الأبجر

تعالَت خشخشةٌ من فوق الشجرة، على ناصية شارع سراي محسن باشا. بدا كأن شيئًا سقط على الأرض. لحظة علا فيها التراب، ثم انتفض الشيء، وانطلق داخل الخرابة القريبة، دون أن يُتاح له مجرد رؤيته.

بلغَته أحاديث الناس عن عفريت الخرابة. حدس أنه هو. مضى وراءه بشعور التحدي. تقافز بين الردم وقِطَع الحجارة وكومات الزبالة. لم يجد حسًّا، كأن المخلوق — الذي صَعِد إلى الخرابة أمامه — قد تلاشى.

استعاد قول الحاج جودة هلال إنه شاهد البيت في اليوم التالي لسقوطه. أرواح القتلى حوَّلت الخرابة إلى مأوى. العفريت تصور خرافة. ما عفريت إلا بني آدم. القرآن ذكَر الروح، وأنها من أمر الله.

لم يقرأ الأسطى مجاهد أبو الحمد عن معنى الأبجر في اللغة، وأنه العظيم البطن، أو حبل السفينة الضخم. لم يلجأ الأسطى أبو الحمد إلى أصدقائه المقرَّبين — خليل الفحام، والشيخ خلف فرحات إمام جامع المسيري، وعبد الله أبو رواش، وغيرهم — لتبين معنى التسمية. تابع سيرةَ عنترة، في مقهى الزردوني، قبل أن يظهر الراديو. استهوَته رفقةُ الأبجر لعنترة في معاركه، براعته في الكر والفر، «كأنه الليث القشعم، يُشبه لون الظلام، أو كأنه قطعةٌ من الغمام، همَّتُه همةُ يقظان، وخفتُه خفةُ غزلان، وصهيله جرس، وقوائمه كأنها حرس، وعيناه ياقوتتان، ويداه جناحان». شارك فارسه تحمُّل المشاق إلى بلاد النوق، والعودة بمهر عبلة ألفًا من النوق العصافير. وقف ساكنًا إلى جانب صاحبه. غرس عنترة رمحه في الأرض، واستند عليه، كما يفعل المحارب الذي يَهَب جوادَه فرصةَ التنفس، ثم وقف هو الآخر ساكنًا، يُتيح لعبلة أن تصل إلى مضارب القبيلة، دون أن يلحقَها الأذى.

وُلد الأبجر لأب نجار في ورش القزق، وأم ممرضة في مستشفى الملكة نازلي. صادفه التشاؤم في يوم ميلاده. وُلد في ١٣ أبريل. قيَّده أبوه في سجل المواليد بتاريخ اليوم التالي. إذا استاء من تصرُّف له، صرخ بالقول: كان عليَّ أن أعرف أنك وليد شؤم!

ترك الدراسة في الثانية الابتدائية، وعَمِل صبيًّا في دكان الحاج جودة هلال. علَّمه أسرار المهنة، ما يجب أن يعرفه.

لمَّا صحبَت فردوس — بائعة الليمون أول السيالة — ابنها، ليختنَه جودة هلال، تصور الأبجر في نفسه القدرة على ختان الولد. مرات كثيرة رأى فيها الحاج يختن الأولاد، ويبدِّل الغيار — في أيام تالية — حتى يُشفى الولد.

فعل ما يفعله الحاج تمامًا. الموسى والقطن وصبغة اليود والبودرة والشاش، لكن الحشفة تدلَّت — مغموسة في الدم — بلا سبب مفهوم.

ما كاد جودة هلال ينظر إلى الحشفة المتدلية، حتى أشار بيده ناحية باب الدكان: لا تَعُد إلى هنا!

عاشر الأبجر الفتوات والأحمدات وفاعلي الشر.

الخناقات جزءٌ من حياته اليومية. أشد ما يصيب أذاه الغلابة ممن لا يستطيعون مواجهته. لو لم يجد أحدًا يُعاركه، تعارك مع نفسه. يُدلي أمامه وسادة. يوجِّه إليها لكماتٍ متواليةً حتى تتخاذل ذراعاه. يستريح لحظات، ثم يعود إلى ما كان يفعله. يخترع أوضاعًا أخرى. ربما أمسك بعصًا، يُحرِّكها إلى الإمام وإلى الخلف، ثم يهوي بها على شخص يتخيله.

