حمامة العطار

مفرد العوالم عالمة (لا يوجد مذكَّر). وللعوالم أغنيات خاصة، وأغنيات مقلدة، أو يطلبها جمهور الحفل لذيوعها في تلك الفترة.

نشأ حمامة العطار في أسرة من العوالم. دنياها القصائد والموشحات والقدود والمواويل والأدوار والبشارف والسماعيات والطقاطيق والمونولوجات وأغاني الصهبجية.

تعلَّم أصول الموسيقى الفارسية والتركية. عزف اللونجا والتجميلة والبشرف والسماعي والتقاسيم والدولاب. أتقن مقامات الكورد والحجاز كار والنهاوند والعجم عشيران والنوى أثر والنكريز والطرزنوين والزنجران، بالإضافة إلى مقامَي العجم والنهاوند. ردَّد أغنيات عبده الحامولي وسلامة حجازي ومحمد عثمان ومنيرة المهدية، وألحان سيد درويش وكامل الخلعي وداود حسني، وقصائد الشيخ أبو العلا، وطقاطيق زكريا أحمد. غنَّى من الأدوار المشهورة لإبراهيم القباني وداود حسني: المحاسن واللطافة، يا ما انت واحشني، بافتكارك إيه يفيدك، يا فؤادي ليه بتعشق.

حرص على صداقة الشيخ محمود مرسي، سنيد سيد درويش في الإسكندرية. يُعيد عليه الأدوار والتواحيش والطقاطيق.

حدَّثه الشيخ محمود عن الموهبة. لا صلة لها بالمعاهد والكليات والشهادات. أنت موهوب حقيقي، فأنت فنان حقيقي. تضيف إلى موهبتك بالدراسة، والممارسة، والبذل، والتأمل، وفهم الحقائق.

درس الموسيقى، وحفظ الأدوار، أداها على أصولها. أعاره حجازي أيوب نُسخًا نادرة من كتب كامل الخلعي: نيل الأماني في ضروب الأغاني، الموسيقى الشرقية، الأغاني العصرية. تعلَّم الفرق بين درجات الصوت وطبقاته، ودرجات النغمات، ومصطلحاتها.

أعاد لحجازي أيوب كتاب جون كومباريو «الموسيقى وقوانينها وتطورها». أجهده فهمُه، واستيعاب ما يحتويه. أزمع الاكتفاء بالموسيقى الشرقية. هي الأقرب لذوقه وفهمه وعمله.

حاول المحاكاة، وإن حرص ألا يكون نسخة ثانية من المنشدين، أو المغنين، أو الفرق الفنية. جدَّد، ونوَّع، فيما قدمه من ألحان، غنَّاها بنفسه، أو ترك غناءها لأفراد الفرقة، أو اقتصر عزف الألحان على الموسيقيِّين.

أَلِف الجلوس على مقهى الفنانين بشارع إسماعيل صبري. يُعِد الاتفاقات، وما إذا كان الحفل لعقد قران، أو زفاف، أو ختان، أو وفاء بنذر. يرى أن المقهى هو ملتقى الفن الأصيل في الإسكندرية. يجلس فنانو الإسكندرية عليه، منذ سلامة حجازي إلى كومبارس السينما، ينتظرون فيه أوامر التصوير لأفلام تُصور في المدينة.

قسمُه الذي لا يبدله — في جلوسه على المقهى: وحياة صاحب المقام!

أمامه مقام سيدي العدوي، في تقاطع شارعَي الترسانة وإسماعيل صبري.

قدَّم — مع فرقته — مسرحيات قصيرة في كازينو سان استيفانو، وكازينو زيزينيا. شاهدها رواد الكازينو والمصيفون. قلَّد جورج أبيض ونجيب الريحاني وعزيز عيد وأحمد فهيم وعبد العزيز خليل.

ميَّز نفسه عن بقية أصحاب الفرق بالإسكندرية، بأنه يقدم أغنيات سيد درويش كما لحنها صاحبها، دون تغيير، دون حذف، أو إضافة، أو استبدال للكلمات أو اللحن. مهجتي في إيديك أنا في عرضك، خليها يا روحي أمانة عندك. أُعيدَت الكلمات كما لحَّنها سيد درويش: شفتي بتاكلني أنا في عرضك، خليها تسلِّم على خدَّك. حتى نشيد ثورة ١٩١٩م بدَّل في كلماته. أبقى على الكلمات الأصلية واللحن الأصلي، يُنهي بالنشيد حفلاته الغنائية، إن أُتيح لها سعة السرادق، ووفرة الجمهور. غنَّى في سرادقات لا يدرك أطرافها.

