«وي» (انظر الخريطة المُلحقة بالمقدمة). وكانت أطماع دولة تشين التوسُّعية تذهب إلى أبعد مما يتخيل أحد، ولم تكن باقي الدول تسمح لها حتى بأن تزعم لنفسها مكانة الدولة المُستقلة؛ لأنها — على حدِّ زعمهم — كانت مُتاخمة حدوديًّا لعددٍ من القبائل الهمجية، وتُئْوي داخل حدودها قدرًا هائلًا من الغرباء والبرابرة، وبالكاد تستحقُّ أن تكون دولة صينية خالصة. المُفارقة أن كلمة «تشين» ستُصبح الاسم المتداول للإشارة إلى الأمة الصينية كلها، بعد التحوُّر اللفظي من تشين إلى «تشاينا» ثم «تشين». وحسب ظاهرة التبادُل بين الأصوات المهموسة، ستتحول في اللسان العربي إلى اﻟ «تسين» ثم اﻟ «صين» كما هو مفهوم، وقد نشأت أسباب تدعو إلى الوحدة بين ستِّ دول تكتَّلت في وجه أطماع تشين المتزايدة، وهو الموقف الذي سانده فريق من قادة مدرسة المناورات بريادة المُفكر الشهير «سوتشين» وتشكلت على هذا الأساس مجموعة المحور الرأسي (تسون) باعتبار أن الوحدة المقترحة هنا كانت تتعلَّق بالدول الواقعة على خطٍّ رأسي — من الشمال إلى الجنوب — أما الفريق الثاني من المُخططين السياسيين فكان ينصح الدول جميعًا بالتحالُف مع تشين في جبهةٍ واحدة مترابطة، وهو الفريق الذي أُطلِق عليه مصطلح «هنغ» أي الخط الأفقي؛ لأن دعوته كانت موجهة أساسًا إلى الدول الواقعة على خطٍّ أفقي من الشرق إلى الغرب حيث دولة تشين تقبع وحدَها هناك تحلم بجبهة عريضة «بحجم الدول والأقاليم التي تحت السماء»، وكان يُمثل هذا الفريق الخبير والمُفكر الاستراتيجي الداهية «تشانغي» وبين هذَين الرائدَين تلخَّصت كل وجهات النظر التي خرجت عن مدرسة الفكر السياسي الصيني في زمانها، وسُمِّيت بذلك الاصطلاح السابق ذكره.
أما المعلم الأول الفيلسوف الأكبر صاحب أول مدرسة سياسية في الصين فهو المفكر «كويكوزي» — الذي يحمل اسمه أحد كُتب التراث الصيني في الفكر السياسي القديم، وهو عبارة عن مجموعة مبادئ نظرية في أصول الفكر الاستراتيجي — وهو الأستاذ الذي تخرَّج على يدَيه رائدا التخطيط المشار إليهما سابقًا.
والحق يُقال إن آراء رجال التخطيط في ذلك العصر لم تكن حلولًا عبقرية أو مجموعة قواعد أو قوانين للفكر السياسي، وإنما كانت مجرد آراء عامة ووجهات نظر مرِنة للتعامُل مع وقائع محددة في مسيرة الصراع بين الدول، وبالتالي فلم تكن قواعد عامة ذات تأصيلٍ منهجي (مثلما نجد في كتاب «فن الحرب» عند «سونزي»، أو «قواعد التخطيط» عند «كويكوزي»، بل كانت هناك سياقات ونماذج مُطولة من أحداث وسرد تفصيلي لوقائع أقرب بخصائصها لشواهد التاريخ منها لمبادئ النظريات أو مناهج الفكر؛ وهو الأمر الذي جعل من النص التاريخي أنسب محتوًى يمكن أن يضم بين جنباته تفاصيل الوقائع والظروف على هذا النحو أو ذاك، ولنُطالع بإيجازٍ صورةً للسياق التاريخي الذي انبثقت منه أفكار مدرسة المناورات، ومن البداية الأولى.