استهوَته المغامرة في الميناء: سرقة الطرود، تهريب البضائع، استبدال العملة. تعدَّدت الحكايات عن سطوه على معسكرات الإنجليز، وتسوُّر قصر عصمت هانم محسن، ونَقْب وكالة درويش بشارع الميدان. حتى الشقة التي خصَّصتها علية عشماوي للبكباشي حمدي درويش، أفرغها صبيانُه — ذات ليلة — من كلِّ ما بها.

لأنه وُلد في بحري، وأمضى فيه حياته، فهو يعرف الحي جيدًا، البحر والشاطئ والغزل المستلقي فوق المراكب المقلوبة، والجاثمة على الرمال، والصافرات المترامية من الميناء الغربي، والشوارع، والميادين، والبيوت، والمساجد، والمآذن التي تبين عن تصاعدها في انحناءات الكورنيش، والأضرحة، والمقامات، والموالد، وحلقات الذكر، وأكشاك الختان، وخيام الصوفية، وسرادقات العوالم، وورش القزق، وحلقة السمك، وقلعة قايتباي، ونقطة الأنفوشي، ومتحف الأحياء المائية، والمقاهي، وملامح المارة والقعود، إن لم يكونوا طارئين على الحي.

ما فعله لم يكن للسرقة في ذاتها، وإنما للمغامرة والتحدي، واكتساب الصيت. مَن يرفض التهديد، فإن ساعدَيه يُجبرانه على الإذعان.

كان يسعى وراء المغامرة، تعنيه في ذاتها. يُهمل ما قد تنطوي عليه من نتائج. يعتز بما يتردد عن نزوعه إلى الشر والأذى، وأنه دائم الشجار مع فتوَّات الأحياء الأخرى، ومع رجال السلطة.

نسب إلى نفسه فضلَ تعجيل الإنجليز بسحب قواتهم من الإسكندرية: لم يستطيعوا تحمُّل الخسارة التي تسبَّبَت فيها سرقاتُنا لمعسكراتهم!

تقاضى مبلغًا لقاء نقل ثلاثة شبان إلى قبرص.

أمضى يومين داخل المياه الإقليمية، فيما يُشبه الدائرة. ادَّعى — في اليوم الثالث — وجودَ عطل في البلانس، وعاد إلى الإسكندرية.

طلب الشبان الثلاثة أن يردَّ ما تقاضاه.

شهرَ سكينًا في وجوههم، وأشار إلى البحر.

فارق أخلاق الطبيعة.

تبرق عيناه بنشوة وهو يرقب السمكة الكبيرة تنتفض في المشنة، وتقفز. تحاول أن تلتقط أنفاسها. يأكل السمك نيِّئًا، لا يشويه ولا يقليه. يكتفي ببصق الشوك من فمه. يتفاءل — عكس المألوف — إذا التقى — فترة الصباح — بالحانوتي شحاتة عبد الكريم.

ارتكب جميع أفعال المعاصي. اشتدت الظلمة في نفسه من المخالفات وحب الدنيا. لم تكن تأخذه الشفقة على مَن يُداهن، أو يتذلل، أو يتوسل. ماتت في نفسه صفاتُ البشرية: أنا سمكة كبيرة تبتلع الأسماك الصغيرة دون مضغها!

ويشوِّح بيده: فرصة الأسماك الصغيرة في العيش ضئيلة.

ثم وهو يتحسس ساعده: يجب أن تكون كبيرًا … قويًّا … لتعيش!

ينسب لنفسه فضلَ وضع عبد الرازق — مساعد ريا وسكينة — على طبلية الإعدام، وتقييد يدَيه وساقَيه، وإلباسه «الخيَّة»، والوقوف داخل حجرة الإعدام حتى تدلَّى الجسدُ مشنوقًا.

