إسماعيل صبري

وُلد بالقاهرة في ١٦ فبراير ١٨٥٤م. أبوه إمام قشدة تاجر بالعاصمة، أصله من الحجاز. حُرم العلم في صباه، فحاول أن يعوض ذلك في تعليم ابنه إلى آخر المراحل الدراسية. درس إسماعيل — في البيت — مبادئَ القراءة والكتابة، وحَفِظ أجزاء من القرآن، على أيدي الفقهاء، ثم أُلحق في ٢٣ أكتوبر ١٨٦٦م بمدرسة المبتديان الأميرية، ثم دخل مدرسة الإدارة والألسن (الحقوق فيما بعد)، وتخرَّج فيها عام ١٨٧٣م. سافر إلى فرنسا، ونال ليسانس الحقوق من جامعة إكس في ١٨٧٨م. ترقَّى — بعد عودته — في مناصب القضاء. عُيِّن مساعدًا بمحكمة مصر الابتدائية المختلطة، ونُقل منها إلى محكمة المنصورة المختلطة، ثم عُيِّن نائبًا في محكمة المنصورة، فوكيلًا للمحكمة، ثم نُقل إلى محكمة الإسكندرية الابتدائية في أبريل ١٨٨٠م، ثم أصبح رئيسًا لمحكمة الإسكندرية الأهلية في يونيو ١٨٨٦م، ورَقيَ إلى منصب النائب العام لدى المحاكم الأهلية في ٥ ديسمبر ١٨٩٥م، وهو أول مصري يُعيَّن في هذا المنصب.

كانت أحكامه — كقاضٍ — تستهدف التقويم والعلاج، وليس الانتقام، أو نفيَ الجاني عن المجتمع.

في أول مارس ١٨٩٦م أصبح محافظًا للإسكندرية. ثلاث سنوات، عُين بعدها وكيلًا لوزارة العدل «الحقانية» (٦ نوفمبر ١٨٩٩م).

بعد أن ترك منصب محافظ المدينة، لم يبتعد عن بحري. كَثُر تردُّده — في أثناء عمله وكيلًا لوزارة العدل — على مبنى الحقانية المطل على ميدان المنشية. وكان ذلك المنصب هو آخر ما شغله في وظائف الحكومة، حتى اعتزل الخدمة في ٢٨ فبراير ١٩٠٧م.

إقامتُه في بحري، أتاحَت لقصائده صوفيةً بالغةَ الرهافة والشفافية. يغادر مكتبه في مبنى المحافظة إلى ميدان الخمس فوانيس. يقرأ الفاتحة لولي الله علي تمراز. يمضي في شارع الأباصيري حتى ميدان المساجد. يتردد على أبي العباس وياقوت العرش والبوصيري، والمقامات والأضرحة المتناثرة في قلب الميدان، وبالقرب منه. يُطيل الوقوف والتأمل، ومناجاة الذات الإلهية.

ثمة روايةٌ أنه طلب إحالته إلى المعاش، ليتفرغ لنظم الشعر. وروايةٌ أنه اعتزل تعبيرًا عن احتجاج صامت على انعقاد المحكمة المخصوصة صباح ٢٧ يونيو ١٩٠٦م لمحاكمة المتهمين في حادثة دنشواي، وما تلا ذلك من أحكام قاسية، تتراوح بين الإعدام والجلد، أو الجلد يتبعه الإعدام.

في ١٩١٨م، عانَى إسماعيل صبري ذبحةً صدرية، امتدَّت تأثيراتُها خمس سنوات، حتى تُوفي في ٢٦ مارس ١٩٢٣م، عن ٦٩ عامًا، واثنين وثلاثين يومًا.

•••

بعد أن عُين وكيلًا لوزارة الحقانية، ظلت صداقته لمصطفى كامل على توثقها. كان قد أيَّده في نشاطه السياسي منذ البداية. لم يستوقفه منصبه الرسمي لقاءَ تحرُّك مصطفى كامل ضد سلطات الاحتلال. وكان — في أيام كثيرة — يتجه من مبنى الوزارة إلى دار اللواء لمقابلته فيها. يُمضيان وقتًا في مناقشة القضايا المختلفة.