ففي بداية عصر الدول المُتحاربة، كانت دولة «وي» هي الأقوى، ولكن بمرور الأيام راحت دولة «تشين» تُجري إصلاحات داخلية، فتعاظمت قوتها مما أثار انتباه «وي» فسارعت إلى الاستيلاء على دُويلات الشرق، وهاجمت دولة «جاو»، فاستنجد حاكمها بدولة «تشي» التي خفت فورًا لنجدتها ووجهت قواتها تجاه «وي»، وكانت هذه قد ارتبكت أوضاعها الداخلية، فاضطرت لسحب قواتها من «جاو» بهدف إعادة ترتيب أحوالها، لكن القوات اشتبكت في طريق عودتها بجيش «تشي» الذي قطع عليها الطريق وكبَّدها خسائر فادحة، وراحت «تشي» تطبق سياسة أسمتها «حصار «وي» لإنقاذ جاو» واستعادت «وي» قوتها وقامت في ٣٤٢ق.م بغزو دولة «هان» التي استنجدت فورًا بدولة تشي، فلم تلبث هذه أن أعدت قواتها وقامت في العام التالي باقتحام مدينة «داليان» — أهم مدن «وي» — مما اضطر قائد قوات «وي» أن يسحب جيشه من هان ويعود إلى البلاد في الحال، لكن جيش «تشي» نجح في حصار قوات «وي» مما تسبب في إرباكها ووقوع الفوضى بين جنودها ومُنيت بهزيمة ساحقة. ولم تكد تمر مدة حتى فوجئت «وي» المهزومة بقوات «تشين» تدق عليها الباب وتُدمر البقية الباقية من قوتها وتستعيد منها أرضها المُحتلة، وظلَّت «تشين» منذ ذلك الوقت، تمثل تهديدًا خطيرًا لأمن «وي» مما دعا هذه الأخيرة إلى نقل عاصمتها من آني إلى داليان وإجراء مفاوضات سلمية مع دويلات الشرق بهدف إقامة علاقات ودِّية معها وكانت تلك الدويلات قد تلبَّسها الرعب مما رأت من تعاظم قوة تشين وتطلعاتها لضمِّ أراضي دول الشرق، فتحالفت جميعها وتكتَّلت في جبهة واحدة مناوئة ﻟ «تشين»، وأقامت دول الشرق جيشًا موحدًا لمقاومة أطماع «تشين»، وأطلقت على سياستها هذه اسم التكتُّل الرأسي؛ فلم تسكت تشين بل عملت بدورها على ضرب سياسة التحالف المناوئة لها، تمهيدًا للزحف نحو الشرق، باستخدام التهديد العسكري والتآمُر السياسي لتفتيت التكتُّل الشرقي، وهو التخطيط الذي عرف تاريخيًّا باسم التحالُف الأفقي. وحسبما تذكُر الوثائق فقد كان أهم رجل يُعبر عن الاتجاه الأول هو رئيس الوزراء والمفكر السياسي «سوتشين»، بينما كان مُمثل الاتجاه الثاني (التحالف مع تشين) رجل الدولة، السياسي الداهية «تشانغي»، ولاقت خطة سوتشين دعم وتأييد الملك «أون» — حاكم دولة يان — ثم لحقت به دولة «جاو» وجاءت في إثرهما كل من: (هان، وتشي، وتشو) على التوالي لتُشكل جميعها التحالف الرأسي أو (التحالف الشمالي الجنوبي، بصيغة جغرافية صحيحة)، وهو التكتُّل الذي وقف حجر عثرة في طريق تقدُّم قوات «تشين» ومعرفة أحوال التكتل الشرقي، ثم دبَّت الفتن بين مجموعة ذلك التحالف، وراحت كل دولة فيه تنظر نحو جاراتها بعين الريبة، وتراكمت التناقُضات بينها، وراحت كل منها تعيد النظر في مواقفها على حدة، وفجأة وسط تلك الأحداث، مات سوتشين رجل التحالف الشرقي القوي، وانهار التكتل دفعة واحدة، وجاء تشانغي — كبير وزراء تشين — يدعو لإقامة التحالف الأفقي أيضًا، وبتعبير جغرافي طبيعي، التحالف الشرقي الغربي، وأساسًا فقد كان هدف تشين عقد التحالف مع دولتي «وي»، و«هان»؛ وذهب تشانغي أولًا إلى «وي» لإقناعها بالخروج عن التكتل الرأسي والانضمام إلى «تشين» فلمَّا لم يُنصت ملك «وي» إلى تلك الدعوة الواضحة، قامت تشين بغزو «هان» وأنزلت بها تدميرًا مهولًا، مما بسط رُقعة الحذر والخوف في أرجاء الدويلات؛ فأذعنت وي لنصيحة «تشين» وانسحبت