فرَّ الضباط والجنود من أمام عبد الرازق الهائل الجثة. يُساق إلى الموت، فلا يخشاه. هو ميت من قبل أن يُعدم.

استغاث البكباشي حمدي درويش بالأبجر، من انتظار زيارة على باب سجن الحضرة.

الشومُ والعصيُّ في أيدي الصبيان لصدِّ الضربات الموجَّهة إلى الأبجر، وإليهم. لا يُوجهون ضرباتٍ على أي نحو، لكنهم يكتفون بتلقِّيها. لا يتحركون، حتى لا ينكشف الأبجر الذي أحاطوه بأجسادهم.

يكتفي بأن يُومئَ بذقنه إلى مَن يريد أذيَّته، أو يلمس كتفه، أو صدره، بأصابعه، ويمضي. يَعْرف صبيانُه مَن يتجهون إليه بضرباتهم. لا تهدأ الضربات حتى يعلوَ صوت الأبجر: كفاية!

يمضي، ومن ورائه أعوانه.

قال لحميدو شومة: لماذا لا نتصارح؟

وضغط على الكلمات: لماذا لا يُصارح كلٌّ منَّا صاحبَه؟

قال حميدو شومة: الإسكندرية فيها أحياء كثيرة … لكلِّ حيٍّ فتوَّتُه.

همَّه السؤال: أي الرجلين أجدر بلقب فتوة الإسكندرية؟

كان التنافس على المكانة سببَ كلِّ المعارك والخناقات في المدينة. يُدرك الأبجر أن عدم المصارحة مبعثه الخوف من أن يُثير صبيان الفتوات من المتاعب ما هم في غنًى عنه: التلميز، وافتعال الخناقات، وأذية خلق الله.

عاب عليه أن صبيانه يقتصرون على السرقة والنشل والبلطجة وفرض الإتاوات، لا يشغلهم إلا الجريمة، دون قيد، ولا حساب لاعتبار ما.

ثم وهو ينقر بإصبعه على حافة الطاولة: سنظل ندور حول أنفسنا إنْ خشيَ أحدُنا مصارحةَ صاحبه بما فيه.

تعددت معارك أتباعهما في ميادين بحري وشوارعه. حتى المقاهي تطايرَت كراسيها، وأُريقت فيها الدماء. تتسع المعارك إلى أطراف الحي. قد تمتد إلى الأحياء الأخرى. تختلط الصيحات والسيوف والشوم والسنج والخناجر والمطاوي وقبضات الحديد، وتطاير قِطَع الطوب والزلط والزجاجات الفارغة، ونثارات الدم والأشلاء والصرخات والأنين والنشيج والبكاء.

تفي المعركة بنذرها حين تنتقل الكراسي من أرصفة المقاهي، والأقفاص والغلقان من مداخل البيوت والوكالات. تُوضع في منتصف الطريق إلى جانب عربات اليد وكومات الرمل. تُغلق النوافذ، وأبواب البيوت والدكاكين والزوايا والمقامات والأضرحة. ينسحب الجلوس والمارة إلى الشوارع والحارات الجانبية. تدور الهمسات وراء الجدران بتوقعات ما سيحدث.

قد تبدأ المعركة لشعور الفتوة بأنه يستطيع أن يفرض سيطرته على ما في حوزة فتوة الحي المجاور، من بيوت وشوارع وميادين وبشر وأعوان وإتاوات. قد تقوم المعركة لإقدام الفتوة على التخلص من معاناة القهر. ربما قامت لإثبات القوة.

حين تنشب المعركة، تخلو الشوارع والميادين من المارة. تُغلق الدكاكين والمقاهي وأبواب البيوت. تُوارب ضلف النوافذ بما يُتيح الفرجة. حتى الشوارع الجانبية تخلو لتوقُّع انتقال المعركة إليها.

