ابتهال المنسي

يخمِّن مَن يتأمل ملامحها أنها كانت جميلةً في صباها. الشعر الناعم الذي أجادَت صبْغَه بالحناء، العينان الصافيتا الزرقة، الأنف الدقيق، الشفتان الرقيقتان كورقتَي وردة.

حظرت على زوجها المعلم غانم أبو طالب أن يتخذ عشيقات. ومنعَت النساء الجميلات من التردد على حلقة السمك، أو يضعنَ البرقع، لا يخلعنَه إلا بعد أن يغادرنَ الحلقة.

راعها عدمُ تردُّدِه على حجرتها. أدركَت أن ميله اشتد إلى حب الغلمان. حرصت — من يومها — أن ترتديَ — داخل البيت — زيَّ الرجال، ربما تُثيره بما يُعيده إليها. وارتدَت — خارج البيت — عباءةً سوداء، تنسدل إلى قدمَيها.

لمَّا ظلَّ أبو طالب على غيِّه، طردَته من البيت، منعَته من العودة إليه. صارحَته بأنها لم تَعُد تُطيق العيش معه بين أربعة جدران. أخفق إلحاح الأبناء، ووساطات الأهل والجيران، في التقريب بينها وبينه.

مات زوجها عقب مرض لم يُمهله طويلًا.

أنكرَت بملامح الغضب، وبالشتائم، أن تكون وفاتُه بسُمٍّ حرَّضَت على دسِّه في طعامه. أخطأ فطردَته من البيت، لكنَّ حبَّه في قلبها لا يتركه.

حرصَت على أن تصحب شحاتة الحانوتي — تخاف زيارة المقابر — لزيارة زوجها. يشتريان خوصًا وبلحًا وتُوصي على أقراص «منين» من فرن حبيب. يقضيان اليوم في الحوش. تُوزع الصدقات على روح المتوفى، تَهَب القرَّاء على تلاواتهم القرآن، تشكو لشحاتة همومَها، ما خلَّفه الراحل من حمل ثقيل لا تقوى عليه.

بشَّرها شحاتة بأن الرجل مات ليلة الجمعة، مَن رحل إلى ربِّه في ليلة الجمعة، أو نهار الجمعة، وقاه الله فتنةَ القبر.

حذَّرها من البكاء عند القبر. الميت — في حديث للرسول — يُعَذَّب ببكاء الحي عليه، ويُعذَّب بالصياح والصُّوات.

قال إن الشيطان هو الذي يُزين لأهل الميت خمشَ الوجوه، ولطم الخدود، ونشرَ الشعور، وشقَّ الثياب. الروح — في الأيام الأربعين الأولى — تظل قريبةً من الجسد، تسمع ما يُقال فوق القبر. تتأثر بما تسمعه. تُرضيها الكلماتُ المفرحة، وتُحزنها المشكلات، تنعكس على رقادها، وما إذا كان مريحًا، أم تُعاني العذاب.

إذا كان الزوج قد مات على شهادة لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإنه لن يُعانيَ وحشةً في القبر، ولا في النشور، إنما ينفض رأسه التراب، ويقول: الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن.

ما ذنب موتانا ليدفعوا ثمنَ حماقاتنا؟!

روَت أن الزوج زارها في المنام. سألَته عن أحواله في العالم الآخر: هل يحيا في نعيم الآخرة؟ أو يُواجه عذابًا يُؤلمه؟

