الأنفوشي

تعدَّدت الروايات عن تسمية الأنفوشي.

قيل إنها تعود إلى الإيطالي أنفوس، أقامت عائلتُه في بحري، في زمن قديم، ورجحت روايات أنه من أولياء الله الصالحين.

رُوي أن سيدي الأنفوشي هو صاحب المقام داخل حجرة، بالطابق الأول، وسط مدرسة البوصيري الأولية.

ذكر أن الاسم ليس عربيًّا، لكنه فارسي. لعله «الكهنفوشي» الذي ورد في كتاب السخاوي «الضوء اللامع»، عن أعلام القرن التاسع الهجري.

ثمة رواية أخرى أن التسمية محرَّفة من اسم جندي في جيش السلطان قايتباي. أظهر الخيانة — بتأييد من السلطان نفسه — ليعرف ما يدبر الأعداء. رسا على ما سيفعله، وما ينتظره من عقاب. حياته ثمنُ القبول بتهمة الخيانة. يُضلل الأعداء في محاولاتهم النفاذ إلى داخل المدينة. يُعطيهم الأوراق الزائفة بدلًا من الأوراق الصحيحة. مَن كانوا يعدون الأوراق الصحيحة أُلقي القبض عليهم، وأُعدموا. يدفع الأعداء جنودهم. بالاطمئنان لما تحمله الأوراق — إلى داخل القلعة — يلقاهم جند السلطان بالإبادة.

نفض الجندي الأنفوشي عن رأسه تدبُّر النتائج. لا يملك إلا القبول برأي السلطان، هو الأشد معرفةً بصالح الجماعة، حتى لو كان الثمن حياة أحد جنوده. لم يدفع به إلى الموت لأن ذلك ما يريده له، وإنما لأن فقْدَ حياته وسيلةُ تضليل لجيوش الصليبيِّين.

قال السلطان: هل أُنبهك إلى ما سيقوله الناس عنك.

قال الأنفوشي في لهجة تسليم: أن يظنَّني الناس خائنًا وأنا أمين، أفضل من أن يظنوني أمينًا وأنا خائن.

أصدر السلطان أمره — وهو يعاني التألم — بإعدام الجندي الأنفوشي. قال السلطان في أمره إن الخيانة عقابها النفي من الحياة.

عرف الجندي الأنفوشي ما يجب فعله من خطوات: أسلم نفسه للقيود في يديه وقدميه، وبالحراسة على باب الحجرة المغلقة حتى يضع عنقه تحت سيف المشاعلي. استعان بحدة الإرادة، وشدة المجاهدة، وإطْراح ما سوى الله تعالى.

أهمل النظرات المفعمة بالغضب وعدم التصديق. سكت عن عبارات الشتم، والمؤاخذة، وقِطَع الحجارة التي قذفه بها الأولاد من ساحة القلعة.

عرف الثمن الذي يجب أن يدفعه لقاء اعترافه الزعم.

قرن السلطان إعلانَ براءة الجندي — فيما بعد — بدفنه في الحجرة نفسها، أسفل القلعة المسماة باسم قايتباي.

ما توصَّلنا إليه بالقراءة والتعرف المباشر، أن سيدي الأنفوشي ظل في سجن القلعة أعوامًا، حتى قضى والي الإسكندرية بإعدامه. كان في أثنائها قد أَلِف حياةَ العزلة، والانقطاع للعبادة والتأمل. يسبح لله تعالى، ويقدسه، ويمجده، ويوحده. إذا حان وقت الصلاة، أشار إلى القيود في يديه ورجليه، فتساقطَت. يؤدي الصلاة، ويعيد القيود إلى حيث كانت.

أعطى الكلمة للسلطان، وعليه أن يفيَ بما وعد. اطمأن إلى الغاية التي يبذل حياتَه من أجلها.

زهد في متاع الدنيا وجاهها. جعل هدفه الظفر برضوان الله.

تجلَّى الحق بأنوار الولاية عليه. أحب ذكر الموت، وترك ذكر الحياة. تعجَّل الموت. شغله أن يحيا هناء الآخرة.