لم تكن المعارك تعني الناس، ولا يعنيهم سيادة فتوة على الآخرين. تظل أعصابهم على توتُّرها حتى تنتهيَ المعركة. يُهملون السؤال: مَن انتصر، ومَن أدمت الضربات صبيانه، أو لاذوا بالفرار؟

هزَّ الأبجر كتفَيه — دلالة اللامبالاة — لقول الشيخ عبد الستار إن معارك الفتوات يدفع ثمنَها الأبرياء. حتى دكان الحاج جودة هلال (لكل الفتوات صداقة معه) تحطَّمت واجهتُه الزجاجية بضربة شومة، واستُخدمت الكراسي على الرصيف في الضرب، حتى تكسرت.

نقل صبيان الأبجر إليه عن محرز القصراوي فتوَّة المتراس ما لم يكن يتصور أنه يقوله.

أومأ الأبجر لصبيانه.

فاجئوا القصراوي في خلاء الصحراء. أمسك أحدهم بذراعه. وضع راحته على فمه ليمنعَه من الصراخ. جذب بقيةُ الصبيان سرواله، فتعرَّت مؤخرتُه. حاول أن يتملص. حرَّك رأسه، وذراعَيه، ووسطه، وساقَيه. لكن صبي الأبجر شل حركته تمامًا. استكان حتى أنهى الفعل. دفعه بيده، ثم ركله بآخر قوته: في المرة الثانية لن تعيش كي تتذكر ما جرى لك!

عاب الشيخ عبد الستار على الأبجر أنه ليس لديه ما يؤمن به، ما يضع قوته في خدمة الدفاع عنه. يتعارك لمجرد إحداث الأذى، لإخضاع مَن حوله لسطوته. لو أنه دافع عن شيء يراه صوابًا، فسيكون صاحب رسالة.

وارتفع صوته: حتى الشيطان يدافع عمَّا يؤمن به!

دل الأبجر خمسة من البحارة الأجانب على باب ستة. رافقهم حتى الباب الخارجي للدائرة الجمركية. دسَّ أحدُهم في يده خمسة جنيهات. يحصل على المبلغ في شهرين أو ثلاثة.

اعتاد — من يومها — مرافقةَ البحارة الأجانب في شوارع الإسكندرية، يعطونه ولا يعطونه، يجد متعة في الرطانة بالإنجليزية والفرنسية، وبتعبيرات الأيدي وملامح الوجه إن تكلَّم البحارة بلغات أخرى.

تابع مجموعة من البحارة الإيطاليين بالقرب من سراي رأس التين. صَحِبهم إلى الشاطئ الخالي، على يسار البناية ذات الطوابق الثلاثة.

دفعوه في ظهره إلى وسط دائرة تشكَّلت من أجسادهم. ضاقت الدائرة حوله. حاول أن يردَّ الضربات، لكن ركبتَيه خانتاه. سقط على الأرض. زحف ليفرَّ من توالي الضربات. تناوبوا ضربَه بالصفعات واللكمات والركلات. علَت أصواتُهم بالصيحات المنغمة، غطَّى وجهه بيديه، ودار حول جسده. شعر كأن غمامة تقتحم عينَيه. بدَت المرئيات كأطياف، لا يدري أين هو، ولا ماذا يرى.

حاول أن يتماسك، ليدافع عن نفسه. لم يجد الفرصة حتى لالتقاط أنفاسه. ظل في سقوطه على الأرض، ملأ طعمُ التراب فمه. توالَت الضربات بلا توقف. عجز عن الاستغاثة. فقد الإحساس بالألم، وتلاشَت قدرتُه على الصراخ. حلَّ صمت مفاجئ، يعمقه توالي الضربات، وانعكاس تأثيرها في أنين مكتوم.

لم يتوقفوا إلا بعد أن شحب أنينه. ذوَى إحساسه حتى التلاشي. تحوَّل إلى كومة من الدم والتراب، ملقاة على الأرض. أنفاسه حشرجة قاسية، ولا يستطيع الحركة.

فتَّشوه في رقدته المتكومة. أخذوا ساعة يده، وحافظة نقوده، والخنجر المربوط في سلسلة إلى جانبه، وذهبوا.

مضى — بخطوات مهرولة، متعثرة — إلى البيت.