•••

بدأ نظم الشعر وهو في المرحلة الثانوية. نشر في مجلة «الروضة» المدرسية وهو في السادسة عشرة من عمره.

كان يعتزُّ بأن حافظ وشوقي ومطران من تلاميذه، وأنهم تأثروا بشاعريته وشعره.

دعا — في قصائده — إلى عودة الدستور، وندَّد بحادثة دنشواي، ورثَا مصطفى كامل بعد رحيله.

أحب الغناء، وألَّف الكثير من الأغنيات لمطربي الفترة ومطرباتها. سبق أحمد شوقي وأحمد رامي في كتابة قصيدة العامية.

أولى قصائده المغناة، لحَّنها وأداها محمد عثمان:

قدك أمير الأغصان
من غير مكابر
ورد خدك سلطان
على الأزاهر
والحب كله أشجان
جاز المخاطر

لم يُخفِ بيرم التونسي إعجابه: هذه إضافة من شاعر فصحى لفن الزجل.

طالبه أحمد المسيري — في بداياته — أن يؤلِّف الأغنيات لفرقته. وعد إسماعيل صبري أن يُهديَه أغنية إذا كوَّن فرقته المعتبرة.

•••

أيَّد قاسم أمين في دعوته لتحرير المرأة، ورفض مبدأ تعدُّد الزوجات، وقال: أحب التوحيد في ثلاثة: الله، المبدأ، المرأة؛ وأحب الحرية في ثلاثة: حرية المرأة في ظل زوجها، حرية الرجل تحت راية الوطن، حرية الوطن في ظل الله. وقال: إن من الأسباب التي مسخَت حياتنا، وشوَّهت أعيادنا، فجعلَت أعيادنا كأيام نقاهة المريض، كل ما فيها همود ونوم وأكل، غيبة المرأة عن المجتمع؛ هي علة ما نُكابده من جفاء في الطبع، وجفاف في العيش، وجهامة في البيت، وسآمة في العمل، وفوضى في الاجتماع. وقال: إذا لم تُصبح المرأة في البهو عطر المجلس، وعلى الطعام زهر المائدة، وفي الندى روح الحديث، وفي الحفل مجمع الأفئدة، فهيهات أن يكون لنا مجتمع مهذب، وحياة طيبة، وأسرة سعيدة.

حين زاره محمد كاظم ميلاني — في سراي الحقانية — قلَّب إسماعيل صبري في النسخة المطبوعة من روايته «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين»، وقال وهو يطوي الكتاب: اتحاد المسلمين لا خلاف عليه.

ومسح شاربه الكث بظهر يده: أما رفضك دعوة قاسم أمين فإني أختلف معك.

ودون أن يفقد ابتسامته: كيف نرفض تحرير المرأة من الجهل ورقِّ الحجاب؟!

أدرك ميلاني أنه في حضرة محافظ المدينة، وأن كلمات الرجل الواضحة، الحاسمة، لا تَهَبه الفرصة للمناقشة والاعتراض وإبداء وجهة النظر.

اكتفي بترك النسخة المهداة، وألقى السلام، وانصرف.

•••

رغم الوظائف المهمة التي شغلها، فإن الغربة ظلَّت هاجسًا لا يُفارقه. ألحَّت عليه بما دفعه إلى الهمس بالسؤال: ما الوطن؟ ما معنى أن أبلغ المناصب المهمة، وثمة ظلٌّ للأجنبي يُخفي الأضواء والظلال، ويفرض الظلمة التي أَلِفها الآخرون، لكنها تظل في النفس — نفسه — لا تتركها؟

حرص على عدم زيارة مندوبي سلطات الاحتلال في مكاتبهم، بدايةً من المندوب السامي حتى موظفي الحقانية من الإنجليز.