نظر إلى باطن الدنيا، وأهمل النظر إلى ظاهرها، لم يتلوث بمحبتها، نظر إلى آجل الدنيا، بينما ينظر الناس إلى عاجلها. أخلص في طاعة الله، توكل عليه، وسلَّم أمره إليه. عكف على الخلوة والتعبد. يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر السبع. لا يرجو عفوًا ولا مثوبة ولا جنة. ما يرجوه مجرد الاتصال بالله، القرب من جلاله.

أدرك أنه لا قِبَل له بتذوُّق المعاني النورانية، فهي محجوبة عن عوام الخلق أمثاله. آثر الاختفاء والتستر على الظهور، وادعاء ما قد لا تؤهله له قدراته. فرَّغ قلبه من الفكر والنظر، أخلاه مما سوى الحق سبحانه.

لازم الذكر والمراقبة والتوبة والاستنكار والجلوس في الحضرة العلية. اصطنع المجاهدات والرياضات الشاقة. كلما وجد وقتًا، قام للصلاة، يؤدي من الركعات والسجدات ما لا يعدُّه. سلَّم وجهه إلى الله في كل الأوقات. لم يَعُد يرى إلا أسماء الله تعالى، وصفاته.

أتاح الله له خرق العادة، وخصَّه بأفعال الكرامات.

للولاية شارات وعلائم.

مخلوقات العوالم النورانية ترانا من حيث لا نرى، وتعلم عنا أكثر مما نعلم عن أنفسنا. الملائكة موجودون أحياء، لا يراهم أحد من البشر إلا مَن خصه الله بكرامة من أوليائه. صار الأنفوشي يرى الملائكة، ويُحادثهم، يتطلع — من خلالهم — إلى أنوار الحق تعالى، وبهاء المناظر الإلهية.

لم يكن يُقدم على تصرف، إلا إذا كان تنفيذًا للمشيئة الإلهية. يهمس الصوت الملائكي في نومه، أو يرى صاحب الصوت رؤيةَ العين فيما يُشبه الومضة. يُلقي كلماته، ويختفي.

رأى في منامه، ولعله حلم يقظة، أو يقظة كالحلم، الملك جبريل يهبط من علٍ بأجنحته الأربعة: جناح من لؤلؤ، وجناح من ياقوت، وجناح من زمرد، وجناح من نور الله سبحانه.

امتد المكان، فغابت المسافات. صارت بلا آفاق من كل الجوانب. يعرف أن خمسمائة عام تفصل بين كل جناح وآخر، على رأسه ذؤابتان، واحدة على لون الشمس، والثانية على لون القمر، رُصِّعتا بالجوهر والياقوت، وتتضوع منهما رائحة المسك والكافور.

ظل الملك صامتًا، وإن اكتسَت ملامحه بابتسامة مشفقة. ثم خفق بأجنحته، وحلق بعيدًا.

دعا الأنفوشي الحق أن يكشف ما كان مستورًا، ويُفصح عما كان خافيًا، ويُعلي صوت ما ران عليه سكوت. يسهل أمره فيكتم بذل نفسه فدية عن الجماعة. لا يطمع إلا في أنوار الله سبحانه.

لمعت لوامع اليقين في قلبه. بلغ درجة الخواص من القاصدين. أيَّده الله بالكرامات، وغيَّب عنه البدع. هذه تجليات الحق تعالى، يظهر بها على مَن يشاء من عباده.

•••

رُوي أن المشاعلي الموكَّل بإعدامه دخل عليه الحجرة، فوجده قائمًا يصلي.

لما فرغ من صلاته، هوَى المشاعلي بالسيف، فلم يُصِب الأنفوشي بشيء، ولا اهتزَّ في موضعه، ولا تألَّم.

ألقى المشاعلي سيفه من الخوف، وجرى إلى ساحة القلعة.

لحقه صوت الأنفوشي: لم أكن قد أعلنت موافقتي، فعُد!

دُفن حيث أمضى سجنه، وحيث أُعدم، أسفل قلعة قايتباي. على يسار المدخل الرئيس. لما همَّ المغسِّل بغسله، أُلقيت أمامه ليفة مبلولة، يرافقها صوتٌ غائب المصدر: هذا ماء من زمزم.

