البوصيري

هو العارف بالله شرف الدين أبو عبد الله، محمد بن سعيد بن حماد بن محسن بن عبد الله بن صنهاج بن هلال الصنهاجي، نسبةً إلى فرع من قبيلة صنهاج — أو صنهاجة — من بلاد البربر في المغرب. لُقب بالبوصيري نسبةً إلى «بوصير» القريبة من الفيوم.

وُلد في اليوم الأول من شوال سنة ثمانٍ وستمائة من الهجرة، أي في أوائل القرن السابع الهجري. أبوه من قرية دلاص، وأمه من قرية بوصير. اشتق له اسم يختلط فيه اسمَا قريتي الميلاد (دلاص)، والنشأة (بوصير). نطق الناس للاسم حوَّره بالتدريج، فصار البوصيري، وهو الاسم الذي اشتهر به.

أمضى طفولته في مدينة أبيه «بوصير». تعلَّم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن، وعلوم الدين. انتقل إلى القاهرة. تلقَّى في كتاتيبها ومساجدها بعضَ العلوم الشرعية واللغوية. لحُسن خطِّه عَمِل خطاطًا، ثم التحق كاتبًا للحسابات بضرائب بلبيس. لكنه ما لبث أن هجر الوظيفة، بعد أن ضاق بمعاناته من أعبائها. وكان قد أظهر تبرُّمَه بالوظيفة والموظفين في العديد من القصائد، منها:

لقد خبرت طوائف الموظفينا
فلم أجد فيهم أحدًا أمينا

انتقد في قصائده عيوب السلطة، والإدارة الحكومية، والمجتمع، وسلوكيات الحياة اليومية.

غادر بلبيس إلى القاهرة. افتتح فيها كتَّابًا للأطفال. ثم اتجه إلى الإسكندرية، حيث أقام — ويقيم — أقطاب الصوفية، نجوم الفترة: الشاذلي، أبو العباس، ياقوت العرش، الدسوقي، البدوي، الصباغ، الدريني، وغيرهم.

رفض أن يستقل بالاجتهاد.

اتصل بسلطان الإسكندرية المرسي أبي العباس، وتتلمذ عليه. أقبل على طريقه الصوفي. سلك طريق المرسي في الاجتهاد. عرف الأحكام بالطريق التي سبقه إليها أبو العباس. تقيَّد بفتاوى أستاذه وآرائه واجتهاداته. لُقِّب بشرف الدين، وصار من أقطاب الشاذلية، وإن ميَّز نفسَه بين هؤلاء الأقطاب بقصائد في مدح الرسول. وكانت البردة هي آخر، وأجود، تلك الكتابات على الإطلاق.

يقول البوصيري: «كنت قد نظمت عدة قصائد في مدح رسول الله ، منها ما كان اقترحه عليَّ الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير. ثم اتفق بعد ذلك أن صاحبني فالجٌ أبطل نصفي، وعجز الأطباء عن شفائه. فكرت في عمل قصيدتي هذه، فعملتها، واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيَني، وكررت إنشادها، ودعوت، وتوسلت، ونمت.»

يُضيف البوصيري: «عندما انتهيت من إنشاد البردة، رأيت النبي ، في المنام، فأنشدتها بين يديه. لما انتهيت إلى البيت: فمبلغ العلم فيه أنه بشر، سكتُّ، ولم أقدر على تكملة البيت.

قال النبي: اقرأ.

قلت: يا رسول الله، إنني لم أوفق للمصراع.

– قل: وإنه خير خلق الله كلهم.

أدرجت المصراع في البيت المتقدم. جعلته صلاة متكررة بعد كل بيت، حرصًا على لفظة .

مسح النبي وجهي بيده المباركة، وألقى عليَّ بردة، فانتبهت ووجدت فيَّ نهضة. قمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمتُ بذلك أحدًا.