ناصرَ مصطفى كامل منذ بدايات دعوته إلى الاستقلال. لم تشغله مناصبه الرسمية عن إعلان تأييده لمصطفى كامل، وحرصه على صداقته. وكان كبار موظفي الدولة يخشَون الاتصال له، حتى لا ترصدَهم أعينُ سلطات الاحتلال. صارح إسماعيل صبري أصدقاءه: «لو لم أكن قاضيًا، لاشتركتُ مع مصطفى كامل في العمل الوطني، ولكنت معه جنبًا إلى جنب.»

حين استعد مصطفى كامل لإعلان قيام الحزب الوطني في مسرح زيزينيا، ديسمبر ١٩٠٧م زاره البكباشي حمدي درويش في مكتبه بالمحافظة.

تحدَّث عن الظروف الاستثنائية التي تحياها مصر في وجود الاحتلال. قرار الحسم تملكه سراي المندوب السامي. ليس ثمة مشكلة لو أنه استجاب لمحاولات اللورد كرومر استمالته. اعتذر عن مجرد زيارته في مكتبه.

قيل له: لو بدَّلت موقفك ربما أصبحتَ رئيسًا للوزراء.

قال بعفوية: ماذا تُفيدني رئاسة الوزارة غير إغضاب ضميري، وإرضاء ذوي المطامع وأصدقاء الجاه؟!

اغتصب إسماعيل صبري ابتسامة، وقال: لو أنك كلمتني في هذا الأمر قبل ساعة ربما أمرتُ بإلغاء خطبة مصطفى كامل.

أردف في نبرة تأسف: السهم نفذ. فقد رخصت بإقامة الاجتماع.

وربت كتفه: لا بأس … أنا أُدرك مسئوليتي عن الأمن والنظام!

زاد إسماعيل صبري، فأرسل عددًا من الجنود المصريين، يحمون مصطفى كامل، ويحافظون على النظام، حتى أتمَّ مصطفى كامل خطابه.

•••

لما مات مصطفى كامل، حرص إسماعيل صبري على أن يُشيعه إلى القبر. ألقى البيت الأول من قصيدة، قال فيه:

أداعي الأسى في مصر ويحك داعيًا
هددت القوى إذ قمت بالأمس ناعيًا

ثم غلبه التأثر والإعياء، فلم يستطع أن يستكمل القصيدة.

•••

لم يشارك — لإصابته بذبحة صدرية — في أحداث ثورة ١٩١٩م، لكن انعكاس همومه السياسية على نفسه، جعله ثاني الشعراء — بعد البارودي — اهتمامًا بقضايا الوطن.

•••

تعرَّف إلى الأميرة ألكسندرا أفرينوه والأديبة مي زيادة.

أصدرَت ألكسندرا مجلة «أنيس الجليس» النسائية، العلمية، الأدبية، الفكاهية. عددُها الأول في ٣١ يناير ١٨٩٨م، والعدد الأخير في ٣١ ديسمبر ١٩٠٤م.

تردَّد إسماعيل صبري على صالون الأميرة — مع عدد من المثقفين والأجانب — وكتب فيها قصائد صغيرة. وعندما توقَّفت «أنيس الجليس» عن الصدور، كتب إسماعيل صبري:

هل لوجه الأنيس بعد احتجاب
من سفور في عالم الأدباء
فترى فيه كلَّ بحثٍ جديد
يقف الحق في صفوف النساء
إن للفضليات في كل عصر
أثرًا في خواطر الفضلاء