من التكتُّل الشرقي لتتحالَف مع الدولة الصاعدة نحو القوة والنفوذ. وعليه، فقد قامت دول الشرق بتوحيد صفوفها، وأعلنت حاكِم دولة تشو رائدًا لتكتُّلها. وهكذا خرجت قوات الحرب المُشتركة والمؤلَّفة من جيش كل من (وي، وتشو، ويان، وهان، وجاو)، وانطلقت لغزو تشين التي صمدت لها وفرَّقت حشودها ومزَّقَتْها بددًا، وترنح التكتل الشرقي، وراحت وي، وهان ترضخان لنفوذ تشين بعدما كانتا قد تمرَّدتا عليها، وتشكَّل من ثلاثتها التحالف الأفقي (تشين، وي، هان) مقابل دولتي (تشو، وتشي) اللتَين صمدتا وحدهما في التكتل المناوئ شوكة في جنب تشين وحليفتَيها الجديدتَين، ولم تتوانَ تشين عن أن تُرسِل رجلها القوي تشانغي إلى الملك «هواي» — حاكم تشو — تدعوه إلى التحلل من مواثيقه مع تشي لينضم إلى التحالف الأفقي، وراحت تُرغِّبه في ذلك بشتى الوسائل حتى إنها عرضت عليه هديةً سخية مقدارها مساحات شاسعة من الأراضي، وعندما ظهرت علامات تشير إلى موافقة الملك على مناقشة الدعوة، وراح يتكلم في تفاصيل الفوز بالهدية، فوجئ بأنه يتعرض لخديعة مُدبرة بعناية فائقة؛ ذلك أن الأراضي الهدية التي قيل إنها عرض سخي لا مثيل له حيث تبلُغ مساحتها ستمائة لي مربع (حوالي ستمائة ميل) فإذا بها لا تكاد تتجاوز ستة أمتار — راجع التفاصيل في سجل دولة تشو «سياسات الدول» — وعلى الفور قامت دولة تشو على قدمٍ لتثأر لكرامتها، وهاجمت تشين في عقر دارها، لكن كان للحيلة ألف قناع، وللدهاء مائة ألف ذراع ماكرة، وكان أن امتدت إحداها بدعوة كريمة لجلالة الملك «شاو» الأعظم — حاكم تشو — ترجوه الحضور بنفسه للقاءٍ عاجل مع أخيه «ملك تشين» الذي يتطلع إلى هذا اللقاء الودي ببالِغ الشوق، وما إن وطئت أقدام الملك أرض تشين حتى أُلقِيَ القبض عليه وأُودع السجن حيث مات غريبًا ذليلًا، وتعقدت الأمور كثيرًا على الجبهة المعارضة لتشين، لكنها بقِيَت على كل حال صامدة وراء أسوارها. وما إن تغلَّبت تشين بالدهاء والحيلة على موقف تشو المُتزمِّت تجاهها، حتى راحت تتبع خطةً سياسية أساسها مصادقة الدويلات البعيدة وضرب دول الجوار بهدف ضم الدول البعيدة بوسائل ودية، مقابل استخدام العنف والتهديد في وجه الدول المجاورة، بل الاعتداء عليها واحتلال أراضيها بالقوة، هكذا توجهت قوات تشين وضربت دولتي (وي، وهان) واستولت على خمس مدن كبرى وأعلن ملك تشين نفسه إمبراطورًا على الأراضي الغربية في مواجهة الإمبراطورية الشرقية التي تقع تحت سلطان الملك «مين» — حاكم تشي — ثم سقطت تلك الألقاب بعد فترة وجيزة عندما اكتشف كلا الطرفَين أن التوسع المطلوب الذي يليق بمكانة ومساحة إمبرطورية هائلة ما زال أمامه شوط بعيد. وبات من المؤكد حينئذٍ أن كتلة التحالُف الشرقي قد فنِيَت عن آخرها، وكانت التناقُضات بين دُولها قد تفاقمت حِدتها ودبَّ الشك بينهم، فاتجهت الأنظار نحو دولة سونغ ذات الموقع الأوسط بين الدول (تشي، وجاو، ووي) مما أكسب موقعها أهمية استراتيجية. فلمَّا كان العام ٢٨٦ق.م، قامت دولة تشي بغزو دولة سونغ واحتلتها، ثم ضمتها بالكامل إلى أراضيها، وهو ما أثار القلق وسط الدول كافة، فقامت تشين على رأس مجموعة الدول الخمس (تشو، وهان، وجاو، ووي، ويان) بغزو تشي، حيث أنزلت بقواتها هزيمةً منكرة، لولا حدوث بعض الاضطرابات الداخلية في تشين، لما توقف القتال على الجبهة ولا اضطرت الدول الست أن تسحب قواتها تباعًا.
