أنجلو سبيرو

أنجلو سبيرو.

عَمِل أبوه سمسارًا في بورصة الأوراق المالية بميدان محمد علي. ثم فتح دكانًا للبقالة — قبالة أحذية باتا — بشارع الميدان. قاسمه أنجلو العمل أعوامَ دراسته بالمدرسة اليونانية، وتفرغ — بعد وفاة الأب — للبقالة. يشغى الشارع أمامه بعربات اليد، فوقها كومات الخيار والخس والطماطم والكرنب والبطاطس والبصل والثوم والبقوليات والفول والفلافل، والممبار ولحمة الرأس والكرشة والكوارع ولوط السمك، وتلاصق الأذرع والصدور والسيقان.

وجد في نهاية الحرب العالمية الأولى ما يُحفزه للسفر إلى اليونان. أسلم نفسه — في الأيام الأولى — للدهشة، ومطابقة ما رواه له أبوه على ما يراه. بعدها، شغله الحنين إلى الإسكندرية. يستعيد الأماكن والملامح.

قال لأبيه: عُد في الوقت الذي تختاره.

ثم في لهجة مؤكدة: سأعود إلى الإسكندرية بعد يومين!

أهمل الانتظار، بتوالي الأيام، وأَلِف الحياةَ بمفرده.

يلجأ إلى الحاج جودة هلال. يصبغ له شاربه وحاجبَيه. يترك شعر رأسه على بياضه. يتردد — في فترة المساء — على شارع صفية زغلول. يجلس في مقهى البلياردو، يشتري أسطوانات للموسيقى الغربية من محل «كولومبيا»، ولوحات — على فترات متباعدة — من «جارو» بائع اللوحات وأدوات الفن التشكيلي. قد يميل إلى الشوارع الجانبية، تُرافقه أطياف شخصيات كافافيس وداريل وفورستر. تصفو الملامح بتفرد الشخصية في الذهن، ثم تختلط بتوالي الشخصيات.

غاظه أن اليونانية لينا سوفالتجي حصلت على تبرُّعه لإتمام عمليات البحث عن قبر الإسكندر. تعدَّدت ترجيحاتها ما بين سيوة وشارع النبي دانيال وتحت قلعة قايتباي. أقنعه بصدق ترجيحاتها أنها عضو في جمعية يونانية للآثار، فهي تبحث عما تعرفه. تحدَّثت عن خريطة في حوزتها من أيام «استرابون»، تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، وروايات أخرى كثيرة.

لم تعثر المرأة على قبر الإسكندر، ولم يبدُ أنها ستعثر عليه.

قال أنجلو في أسًى: اختفت المرأة كما اختفَت النقود، وثبت أن قبر الإسكندر أكذوبة!

ظل — لسنوات — على علاقة بسيدة إيطالية متزوجة، تقطن الطابق الثاني في البيت الذي يقع الدكان أسفله. تُخلي له الطريق في مواعيد يتفقان عليها.

حين يغيب زوجها عن البيت، تُنير له الحجرة المطلة على شارع الميدان. يخترق المسافة بين باب الدكان وباب البيت. يتلفت — بعفوية — وهو يقفز — بوقع أقدام شاحب — درجات السلم إلى باب الشقة الموارب. يعود إلى وقفته في الدكان. طقوس الزواج ليست فرضًا على مَن يرفضها. من حق المرأة أن تحيا مع مَن تهواه، حتى لو تعرَّفت إليه بعد تبيُّن خطأ زواجها.

علَّمها اليونانية، وعلَّمته الإيطالية. تداخلَت مفردات اللغتين في أحاديثهما. أحب من الكتب التي أعارتها له، قصائد ناظم حكمت ولوركا وكفافيس ونيرودا، وروايات همنجواي وكامي ومورافيا، والتراجيديات الإغريقية، ومسرحيات شكسبير وتنيسي وليامز وإبسن وأونيل وبيكيت. اعتاد السهر في حجرته المطلة على شارع عبد المنعم، يقرأ، ويستمع إلى أسطوانات باخ وبرامز وبيتهوفن وموزار.