تردَّد — مثل الكثيرين من مثقفي العصر — على صالون مي زيادة، كل يوم ثلاثاء. أحبَّها كغالبية المترددين على الصالون، خليل مطران، العقاد، المازني، لطفي السيد، مصطفى عبد الرازق، مصطفى صادق الرافعي، زكي مبارك، منصور فهمي، فؤاد صروف، شبلي شميل، أحمد زكي باشا، وغيرهم. كتب فيها طه حسين: «كان صوتُها عذبًا، لا يكاد يبلغ الأذن حتى يصل إلى القلب.» وبعث إليها ولي الدين يكن يقول: «الآن عندي قبلة هي أجمل زهرة في ربيع الأمل أضعها تحت قدمَيكِ. إنْ تقبليها تزيدي كرمًا، وإنْ تردِّيها فقصاراي الامتثال. وبعد، فإني في انتظار بشائر رضاك.» وفي رسالة من شبلي شميل: «ما أحلى مناغاتك، وما أرق شعورك، وما أبدع جرأتك في قوام مبادئك، وما أوضعك في رفعتك، وما أودعك في علمك، وما ألبسك لثوب دنسك، وما أصدقك في حكمك.» وكتبت مي للعقاد: «لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعله لن يراني، كما أني لم أره في تلك الصور التي تنشرها الصحف، ولكن طبيعة الأنثى يلذها أن يتغاير فيها الرجال، وتشعر بالازدهاء، حين تراهم يتنافسون عليها. أليس كذلك؟» وتُناقض مي ما كتبت للعقاد في رسالة لجبران: «أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب.» وسخرَت مي من مصطفى صادق الرافعي، رغم ما كتبه في طلب رضاها في «رسائل الأحزان» و«أوراق الورد» وغيرها.

إسماعيل صبري أهداها العديد من قصائده، ولم يجد حرجًا في ظروف المنصب، ولا المجتمع، ولا الطبقة التي ينتمي إليها، في أن يكتب قصائدَ يُعلن فيها حبَّه لمي:

روحي على دور بعض الحي حائمة
كظامي الطير رفَّافًا على الماء
إن لم أُمَتع بمي ناظري غدًا
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء

مات إسماعيل صبري.

ألقى أنطون الجميل كلمة — في حفل تأبينه، في الرابع من مايو ١٩٢٣م — قال: «الحب والموت والوطن، هذه هي العوالم الثلاثة التي كانت تحرِّك فيه الشعور الفياض، وتنطقه بالحكمة الرائعة، وتُثير في صدره الحماسة الشريفة، الماسة الصافية الماء، الطاهرة اللألاء، السليمة من كل كد وعيب، يُنسينا جمالها عناء من قطعها وصقلها، وكذلك شعر صبري، نقف عند جماله ناسين الشاعر، وما لقيَ من عناء في تصفية شِعره، وتخليص نظمه من كل شائبة.» رثاه حافظ إبراهيم وأحمد شوقي. كتب شوقي قصيدة، أشار فيها إلى حرص إسماعيل صبري على صداقته بمصطفى كامل. لم يحسب عاقبة ما يجرُّه اتصاله بزعيم الحركة الوطنية:

فلكَم سقاهُ الوُدَّ حين وِداده
حربٌ لأهل الحكم والإشراف

أهمل الشاعر جمع قصائده في ديوان. تولَّى ذلك أصدقاؤه بعد وفاته.

•••

فترة تولِّي إسماعيل صبري محافظًا للإسكندرية، عكست تأثيرات على حياته، والحياة في بحري.

يُطِل مبنى المحافظة على شارعٍ شقَّ — عقب ثورة ١٩١٩م — مدخلًا للإسكندرية من ناحية البحر. يصل بين المينا الغربية والمينا الشرقية. يميل ناحية خليج الأنفوشي، وما يتصل بذلك كلِّه من ميادين وشوارع وبنايات: قصر رأس التين، ومبنى الحرس الملكي (الكلية البحرية فيما بعد)، وحدائق القصر، ومقابر البطالمة، وبداية ترام ٤، ومستشفى رأس التين، ومدرسة إبراهيم الأول الثانوية، وورش القَزَق، وحلقة السمك، ونقطة الأنفوشي، ومرسى القوارب، ومعهد الأحياء المائية، ومساكن السواحل، وحمام الضبطية، ومستشفى الملكة نازلي، والمحكمة الشرعية، ووكالة الأوقاف، وأسواق الترك والمغاربة، والخيط وزنقة الستات، وترام السكة الجديدة، وقهاوي أنح، ورأس التين والزردوني والعوالم وفاروق والمطري والمهدي اللبان، وجوامع وزوايا وأضرحة ومقامات أبي العباس، وياقوت العرش، والبوصيري، ونصر الدين، وطاهر بك، وعبد الرحمن، وعلي تمراز، والشوربجي، والشيخ إبراهيم، وكظمان، والعدوي، ومنصور، والطرطوشي، والعقباوي، وابن عنان، والجعراني، والعروسي، ومكين الدين، وخضر الأنصاري، والموازيني، وعبد الله المجاهد، والحلوجي، والكناني، وشحاتة، وأبو وردة، وخضر الطوايسي، وابن وكيع، وأبو شوشة، ومحمد الأسعد، والطرودي، والحلواني، وإجابة، وبركة، والشريف، والمنقعي، وصلاح الدين، ومحمد غريب، والشرنوبي، وشرف الدين.