استبدل المغسِّل الليفة بما في يده. لم يجفَّ الماء في الليفة، حتى أنهى الغسل تمامًا.

•••

ظهرت — بتوالي الأعوام — بركات سيدي الأنفوشي ومعجزاته.

ظلت روح ولي الله على خيرها، وحبها للناس. لم يؤثر فيها أنه دفع حياته ثمنًا لإخلاصه لقومه.

عرف الناس أن الموت لا يعزل الولي عن ولايته، المكاشفات لا تنقطع، تُعين الناس على أمور دنياهم، وتدلهم على طريق الصواب إلى الآخرة.

يأتيه الجانُّ ورجال الغيب، يدلُّهم على طريق الصواب، يظهر في أوقات الليل والنهار، يتهدج صوته في هدأة الليل بدعوات وابتهالات وأذكار. لم يكن يخالط أحدًا من المترددين على القلعة، وإن نسبوا ما تحقق — بفضله — لهم، ولذويهم، ما بدل حياتهم من العسر يسرًا.

حين استغاث به الصياد السعداوي شبانة من تأثير نوة الفيضة الكبرى على صيد الطراحة، فهو يستعيدها فارغة، دعا ولي الله للصياد بالرزق. سحب الصياد طراحته، فشهق لرؤية أنواع الأسماك التي تحيا في الأعماق البعيدة.

عانت الإسكندرية جوًّا باردًا في عام ١٩٣٤م. استغاث الناس بسيدي الأنفوشي. دعا الله لكي يقيَ الناس قسوة البرد. أجاب الله دعاءه.

حين هوى عامل بهيئة الآثار على ضريح سيدي الأنفوشي، بفأس، يريد هدمه، تحوَّلت الفأس — بمجرد تحريكها — إلى حية بحجمها. أدارت رأسها ناحية العامل. لدغَته، فمات لتوه.

لما ألمَّ الوباء بالإسكندرية في ١٩٤٧م، تشفع الناس في ولي الله. عرض الأمر على أولياء الله في مجلسهم داخل ساحة ضريحه.

ظل الوباء — حتى تلاشيه — بعيدًا عن بحري، وعن الإسكندرية.

كان صوته يتناهى من داخل القبر، يحمل نبرةَ الاعتذار في حديثه عما تلزمه به وظيفته، هو جندي في جيش السلطان أدى واجبه، بذل حياته — بتقبل تهمة الخيانة — فدية عن حياة الناس، لا شأن له بالمشيخة والوعظ والإفتاء، لا صلة له حتى باجتهادات الصوفية. لكن معجزاته في حياة الناس تضعه في موضع الأولياء، وتضع الناس في موضع المؤمنين بقدراته التي ترتفع عن قدرة البشر.

ستر الأنفوشي أذواقه ومكاشفاته عن الذين قد لا يعون حقيقة المعاني، ودلالة الأفعال والكلمات والإيماءات والإشارات.

•••

رُوي أن أبا المعاطي عنبة، عرضحالجي المحكمة الشرعية، تشكك في الحكايات التي تتحدث عن سيدي الأنفوشي، وما إذا كان مجرد جندي في جيش السلطان قايتباي، أم أنه رضي بتهمة الخيانة، فاكتسب الولاية، مقابلًا لما أسداه لسلطانه، ووطنه.

علا صوت الرجل بما يسيء، في حضرة ولي الله. قرن كلماته بأن أخرج قضيبَه ليبول على الضريح. تجمَّد البول المندفع، تحول إلى ما يُشبه العصا الرفيعة، المتيبسة.

أسلم أبو المعاطي الروح قبل أن تَصِل سيارة الإسعاف إلى مستشفى رأس التين.

أراد حميدو شومة أن يجدد الضريح. كان الطلاء قد تآكل، وتآكلت حجارته بطوق الملوحة من حوله.

اعتذر مفتش الآثار بالقلعة أن كلَّ ما فيها يجب أن يظل على حاله، لا تعديل، ولا تحوير، حتى لا تنشأ مشكلة تشوه الأثر، وتُسيء إلى قيمته.

قال حميدو: سيقتصر العمال على ترميم الضريح.

– لا أملك السماح بدخول القلعة إلا لعمال هيئة الآثار. هذا عملهم!