مع أنه كان يأخذ على مَن يخرج عن أصل اللحن، فإنه لجأ — في أحيان كثيرة — إلى الغناء المقلوب. لا يقدم الأغنيات على ما وضعت في أصل تلحينها، يتسهَّل فيها، يبدِّل كلمات الأغنية، لتتناسب مع معنى المناسبة، يحذف، يُضيف، يحوِّر، يعطي معنًى ثانيًا، مطلوبًا.

حجرات البيت المطل على شارع فرنسا، يتناثر فيها أفرادُ الفرقة الموسيقية، يتدربون على العزف، ويُجرون البروفات. طرد ضابط الإيقاع لأن زجاجة الخمر سقطت من بين ثيابه.

أعطاه حجازي أيوب نسخة من كتاب «مفرح الجنس اللطيف وصور مشاهير الراقصين» لمحمود حمدي البولاقي الآلاتي.

وهو يهز نسخة الكتاب أمامه: طبعته الوحيدة صدرت في سنة ١٩٠٤م.

معظم الراقصات أتى بهن حمامة من فِرَق العوالم في المدينة، ومن حارة العوالم القريبة من جامع سلطان.

•••

ضايقه أن أذواق الناس لم تَعُد تُقبل على الفرقة.

عانت الفرقة قلة الأفراح، وضآلة الأجور. يقتصر ما تتقاضاه — أحيانًا — على النقوط. قد تأتي، وقد لا تأتي، ربما لا تفي بقيمة المواصلات.

أحزن العطار انصرافُ الجمهور عنه. غابت عبارات الإعجاب والاستحسان. حلَّت — بدلًا منها — عبارات مستاءة أو ساخطة. ثمة مَن انشغل بالحديث إلى جاره، أو غادر السرادق. لم يَعُد يعرف ماذا يريد جمهور الحفلات. اختلفت الأذواق، وتباين التفكير، وأثرت الأحوال الاجتماعية على نوعية ما يطلبه الناس.

– صرنا نستمع إلى المونولوج فنقول: ما أجمل هذه الأغنية!

التقط قول أحمد المسيري: شخصيتنا الموسيقية ضاعت بسبب الاقتباس.

كان المسيري يميل إلى الموسيقى القديمة، تعدُّد الأنغام، وما فيها من روح الطرب، السماعيات والبشارف والتقاسيم الحرة على القانون والناي والكمان. يحب الغناء القديم: الليالي والأدوار والموشحات والقصائد. يعيش في ألحان — وأصوات — يوسف المنيلاوي ومحمد السبع وعبد الحي حلمي ومحمد سالم والصفتي وإبراهيم شفيق وزكي مراد وداود حسني وعبد اللطيف البنا. يعيب العجمة على الأغنيات الحديثة، ومظاهر التماوت والابتذال والتخنث والضعف. ألحان متشابهة، كأنها من مقام واحد، ونغمة واحدة. أغنيات أوروبية بألفاظ عربية. لغياب الأصالة عنها، فهي لا تعيش سوى أشهر قليلة.

قال حمامة العطار: أُسمِّيه سرقة، وليس اقتباسًا.

– سمِّه ما شئت، لكن الموسيقى المهجَّنة كارثة!

قال الشيخ رافع بدير: هل تريد أن تقدِّم أغنيات هذه الأيام بطريقة ألمظ وعبده الحامولي وسلامة حجازي؟

قال المسيري: نحن نعجب حتى الآن بألحان سيد درويش.

قال الشيخ رافع: استثناء من الصعب أن يتكرر!

قال حمامة العطار: أيهما أحب إلى شارب الخمر … الجديدة أم المعتقة؟

استطرد دون أن ينتظر إجابة: الأغنية القديمة هي الخمر المعتقة. يتذوقها مَن يعرف قيمتها.

قال المسيري بلهجة مؤكدة: القديم أجمل!

وزمَّ شفتَيه، وضيَّق ما بين عينَيه: أغنيات هذه الأيام ورود بلا رائحة!

وأزاح الهواء بظهر يده: أين هي من أغنيات زمان؟

لكساد السوق، وتوقف الكثير من فرق العوالم عن العمل، لم يَعُد حمامة العطار يُدقِّق في الدعوات التي تُعرض عليه، ولا يفرض شروطًا قد لا يقبلها أصحاب الليلة. لم يَعُد يرفض حتى دعوات السراة من أبناء الأحياء المجاورة إلى مجالسهم الخاصة، وسهراتهم التي تقتصر على القلة.