اختصر الشارع المسافة من طريق الكورنيش إلى باب الجمرك رقم واحد، مباشرة إلى مقام سيدي العدوي، والميل — يمينًا — إلى الباب الحديدي الهائل، ويسارًا إلى الأبواب الأخرى. السير من ميدان الخمس فوانيس إلى شارع رأس التين، والامتداد — بميل — إلى شارع أبي وردة. في واجهة الشارع باب الجمرك رقم واحد.

اختصرت المسافة — بالتالي — إلى شارع رأس التين، ونهاية شارع فرنسا، والموازيني بامتداده إلى ميدان أبي العباس؛ فالسيالة والأنفوشي ورأس التين، لم يَعُد على المتجه إلى هذه الأماكن أن يمضيَ في طريق الكورنيش إلى الشوارع الجانبية، الموازية للشارع الجديد.

غابت مواكب الصوفية عن شارع الأباصيري حتى ميدان الخمس فوانيس. تحمل الأعلام والبيارق واللافتات والمباخر، وثمة ترتيل الأذكار، والترنُّم بالتواحيش، وحلقات الذكر، وقارعو الطبول والدفوف، وضاربو الصاجات، وعازفو الربابة والمزمار والبيانولا والأكورديون، والرفاعية والحواة وأكلة اللهب، والابتهالات، والأدعية، وتمازُج رائحة البخور والصندل المحروق والمستكة والند.

تدور المواكب في شارع رأس التين إلى الموازيني، تميل إلى إسماعيل صبري، ومنه إلى شارع الميدان، قرب زاوية الأعرج، وإلى شارع أبو وردة.

إذا كان لكل مساحة أرض في بحري وليٌّ، فإن سيدي العدوي هو الولي في شارع إسماعيل صبري. ضريحُه في نهاية الشارع. بعد أن اتصل بشارع الترسانة. جعله وليًّا للشارع. هو وليٌّ مهم، سرُّه باتع. اسمه يعلو أفواه المنادين والأمهات في البحث عن الغائبين والمفقودين: يا عدوي!

تحوَّل إليه طريق المواكب الملكية الرسمية، تنطلق من سراي رأس التين. تميل من طريق الكورنيش إلى شارع إسماعيل صبري، ثم إلى الشوارع المفضية لوسط البلد. تأخذ المواكب — القادمة من الناحية المقابلة — طريقها في الشوارع نفسها إلى قصر رأس التين. مواكب كبار الساسة القادمين من خارج البلاد تمضي في شارع صفر باشا إلى بداية شارع إسماعيل صبري، تخترقه — وسط زحام المستقبلين — إلى داخل المدينة. حتى جياد الملك، بدَّلت مسار مشوارها الصباحي. لم يَعُد يقتصر على طريق الكورنيش، يمضي إليه عبر الشوارع المؤدية إلى إسماعيل صبري، ومنه إلى طريق الكورنيش.

•••

استمر العمل في الشارع الجديد — ظلت هذه هي، إلى ما بعد الستينيات، التسمية التي يُردِّدها الناس — ثلاث سنوات، منذ ١٩٢٧م إلى ١٩٣٠م.