حدثها عن أدائه لدور الأب اليوناني في فيلم «الباشكاتب»، بطولة أمين عطا الله وأديل ليفي وبشارة واكيم وعلي طبنجات. أخرجه، وصوره، وأنتجه محمد بيومي. من أبناء الإسكندرية. أمضى سنوات في ألمانيا، تعلَّم خلالها التصوير السينمائي. أنشأ — بعد عودته — أول استديو سينمائي في الإسكندرية.

شاهد أنجلو كل الحفلات، وشرد به التمني، لكن المرض أقعد أباه في البيت، حل أنجلو في الدكان بدلًا منه.

تحدَّث عن استمتاعه بالتأخر في سريره أيام الآحاد. يُغلق دكانه مثلما يفعل معظم المحال والشركات ذلك اليوم في الإسكندرية.

فاجأته بالقول: ألَا تذهب إلى الكنيسة؟

بدا السؤال غريبًا ومربكًا. لم تخطر الكنيسة في باله. ينكر البعث والحياة الأخرى والحساب والجنة والنار. يرى أن جزاء الإنسان يتم في الحياة الدنيا.

قالت: أليس للروم الأرثوذكس كنيسة؟

– أقصد أنها تختلف عن الكنيسة الكاثوليكية.

– لم أطالبك بالتحول عن الأرثوذكسية. أتحدث عن الدين في حياتك!

كتم دهشته من الانفصام بين ما تقوله وما تفعله — هو يريدها — يرفض تصور أنهما يفترقان. قد يجر سؤال، أو ملاحظة، ما هو في غنًى عنه. ما داما يلتقيان، لا شأن له بترددها على الكنيسة، إن كانت بقية الأوقات تُتيح لهما اللقاء!

قال: الطقوس ليست دليلًا على التدين!

مَن كانوا أعداء الماضي صاروا أحباء اليوم. بقايا الإغريق وبقايا الرومان نسوا ما كان، وعرفوا الحب، والتفاهم الجسدي.

قالت له — ذات مساء — وهي تُمسِّد شعر صدره، إن زوجها رحل إلى نابولي، وإنه لا ينوي العودة.

أنكرَت المرأة طلب أنجلو أن تقصرَ علاقتها به. إذا كان زوجها قد أتاح لها حريتها، فإنها لن تأذن لأي رجل أن يفرض وصايته عليها. هي حرة نفسها.

أرهقه تمنُّعُها بأعذار كثيرة: أنا متعبة … عناقك يخنقني … أُعاني صداعًا … الدورة الشهرية تأخرت.

فاجأته — ليلة — وهي تغلق الباب وراءه: لم أعد أحب علاقتنا الجنسية … لكنني حريصة على استمرار صداقتنا.

دفع الباب بعفوية، ليسأل.

حدثته عن الحرية المطلقة، لا قيود، لا حدود، لا التزام بشيء. ما يريد أحدهما أن يفعله، فهو يفعله.

ناقش الأمر — بينه وبين نفسه — في لحظة، ثم وافق.

ظلَّا معًا، يتنزهان، يتكلمان، يتقابلان. تروي له عن علاقات تخوضها. يشاهدها مع آخرين. لا شأن له، وإلا ستهجره!

تغافل عما أثار انتباهه — مصادفةً — في الحقيبة المفتوحة. شريط حبوب منع الحمل، وسط النقود والمشط وأدوات الماكياج.

دعَته للاحتفال برأس السنة.

ارتدى بدلة كاملة، وارتدَت فستان سهرة. تجوَّلا فترة المساء في محطة الرمل. الزحام، عبارات التهنئة بالعام الجديد على واجهات المحال، الصخب المترامي من الكازينوهات والبارات على طريق الكورنيش، وفي شوارع الرمل ووسط البلد.

غادرا فندق سيسل والنهار يُوشك على الطلوع. أبطأت في خطواتها، واتجهت إليه بملامح اجتذبَت عينيه: فلنتحدث قليلًا.