عزا إلى أفعال السحر، انصراف الناس عن فِرَق العوالم في داخل بحري وخارجه. يصنعها شحاتة عبد الكريم. تمضي بالناس إلى سرادق المسيري، يُهملون الفرق الأخرى، كأنهم لا يرونها: تفيدة الإسكندرانية، الحاج طه أبو مندور، الست أم إبراهيم، فاطمة الشامية، السيدة السويسية، أنوسة المصرية، نعيمة المصرية، نظيرة المهندسة، أسما الكمسارية، المعلمة مواهب.

صار يجمع — في حفلاته — بين الموسيقى الحديثة والتراث الموسيقي القديم والإنشاد الديني والموشحات والليالي والمواويل والأدوار. ظل التخت مؤلفًا من عازفي الكمان والقانون والناي والربابة وآلات الضرب كالصاجات والدربكة والطار والطبل البلدي، بالإضافة إلى جوقة من الأصوات النسائية.

كرَّر، ونوَّع في طرق أدائه بتعدد المناسبات. ما يُغنَّى في ليلة العرس يختلف عن إنشاد الموالد والليالي الدينية. يختلف الغناء لجمهور بحري عن الغناء لجمهور القرى المحيطة بالإسكندرية، لكل جمهور ذوقه، وما يحب سماعه.

حاول التجديد والتنويع في الأغنيات التي أَلِف الناس سماعها من غيره. نوَّع في أسلوب الأداء، وفي الدور الذي تلعبه الآلات. يستهويه في الكمان أنها تضمُّ الأنغام كلها. استخدم الأبوا، والقانون الذي أهمل الكثير من المغنِّين استخدامه. أدخل آلات غربية لم يسبق إدخالها في الفرق الموسيقية المصرية: الجيتار الكهربائي والتشيللو والأورج والكلارينيت وإيقاعات الجازبند، بالإضافة إلى الدربكة والدهلة والرق والسلامية. أوركسترا كبير تتناغم فيه ألحانُ الآلات الشرقية والآلات الغربية. أفرد مجالات للموسيقيِّين، يؤدي العازف «صولو» لاستعراض مهاراته.

أدخل الموتيفات الموسيقية الجديدة. نوَّع في وحدات الأقسام الغنائية، تخلَّى عن الكثير من الأشكال الموسيقية القديمة. حاول أن يقدِّم صورة جديدة من الأداء تنتمي إليه، تعبِّر عن موهبته وفهمه للإضافة في الموسيقى.

عرف أفراد الفرقة الموسيقية المقدمة الموسيقية، والإيقاع والكورس واللحن واللازمة والتقاسيم. أضافوا إلى مفرداتهم تسميات لم يكونوا يُردِّدونها، ولا يعرفونها: الأوركسترا، الكونشرتو، الريتم، ربع التون، الميلودي، الإيقاع، الهارموني، الدارج، الصعيدي، المصمودي، البروفة، النوتة الموسيقية، الجواب سيكاه، الجواب راست، الكونتربوينت.

اعتمد على التكوين الغربي: آلات النفخ الخشبي والدرامز والبيانو، والإيقاعات الغربية، مثل التانجو والسامبا والرومبا والجيرك والفوكس تروت.

اعتبر ما كان يقدِّمه، وتخلَّى عنه، هو الفن الحقيقي. ما أصبح يُقدِّمه للضرورات ومطالب العيش.

•••

في أيامه الأخيرة، أظهر ضيقه من إهمال إذاعة الإسكندرية — عند إنشائها في ١٩٥٢م — لتقديم فقرات ضمن برامجها.

تحدَّث حمامة العطار عن اعتزامه الرحيل إلى هوليود. وزَّع نسخة من سيناريو فيلم استعراضي — وافق على بطولته، وتشاركه البطولة مارلين مونرو — به العديد من الأغنيات والرقصات والمواقف التي تُثير الضحكات والدموع.

وتداخلت في صوته نبرةُ ثقة: أنا الآن أكثر شبابًا من فوزي منيب، عند قيامه سنة ١٩٢٠م ببطولة فيلم «خاتم سليمان».

ثم وهو يُشير إلى نفسه: وأنا أفوقه فنًّا!

قال خليل الفحام: حمامة العطار زمن رفضه الواقع، فلجأ إلى الحلم.

•••

انظر: أحمد المسيري، رافع بدير، سلامة حجازي، سيد درويش، شحاتة عبد الكريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