فلمَّا كانت دولة يان قد تعرَّضت لاحتلالٍ غاشم من جانب تشي، ارتكبت فيه فظائع وحشية، فقد ردَّت على العدوان بمثلِه وقامت بغزو تشي والتوغل في عاصمتها «لينزي» مما اضطر حاكم الأخيرة إلى الهرب والوقوع، من ثَمَّ، في قبضة أحد ضباط دولة تشو، فأجهز عليه بسيفِه، وظلَّت دولة يان تعيث فسادًا في أرض تشي مدة خمس سنوات، قامت أثناءها باحتلال أكثر من خمسين مدينة حتى لم يبقَ لتشي سوى مدينتَين اثنتَين فقط، صمدتا في وجه القوات المُعتدية، فلما مات ملك يان وخلفه حاكم آخر قام بتغيير الوزراء وقيادات الجيش، وأقام مكانهم من تهاونوا في شئون البلاد حتى دبَّ الانحلال وانتشر السلب والنهب بين الأهالي وعمَّت الفوضى، فخرج أهالي تشي للمقاومة وقد سنحت لهم فرصة الانقضاض على قوات يان فأوسعوهم قتلًا وتنكيلًا حتى تفكك الجيش وتبدَّدت القوات واستعاد الأهالي بلدهم من براثن الاحتلال، وكانت الأوضاع الاقتصادية تشهد تطورًا طيبًا في زمن الدول المتحاربة، لكن مطالب الأداء الاقتصادي الجيد لم تتوفَّر في ظلِّ أجواء القتال والفوضى السائدة في كل مكان، وبدت آثار ذلك ونتائجه السيئة على حياة الناس ومستوى معيشتهم، وشاعت حالة استياء عامة ونفور من الحرب الدائرة بين الدول، وفي تلك المرحلة التاريخية، ومع تطوُّر الظروف، وفي سياق الأحداث نضجت مطالب عامة تدعو إلى ضرورة الوحدة الشاملة بين الدول والأقاليم، وكانت مجموعة دول الكتلة الشرقية متأخرة نسبيًّا عما حقَّقته تشين من إصلاحات جذرية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفني والثقافي في ظل حركة إصلاحية اشتهرت في التاريخ باسم «حركة شانبيان» يعني الإصلاح الشامل، وهو ما هيأ لها المقدرة خلال قرنٍ كامل من الزمان على تأسيس نظام حكمٍ مركزي ذي طابع (أوتوقراطي) استبدادي ساعد على رفع مستوى الإنتاج وتحقيق استقرار اجتماعي وتقوية قبضة السلطة المركزية الحاكمة، فانطلقت طاقة التطوُّر من عِقالها، وبالطبع فقد حدثت طفرة في القوة العسكرية ظهرت في أداءٍ قتالي مُتميز وتقنية عالية أنتجت أسلحةً متطورة ووضعتها في أيدٍ مؤهَّلة وقادرة على استخدام السلاح. ولم تقف أغراض تشين التوسُّعية عند حدود جاراتها المتاخِمة، بل امتدَّت لتبتلِع كل مساحة أراضي دول التكتُّل الشرقي مجتمعة؛ ذلك أنها كانت قد شنَّت هجومًا كاسحًا في ٢٧٨ق.م على دول الشرق الست، وأسقطت عاصمة دولة تشو، وفي العام التالي واصلَت زحفها لتبسط سيطرتها على مدنٍ وأقاليم ذات أهمية، ثم تقدَّمت وهاجمت دولة هان، وتغلَّبت على قوات جاو بعد أن ذبحت قائدها العسكري أمام جنوده. وكانت معركة «تشانبين» هي التي أرست قاعدة انطلاق تشين نحو تحقيق حلم الوحدة لكلِّ أرض الصين فيما سُمِّي بالمرحلة الأولى لمشروعها التوسُّعي. أما المرحلة الثانية، فقد تقدمت فيها جحافل تشين تحت قيادة جلالة الملك بنفسه، بعد أن أقال رئيس الوزراء عن منصبه وأقام نفسه مكانة، وواصل تقدُّمه بالقوات ناحية الشرق، واكتسح في طريقه دولة هان، وبعدها وي، ثم تشو، وفي ٢٢٢ق.م أسقط عرش دولتي يان، جاو، وفي العام التالي عصف بدولة تشي فجعلها أثرًا بعد عين، وأعلن الملك «وانغ جن» توحيد الصين، وأنها دولة مركزية كبرى، ونصَّب نفسه إمبراطورًا وتلقَّب ﺑ «تشين شيهوانغ»؛ أي أول إمبراطور ﻟ «تشين».
وتتَّضح قيمة كتاب «سياسات الدول» في أنه المصدر التاريخي الوحيد، بالقطع، الذي حفظ للإنسانية أهم أحداث ووقائع الفترة الزمنية المُمتدة من عام ٤٩٠ق.م، وحتى ٢٢١ق.م. من تاريخ الصين القديم، وهي الفترة التي شهدت بداية وانتهاء ما سُمِّي بعصر الدول المتحاربة، وقد عرض أساسًا للدور الذي قام به المُخططون السياسيون في معالجة مختلف جوانب الصراع الدائر بين الدول والأقاليم في ذلك الوقت. يكاد الكتاب أيضًا أن يكون هو السجل الوحيد الذي رصد نشاط تلك المدرسة الفكرية، ولو أن مساحة العرض فيه قد شملت كذلك تصوير بعض ملامح المجتمع الصيني، بما يُعظم من قيمته كأحد أهم المدونات التاريخية التي سجلت شكل الحياة الاجتماعية والسياسية وعكست أهم الجوانب الفكرية في حياة المُفكرين والمُثقفين في ذلك الزمان البعيد من تاريخ الصين. وتبرز قيمته أكثر في صياغته الصياغات الشائعة وقتئذ، بل كانت المدوَّنات السابقة مثل كتاب «كوايو»، و«تسوجوان»، و«سجلات تسو» مقيدة بالالتزام الصارم بمبادئ الكونفوشية، وهو ما يُبرز خصائص «سياسات الدول …» بوصفه كتابة متطوِّرة سمحت بعرض وجهات نظر جريئة جدًّا، أظهرت — في جانب منها — تحديًا للأصول الأخلاقية المُقررة ومبادئها التي رأت فيما قدَّمته نصوص السياسات من سِيَر ووقائع وأدوارٍ قام بها المُخططون السياسيون من أصحاب وأتباع مدرسة المناورات السياسية في القرارات السياسية وبحثًا عن المنفعة الذاتية بأي ثمن، وإطاحة بكل القيم والمبادئ الإنسانية وأصول المعاملات، وربما كان السخط الكونفوشي على الكتاب، وهو السبب فيما ثار من تشكيكٍ في قيمته الفكرية، ومع ذلك فلم يكن لكلِّ اعتراضاتِ النقَّاد الكونفوشيين أن ينال من المكانة التاريخية للكتاب سوى ما تردَّد من أنه لم يكن ينبغي له كسجلٍّ تاريخي موضوعي ومحترم، وأن يُبرز دور المُخطِّطين السياسيين والمناظرين الفكريين على نحوٍ مُبالَغ فيه، وهو ما نال من مصداقيته كمصدر تاريخي بالغ في إعلاء قيمة دور الفرد على حساب الوقائع التاريخية.