أسقط فكرة الذهاب إلى الحاج جودة هلال، أو إلى مستشفى رأس التين. يعاني آلامَ الكدمات والكسور والبقع الزرقاء والخدوش والندوب والسحجات والدم المتقيح والجروح. يعروه الخجل — ولعله الخوف — من أن يراه أحد. أحزنه لحظة الضعف التي تملَّكته. لم يحاول المقاومة، ولا رد الضربات. كان عليه أن يدافع عن نفسه. كثرة الجنود أتاحَت لهم أن يتغلبوا عليه.

لو أنه رفض الاستسلام، وقاوم، ربما لم يكن ما حدث جرى بالسهولة التي أحزنَته، ربما نال من أحدهم بقبضته، أو رأسه، أو ركلة أسفل بطنه. يصرخ الجندي، فينشغل زملاؤه عن ضربهم له. استعاد التفصيلات الدقيقة. سد الفجوات، بدَّل، حوَّر، حذف، أضاف. بدَا التخاذل سببًا فيما يُعانيه. فقط لو أنه قاوم! لو أنه …

أدرك أنه المسئول عما جرى له.

تمنَّى أن يتكرر لقاؤه بهم.

زاره سيدي أبو الحسن الشاذلي في منامه. يرتدي أبيض في أبيض، العمامة الهائلة، والعباءة الواسعة المسدلة على الكتفين، والشال الأبيض، والنعل الأبيض الشبيه بالخف المغربي.

حمَّل نبرته إشفاقًا وهو يستعيد ما حدث.

قال له الشاذلي: أصعب الأمور أن تتلقى صفعة لا تستطيع ردَّها. وقال: أنت تمارس قوتك على أبناء حيِّك، وتُظهر الضعف أمام الغرباء. وقال: إذا كان الأجانب قد هزموك بقوتهم، فذلك ما تفعله مع ناس بحري. وقال: تصرَّف مع الآخرين بالكيفية التي يهمك أن يتصرفوا بها معك. وقال: أن تكون محبًّا محبوبًا، أفضل من أن تكون كارهًا مكروهًا.

قال الشاذلي: لو أنك انتصرت على حميدو شومة … ماذا كنت تنوي فعله؟

– ما همَّني إلا أن أنتصر عليه!

– خوض المعارك وسيلة وليس هدفًا!

وبَّخه الشاذلي لأنه لا يحضر جمعة، ولا جماعة، ولا مجلس علم. سأل، وأجاب الأبجر، أنكر عليه القطب الأعظم ما يفعل. أذية البحارة له نذيرٌ بما قد يواجهه في الأيام التالية.

سخف الاعتزاز بالقوة الزائلة. شهقة فلا يجد المرء نفسه، ولا حياته. يدخل الجسد في العدم، وتُواجه الروح حساب الملكين. شدد الشيخ على أن حساب «الأبجر» لن يكون سهلًا. حذَّره من أن العبد الذي أمر له الله بموضع في النار، يتمتع بصحة في بدنه، وسعة في رزقه، ورغد في عيشه، وأمن في سِرْبه. حتى الموت يهون عليه، لا يشغله، يفرط مدة حياته، وينهمك في العصيان. يأتي يوم الحساب، وليس له من الحسنات ما يرجو به الجنة.

دعاه إلى التوبة، فيموت — إن حل الأجل — على حسن الخاتمة والتوبة والإحسان.

عانى الأبجر من الخوف ما لا قِبَل له به، ولا تصوَّر أنه يعانيه. كأن صخرة أكبر من صخرة الأنفوشي تحطُّ على صدره.

أظهر الحزن — مداراة للخوف — على ما ارتكبه من الذنوب. لم يَعُد يجد حرجًا — لتذكرها — في أن يترك دمع الندم يسيل على خدَّيه.

استتابه القطب الأعظم بالترهيب والتخويف. اتهمه بأنه كفر، واستكبار، وفُجر. ذكَّره بالوعد والوعيد. نصحه أن يبتعد عن دروب الفتن والغواية، يخشى الله، ويتقيه، ويؤدي فرائضه، ويبرأ من حقوق الناس، ويعطي كلَّ ذي حق حقه.