لقيني بعضُ الفقراء، فقال لي: أريد أن تعطيَني القصيدة التي مدحت بها رسول الله.

– أيها؟

– التي أنشدتَها في مرضك.

وذكر لي أولها. وقال: والله لقد سمعتُها البارحة تُنشَد بين يدي رسول الله ، ورأيته يتمايل إعجابًا بها، وألقى على مَن أنشدها بردتَه.

أعطيته إياها، وذكر الرجل ذلك، وشاع المنام.»

ذاع خبرُ البردة. بلغ الصاحب بن بهاء وزير السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري. استدعى البوصيري. طلب منه أن يُنشد البردة. حرص أن يسمعها قائمًا على قدميه، عاري الرأس.

أنشده البوصيري بردته.

طلب الوزير من البوصيري أن يكتب القصيدة بخط يده. احتفظ بها، متبركًا. وظل يقرؤها في المناسبات، حتى مات، فاحتفظ بها ابنه.

أُشيع عن أفضال البردة ما لا حصر له، هي العمدة في حلقات الذكر، والإنشاد، والقصائد، والمدائح النبوية. تحكم الشرع، وتضبطه، تشفي من الأمراض، تفرج الكروب، تسهل الأمور العسيرة، تصفي القلب، تطهر النفس بدوام الذكر والمجاهدة.

ظلت حلقات الدرس في الأزهر الشريف تدرس البردة — لسنوات طويلة — يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع. البردة، أو القصيدة الميمية، مكتوبة بماء الذهب أعلى جدران جامع البوصيري.

أفلح البوصيري في أن ينال — بما كتبه في الشعر والنثر — حظوة عند الطبقة الحاكمة. يقول ابن حجر: «كان البوصيري — رحمه الله تعالى — من عجائب الله في النظم والنثر، وإن لم يكن له إلا قصيدته المشهورة بالبردة، لكفاه فخرًا، وكذلك قصيدته الهمزية البديعة.» ويقول زكي مبارك «يمكن القول إن جميع القصائد النبوية التي قيلت بعد البوصيري، على الوزن والقافية، كان أصحابها مسوقين بالروح البوصيرية.»

كانت البردة آخر ما أبدع البوصيري من قصائد. ظلت هي العمدة في إنشاد المدائح النبوية، والابتهالات، وقصائد المتصوفة.

•••

داوم التفكير في الله، والركون إليه. ربط قلبه في الله بسائر أوقاته وخلواته. داوم على العبادة والذكر والتقشف بالعيش. لا ينام الليل، ولا يأكل في النهار، ولا يتكلم إلا لضرورة. قيَّد أسراره بأسرار الشريعة، العبادة والذكر والتسبيح والصلاة. لم يكن يُرى إلا مصليًا، أو ذاكرًا. يكتفي بالتذكير والتفكير والموعظة الحسنة والقدرة ورفع الهمة. كلمات مفعمة بالرموز والإيحاءات والإشارات.

هبَّت عليه أنوار اليقين. أُوتيَ مفاتيح العلوم كلها. صار من أصحاب العلوم والمعارف والأحوال. أظهر من الكرامات وخوارق العادات ما يؤكد ولايته.

ذاع أمرُه، وكَثُر مريدوه وتلاميذه وأتباعه، وانتشرَت ألويته. أقبل الناس على ضريحه. يثقون في قدرة صاحبه على قضاء الحوائج.

مَن تشتد عليه الضائقات المالية، يدعو له، فيُغنيه الله. من يتمنَّى زيارة البيت الحرام، يدعو له، فييسر الله له مبتغاه. مَن أعجزته الظروف عن الزواج، دعا له، ففتح بيتًا. إذا وقف — أو سار — في مكان، حفَّت به الأنوار، كأن النور ينبثق من جسده. بالإضافة إلى الإنس والجن، فقد أخضع له جنودًا كثيرة من مخلوقات، لا يعرفها الناس، ولا يعرفون أسرارها.

