الخضر

الخضر.

حاولت أن أُعيد بناء حياته من الروايات الشفاهية، والمكتوبة.

من الصعب أن أرسم ملامح شخصية خلَّفت وراءها حكايات أقرب إلى الأساطير. أضاف رُواة بعض التفاصيل والشروح. فعل آخرون العكس. اخترع رواة ما يلغيه العقل، ويصعب تصوُّر حدوثه. وتعرجت روايات واختلطت كما في حكايات ألف ليلة وليلة. ثمة روايات ترقَى به إلى مرتبة عليا، وأنه آخر الملهمين. أعداد المؤمنين بأفكاره يتزايدون، فهم بلا حصر، والمنشدون والرواة يقصُّون عن أفعاله ما تضيق به المجلدات. وثمة روايات تجد فيه رجلًا صالحًا.

سيرة سيدي الخضر الذي تلقَّب باسم إمام الفقراء، تناثرَت في عشرات الكتب والمجلدات والأوراق، والأحاديث المروية المتناثرة في مجالس العلم والسمَر. ملأ حياة الناس منذ قرءوا حكايته مع نبي الله موسى، وتكرَّر سماعهم للحكاية — قبل صلاة كل جمعة — في سورة الكهف. تتراوح التقديرات بين ما إذا كان قد أقدم على ما يدعو إلى التقدير، أو يُثير التأمل، أو يستفز السخط. لا يدَّعي أحد أنه لم يخضع لتأثيره على أي نحو.

أنا لا أنتمي إلى الفترات نفسها التي عاش فيها الرواة، لم أرَ بعض ما رأوا، ولا عشتُ الوقائع التي تناولوها بالإيجاز، أو بالتفصيل، لكنني أهملت كل الروايات، لا تشغلني إلا سيرة الخضر.

سألت، وناقشت، وتأملت، وتفحَّصت، واستكشفت. ترددت على المجالس والخلوات، وقرأت التراجم والسير والمذكرات والذكريات والوثائق والمخطوطات. رجعت إلى المتون والحواشي والشروح والتفاسير والتعليقات والاختصارات. دققت في كل جملة، وكلمة، وحرف.

أول انتباهي لمن رأوا رؤية العين من الأولياء والصالحين والتابعين، ثم من أُتيح لهم السماع والنقل عن الآخرين. لم أغادر امرأً لديه ما يقوله حتى استخلصتُ منه كل ما يجب معرفته.

ذكر الرواة ما حدث، كما حدث بالفعل. شدَّدت عليهم، استحلفتهم بالأيمان المغلظة، فلم يُضيفوا، ولم يحذفوا. روَوا الوقائع بتفصيلاتها. من ناحيته، فقد أهملتُ الأقوال الموضوعة، أو التي يشك في كذبها، أو الملفقة.

تجاوزتُ ما ذكره الرواة في الأحاديث الشفاهية. حاولت أن أُفيد من الرسائل وكتب السير والتراجم، وكتب التاريخ والدين، أتعرف على الوسائل التي أعرض — من خلالها — لشخصية مهمة.

فضَّل بعضُ الرواة أن يسجل ما عنده من روايات. يكتب في أوراق، أجهدَتني قراءتها. الخطوط المتشابكة، والمتقاطعة، والمستقيمة، والأسهم، والمربعات، والدوائر، وخطوط الطلاسم، وما يُشبه الأحجبة، وملاحظات الهوامش.

عكفتُ مئات الساعات بين الأوراق والمخطوطات والكتب التي تكرَّر نسخها، أو لم تُنسخ. لم يقطع اتصال الوقت سوى الحاجة إلى الراحة، والمرض الذي يحلُّ ضيفًا على الجسد، فلا يملك رده، في المكتبات العامة والأقبية والدهاليز والمكتبات الخاصة.

جمعت الأخبار قديمها وحديثها. كل ما يتصل بشخصية الخضر. نقحت، وأعدت الكتابة. حاولت أن أربط بين المقدمات والنتائج، الأسباب والأحكام. أهملت ما بدا أنه رُوي عن خيال، تدخَّلت في تعدُّد الروايات بالغربلة والاختيار، غربلت كلَّ ما قيل باتفاقه واختلافه، وإن حرصت على ما أرفق به أصحابه من الأدلة التي تؤكد حدوثه.

سجلت ما ذكره الرواة بنصِّه، دون زيادة أو نقص، إضافة أو حذف، تغيير الوقائع بما يُنكر حقيقة ما حدث.

لم أترك مسئوليةَ الروايات على الذين ذكروها، ولا ترْكَها على تناقضها، وإن نقلتُ ما اطمأننت إليه، وأسقطت ما أملاه الغلُّ، أو الذي يبين عن هوًى في نفس راويه. فرَّقت بين ما يصدقه العقل، وما يرفضه.