– ماذا كنَّا نفعل طول الليل؟!

ظل صامتًا، يغالب الحيرة.

فاجأَته بالقول: سأعود إلى إيطاليا.

– تعودين؟ … أظن أن مصر هي بلدك؟

– أنا أجنبية في مصر.

وأشارت إلى ما حولها: حياتي ليست هنا.

قالت له إن أعوام إقامتها في الإسكندرية لم تسقط نظراتها إلى الشمال، إلى أوروبا. وُلدت في الإسكندرية، لكنها تعرف انتماءها إلى إيطاليا.

لم تُناقش أباها في نسبة الأسرة إلى نابولي، ولا ناقشَت أمها — بعد رحيل الأب — في نسبة الأسرة إلى ميلانو. اطمأنت إلى أنها تنتمي — بالوالدين — إلى ذلك البلد الأوروبي، المطل على الإسكندرية من الضفة المقابلة.

ثم وهي تُحرك بإصبعين خصلةَ شعر متهدلة على جبهتها: سأعود إلى نابولي.

– إلى زوجك؟

– إلى وطني … لم أرَ المدينة لكنني أحنُّ إليها.

فطن إلى أنهما سارا على قضبان منفصلة، ومتوازية. إذا لم يُدرك الملل أحدهما، فإن التعب سيُرهقه. لكنه لم يتصور أن سفر المرأة يترك — في حياته — هذا الفراغ. تصور أن ما قالته مجرد تهديد. خلت حياته من الصداقة التي لا تترك شيئًا للمصادفة: القراءة، وسماع الموسيقى، والعاطفة، وأوقات الدفء، والتمشي على الكورنيش، والتردد على المسارح ودور السينما.

طالَت قعداته إلى خليل الفحام. يستريح الفحام من تعب الجولات. تشرق أحاديثهما وتغرب. يقرأ جريدة «التاشيد روموس» اليونانية، لكنه يُتقن القفشة والنكتة وتبادل القافية، يستخدم الكناية والتورية والتشبيه، يُجيد تحويل الحديث إلى ما يخص حياته: نشأته في الأزاريطة، دراسته في العطارين الابتدائية، تردده — صباح كل أحد — على الكنيسة اليونانية بشارع فؤاد. يستعيد مرافقة أبيه. وهو طفل. إلى بار كوستي بشارع أنسطاسي. استمع إلى سيد درويش يغني في هجاء جليلة، حبيبته التي تنكَّرت له:

أما بقى ساتت دكان
استنى عنده بالقمصان
تلقى اللي فيه قاضي النسوان
عمر اللي زيه ما يتعتب
بيقولوا مرة عمل خلخال
ينفع ركاب لتلاتة بغال
سألت مين لبسته يا عيال
قالوا جليلة أم ركب

يتذكر — رغم انقضاء الأعوام — قامة سيد درويش العملاقة، ملامحه الأقرب للزنجية: بشرته السمراء، جبهته المرتفعة، وجهه المستدير، شعره المجعد، أنفه الأفطس، صوته الأجش، عينَيه الخضراوين.

تقبَّل خليل الفحام — بما يُشبه المفاجأة — قول أنجلو سبيرو إنه يجلس إلى جانب الراديو — مساء كل اثنين — لسماع تلاوة الشيخ محمد رفعت.

•••

علَّق على مدخل الدكان — ذات صباح — لافتة، كتب عليها «إن نطق الديك، شكك أديك».

قال أنجلو للدهشة المتسائلة: انتهى البيع بالأجل … أُعِد نفسي للسفر.

قال خليفة كاسب: لن يُنكر الناس حقك بعد عودتك!

– هذه المرة … لا عودة!

– لماذا؟

– تعبت! … أريد أن تكون أيامي الأخيرة في وطني.

كانت الإسكندرية تحيا تأثيرات ما بعد حرب ١٩٥٦م.