سمَّته المحافظة شارع إسماعيل صبري. تسمية الشارع الجديد هي ما يُردده الناس. أُطلق اسم شارع محمود فهمي النقراشي على شارع الميدان، وميدان التحرير على ميدان محمد على. اقتصر اسم إسماعيل صبري على لافتة تعلو الجدار أول الشارع ونهايته، وعلى الرسائل والمكتبات الرسمية.

الشارع الجديد — رغم انقضاء عشرات الأعوام — هي تسمية الكثيرين له، حتى اليوم. التسمية التي اختارها الناس ثابتة، لم تتغير.

بعد أن علَت البنايات على جانبَي الشارع، وتفرَّعت منه الشوارع الجانبية، حدث تغيُّر في نوعية السكان.

سكن شققَ البنايات موظفون حكوميون، وأطباء، ومحامون، ومدرسون، ومحاسبون، وأساتذة جامعة، وضباط بحرية، وضباط بوليس، وتجار، وعاملون في شركات التصدير والاستيراد، في المنطقة حول البورصة الملكية. افتُتح فيه — وتكرر في الشوارع القريبة — مصنعٌ للبلاط، ومصنع للصابون، ودكاكين كانت غائبةً عن الحي أو قليلة: مكتبة، بائع عصير، حلواني، مكوجي، بائع ساعات، ترزي، صانع طرابيش، إلى جانب قهوة فاروق، التي صار اسمها — في أحيان كثيرة — بديلًا لاسم الشارع.

شكَّل الشارع ما يُشبه نقطة الاتصال بين النوعيات نفسها — تقريبًا — من السكان، وبين أبناء رأس التين والأنفوشي والسيالة، والمنطقة المحيطة بميدان أبي العباس. كالفاصل بين تدرُّج الألوان، تكتسب شخصيتها بالاتجاه — يمينًا — إلى قرب خليج الأنفوشي، حتى قصر رأس التين، والاتجاه — يسارًا — إلى ميدان المنشية، وامتداداته إلى محطة الرمل، ومنطقة وسط البلد التي اقتصر غالبيتها — إلى ما بعد ١٩٥٦م — على الجاليات الأجنبية.

حدث تغيُّر في مظاهر الحياة، العادات والتقاليد والسهر والباعة، ودخل بيوته الماء والكهرباء، وأُضيءَ جانباه بمصابيح الغاز، وسارت فيه المواكب الرسمية والدينية وعربات الكارو المحمَّلة بأثاث العرائس، وزادت السيارات وعربات الحنطور.

تشكَّلت المفردات المتصلة بالشارع منذ بدايات افتتاحه، بتوالي الأعوام: قهوة فاروق، جامع سيدي علي تمراز، ميدان الخمس فوانيس، سوق العيد، نهاية شارع فرنسا، أول شارع رأس التين، تقاطع شارع الميدان (لا أحد يعرف الميدان الذي يُنسب إليه اسم الشارع. لعله المجاز الذي وُجد في زحامه وطوله وتقاطعه مع شوارع مهمة، ما يقرِّبه من معنى الميدان) ضريح سيدي العدوي، أبواب الجمارك، فرن حبيب، مقابر البطالمة، مقهى الفنانين، تكية الفقراء، المكتبة الحجازية بالقرب من زاوية الأعرج، زاوية الأعرج، وغيرها من الأماكن التي تهب الشارع تميِّز ملامحه.

حتى المجيرة وسط الشارع، ظهرَت جدواها في تزايد عمليات البناء على امتداد الشارع، والشوارع القريبة، بمواد البناء: الرمل والأسمنت والجير والطوب الأحمر.

•••

رُويَ أن رجلًا من خارج بحري، ذا سحنة غير مألوفة، أعلن نفسه فتوةً للشارع الجديد في بداياته. دعا الأبجر وحميدو شومة لأن يقتسما المسافةَ بين ضفتَي الشارع، بينما يخضع الشارع والشوارع الجانبية لسيطرته.

ترك حميدو شومة لصبيانه أمرَ إبعاد الرجل عن الشارع الجديد، وعن الحي. غاب، ونسيه الناس.