كانت الأرض تُطوَى له، فهو من أهل الخطوة. يترك لسجادته — في أوقات متقاربة — أمرَ السياحة به فوق أضرحة الأولياء ومقاماتهم، لا يستثني حتى مَن تنأى بهم المسافات عن الإسكندرية. تكفيه ومضاتٌ من الوقت لما يأخذ من سواه أيامًا بطولِها. كان يصلي الصلوات الخمس في مكة، دون أن يترك موضعه داخل الحلقة.

لاحظ مريد ما يُشبه الكدمة في أنف ولي الله. سأل عن سببها. قال البوصيري إنه أُوذيَ في أثناء طوافه — صباح ذلك اليوم — حول الكعبة. دفعه الناس في ظهره وهو يقبِّل الحجر الأسود.

عُرف أنه يستطيع بتحريك عينيه أن يحرك ما هو ساكن. يشير إلى سحابة صغيرة، عابرة، تهبط فتكاد تلامس وجه الموج. يمتطيها. تعلو به، تسيح فيما لا يدري أحد، وتعود، لا يتحدث عن المكان الذي انطلق إليه، ولا ماذا رأى، ولا مَن التقى. يبدو متغيرًا كأنه دخل تجربة لا قِبَل لبشر على احتمالها. يظل صامتًا، شاردًا، متأملًا. إذا سأله مريد، اكتفى بهزة رأس لا تَهَب معنًى محددًا. وكان يمشي على الماء حتى يُغيِّبه الأفق.

إذا اشتدت النوة، توضأ ولي الله في شاطئ البحر. تسكن الريح، وتهدأ الأمواج. إذا احتاج إلى أكل الطير، نادى عليه في السماء، فنزل إليه. وإذا احتاج إلى أكل السمك، نادى عليه من وقفته على ساحل البحر. تقافز على الموج القريب، الساكن، حتى يأخذ منه — بيده — ما يريد. قد تأتيه الموائد من الغيب. يمتلك القدرة على التشكل، يستطيع التعرف في بدنه على هيئتين. يظل جسده الحقيقي في هيئته، بينما يُطالع الناس بجسد آخر، غير بشري، فهو طائر، أو حيوان، أو مخلوق بحري. يظنه الناس منتميًا إلى الهيئة الثانية. يُنصت لدعواتهم، وما يطلبون، ويتشفع لهم عند ربهم بما تواتيه قدراته. وكان يخاطب الموتى، يكلمهم ويكلمونه، ويعقل الطير كلامه، ويفهم ما يخاطبه به، وإذا صلَّى، تصلِّي الجن معه.

دخل عليه مريد كان قد نظر إلى امرأة في الطريق بشهوة.

ابتدره وليُّ الله بالقول: تُب إلى الله عن زنا عينيك!

عرف المريد أن مكاشفات الولي أنبأته بما فعل.

•••

ظل في الإسكندرية حتى تُوفي في حوالي التسعين من العمر (١٢٩٥م). لم يحدِّد الرواة تاريخ وفاته. قيل إنه رحل عن الحياة الدنيا في ٦٩٨ﻫ. وقيل إن وفاته في رمضان عام ٦٩٨ﻫ. وقيل إنها في ٦٩٧ﻫ. وقيل إنها في ٦٩٥ﻫ.

لم يكن — كما صارح مريديه — قطبًا، ولا صاحب مذهب صوفي، ظل — إلى وفاته — منتميًا للطريقة الشاذلية، مريدًا للمرسي أبي العباس، يُفيد من دروسه وتعاليمه، وإن ظهرت — عند وفاته — أنوار وعلامات دالة على مكاشفات وخوارق.

دُفن في موضع مجاور لجامع المرسي أبي العباس. الزاوية الصغيرة تحوَّلت إلى جامع يُطِل على الميناء الشرقية، داخله اتساع وتجديدات وزيادات، علَته مئذنة وقباب ومقرنصات وآيات قرآنية ونقوش، وفُرشت في أرضيته السجاجيد، وتدلَّى النجف من سقفه. صار في الحالة التي أصبح عليها.