وهنا، فلا بد من توضيح عدة نقاط حول قيمة كتاب السياسات بوصفه مصدرًا تاريخيًّا دون إغفال لما أثارته المآخِذ والانتقادات الكثيرة حول طريقته في التدوين؛ فالكتاب يجري تصنيفه ضمن المصادر التاريخية القديمة باعتباره سجلًّا لمادة تدوين تاريخي رصدت وقائع وأحداث عصر الدول المتحاربة، وهو بهذا المعنى امتداد لتقاليد راسخة سبقته بزمان، ويلحظ الدارسون أنه قد جاء متأثرًا بالصياغات الأسلوبية السابقة عليه في المؤلَّفات الكبرى، مثل: «كتاب التاريخ»، و«سجلَّات الربيع والخريف»، و«تسواجوان»، و«سجلَّات تشو»، ولمَّا كان عصر الدول المتحاربة، بطبيعته، عصر حروب ونزاعات وأجواء مليئة بالقلق؛ إذ رأى الناس بلادهم تسقط تحت الغزو، وأسوارًا كبرى تُقام على رءوس الجبال، فانكفأت النفوس على دفائن وساوسها وأشباح ظنونها، وانفتحت خلال أسوار العزلة طاقات من الخيال المُحتشد بفرسان امتشقت سيوفًا ورماحًا بلون الأساطير، وتنزلت من الرؤى والحكايا أسرار الحكمة تنطق بها ألسنة الفصحاء والمفكرين، ولم يكن رجال الخطط السياسية يحملون أسلحة قتال، بل آراءً وحججًا ذات منطق وبراهين، فكانوا أقرب لصورة الحكماء القدامى منهم لمظهر الموظفين ورجال البلاط الطامعين في المجد والشهرة، بل كثيرًا ما دفعوا أرواحهم ثمنًا لآرائهم، لدرجة أن واحدًا مثل «هان فيتس» وهو المفكر القدير والسياسي العظيم، قُتل غدرًا بسبب وشاية لا أساس لها من الصحة.
وبالتأكيد، فقد كانت ظروف العصر تُملي على المؤرِّخ طرقًا مغايرة في التدوين، وقد كان ليو شيانغ في الأصل أديبًا مشدودًا للمجال الذي يتعاظم فيه دور الشخصية وأثرها في الحياة بأكثر مما يمكن أن يحمِله المكان أو الزمان أو حتى الحدث من دلالات، وقد لمسَ بنفسه من خلال الوثائق ذلك الدور العظيم الذي قام به رجال الخُطط السياسية في زمن الصراع وتأثيرهم في مجريات الأحداث، وظهر أمامه الرمز أوسع أفقًا ومجالًا للتأثير، وربما كانت مُشكلته أن الحدود في تصوُّره تقاطعَت بين المُمكن للبطل في الأسطورة، والمتاح للسياسي في التاريخ؛ ومن ثم تداخلت في طريقة سرده للأحداث تفاصيل الوقائع وملابساتها مع أطياف من المرويات الشعبية والأساطير، وهو الأمر الذي أكسب الصياغة لونًا إنسانيًّا ساهم في إضافة مذاقٍ أدبي للنص — بشكل عام — ولئن اختلف النقاد حول تقدير القيمة التاريخية للكتاب، فإنهم لم يتَّفقوا حول شيءٍ اتفاقَهم على القيمة الأدبية لأجزائه وفصوله. وللإنصاف، فالخصائص الأدبية والتاريخية للكتاب يكمل بعضها بعضًا، باعتبار أن طريقة التدوين جاءت بالفعل طفرةً هائلة، نقلت أسلوب الكتابة التاريخية من تقاليد «التدوين الزمني» بالأيام والسنين، مما كان شائعًا فيما سبقه من نصوص، إلى الكتابة وفق نظام «السِيَر والتراجِم الشخصية» الذي ازدهر فيما تلاه من مؤلَّفات، حتى قيل إن أبا التاريخ الصيني «صما تشيان»، تأثر بأسلوبه فنقل عنه أجزاءً مطولة وهو يضع مدونته الشهيرة «سجلَّات تاريخية».