حتى الفجوة في الجدار ظلت على حالها. رُوي أن بداخلها ثعبانًا ضخمًا، يُعنى بحراسة الضريح. يُدرك النيات الشريرة، فيتصدَّى لها.

رفض أن ينسب إليه ما تيقن الناس من أنها كرامات صدرت عن ولايته. أخفى أحواله، وكتم أسراره. رجح كفة المصادفة والتصرف التلقائي، حتى لا يكون ما حدث مكرًا واستدراجًا، فيخسر تواضعه، وانكسار نفسه لله تعالى.

•••

لما تنزلت عليه الملائكة، وأعلمَته أنه ولي — له المهابة والتوقير — زال عنه الخوف، واطمأن إلى ولايته، وأن ما صدر عنه كرامات، أتاحَت لتحققها قدرة الله — سبحانه — وسابغ عطفه. تولَّى الله بالطاعة، فتولاه بالكرامات.

الولي هو الذي يأمر بالاعتقاد الصحيح، القائم على الدليل، ولا يُقدِم إلا على الأعمال الصالحة، وفق ما تقضي به الشريعة. لا بد أن تكون الأرض عامرة — في توالي العصور — بأولياء الله، هم موجودون في كل زمان، يبصِّرون الناس بأمور دينهم، ويشيرون عليهم بحقائق الكتاب والسنة.

صارَت له قدرة هائلة على كسب الأتباع، واجتذاب العلماء والطلاب والمريدين إلى حلقات درسه، مَن يتوسم فيهم الاستعداد لاتباع طريقه. يضع يده على رءوسهم، داعيًا الله لهم أن يمدَّهم بروح منه، وبالشفاء إن كانوا مرضى، وبالنصفة إن عانوا الظلم. وكان يخاطب أُذُن مَن يقصده من المريدين: إذا لم تكن تُحسن العوم، فلا تقترب من مزالق الشطوط!

لم يَعُد يُحزنه أنه بلا امتداد، بلا أبناء ولا تلاميذ، يأخذون عنه علومه وأسراره. أقبل الكثيرون على الالتفاف حول ولي الله، ومشاركته عزلة حياته، والأخذ عنه. أيقنوا أنه وليٌّ من أولياء الله، عليهم أن يصدعوا بأوامره، ويستجيبوا لإشاراته.

أجلُ رسالتِه لن ينتهيَ بوفاته.

•••

نُسبت إلى سيدي الأنفوشي — بعد رحيله — مكاشفات لا حصر لها.

كان عزوفًا — في الحياة الدنيا — عن تناول الطعام. تطول الأيام والأسابيع دون أن يأكل. حدس الناس أن معظم طعامه من مصدر مجهول. لاحظوا أن أعراض المرض، أو الضعف، لم تظهر عليه. وكان وزنه يزداد.

قصده السعداوي شبانة في شيء. أدخل وليُّ الله يده في جيبه، أخرج منه ما طلبه السعداوي. كان الرجل ينظر إلى جيب الأنفوشي. يعرف أنه يخلو من أية نقود. اكتفى بنظرة تساؤل.

قال الولي في هدوء: الخضر — عليه السلام — يأتيني بكل ما يُطلَب مني.

إذا أراد سمكًا، أشار إلى الموج، وردَّد كلمات. ينحسر الموج عن أسماك كثيرة، تظل في أرضية البحر. يدعو مريديه إلى أخذ حاجتهم حتى الاكتفاء، ثم يشير — ثانيةً — ناحية الموج، ويردد كلمات. يعود الموج إلى سابق حاله.

رآه الناس يبول على صخور الشاطئ فتتحول إلى ذهب. طار وعاءٌ به طعام، همَّ بأكله أحدُ مريديه في حضرة المقام. قبل أن يُظهر المريد دهشته، كان عقرب يخرج من الطعام المراق على الأرض. وكان مريدوه يُبللون أيديَهم من ماء وضوء ولي الله، يمسحون به على أجساد المرضى، فيشفون بإذن الله.