•••

كان من بين قاطني شارع إسماعيل صبري في بدايات إنشائه، لطفي أفندي حسن جبريل، الموظف بثلاث شركات: الفحومات الحجرية الألمانية، كوري للأقطان، الجراية لتصنيع الورق. عمله الترجمة من لغة إلى أخرى. تزوج خديجة محمد شمة. سكنا الطابق الثالث في البيت رقم ٥٤. يُطِل — من واجهته — على شارع إسماعيل صبري، ومن الجانب على شارعَي رأس التين وفرنسا، ومن الخلف على شارع علي تمراز وجامع سيدي علي تمراز. في السطح، فوق الطابق السادس، تبين شبه جزيرة بحري، المتصلة بشبه جزيرة الإسكندرية. على يسار الواقف المينا الغربية، وعلى اليمين المينا الشرقية، وفي المواجهة خليج الأنفوشي.

أنجب الزوجان حسن (تُوفي في طفولته)، وسميرة، وعلي، ومحمد، وأحمد (تُوفي في طفولته)، وسعيد.

قُدِّر لمحمد أن يكتب القصة والرواية. صدر له العديد من الروايات والمجموعات القصصية التي تتناول — في مشروعه الإبداعي — مظاهر الحياة في بحري.

أُصارحك أنه لو لم يكن شارع إسماعيل صبري باسم الشاعر الذي أعرض لحياته، فلعلي كنت أتردد في الترجمة للشاعر. وُلد إسماعيل صبري في القاهرة. ظل — حتى أدركَته الوفاة — من سكانها. إقامته في الإسكندرية فرضها العمل الوظيفي أعوامًا قليلة.

أحببت الشارع، فأحببت الشاعر، وليس العكس، أو إني شُغلت بالشارع، فعُنيت بكل ما يتصل به، حتى الاسم الذي أُطلق عليه.

لماذا؟ ومَن هو صاحب التسمية؟

أونوريه دي بلزاك أطال في وصف الشارع الذي دارت فيه أحداث قصته «على مَن يقع اللوم». اعتذر بأن الإطالة لأن الشارع هو الذي ولد فيه.

لا أَعِدك باعتذار؛ فإسماعيل صبري شخصية مهمة. انتسب إلى بحري أعوامًا من الوظيفة، تُرشحه لهذه الموسوعة.

أُضيف السبب الآخر — دعك من الأولويات — وهو انتماء مؤلف الموسوعة — بالطفولة والنشأة — إلى هذا الشارع، فمن الصعب أن أغفله.

البيت رقم ٥٤ بشارع إسماعيل صبري، خمسة طوابق، تعلو دكاكين: الترزي إبراهيم شعبان، الحلاق رشاد، والحلاق عبد السلام — كل واحد برزقه — تحتل قهوة المهدي اللبان جانب البيت الأيسر. الواجهة تُطِل على شارع رأس التين، ومن اليمين على إسماعيل صبري، ومن اليسار على الشارع الخلفي الواصل بين البيت وجامع علي تمراز.

كل طابق في البيت من شقتين، الشقة الأولى في الطابق الأول للطبيب الأرمني مردروس (أفدتُ من ترجمته في روايتي «صيد العصاري») تُقابلها أسرة سليمان أفندي الموظف في هيئة البريد. تشغل شقة في الطابق الثاني، أسرة طبيب مصري اسمه النجار. الشقة المقابلة لأسرة يهودية، طبقت «الجيتو»، فلم تحاول التعرف إلى الجيران، ولا أذنَت حتى للمترددين على البيت بدافع أعمالهم — كمحصل الكهرباء وبائع الخبز والزبال — أن يتعرفوا على ما بداخل الشقة. في الطابق الثالث تقطن أسرة لطفي أفندي حسن جبريل، تُقابلها أسرة من عائلة الدخاخني، الأب على المعاش، وأكبر الأبناء محامٍ، فضلًا عن فتاتَين تركتا الشقة بعد زواجهما. الطابق الرابع تشغل إحدى شقتَيه أسرةُ الشيخ العطوي، المفتش بوزارة المعارف العمومية. تُقابلها أسرة عم سيد، الموظف السابق بالحكومة، أكبر أبنائه إبراهيم الموظف بمصلحة المواني والمنائر، طال عزوفُه عن الزواج حتى يُتيح الفرصةَ لشقيقتَيه اللتين أدركتهما العنوسة. الطابق الأخير لأسرتين، لكل أسرة ابنةٌ وحيدة، والأب يعمل موظفًا.