هاجرت أعداد كبيرة من الأجانب خارج مصر. شملت الهجرة فرنسيِّين وإيطاليِّين وإنجليزًا وأرمن ويونانيِّين ويهودًا. هاجرت أعداد من المصريين ذوي الأصول الشامية. تركوا أعمالهم، باعوا البيوت والشقق والمحال التجارية.

استعاد بيع اليهود ممتلكاتهم، عند اقتراب قوات الألمان من الإسكندرية في الحرب العالمية الثانية. لم يُطيلوا المساومة ولا الفصال. ما عرض عليهم لحقوا به أول باخرة إلى أوروبا، أو استقلوا قطار الشرق. أدت الهجرة الجماعية إلى شحوب القسمات الأجنبية في الإسكندرية، وفي مصر كلها. حلت لافتات كثيرة باللغة العربية بدلًا من الإنجليزية والفرنسية.

قال أنجلو: كانت مشكلة اليهود هي البحث عن وطن.

وهزَّ كتفَيه في تهوين: لا مشكلة عندي. سأعود إلى وطني.

تملَّك أنجلو شعور بالانسحاب وعدم الجدوى، وأصابته نوبات من الاكتئاب. هو خواجة في نظر أهل بحري، حتى الجيران والزبائن الدائمين. أكثر من الكلام عن اشتراكه في المظاهرات، واستقبال الزعماء في عودتهم من الخارج، وحضور الاجتماعات الانتخابية: عشت كما يعيش الناس، تصرفت كمصري تمامًا، أكثر — ربما — من الكثيرين!

أحزنه أن الإسكندرية لم تَعُد المدينة الكوزموباليتينية التي كانت. رحل الأجانب، أهم الملامح المغايرة للمدينة. معهم ما كانت تختلف به من عادات وتقاليد وإيقاع حياة. طال انحسار المياه عن الرمال، فتجمدت. لم يَعُد سوى العجائز الذين اضطرتهم الظروف المادية إلى البقاء. هو لم يبلغ السن التي يعجز فيها عن الرحيل، وظروفه المادية تُتيح له أن يجاوز تعثرات البداية في عودته إلى اليونان.

عرض لوحات مقلدة على حجازي أيوب. عرضها حجازي على سعيد العدوي. اعتذر بأنه إذا اشترى لوحات فستكون أصلية. باع بقية ما في شقته إلى تاجر في العطارين. ساومه قليلًا، ثم وافق. اشترط ألَّا يتسلم الرجل ما اشتراه قبل عودة أنجلو إلى اليونان.

قال خليل الفحام: كانت حربنا مع الإنجليز والفرنسيِّين والإسرائيليِّين.

واحتضنه بلهجة ود: مصر هي وطنك.

قال أنجلو: من المستحيل على المرء أن يخلق لنفسه وطنًا. الأوطان نعيش فيها، وتعيش فينا. الوطن ليس طموحًا ولا أمنية.

ثم وهو يومئ برأسه: أحيانًا، أشعر أني سكندري … أفاجأ بتسمية «خواجة» فأعرف الحقيقة.

تحدَّث عن استبدال أصابعه بالملعقة والشوكة والسكين في تناول الطعام، احتساء الجوزة بدلًا من النارجيلة، ارتشاف الشاي الثقيل بصوت مسموع، الجلوس متربعًا على الأرض، نوم القيلولة، استخدام العامية بتعبيرات السكندريِّين.

– أتصرف كما يتصرف ابن بلد، لكن تسمية الخواجة كأنها الوشم — بكلام الناس — على جسدي!

سرى في صوت الفحام انفعال: الحقيقة أنك سكندري … مصري.

وهو يربت صدره: مشاعر طيبة.

وتشاغلَ بتعليق قِطَع البسطرمة على واجهة الدكان: أظن أن الوطن هو حيث توجد لك عائلة.

وربت صدره: كما ترى، فأنا بلا أسرة!

ثم وهو يُغالب التألم: ما أقسى أن يموت المرء وحيدًا!

•••

انظر: الإسكندر، جودة هلال، حجازي أيوب، خليفة كاسب، خليل الفحام، سعيد العدوي، سيد درويش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