وفي الجانب الأدبي، فهو أرقى صياغة بلَغَتْها الكتابة الصينية في الزمان القديم والحديث والمعاصر أيضًا بما خطَّ من سِماتٍ أثرت في النصوص الإبداعية المختلفة وخصوصًا الرواية الأدبية من القرن السابع إلى الثالث عشر الميلادي، ويُعزى إلى هذا الكتاب أيضًا إحداث نقلةٍ في طرق الكتابة والتعبيرات والأساليب الإنشائية للغة الصينية في تلك الفترة على نحو ما نجد من ثأثير لكتاب «الألفاظ» للهمذاني، أو «فقة اللغة» للثعالبي في تُراثنا العربي. وبكل تأكيد، فكتاب «سياسات الدول …» قطعة من النثر الأدبي التاريخي الجميل، لا يُدانيه كتاب آخر بلغ مبلغَه في جاذبية الوصف وروعة السرد.
هذا، ولا يمكن أن يُؤخَذ على سجل تاريخي قديم أن يحتفي بالدلالات الأسطورية، ولا يمكن لثقافة شعب، أيًّا كان، أن تُرسِّخ قيمة وجودها في جذور التاريخ بغير رموز أسطورية.
ومثلًا، فلم يكن مُمكنًا للرايخ الثالث، في ألمانيا، أن يؤسِّس مشروعية البحث عن مجالٍ حيوي لوجوده في غياب الزعم بالتفوُّق العرقي مستندًا إلى الميثولوجيا الجرمانية. وليغفر لي القارئ استدعاء مثل مَشوب بفظائع ومَحارق ضد الإنسانية، ثم إن أمةً كبيرة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية نشأت تحت أضواء العصر الحديث وتشكَّلت في إطار وقائع ملموسة وجدت مَن أدخلَ الأساطير الجرمانية والأنجلوساكسونية في مسرد تاريخها الشعبي.
وعلى أية حال، فالأسطورة، وبمعيار البحث العلمي، تحمل دلالة تفسير لخبايا الضمير الإنساني والأنماط الإنسانية لمختلف المجتمعات الحضارية والثقافية.
ومن زاوية شخصية، فقد كان ذلك العنصر الأدبي الذي أضاف للخصائص التاريخية والفكرية للكتاب مذاقًا جماليًّا فريدًا من بين أكثر الجوانب إمتاعًا في ترجمة الكتاب.
وهذه بالمناسبة، أول ترجمةٍ للكتاب من الصينية مباشرة إلى اللغة العربية — إن لم أكن مُخطئًا — ولا أعرف ما إذا كانت هناك ترجمات له في الإنجليزية أو اللغات الأوروبية الأكثر تداولًا. وكنتُ فيما سبق من ترجمات لكتب التراث الصيني، أُطالِع ما هو متاح من ترجمة في الإنجليزية، متأثرًا بطريقة البحث الأكاديمي في توصياتها بمراجعة المصادر السابقة المنشورة، ذات الصِّلة بموضوع الدراسة، ولا أريد أن أخوض فيما نصحَني به بعض المترجِمين من أعضاء هئية التدريس من ذِكر تفاصيل متعلقة بالترجمة قد لا تُهم القارئ في قليلٍ أو كثير؛ فما فائدة أن أغرق القارئ في تفاصيل نظريات الترجمة وقضية «المكافئ الترجمي» وآراء شليرماخر، وبارخوتاروف، ورومان ياكوبسون. وبالإضافة إليهم نذكُر يانفو (من الصين)، وهل رأيت مناهج الترجمة الأدبية هي الأنسب، أم تصرفت بمزاج المبدع الفنان، أم وجدت ذلك مستحيلًا لاستحالة الترجمة أصلًا على ما كانت تقول به بعض مدارس الترجمة الألمانية؟
فإذا تجاوزنا عن السؤال بكيف تمَّت الترجمة، فلنحاول الإجابة عن السؤال بلماذا ترجمت هذا الكتاب بالذات؟ والإجابة ببساطة؛ لأنه يقدم جانبًا جديدًا ومختلفًا عما نُطالعه في المؤلفات الصينية القديمة؛ لأنه يسد فجوة معرفية في مبحث المصادر التاريخية المتعلقة بتلك الفترة من تاريخ آسيا وتاريخ الصين، وتاريخ الإنسانية. ولئن كانت الترجمات الأوربية للتراث الصيني تُحدد للقارئ تفضيلات أو أولويات مُعينة في اختيار الكتب والموضوعات المترجمة، فهي من الناحية الأخرى، كانت متأثرة بتقاليد المدارس الصينية واتجاهات تفضيلاتها. ولمَّا كانت هذه قد ورثت تقاليد عريقة في الفكر موسومة بطابعٍ كونفوشي، فقد استحسنت ما رأته الكونفوشية حسنًا وخسفت الأرض بما لم ترَه كذلك، ولم يكن كتاب «سياسات الدول …» مما يروق أولئك السلفيِّين المتزمِّتين، لكنه يروق لي تمامًا أن أُضيف إلى المكتبة العربية هذا المصدر التاريخي الفريد والنصَّ الأدبي العريق، والوثيقة الوحيدة التي تضمُّ أفكار مذهب المناورات السياسية كما تبدَّت عبر وقائع عصر الدول المتحاربة، وأتمنَّى أن يكون الكتاب ذا قيمة لجمهور القراء وللدارس المتخصص في مادة المصادر التاريخية وللأنثروبولوجي والباحث في الفكر السياسي الصيني القديم وكذلك لمؤرخي الأدب.