تحدَّث شحاتة عبد الكريم عن عِبَر الحياة الدنيا والآخرة، الموت وأشراط الساعة، والحشر والصراط والجنة والنار. الروح التي تُرَد إلى جسد الإنسان بعد دفنه، فيسمع كلام الناس. حفنة التراب، يأخذها الميت من قبره، يرمي بها وهو يقول: ارجعوا إلى دياركم، أنساكم الله موتاكم. ينسَون الميت، ينشغلون بالبيع والشراء، كأنهم لم يكونوا منه، ولم يكن منهم. المحسن يُثاب في قبره. أما المخطئ فيُفتن في القبر، يلحُّ في سؤاله، ويُهان، ويُعذَّب. الملك رومان، أول مَن يلقَى الميت في القبر. الملكان منكر ونكير يبدوان في خلق جميل، يختلف عن خلق البشر والملائكة والطير والحيوان والزواحف والهوام، لكن خلقتهما لا تسرُّ الناظرين. هما تكرمة للمؤمن، يُثبته وينصره، وهتكًا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث، حتى يحلَّ عليه العذاب. يسأل الملكان، ويحاسبان. إذا قرأ الزائر فاتحة الكتاب والمعوذتَين، وقل هو الله أحد، فإن ما قرأه يَصِل إلى الملَكَين. هدايا الأحياء للموتى، الدعاء للميت أن يُوسعَ الله قبره، ويملأَه نورًا، ويجعل منزله أخضر، ويعرج بروحه إلى السماء. لأن زوجها عَمِل — في حياته — أعمالًا صالحة؛ فقد استعاد شحاتة أسئلةَ الملكين للرجل: مَن ربك؟ ما دينك؟ مَن نبيُّك؟ ما قبلتك؟ يوفقه الله، ويُثبته بالقول: ومَن وكلكما عليَّ؟ ومن أرسلكما إليَّ؟ يُدرك الملكان أنه من الأخيار. يفسحان له في قبره، ويملآنه نورًا. يضربان عليه القبر كالقبة الهائلة، ويفتحان له بابًا إلى الجنة. يفرشان له من حريرها وريحانها، ويدخل عليه من نسيمها وروحها. يأتي عمله في صورة أحب الأشخاص إليه — أظن أنه أنت يا ست ابتهال — يُؤنسه، يُحدِّثه، يملأ قلبه نورًا، يظل المرء في فرح وسعادة، حتى قيام الساعة.

•••

اقترضَت ابتهال المنسي من المعلم بدوي الحريري ما أعانها على المشاركة في حلقة السمك.

استأجرَت ثلاثة بلانسات. تقف في الحلقة — منذ غبشة الفجر — لبيع محصولها. تقضي معظم يومها في دراسة الجدوى ومراجعة الحسابات؛ المصاريف والرواتب، وأرقام الربح والخسارة والفاقد، وغيرها مما لم يخطر في بالها. تُكثر من شرب القهوة المحوجة بالحبهان، تصنعها في كنكة على سبرتاية، تدعو إليها ضيوفها. تدفع بمبسم الشيشة من بين شفتَيها إلى أيديهم. تحرص على توزيع الأنصبة قبل أن تغادر المكان.

رفضت عرض الريس غريب أبو النجا أن يُدير عملَها نيابةً عنها. قرن عرضَه بوعد — دون مقابل — أن يكفيَها عناءَ الوقفة في الحلقة، والتعرُّض لمضايقات الصيادين والفريشة والسرِّيحة والدلالين ومفتشي الصحة ومأموري الضرائب والبلطجية.

تحدَّثت عن حق المرأة في التعامل مع الملكية، تبيع، وتشتري، وتتصدق، وتزكِّي. قالت إن الإسلام أعطى المرأة حقَّ الاتجار، والخروج من بيتها، لاكتساب العيش، بما لا يخالف شرع الله. لا قيد — حتى من الزوج — على تصرفاتها. شرع الله، مَن يرفضه فليذهب إلى الشيطان!

صار للحياة معانٍ لم تكن تعرفها، ولا فكَّرت فيها من قبل. تغيَّرت نظرتُها إلى الأشياء. أدركت أن العالم خارج البيت ليس عاصفًا، وأنها تستطيع ركوب البحر دون أن تخشى أمواجه.

لم تَعُد تُطيل النوم إلى ما بعد الضحى. تصحو من النجمة. تتوضأ، وتصلي، وتُغلق وراءها باب البيت الخالي، بعد أن تركه الأولاد الثلاثة والبنتان إلى بيوتهم. تخترق الشوارع الجانبية إلى حلقة السمك.

أهملَت التحذيرات بأن الحلقة ليست العالم الذي تسهل الحياة فيه. هي عالم للرجال، يشيلون، ويحطون، ويشترون، ويبيعون، ويعانون التوقعات.

أظهر المعلم خلف زيدان استغرابَه — وضيقه أحيانًا — من مزاحمة ابتهال المنسي لمعلِّمي الحلقة في عمليات البيع والشراء. عمل المرأة الحقيقي داخل جدران بيتها، وليس داخل جدران الحلقة. الحلقة سوق للرجال. وقفة النساء خارجها، للشراء، أو لارتشاف دم الترسة. استعاد قول الرسول — نقلًا عن الشيخ إبراهيم سيد أحمد — وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ. على النساء إذن أن يلزمنَ البيوت.

أقامت علاقات مع معلِّمين من أبي قير ورشيد وإدكو والبرلس. استوردت أنواعًا من السمك لم يسبق عرضُها في الحلقة.