أدرك الأبجر أنه قد ارتكب ما يُعَد من الكبائر. النار مصيره، إلا إن مال — على الصراط — ناحية الجنة، بشفاعة رسول الله.

عرف أن بكاءه — إن خلا إلى نفسه — ناشئ عن الخوف. أسرف في المعصية، فهو لا بد أن يلقَى جزاءه.

لانَ قلبُه، وصلح بذكر الله تعالى. ندم على ما سلف منه، وتحسَّر على ما ضيَّع من عمره، في ارتكاب الذنوب والمعاصي، وعدم القيام بالطاعات.

أنس لولي الله، يخصُّه بنصائح تُفيد حياته. دفعَه الشاذلي إلى التجارة بدلًا من أعمال الفتونة. تردَّد على الدائرة الجمركية يستعين — بهيبته الباقية — في إنهاء عمليات للتصدير والاستيراد.

طمأنه الشاذلي أن رحمة الله لا تُرفع بارتكاب المعصية، ما دام ينزع عنها، ولا يُصِر عليها.

توسل له القطب الأعظم عند الله، لكي يُبعده عن طريق المعصية. قذف الله بنور في قلب الأبجر، فهداه، وشمله برحمته.

نفض يدَيه من صبيانه وأصدقائه وجيرانه ومعارفه وجلساء المقهى. ركن إلى ملازمة الوحدة والعزلة والانفراد بالنفس والرياضة والخلوة والتعبد، وتأمل عِبَر الحياة. انغمس فيما يُشبه التصوف، وإن مارس حياته كما يمارسها بقيةُ الناس. عاش واحدًا منهم، لا يتمايز، ولا يدين بالفتونة، ولا التعالي، أو حب الظهور. تستَّر وراء المظاهر الدنيوية.

عاش بجسده على الأرض، وإن طار بقلبه في السماء.

لم يَعُد يظهر — بعيدًا عن الدائرة الجمركية — في الشوارع أو الأسواق. استوحش من الجلوس على المقاهي، أو أمام دكان الحاج جودة هلال، أو فوق زاوية الكورنيش المطلة على مرسى القوارب. يصلِّي منفردًا في الجامع، وفي البيت. يكتفي بإلقاء السلام، أو هز الرأس محيِّيًا.

انقطع — معظم يومه — لجامع المرسي أبي العباس. جعل الجامع كأنه بيته. يجلس في الصحن جانب المنبر، ينتظر الصلاة بعد الصلاة. لا يتجه نظرُه — ولو بعفوية — ناحية المقام. يطوف حوله النسوة، يلمسنَ الشِّباك الحديدية، يوقدنَ الشموع، يضعنَ النذور، يطلبنَ الشفاعة والنصرة والمدد. يلجأ إلى مكتبة الجامع القريبة من حجرة الإمام، يقرأ في التفسير والحديث والفقه والأخلاق، يتبحَّر في علوم الدين. ربما سأل إمام الجامع عن معنى كلمة في آية، أو تفسير آية في سورة، أو شخصية إسلامية، أو حادثة مهمة في تاريخ الإسلام، أو خاطر شغل تفكيرَه في أثناء الصلاة. قد يندسُّ وسط نصف الدائرة قبالة دكة المبلِّغ، يُلقي من فوقها شيخُ الجامع دروسَه، يُفقِّه المصلين في أمور الدين، يُجيب عن أسئلتهم. صار قلب الأبجر متعلقًا بالجامع، لا يميل لمغادرته إلا لضرورة.

اكتشف أن ما يبحث عنه، لن يجده في معارك فتوَّات الأحياء. ليست الأمور على النحو الذي ينبغي أن تكون عليه. ثمة خطأ أو أخطاء، تحتاج إلى التأمل والمناقشة والفعل الذي يُزيلها. استغرق في التأمل، وفي محاولة الاقتراب من الله، والاعتماد على النعمة الإلهية.