وقد حرصتُ في الترجمة أن أنقل عن نسخةٍ صينية مُحققة ومزوَّدة بشروح وافية وقد وضعتُ بين قوسين مُربعين ما يساعد على توضيح المتن من شروح وتعليقات جمعتُها بتصرُّف من كلمات المُحقِّقين والمُعلِّقين والدارسين في غير نسخة من الكتاب علمًا بأن هناك أكثر من نسخةٍ مجانية منشورة باللغة الصينية على شبكة الإنترنت العالمية، وقد وضعتُ قوسَين هلاليين للشروح المصاحبة للنص في النسخة المترجَم عنها، ولم أشأ أن أُحيل القارئ إلى هوامش بعيدة عن المتن حفاظًا على تواصُل السرد، وتوفيرًا لوقت وجهد القارئ، ودفعًا لأسباب المَلل والسأم قدْر الإمكان. على أن معظم الشروح تركَّزت على مقابلة مواقع المدن والعواصم والأقاليم القديمة بما يناظرها على الخريطة الطبيعية والسياسية الحالية للصين، مما يثقل على القارئ ولا يفيد كثيرًا في توضيح مضمون الكتاب، ثم رأيت من الأوفق أن أُلحق به خريطة توضِّح موضع أهم الدول والعواصم والأقاليم في عصر الدول المتحاربة، بالإضافة إلى مسرد زمني للعصور التاريخية الصينية، بحيث يتيسر للقارئ التعرُّف على ملامح المكان والزمان منذ البداية الأولى علمًا بأن طبيعة تدوين الكتاب تسمح بقراءته دون ترتيب، حيث عنوان كل فصل هو الجملة الأولى منه، كأنه قصة أو حكاية منفصلة بذاتها عن سابقتها أو لاحقتها من مدونات الفصول.
وبالطبع — وكما تدرك سيدي القارئ — فالنصوص القديمة تُقرأ في سياق زمنها وعلى ضوء الظروف التي أتاحت للعقل تصوُّرات إنتاجها، وبهذه المناسبة أرجو ألا يُفسَّر اهتمامي بترجمة التراث بأني مُنحاز أو مؤيِّد أو حتى مُتحمس على أي نحو، لإضفاء قداسة أو مُبررات للخشوع والخضوع لكتابات تداوَلَها القدماء، كل القدماء، أو للتسليم بصحة وجلال ما سطرته الأقلام في الصحف القديمة، أي صحف قديمة، وبالعكس، فلم أكن لأتصور أبدًا أي قيمة للتراث في ذاته.
وقيمة التراث الصيني تتضح فيما يمكن أن نُطالِع به، ومن خلاله جانبًا من مسيرة العقل الإنساني في تطوُّره، لعلَّنا نستطيع أن نُسلط أنوار الفهم على فجوات من ظلامٍ دامس تعترض طرق الوعي بالحضارة الصينية، والثقافة الشرق آسيوية عموما؛ ذلك أن أمَّةً عاشت طوال هذه القرون خلف أسوار العزلة اكتسبت مقدرة على التخفي خلف أقنعة رمزية مُسرفة في الغموض، وثقتي بأن شيئًا قريبًا من مفاهيم التحليل النفسي تقوم به الترجمة، أو على الأقل تملك الوعي به، وهي تقوم على ترجمة النصوص القديمة، حيث يمكن الوقوف على طبيعة أنماط أساسية في الشخصية الثقافية الصينية وملاحظة مسارات تطوُّرها وجوانب تفوُّقها وإخفاقاتها الغائرة في أعماق التاريخ. وربما استطاعت عملية الترجمة أن تُسلط الضوء على تلك الرموز المختزنة وراء النصوص أملًا في تحرير كل طاقات الوعي بالآخر — كما يقولون — ومن ثم تتَّسع دائرة الوعي وتتقدم مسيرة العقل الإنساني، ولا أتصور، من ناحيتي، لأي تراث قديمٍ قيمةً سوى ما يمكن أن يُحققه بهذا المعنى، وأعتذر إن كنتُ قد أقحمت آرائي، لكن التوضيح ضروري، في زمن استدعاء المواريث وتقديس الماضي والأسلاف والارتماء في أحضان الأضرحة وهياكل القبور.