رُوي الكثير عن حالات شفاء تمت على يدَيه الطاهرتين، سواء في الحلم أو في اليقظة. حتى بعد وفاته. زاره مريد لا يقوى على الوقوف ولا المشي. نظر الشيخ إلى حاله، وتمتم بأدعية. عاد المريد في نهاية الجلسة — ماشيًا — إلى أهله. وكان يتردد على مريديه في أيام المرض. يخترق الأبواب والجدران والظلمة. يضع يده على جبهة المريد المريض، ويمضي. يصحو المريد في الصباح على غير ما كان عليه أول الليل. ولما اشتد المرض على بلال البطران التاجر بناحية العطارين، سقاه ولي الله ماء وضوئه، فشُفي.

كان يفاجئ الناس في الأسواق بالكلام عن أحوال، يتصورون أنهم أودعوها صدورهم. تغيب عن العين لمعةُ المفاجأة، حين يسأل ولي الله عن أمورهم الشخصية، الزوجة والأبناء والصحة والمرض والرضا والسخط والمشكلات الصغيرة. يُكلمهم عن أحوال عايشوها في رؤى الأحلام. يربِّت خدَّ المريض بأصابع مترفقة، أو يضع يده على رأسه، ويقرأ في أذنه، فيشفَى، يُطيل النظر إلى بطن الحامل، ويتلو آيات قرآنية وأدعية، فتلد دون معاناة. وعُرف أنه يُبرئ الأكمه والأبرص والمجذوم.

•••

كان يخرج من الضريح في ساعات خلو القلعة من الزوار. يقف أمام البناء ذي الطوابق الثلاثة، على هيئة مربع، يتوسطه مسجد، وتحيط به — من الجوانب الأربعة — أربعة أبراج نصف دائرية. يتوسط البرج الرئيس، الساحة الداخلية للقلعة. الأسوار الحجرية العالية، الحواصل المطلة على الصحن، أعمدة الرخام والجرانيت.

يصعد الدرجات الحجرية.

يُطل من المزغل المواجه للبحر. يتأمل البلانسات، وارتطامات الأمواج في أسفل القلعة، وفي المصدات الأسمنتية.

أَلِف السياحة في الخلاء، وعلى شاطئ البحر. قد يسلك طريق أقطاب الصوفية، فيجاوز المكان إلى فضاءات بعيدة، يخلو فيها إلى نفسه، يمشي على الموج، أو يطير في الهواء، أو ينتقل بالروح والوجدان، دون أن يترك مكانه. يقضي الوقت في مجاهدات، لا يدري بسرِّها أحد، ثم يعود إلى داخل ضريحه في قلعة قايتباي.

كان يردِّد مع السمك تسبيحاته. وكانت مخلوقات البحر تدخل القلعة. تجلس بالقرب من ضريح ولي الله، أو تمشي حوله، لا تعلو أصواتها، ولا تحاول الحفر، أو النبش، أو التشمم.

صرف الله مخلوقات البحر عنه، قرَّبها — في الوقت نفسه — منه. صارت تحرسه من كل سوء، بأمر من الله.

قال غريب أبو النجا إنه شاهد — بعينيه — طائر نورس، يحوم سبع دورات أمام باب الضريح، ثم يقول بصوت واضح النبرات: السلام عليك يا سيدي الأنفوشي.

وينطلق في الفضاء.

قيل إنه إذا وجَّه — من وراء الضريح، أو بخروجه الذي لا يرى — قواه الخفية، نظراته، أو ما يصدر عن أصابع يديه، أو إيماءات رأسه، فإن مَن يقف أمامه قد يُصيبه الشلل، أو العته، أو يسقط مغشيًّا عليه، لا يعود إليه الصحة إلا عندما يغفر له وليُّ الله ما ارتكبه من خطأ، أو ذنب.

وكان يشفي بمجرد النظرة. وينظر إلى الشخص نظرةً واحدة، فلا يُصيبه مرض أو ألم بعد ذلك أبدًا.

أخذ العهد على طوائف الجن، لا يُؤذون أحدًا من مريديه، ولا المترددين على مجلسه.

ظهر في ناحية اللَّبان فتوة، عاملَ الناس بالظلم، وقسا عليهم، وفرض من الإتاوات ما لا يستطيعون دفعه.

لجأ أهلُ اللَّبان إلى ولي الله. تحدثوا عن ضيقهم من تصرفات الفتوة، وتمنَّوا زوال ظلمه.