جاهد نفسه، وحرص على التخلي عن أهوائها. يخشى الشخص الآخر، الميال إلى العراك في داخله. أغفل ما كان يستيقظ في نفسه — أحيانًا — من الميل إلى العراك. ينفر من شخص، تُثيره عبارة، يستفزُّه تصرُّف. تختلج ملامحه، وتتكور قبضته، ويتهيأ لتوجيه الضربات. ثم يُغمض عينَيه، ويضغط بأسنانه على شفته السفلى، ويسكت.

عُنِي باستقامة الظاهر والباطن. أكثرَ من تلاوة آيات القرآن عن المعصية والحساب، ما أُعِد للمتقين من ثواب، وللكافرين من مستقر في أعماق الجحيم. أقبل على المعارف والحِكَم. أخلص في قراءة آداب السلوك، وحقائق التصوف، وإدراك كُنْه المعاني. أسقط التدبير والاختيار، وأقبل على حلقات الذكر. ينتقل من جامع إلى آخر. كل حلقة في موعدها، من البدء إلى المنتهى.

مارسَ التواضع في العيش، وكراهية الترف والإسراف، والقناعة والرضا بما قسم الله. فرغ قلبه إلا لله تعالى. اضمحلَّت ذاته، وذهبت صفاته، وغاب عنه الكبر والغرور «اللهم اجعلني شكورًا، واجعلني في عيني صغيرًا، وفي أعين الناس كبيرًا.»

قد يشتد الحال عليه، ينادي سيدي أبا الحسن الشاذلي، ويستغيث به. يُغيثه القطب الأعظم. يأتي إليه، يخلصه — بعون الله — من ضائقة، أو كربة، يدفع به إلى طريق السلامة.

اشتد اتجاهه — بتوالي الأيام — إلى الزهد والتصوف والعزوف عن الدنيا. ألقى بنفسه تمامًا بين يدي الله. يستحيي منه، ويتحرَّى رضاه في كلِّ ما يقول ويفعل.

إذا عاد إلى بيته من صلاة العشاء، أغلق عليه الباب، وأقبل على دلائل الخيرات والأوراد وأحزاب الشاذلية، يقرأ فيها حتى ينهكه التعب. خَلْوتُه تقتصر على أوقات من الليل والنهار. بقية وقته ينزل الأسواق، يخالط الناس حياتهم ببدنه، يسأل ويجيب، يخوض الحوارات. يفارقهم بقلبه.

يتردد على الجامع، يعتزل وقتًا يطول أو يقصر. يؤدي ركعتي تحية الجامع. ينصرف إلى القراءة أو التأمل، تخلَّص بالعزلة من الآفات والمعاصي التي تُزينها له مخالطة الناس بصورة دائمة. لن يخاطب المرء في نفسه الغيبة والنميمة والحسد وغيرها من الرذائل التي تُخرجه عن حدود الشرع. لا يأذن بما يشغله عن القيام بالطاعات، وأمر الحق سبحانه.

لم يكن يحمل ساعة في يده، ولا يضع ساعة في جيب الصديري، ولم يكن يسأل عن الوقت. يستطيع التعرف على الوقت من النظر إلى ارتفاع الشمس على جدران الجامع، أو انحسارها. إذا حل موعد الصلاة وهو في خلاء، أو في موضع منعزل عن الجماعة، أذَّن للصلاة، ثم أداها.

أهمل قراءة الصحف، والاستماع إلى الراديو، ومتابعة الأحداث — خارج بحري — على أي نحو.

هذه حياتنا، علينا أن نتقبَّلها كما هي، لا نحاول تغييرها.

يخرج — في الأغلب — من الباب الجانبي، الصغير، المفضي إلى الموازيني. لا يلتقي بمن يدخلون ويخرجون من البابَين المطلَّين على السيالة والمينا الشرقية. يأخذه الكلام مما يشغله، ويُفيده.

تمنَّى — وهو يُعِد نفسه للحج — أن يموت في المدينة المنورة، حتى يشفع فيه الرسول، كما وعد بذلك أبناء أمته.