أتمنَّى أن تكون هذه الترجمة إضافة ذات قيمة للمكتبة العربية، ولقد كانت الحضارة العربية، دائمًا تحرص على مدِّ جسورها إلى الصين، وقد جاء حين من الدهر كان فيه البحارة اليمنيُّون وتجَّار العراق ووفود قصور الخلافة في بغداد ورحَّالة المغرب هم أقدر من يعرف طرُق الوصول وخبايا الترحال إلى الصين.
وبعدُ، فإني أُهدي هذه الترجمة إلى رائد الفكر الاستراتيجي العربي، الكاتب والمفكر الأستاذ محمد حسنين هيكل، ويشرفني كل الشرف، أن أقدِّم إليه ترجمة «سياسات الدول …» وقد كنتُ طوال الفترة التي قضيتُها في نقل الكتاب إلى العربية أستشعِر حضوره مهيبًا جليلًا، وتقدير الألفاظ هنا ليس من باب المبالغة أو المجاز، بل — بالفعل — كان حضور الأستاذ هيكل يفرض نفسه منذ أول صفحة في هذه الترجمة بل قبل ذلك بكثير، منذ أن التقيت في الصين بمترجِمين قدامى ومُثقَّفين لم يذكروا من عالم السياسة العربية سوى أسماء قليلة، كان اسم الأستاذ هيكل يلمع من بينها على وجهٍ خاص، فقد كان الرجل الذي التقى بنجوم السياسة الصينية وقادةٍ وضعوا أساس انطلاق الأمة الصينية نحو المستقبل وأمضى في لقائه بهم ساعات طوالًا، حتى بَدَا كأنه واحد من أولئك المُخططين القدامى، أو عبقري ممن أسهموا في صنع التاريخ، كنتُ أتطلَّع في العيون الآسيوية حين تتَّسِع دهشة وتلمع في إعجاب، وشعرت بمنتهى الفخر وأنا أنقل البصر إلى صفحة سماء عريضة مُرصعة بثُريَّات بعيدة من النجوم، آثرت أن تتوارى في شموخ فوق سحاباتٍ قاتمة لتومِض ألقًا هائمًا في عيون ليالٍ مُسهَّدة ترقُب فجر نهار جديد.
وبكل العرفان أشكر الكثيرين ممن بذلوا جهدًا دءوبًا للمعاونة في إعداد المسودة الأولى في هذه الترجمة، سواء بمراجعة المخطوطة ثم تدقيق النص المطبوع، أو تقديم الآراء والمقترحات، مع تحية خاصة للأستاذ جمال الغيطاني، لكلِّ ما قدَّمه ويُقدمه من توصيات في هذه الترجمة وغيرها، فهو صاحب فكرة ترجمة التراث الصيني للعربية بالأساس، ويتفضل مشكورًا — برغم مشاغله — بإبداء توجيهاته وملاحظاته السديدة وكثير مما لا يتناهى ذكره.
وكذلك أتوجَّه بالشكر للمجموعة التي شاركت مباشرة في إنجاز هذا الكتاب وهم — مع حفظ الألقاب للجميع: (الزميل) ماجد الصعيدي، لما بذله من جُهد في المراجعة اللغوية، و(الصديق) سيد محمد قطب؛ فقد كانت آراؤه وأفكاره خير مُعين على مراجعة جهود الترجمة، فكرًا وممارسةً، ولا يفوتني أن أذكر بكل تقدير وامتنان ما قدمته (الزوجة) حنان أحمد مرزوق من جهدٍ كبير في مراجعة النص الكامل للترجمة، بالإضافة إلى مراجعة مصادر الأبحاث المختلفة والمتعلقة بموضوع الكتاب وكان لمُلاحظاتها الكثيرة ومشاركتها الإيجابية في تعديل الصياغة أعظم الأثر في إنجاز النسخة التامة لهذا الجزء من الكتاب.
وختامًا، فلا أظن أنَّ تَرجمتي هنا، هي الترجمة المُثلى، بل تبقى الفرصة قائمة — لا بد — لترجمات أخرى يقوم بها زملاء أكثر وعيًا ومقدرة، سواء من العرب أو الصينيين، عن اللغة الأصلية أو غيرها، على نحوٍ أشدَّ دقَّةً وأعظم نجاحًا واقتدارًا.
القاهرة، يوليو ٢٠٠٧