الوقفة فوق سطح البيت تُطِل على الجهات الأربع.

في المواجهة امتداد البنايات إلى نهاية الأفق، تتخللها أسطح وطوابق عليا ومآذن وأبراج كنائس وأعمدة وأسلاك متشابكة. مَن يرتقي السور، يشاهد الجلوات القادمة من أبي العباس، والمظاهرات التي ترفع اللافتات والشعارات والأناشيد، ضد الاستعمار والسراي وحكومات الأقلية، ومواكب الزعماء السياسيِّين في قدومهم من أوروبا.

أميز ما شوهد في شارع إسماعيل صبري — تُطِل عليه واجهة البيت — أرتال طويلة من العربات، أقلَّت جنود الإنجليز عند انسحابهم من الإسكندرية، مواكب الصوفية في المناسبات الدينية، عربات الكارو المحملة بجهاز العرائس من شارع الميدان إلى داخل بحري، مواكب الزفاف المتجهة إلى ميدان المساجد، تدور حول نفسها — سبع مرات — في قلب الميدان، تبركًا بمقام المرسي أبي العباس، الجنازات القادمة من الشوارع الملتحمة بميدان الخمس فوانيس، للصلاة في جامع الشيخ إبراهيم، ثم انطلاقها للدفن في مقابر العامود، الصفوف المتلاصقة من المتظاهرين، تشابكَت أيديهم، وعلَت أصواتهم بمطلع النشيد: بلادي، بلادي، بلادي … لك حبي وفؤادي.

من الناحية المقابلة، تعلو مآذن أبي العباس وياقوت العرش والبوصيري، وقلعة قايتباي، من ورائها خليج الأنفوشي تبين منه الجزيرة الصخرية، والبلانسات البعيدة، والأفق المتداخل في ضبابية شفيفة.

إلى اليمين، المينا الغربية: المراكب الضخمة والأرصفة والمخازن والحاويات والمستودعات والرافعات والأبراج والمداخن.

إلى اليسار، المينا الشرقية: اللسان الحجري الفاصل بين دائرة الميناء، وأمواج البحر المتوسط، يمتد — من ناحية — إلى لسان السلسلة. ومن الناحية المقابلة إلى قلعة قايتباي، الجو الطياب، والحصيرة، والنوات التي تعلو بالأمواج، تصطدم بالمصدات الأسمنتية، والكورنيش الحجري، وتهبط — كسيلٍ — إلى أرض الطريق.

في الشارع الخلفي، يلعب الأولاد السيجة وكرة الشراب والبلي والنحل وعنكب ياعنكب وشكل للبيع. يتابع الواقفون فوق السطح، وفي النوافذ والشرفات، صعودَ المؤذن درجاتِ مئذنة سيدي علي تمراز إلى البسطة الأخيرة، يضع وجهه بين كفَّيه، ويرفع الأذان في أوقات الصلاة الخمس. خطب الشيخ عبد الستار (الاسم مستعار، رضي الله عنه) في صلاة الجمعة، يقبل لسماعها الآلاف من داخل الإسكندرية، ومن المدن الأخرى، ينتقد الملك فاروق والحكومات المتعاقبة والفساد والتعفن.

•••

انظر: الأبجر، أبو العباس، البوصيري، حمدي درويش، حميدو شومة، عبد الستار، علي تمراز، فاروق الأول، محمد كاظم ميلاني، ياقوت العرش. راجع كتابنا «حكايات عن جزيرة فاروس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