تناهى صوت الولي: إذا كان الرجل ظالمًا فليُمته ربه!

بعد أن مضى ثلاثة أيام على عدم مغادرة الفتوة بيته في شارع السبع بنات، طرق أتباعه البيت. وجدوه ميتًا في سريره، والرائحة المتعفنة تفعم المكان، ما يشي أن الموت لحق الرجل في يوم فائت.

ردَّ الكثير من الفتوات ومحترفي الجريمة عن حالهم. صاروا مريدين له، أو صاروا من السالكين.

أَلِف طيَّ الأرض، والمشيَ على الماء، وركوب الهواء، وانقلاب الأعيان، وانزواء الأرض، وطيَّ الزمان ونشره. التنقل — بالروح وبالجسد — في ملكوت السماء والأرض. وكان الله ييسر له الوضوء شتاء، فيؤمن له الماء وهو بخار. وإذا صلى في الحر، شكلت طيور البحر ما يُشبه المظلة من فوقه. وحين اشتدت الظلمة ذات فجر، وعجز عن الوضوء للصلاة، دخل القلعةَ نورٌ من السماء. توضأ عليه ولي الله، وأدى صلاته.

شاهده مريدوه يطير بلا جناحين، يطوف العالم في لحظات يصعب التنبه لمرورها. صادق عروس بحر، تطير به فوق الأمواج تنقله من حيث يقف، إلى الجهة التي يريدها. وكان ينتقل — بروحه — إلى مكة، ثم يعود في الليلة نفسها.

لم يكن يفعل ذلك في الحلم، أو في التصور، لكنه كان يرى ما يتحدث به. معتمرون وحجاج إلى بيت الله الحرام والروضة النبوية الشريفة، عادوا، فطابق وليُّ الله بين ما رآه في ليلة انتقاله، وبين ما شاهده آنذاك. إن لم ينتقل، رأى مكة والمدينة من فوق قلعة قايتباي.

•••

صار الناس على اعتقاد في قدرة الولي على قضاء الحاجات. انكشفت عنه الحجب، وكشفت له الحقائق. صار له من المناقب ما لا يُحصى، ومن الفضائل ما لا يُستقصى.

أقبل على حجرة الضريح رجالٌ ونساء، يطلبون المدد والنصفة. يوفون النذور بذبيحة، أو بمال، لشفاء المريض، وحمل العاقر، وفرج المكروب، واستعادة الغائب، واستجابة الدعاء، والإخبار بالمغيبات. تشمل بركاته مَن يطلب الزواج فيتزوج، ومَن يرجو الولد فيُنجب، ومَن يُسرف على نفسه فيتوب. أيقنوا أنه يقدم مروءته — من داخل قبره — لكل مَن يستغيث به. قد ينهض من ضريحه، يغادره بما يمتلكه من بركات.

إذا اشتدت الرطوبة، وقف على ساحل البحر، ونظر إلى الأفق كالمنتظر. تهبُّ نسائم لطيفة، ليست من مألوف الجو في تلك الفترة، يستروحها الناس من الكتمة الخانقة.

يأخذ الناس مسحات من التراب الذي وطأه بقدميه، يتبركون بالصلاة عليه.

يتوسل الصيادون بولي الله، يطلبون وساطته، لتمتلئ الطراحات والجرافات. لا يكذب سيدي الأنفوشي توسلهم. يسحبون الشباك محملة بكميات هائلة من الأسماك. حتى صيادو السنارة، عرفوا سرَّ ولي الله. كانوا يرفقون إلقاءهم السنارة في المياه هاتفين: يا بركة الأنفوشي!

كان ينثر التراب على سطح الموج. يتحول إلى أسماك تتقافز فوق المياه، تطلب الصيد.

اعتاد الريس غريب أبو النجا — قبل أن يركب البلانس إلى أعالي البحار — أن يستنبئه الغيب، وما إذا كان البلانس يرحل، ويعود محملًا بالخيرات، أم تواجهه النوة بأخطارها؟

يعلو صوت ولي الله بالقول: حاذروا من اليوم الفلاني، ومن المنطقة الفلانية. يتحدث عن التأثيرات التي ستحدثها النوة. ليست توقعات، لكنها ما يثق أنه سيحدث بالفعل.