لم تجد حرجًا في الجلوس على مقهى الزردوني، تشرب الشاي، تدخل في مناقشات مع مفتش الصحة ومفتش التموين ومأمور الضرائب، تعقد الصفقات، توقع العقود، تُهمل النظرات المتأملة والمتسائلة والمندهشة، ومطالب الإتاوات.

التقت ببيرم التونسي في تردده على الحلقة. يستعيد ذكريات ما قبل المنفى. المعتقدات والعادات والتقاليد والأفكار والأقوال والتصرفات والأحداث والإشارات.

استراحت إلى ملامحه الأوروبية؛ خصلة الشعر الأصفر المتهدلة على الجبهة، البشرة البيضاء المشربة بحمرة، العينين الزرقاوين. عدو الشمس في وصف الشيخ رافع عبيد.

عابت على بيرم ما نشرته له الصحف المصرية من أزجال. غاظَتها المقارنات بين المرأة الفرنسية وبنت البلد في مصر.

قال بيرم:

وأقول لكم بالصراحة
اللي ﻓ زماننا قليلة
عشرين سنة في السياحة
واشوف مناظر جميلة
ما شفت يا قلبي راحة
في دي السنين الطويلة
إلا اما شفت البراقع
واللبدة والجلابية

قالت ابتهال: لا تراوغ. أنا بنت بلد، ومعلمة في الحلقة.

بدا عليه تأثر: لولا غلب السياسة ما تركت بحري!

أسلم نفسه لصمت، كأنه يتدبر ما ينوي قوله: بحري هو البحر، لكن ناسه فتافيت سكر … تذوب في الماء فيصبح المذاق سائغًا.

وأودع صوته رقة: هذه هي الصلة بين بحري وناسه.

لاحظَت أنه يُرسل نفسه على سجيتها، لا يصطنع ولا يتكلف. ما يشغله يتحدث عنه، يبوح به، لا يختار الكلمات، وإنما يعبر عن المعنى بالكثير من الحركات والإشارات والإيماءات، ويحرص على تلوين صوته، وتنغيم كلماته، فتدل على المعنى الذي يقصده.

وهي تتلمس طريقها في ظلمة زقاق العماوي، ارتطمَت بمن لم تتبيَّنه. عرفت الرجل في الصوت الأجش: لماذا لا تدفعين ما عليك؟

خمَّنت أن الصوت لمحمدي الزنط مساعد حميدو شومة. يتردد على الحلقة، ويجلس على مقهى الزردوني، يعلو صوتُه بالنداءات والأسئلة والملاحظات.

قالت لتستوثق: محمدي؟

– وقفتكِ في الحلقة لها ثمن.

أدركَت أن وقفتَها في الحلقة، تبيع، وتشتري، وتعقد الصفقات، تحددها هذه اللحظة. ترفض فتظل في وقفتها داخل الحلقة، تقبل فتلزم البيت. في بالها، ما قالته لها الست صبيحة — حين تكلمت عن اعتزامها النزول إلى السوق: تُعدِّين نفسك لأعمال الرجال، احرصي على أن تملكي من القوة والسيطرة ما للرجال!

تأكدَت من الملامح بسقوط ضوء خافت، كومضةٍ على وجهه. حدسَت ارتباكه من ارتعاشة أصابعه تحاول مداراة عينَيه.

حاولت أن تستعيد نفسها: لن أدفع مليمًا!

وهو يدفعها في كتفها: صبري آخره مساء الغد!

سعَت — في الليلة نفسها — إلى حميدو شومة في مقهى رأس التين.

– هل عجزتَ عن تهديد الرجال … فاتجه صبيانُك إلى النساء؟!

لمَّا تخرج أكبر أبنائها في كلية الحقوق، حدَّثها عن المجموع الذي يُتيح له وظيفة معاون نيابة. وقفتُها في الحلقة عائق يصعب اجتيازه.

قالت لها الست صبيحة: هو ليس زوجك. ذكِّريه أنه سيظل في حاجة إلى فلوسك!

رزق الحلقة — وحده — لا يكفي للعيش. معلم الحلقة يطلب ما قد لا يحتاجه سواه من الصيادين. الأتباع والأبهة والبيت المستقل والبنز والمنظرة وبذل الزكوات والصدقات.

نقلت ابتهال ما رواه الشيخ إبراهيم سيد أحمد، نقلًا عن الإمام ابن تيمية، من عدم تحمُّل المرأة أنواع المعاملات المالية والتجارية.

قالت الست صبيحة: إذا تطورَت خبرتُك فستصير شهادتُك مساويةً لشهادة الرجل.