الجامع على الطراز العربي. ينقسم إلى ثلاثة أجزاء. الضريح في مواجهة الباب الرئيس، تُحيط به مقصورة من الخشب المحفور. ثمة باب يفتح على شارع الأباصيري، قبالة جامع السلطان، وباب يفتح على شارع التتويج (محمد كريم). حلقات الذكر تقام — بعد غروب كل نهار — على الرصيف المواجه لميدان أبي العباس، يقرأ الذاكرون البردة، أو دلائل الخيرات، أو يتطوحون بالذكر الإلهي.

الصحن، أو إيوان القبلة، مربع الشكل، على يساره عدد من الحجرات، تُستخدم كمكتبة، ومكاتب للإدارة. يتوسط الصحن ستة أعمدة رفيعة، تعلوها مزولة توضح مواقيت الصلاة، وقبة حديدية، كبيرة، تشغل نصف مساحة السقف الموشَّى بالرسوم، والزخارف، والآيات القرآنية.

المئذنة في الناحية الشمالية من الإيوان.

الميضأة المطلة على شارع الأباصيري، من الألاباستر، مشابهة لميضأة جامع صلاح الدين، تتوسطها نافورة، هي قطعة من الفن المعماري العربي.

مَن يواجه أزمة، أو يُعاني المرض، يلجأ إلى مقام البوصيري. يقرأ البردة التي أُعجب بها الرسول، فخلع على البوصيري بردته، يتوسل الشفاء والنصفة والمدد.

•••

الذكر في اللغة مصدر. ذكر الشيء يذكره ذكرًا. وقال الكسائي: الذكر باللسان ضد الإنصات، ذالُه مكسورة، وبالقلب ضد النسيان ذاله مضمومة. وقيل: بل هما لغتان، وهو يأتي في اللغة لمعانٍ، مثل إجراء الاسم على اللسان، واستحضار الأمر في القلب. وذكر الله حياة للقلوب متجددة، دائمة.

يغادر سيدي البوصيري ضريحه وقت الغروب.

قبل أن تبدأ الحضرة، يجلس الرسيم — شيخ الذكر — إلى الذاكرين. يحدِّثهم في الطريق، وآدابه، وبركات الولي ومكاشفاته. ميز الرسيم نفسه بالحزام القماشي الأخضر من يمين الصدر إلى يساره، عليه عبارة لا إله إلا الله … محمد رسول الله، وبخط صغير في أسفل «الطريقة الحامدية الشاذلية».

ينفض ولي الله الكساء الأخضر من فوق الضريح. ينفذ — دون أن يراه أحد — من بين السور المعدني إلى الصحن الواسع، تعلوه أبيات البردة، وتتوسطه الميضة الرخامية، المستديرة.

هل تُتيح له البردة مشاهدةَ النور الإلهي؟ هل يرى نور الحق تعالى رؤية العين، فيفرح به؟

يغادر الجامع من الباب المواجه لجامع المرسي. يُلقي السلام، ويميل إلى اليمين. يندس وسط حلقة الذكر اليومية. يتوسط الذاكرين تمامًا.

يطمئن إلى الوقفة وسلامة النطق ومخارج الألفاظ. الأكتاف متلاصقة، والأكف تضبط الإيقاع. يشغله الالتزام بآداب الذكر وطقوسه، فلا ينتقل المريد من مقام إلى مقام، دون أن يتحقق في المقام الذي هو فيه. يطمئن إلى توافق ذكر لا إله إلا الله مع حركة الرأس من أقصى اليمين، ثم توجه الرأس ناحية القلب. المعنى أن أنوار اسم الجلالة تصب في القلب. يعلو الصوت: الله، الله. ترافقه حركة الرأس من أعلى، وإلى الخلف، ثم يتحرك الرأس إلى أسفل. كل قول له صوته، وكل حركة لها معناها. حتى درجة الصوت تختلف في كل فقرات الذكر، من البداية إلى النهاية.