ولي الله يرى ويسمع، ما لا نراه أو نسمعه. يعرف الأمور على حقيقتها.

إذا أعطى الولي إشارة الإذن، فإن الريس يبدأ في إعداد البلانس، أو يواصل إعداده. إذا حجب الولي إشارته، فإن الريس يُطيل وقت البقاء في الساحل.

حدس غريب أبو النجا، أن الضربات التي لاحقت الصياد الجديد، وأجبرته على ترك البلانس، مصدرها سيدي الأنفوشي.

قال أبو النجا: لماذا ضربته يا مولانا؟

تناهى صوت ولي الله: لقد أذهبت الشيطان!

– إنه زميل جديد، عرض نفسه فقبلناه.

– إنه شيطان، أعدَّ نفسه لإغراق البلانس، ومَن فيه!

عُرف عنه سيطرته على القوى الخفية، وتسييرها، واستخدامها لأغراض الشفاء والسلامة والخير.

أتاحت له قدراته الإيمانية، والمدد الصوفي، وبركاته، أن يسخر الإنس والجن والوحوش والطيور والبهائم. قد يدعو الله — سبحانه — فتقصر النوات، حتى تسهل على الصيادين حياتهم، وسُبُل الحصول على الرزق.

لما تعرَّضت الإسكندرية ١٩٦٧م لهجوم من ناحية البحر. بدَّل وليُّ الله هيئته إلى أشكال البشر العاديِّين والحيوان والأسماك والطير. يترك فراشه بالروح. يخوض المعارك ضد مَن يحاولون التسلل تحت الأمواج، بينما يظل جسده في موضعه داخل القلعة.

لطلب النصفة والمدد والبرء من العقم، وحل ما يعانين من مشكلات، يتردد النسوة — بعد صلاة الجمعة — على ضريح سيدي الأنفوشي، يكنسنَ قبالة الضريح، دلالة كنس الظلم من الدنيا، يُشعلنَ الشموع، يضوعن البخور. يتحسسن الضريح بأيديهن، يضعن ترابه في جيوبهن، يتمرغن على الأرضية المحيطة بالضريح. يضعنَ عليه قِطَعَ قماش ممزقة، تعاويذَ، نذورًا، رسائلَ أمنيات وشكاوى في أوراق مطوية. مَن تنشر منديلًا فوق الضريح، ترفقه بدعوات وتوسلات إلى ولي الله، أن يكفَّ عنها أذي شخص ما، حل ربط زوج، شفاء مرض طال بأحد الأبناء، عقم يلوك الزوج — بتأثيره — كلمة الطلاق. إذا لجأ إلى ضريحه أحد، واشتكى من ضياع شيء يخصه، ترامى صوتُ الولي بالتجسيد، أو بالهاجس: اذهب إلى المكان الفلاني تجد ما تبحث عنه.

ألحَّ الجوع على زائرة لضريحه، سقطت ثمار التين من الشجرة اليابسة في طرف الساحة الترابية.

شغل المرأة السؤال: كيف تحوَّلت الفروع المجدبة إلى ثمار؟ لكنها أكلت منها حتى شبعت.

أشفق على الفريش الحنفي عبد المعتمد لإخفاقه في بيع الترسة بعد أن ذبحها. لحق الترسة بعد أن كادت تتعفن. انتفضت عائدةً إلى الحياة.

•••

اجتذبت خليل الفحام — في جولته لتسجيل المكان — المناقشات المنبعثة من الساحة الترابية.

ظن — في البداية — أنها لحراس القلعة، يتسامرون، ويسلون أوقاتهم. ثم شدَّت انتباهه العباءات والعمائم الجالسة في صفَّين متقابلين. أدرك أنها لأولياء الله الصالحين: الشاذلي وأبي العباس والبوصيري وياقوت العرش ونصر الدين. قد لا يكون إدراكًا بالمعنى الصحيح، لكنه تخمين نبَّهه إليه ما تواتر عن تردُّد أبي الحسن الشاذلي على بحري. جلوسه إلى أولياء الله من ساكني الحي. يذكرون اسم الخضر فيشاركهم وليُّ الله جلساتهم. الساحة البعيدة، الخالية، أنسب الأماكن لهذه اللقاءات، يتكلمون في الأحوال، ومقامات أهل الولاية، ينظرون في أحوال العالم، يتذاكرون العلوم الدينية، والحكم، والمواعظ، وأحوال الآخرة، يتدارسون أمور الطريقة الأحمدية الشاذلية، وأمور مريديها وأتباعها في بحري، وفي امتداد المدن المصرية، يناقشون ما ينبغي فعله.