•••

ذات يوم، أوكل الأبجر للصياد السعداوي شبانة أمرَ إبلاغ أهل بحري أنه يفتح باب بيته في المناسبات الدينية أمام أهل الحي. يستمعون إلى آيات القرآن، تُدار عليهم السندوتشات والفطائر وقِطَع الحلوى والشاي والقهوة.

قبل أن يحلَّ رمضان بأربعة أيام، زاره البكباشي حمدي درويش مأمور قسم الجمرك.

توجَّس الأبجر من زيارته. يجد فيه ما يذكِّره بالنورس. يعجب به عن بعد. أسرابه المحلقة فوق الساحل، تكويناته، غلالاته البيضاء. لكن النورس يظل مخلوقًا قاسيًا، وشرسًا، يلتهم كلَّ ما يصادف منقاره.

طلب حمدي درويش — في نبرة معتذرة — أن يظل باب بيت الأبجر في رمضان مغلقًا كبقية أشهر العام. لا يُفتح إلا ليمارس أهل البيت حياتهم العادية، وليستقبل الأبجر خاصةَ الأصدقاء.

قال حمدي درويش في لهجته المعتذرة: أغنانا الملك عن احتفال رمضان بليالي حديقة السراي.

واستطرد كالمتذكر: يضمن الغلابة وجبةَ إفطار في مآدب عبود باشا بشارع رأس التين. يُضاف إليها آخر الشهر كسوة العيد.

استبدل الأبجر بدعوة الناس، زيارات يومية من الصبيان والخدم إلى الذين حرمهم أمر الملك من التردد على بيته.

لم يَعُد قادرًا على استعادة حماسه القديم، واندفاعه في خوض المعارك، وربما افتعالها. تقاعد كفتوة حقيقي، اختار موعد تقاعده. يستروح نسائم من الماضي القريب، في تردده على قهوة مخيمخ. يستمع إلى سيرة عنترة، والسيرة الهلالية، والسيرة الظاهرية، وحكايات علي الزيبق، وغيرها مما يلح على شاعر الربابة في إعادته. يعيب على ماهر الصاوي أنه يقصر مواويله وأغنياته على الهجر والوصال ومناجاة الحبيب والهنك والرنك. يجد فيها ما لا يحضُّ على المتابعة.

لمَّا مات آخر مَن كان على قيد الحياة من إخوته، أدرك أن المدة قد انقضت، وأجله حان.

بدا له الموت حقيقة عليه أن يتقبَّلها، ويُعِد نفسَه لانتظارها. عليه أن يتأهب للرحيل، ولأسئلةِ ناكرٍ ونكيرٍ.

جعل الموتَ بين عينيه. يقنع من الدنيا باليسير. يسارع إلى الطاعات، ويغتنم الأوقات، يُزجيها بالتقوى والعمل الصالح.

لم تُرهقه فكرة الموت ولا أخافَته. يعرف أن تَرْك الدنيا مهرُ الآخرة. وأن الموت لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرِّشا.

زاره أبو الحسن الشاذلي في نومه. قال: عشتَ على حساب الناس ما عشتَ من السنوات الماضية.

وفي نبرة باترة: هذا العمر، سينتهي قبل الصباح.

أراد أن يطمئنَّ إلى فكرة التصالح. نحن نموت لأن هذه إرادة الله. داخلَهُ حزنٌ لم يعرفه من قبل. غالبَه ما لم يكن يتصوره، ولا أعدَّ له نفسه. تناوبَته ظلمةٌ وسراديبُ وأقبية وأنفاق، وخوف لا يستطيع دفعه.

أضاء نور الشقة.

ظل ساهرًا طيلة الليل، لكن الحشرجة أتَته قبل أن يؤذَّن للفجر. اختلج جسده، وبرقَت عيناه، وحاول أن يدفع ما لم يرَه أحد، ومات.

كل نفس ذائقة الموت، وكلٌّ يموت عند انتهاء أجله.

•••

انظر: أبو الحسن الشاذلي، جودة هلال، حمدي درويش، حميدو شومة، خليل الفحام، عبد الستار، عبد الله أبو رواش، فاروق الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