يحرص على أن يُقام الذكر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهيؤ لقبول ما يَرِد على الذاكرين من الحق تعالى. ما يريده الذكر هو التطهر والصفاء. الذكر بناء للجنة، إن توقف الذكر توقف البناء. هو دليل طاعة الله، إعلان طاعته، حتى لو أكثر المرء من التسبيح والتهليل وقراءة القرآن، فإن الذكر — ولو في الصمت — تأكيد الطاعة. الذكر جسر المتصوفة إلى الحضرة العلية. السماع والذكر يعبِّران عن معنًى واحد. هو وسيلة للمريد كي يصل، دون أن يترك موضعه إلى السموات العلا.

يقول الرسيم من قبل البداية: إن في الجنة ملائكة يغرسون الأشجار للذاكرين، فإذا فتر الذاكر فتر الملك، ويقول: فتر صاحبي.

البدء من أحزاب الشاذلي: آيات من القرآن، ومجموعة من الدعوات والابتهالات. تتناغم الأصوات في قراءة دلائل الخيرات، والأوراد.

يعلو صوت الرسيم: البردة!

للشعر طريقته في الإلقاء. الموسيقى تلازم المعنى، إن لم تسبقها:

أمِنْ تذكُّرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ
أهجتَ دمعًا جرى من مُقْلةٍ بدمِ
أم هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ
وأومضَ البرقُ في الظلماء من إِضَمِ
فما لعينَيكَ إن قُلتَ اكْفُفا هَمَتَا
وما لقلبِكَ إن قلتَ استفِقْ يَهِمِ
أيحسَبُ الصبُّ أن الحُبَّ مُنْكَتِمٌ
ما بينَ منسجمٍ منه ومُضْطرِمِ
لولا الهوى لم تُرِقْ دمعًا على طَلَل
ولا أَرِقْتَ لذِكْرِ البانِ والعَلَمِ
فكيف تُنكر حبًّا بعدَ ما شَهِدَت
بهِ عليكَ عدولُ الدمعِ والسَّقَمِ
وأثبتَ الوَجْدُ خَطَّيْ عَبْرةٍ وضَنًى
مثلَ البَهَارِ على خدَّيْكَ والعَنَمِ
نعم سرَى طيفُ مَن أهوَى فأرَّقني
والحبُّ يعترضُ اللذاتِ بالألمِ
يا لائمي في الهوَى العُذْريِّ معذرةً
منِّي إليكَ ولو أنصفتَ لم تَلُمِ
عدَتْكَ حاليَ لا سِرِّي بمُسْتَتِرٍ
عن الوُشاةِ ولا دائي بمُنْحَسِمِ
محَضْتَني النصحَ لكن لستُ أسمعُهُ
إن المحبَّ عن العُذَّال في صَمَمِ
إني اتهمتُ نصيحَ الشَّيب في عَذَلٍ
والشَّيْبُ أبعدُ في نصحٍ عن التُّهَمِ
… … … …
… … … …

الرسيم — بالتصفيق — يضبط إيقاع الذِّكر والإنشاد، من أول الحضرة إلى آخرها. النقباء العشرة يقفون حول الصفوف. يُشرفون على النظام. يبلغون إشارات الشيخ إلى الذاكرين، يمارسون القيام والقعود والسكوت والذكر، ينقلون — في الإنشاد وأداء الذكر — من درجة إلى درجة أخرى.

يبدأ البوصيري مع الذاكرين من بداية الذكر: لا إله إلا الله. الأرضية التي ينطلق منها الرسيم إلى الراست، فالدوكة، والسيكا، والجهار كاه، والجركاه، حتى الحجاز. ينقل الرسيم الذاكرين من نغمة إلى نغمة، حتى ينتهيَ إنشاد القصيدة. يعلو صوت الرسيم بالاستغاثة: أغثنا، أدركنا يا رسول الله!