ترقَّى الأنفوشي، بجلسات الأقطاب في حضرته، وبطالبي الشفاعة والنصفة والمدد. سطعَت عليه أنوار التجلي الإلهي. تلقَّى الحقائق، والأسرار الإلهية، والإلهامات الربانية، والمكاشفات، والفتوحات، والمشاهدات. صار من كبار الأولياء وأرباب الكرامات والمواهب والمقامات والأحوال والأنفاس الصادقة.

شاهد ما لا يراه إلا الخواص من الأقطاب: القبة البيضاء، الأبواب المصنوعة من الذهب الأحمر، البيوت ذات جدران الفضة والذهب والياقوت واللؤلؤ والزبرجد. الحجرات التي يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. تراب المسك والعنبر، وحشيش الزعفران، حصباء الياقوت والدر، فسيفساء الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والدر الأبيض، تجاوب السرر والحجرات بالصرير. الأنهار الأربعة: نهر الماء، نهر اللبن، نهر العسل، نهر الخمر، أصل الأنهار الأربعة من البسملة. أنهار الرحمة تجري إلى جميع الجنان، حصباؤها اللؤلؤ أبيض من الثلج، وأحلى من العسل، فيها نهر الكوثر، ونهر التسنيم، ونهر السلسبيل، ونهر الرحيق المختوم، وأنهار أخرى يصعب حصرها. اصطفاف الأشجار ذات السيقان المذهبة، وأوراق الزمرد، تدلِّي الثمار اللينة كالزبد، الأحلى من العسل. أغصانها لا تتيبس، أوراقها لا تسقط، رطبها لا يفنى. أكبر أشجارها طوبى، أصلها من در، ووسطها من ياقوت، وأغصانها من زبرجد، وأوراقها من سندس، عليها سبعون ألف غصن، وأغصانها متصلة بساق العرش، وأدنى أغصانها في السماء الدنيا. يلتقط الفاكهة التي يتخيرها، ولحم الطير الذي يشتهيه. ألوان النعيم والدواب المسرجة. الثياب الخضر من سندس. يركب جوادًا له جناحان مسرجان، ملجَّمان، مرصَّعان بالدر والياقوت، لا يروث ولا يبول، يطير في الجنة، من تحته أنهار اللبن والعسل والخمر والماء الصافي، وأرض المسك والكافور والعنبر. يتضوَّع سبعون نوعًا من الطيب، ليس منها رائحة مقاربة للأخرى، وثمة تغريد الطير، وإشراق الحور العين، لكل حورية سبعون سريرًا من ياقوتة حمراء، موشحة بالدر، لكل حورية ألف وصيفة لحاجتها. الاستغراق في نشوة التجلي.

سلكَته أعماله في عداد أولياء الله الصالحين. ظهرَت عليه كرامات عظيمة، وأحوال خارقة. صار من أهل الخطوة والولاية والكمال.

حين يجلس الأولياء في الساحة، يختار موضعًا قصيًّا. يصيخ السمع ولا يتكلم. للولاية درجاتها. للأولياء الجالسين درجاتهم العليا. ليس من التأدب أن يشارك بسؤال، أو ملاحظة، أو تعقيب.

مرة واحدة، نطق — دون تدبر — بالسؤال: لماذا لا يشارك سيدنا علي تمراز في مجلسكم الموقر؟

قال الشاذلي: علي تمراز تشغله أمور الدنيا. نحن تشغلنا أمور الآخرة!

•••

انظر: أبو الحسن الشاذلي، أبو العباس، البوصيري، حميدو شومة، الخضر، خليل الفحام، علي تمراز، غريب أبو النجا، ياقوت العرش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