أضافت بلهجة حاسمة: هذا ما يشير به الفقهاء.

•••

أفادت ابتهال المنسي من حياتها العملية في التجارة.

اشترت بلانسات التأجير. أضافت إليها أسطول سيارات، ينقل الصيد إلى المدن، خارج الإسكندرية. اشترَت أسهمًا في بنك مصر، وفي شركات تجارية. ضاربت بالأسعار في البورصة. امتلكت شركة لأعمال المساحة وتقسيم الأراضي. رفض المحافظ أن تمدَّ نشاطها للمساحات المقتطعة من البحر. أزمعت إنشاء مصنع لإنتاج الكرملة والبستلية والنعناع والعرقسوس وغيرها من حلوى مصانع نادلر بشارع الطرطوشي.

أهملَت عرضًا من حميدو شومة أن يشاركَها في تهريب بضائع من الدائرة الجمركية. قالت إن ما يشغلها أن تفعل ما لا يُعرِّضها للمساءلة، ما لا يُؤذيها.

•••

لم يبدُ على الناس مفاجأة، لمَّا أنبأ شحاتة عبد الكريم جلساءَه في قهوة مخيمخ أنه قد يتخلَّى عن مهنة الحانوتي. ربما تترك له الست ابتهال — التي تزوجها — موضعَها في حلقة السمك، وفي إدارة عملها. مثل هذه الوقفة شاقة على النساء.

تحدَّث عن الشرط الذي أثبتَته في عقد زواجهما، أن يلتزم شحاتة حسنَ الصحبةِ والمعاشرة، وبالمعروف والخلق الرضي، ويتقي الله فيها، يُمسكها بمعروف، أو يُطلقها بإحسان. وتحدَّثت عن شرط — بينها وبينه — بعدم ممانعته في زيارة زوجها الراحل، في الأوقات التي تُتاح لها.

أهملَت الست ابتهال — بتأثير كلمات شحاتة المواسية — قولَ زوجها الراحل وهو على فراش الموت: إذا أردتِ أن تكوني زوجتي في الجنة، فلا تتزوجي من بعدي، المرأة لآخر أزواجها في الدنيا.

قال شحاتة: من يضمن الجنة؟

استطرد في لهجة ملونة: ما أعرفه أن المرحوم لم يفعل في دنياه ما يُعينه على ثواب الآخرة.

وقال شحاتة إن أحدًا لا يموت بدلًا من أحد. إذا كان الزوج قد مات، فإن من حق الزوجة أن تواصل حياتها. تحزن، وتبكي، وتتذكر، ثم تُسدل ستارًا على ما كان.

لم يكلِّم مدحت — أكبر أبناء ابتهال المنسي — شحاتة في زواجه من أمه، ولا حاول لقاءه.

حذَّرها من أن تُطلق يدَ الرجل في أموالها. ما يدخل جوفه لن يلفظَه.

تابع — بعيني الاستياء — متابعتها لتصفية مكتب التصدير والاستيراد، المطل على ناصية شارع شريف باشا وميدان محمد علي.

– تعتزلين النجاح للزواج من شحاتة؟

مصمصت شفتَيها: ما له شحاتة؟ … أليس رجلًا؟!

– أتحدَّث عن الفرق بينك وبينه.

اتجهَت إليه بملامح متقلصة: أي فرق؟ هو رجل وأنا امرأة وحيدة!

– هل خلت الدنيا من رجل يليق بك؟

– القلب وما يريد!

زفر في استياء: سأصدق ما قيل إنه عمل لك سحرًا.

وشى صوتها بنبرة رافضة: ابتعدْ عنه إذن حتى لا يؤذيَك بسحره!

أشاحَت الست ابتهال بيدها لقول الفريش الحنفي عبد المعتمد إنها قبلَت زواج الرجل بتأثير عمل للمحبة والوفاق، دسَّه في ماء النرجيلة.

تهامسَت روايات في المقهى أن شحاتة أنقذ الست ابتهال من عمل واحدة من عشيقات زوجها، رُبِط في قرموط، وقُذف به في البحر. تنتقم المرأة من ابتهال التي دسَّت السم — كما فطنت — في طعام الزوج الراحل.

حفظت المرأة لشحاتة الجميل، فزوَّجَته نفسَها.

•••

انظر: إبراهيم سيد أحمد، حميدو شومة، شحاتة عبد الكريم، صبيحة الدخاخني، غريب أبو النجا. محمود بيرم التونسي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