يرضى الإمام عن تقسيم حدود الذكر. البدء، النماء، المنتهى. للحضرة قانون يجب أن يُحترم. يكره اللهو في الذكر، ودعاء الوجد، وإتيان الحركات المصطنعة. يُشفق أن يكون الذكر حركات في الهواء، ترنحات لا ضابط لها ولا رابط. ينكر — في نفسه — من يأخذه الوجد، فيرتمي على الأرض، أو ينتحب، أو ينشج كالطير الذبيح، أو يصفق بيديه بلا ضرورة يطلبها الذكر. الحركات المرافقة لها أصولها، مَن يُهمل هذه الأصول فهو يخترع ما لا صلة له بقواعد الذكر. تتطوح الرءوس، تهتز الأجساد والأيدي، تتناغم الأناشيد والابتهالات. يُرددون اسم الله، حتى تبلغ النشوة الروحية ذروتها. يعرف الذاكرون أن وليَّ الله يتوسط — وإن لم يروه — حلقة الذكر، يراقب التصرفات والأقوال والقراءات وعبارات الذكر.

يُدرك ولي الله — ببصيرة لا تُخطئ — أن الملتفين في حلقة الذكر، يعبِّرون عن شوق إلى وعي لا يُدركونه، إلى الشفاعة والمحبة والنصفة والمدد. الوجد يسرِي في الجسد، يحرِّك الأعضاء في اتزان محسوب. يُواجه بالمؤاخذة الكلامية وحدها، دون عقوبات قد يراها الرسيم.

طيور البحر — إذا تخلل صوت البوصيري أصوات الذاكرين — تتوقف عن التحليق. يشغلها جمالُ صوت ولي الله عن كل ما حولها، تلتذُّ به، تستغرق في الذكر والمجاهدة، تنهل من نبع الأنوار.

يتكرر لفظ الجلالة: لا إله إلا الله، وعبارة التوحيد: لا إله إلا الله. اللحن ثابت، والنغمات ذات إيقاع منتظم.

الكلمات المغناة تحلق بالانفعال والشجن والحنين والدفء والمناجاة وطلب القرب. تُحلق في سماء الميدان، تغطيه، تغطي النوافذ والأبواب المفتوحة، والشوارع المتفرعة، بغلالات شفيفة من الروحانية التي تفرض الصمت، أو الهمس، والتأمل.

يتسارع الإيقاع بملاحقة الرسيم. تعلو الأصوات، وتعلو. يرافقها سرعةً في اهتزاز الأجساد، وتطوحها. تبدأ — في لحظة يحددها تصفيق الرسيم — في الخفوت، حتى تهدأَ تمامًا، ويحلَّ السكون.

علَت أصوات المريدين — ذات مساء — في حلقة الذكر، وتشابكت.

أشار إليهم الرسيم، فظلوا على صخبهم، ولم يمتثلوا.

غلبَه التحيُّر لارتفاع الأصوات. يذهب بجلال الاسم وهيبة الذكر. توسَّط البوصيري الحلقة، وصفق بيديه.

انفضَّت الحلقة في لمح البصر.

تناثر أفرادها في أماكن متباعدة.

أدركوا خطأ فعلتهم. طمعوا في عفو سيدي البوصيري.

عادوا إلى موضعهم فرادى، حتى اكتملَت الدائرة، وعلا هتاف الذاكرين.

يفرغ الذاكرون مما أعطوه جهدهم ووقتهم. تبدأ الحلقة في الانفضاض. يغادر البوصيري موضعه بتعالي أذان العشاء. ينسل — بجسده النوراني الأثيري — إلى داخل الضريح، بينما يمضي الذاكرون إلى الصلاة.

•••

راجع روايتنا «البوصيري». انظر: أبو العباس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