•••

أحبَّ أهل بحري سيرةَ الخضر لأنه ركب البحر، وأمضى معظم حياته فيه. كان الأقطاب يسخِّرون السمك في نقل كتبهم، كما الحمام الزاجل في نقل الرسائل، بإذن من سيدي الخضر، وارتكازًا إلى قدرته المسيطرة على مخلوقات البحر.

للخضر مكانته. هو صاحب مقام رفيع، بصرف النظر عن درجة قربه من العرش الإلهي، وهو شيخ الصوفية الأكبر. لا يجتمع بشخص إلا إذا اجتمعت فيه ثلاث خصال: أن يكون العبد على سننه في سائر أحواله، وأن يكون غير حريص على الدنيا، وأن يكون سليم الصدر لأهل الإسلام، لا غلَّ ولا غش ولا حسد. مَن حقَّت له قدم الولاية المحمدية. إذا رأى وليًّا اعتكف بعلمه عن الناس، قال له: اخرج إلى الناس، وانفعهم.

دوره مستمر منذ البداية، وينتهي في اللانهاية. هو — في تأكيد الروايات الموروثة — حيٌّ، يصلِّي في بيت المقدس كل يوم. يدعو — مثل كل المؤمنين المخلصين — أن يعود البيت إلى أمة الإسلام. يصوم شهر رمضان من أوله إلى آخره، في بيت المقدس، ويحج ويعتمر كل عام، ويشرب من ماء زمزم شربةً تكفيه إلى السنة التالية.

أحب أماكن الزيارة إليه جوامع أولياء الله بحي بحري، وأضرحتهم، ومقاماتهم. الأولياء الذين يصطفيهم الله بعطفه، وواسع رحمته ورضوانه، هم مَن يملكون ما يملكه الخضر من الكرامات، والاطلاع على الغيوب، وتحقيق المعجزات.

بحري هو أنسب المواضع لاحتضان ولي الله. عائلة خضر من الإسكندرية، جدُّها من محاسيب سيدي الخضر.

يجول في بحري بمفرده، وإن لا يكاد يفترق عن النبي إلياس بعيدًا عن بحري. الخضر هو البحري، على منبر من نور في البحر، وإلياس هو البري. تربط روايات كثيرة بين الخضر وإلياس، فهما لا يكادان يفترقان. قيل إن الخضر هو إلياس، وإن إلياس هو الخضر، وإن الخضر هو قطب الأقطاب.

استمرت صحبة النبي موسى للخضر ثلاث وقائع، افترقا بعدها. صحبة إلياس للخضر تستمر إلى قيام الساعة. يصومان رمضان في بيت المقدس، ويحجان في كل سنة، ويشربان من ماء زمزم شربة واحدة، تكفيهما إلى مثلها في السنة القادمة. قال عمرو بن دينار: إن الخضر وإلياس لا يزالان يحييان في الأرض، فإذا رُفع القرآن ماتا.

ربما قطع الخضر شوارع بحري وأسواقه وأزقته، ومضى على شاطئ البحر، وحيدًا، لا يراه أحد، وإن شعر به ذوو النفوس الطيبة. يبادرونه بالسلام، أو يردون عليه السلام. يأتي إلى الأقطاب في اليقظة، وإلى المريدين في المنام. الأقطاب وحدهم هم الأهل لرؤيته، والتلقي عنه. الأحاديث تمتد، فتشمل الحياة والموت والإيمان ومنكر ونكير والبعث والخلق ونهاية البشرية والصراط والجنة والنار.

المؤمنون يقينًا يعرفون أن الخضر يكون حاضرًا، رغم أنه لا يظهر للناس، وأنه سيظل حيًّا، لا يموت إلا عند قيام الساعة.

قال الشيخ عبد الستار إن رؤية سيدنا الخضر في المنام بشير بدخول الجنة. وأكد الشيخ إبراهيم سيد أحمد أنه قد رأى الخضر رؤية العين، ورأى أولياء الله يحضرون مجلسه في ساحة قلعة قايتباي، وفي حضرة ضريح السلطان.

أفاد سيدي الخضر أهل بحري بتردده على الحي. لا يقتصر على مجالسة أولياء الله، إنما يجول في الحي، يرى الناس دون أن تُتاح لهم رؤيته. يشاهد، يتأمل، يتشفع لدن رب العالمين.

رُويَ أنه تحدَّث — بمكانته — إلى مخلوقات البحر. ساقت ملايين الأسماك إلى داخل البوغاز، صيدًا متاحًا للجرافة والطراحة والسنارة.

أحب مجالسه إلى الناس العاديِّين قهوة الزردوني. مقصد الصيادين وراكبي البحر. هم أحباؤه الذين يُطيل مجالستهم، وإن لم يرَه إلا مَن خصه الله بقدرة على المكاشفة. يُنصت إلى الحكايات وما يعانيه أهل البر في ركوب الموج. يتشفع لهم عند الذات الإلهية، فيتبدَّل من أحوال عسرهم يسرًا.

تشفع عند ربه، فأعادت مخلوقات البحر قارب صيد اختطفَته بركابه، بالقرب من البرلس. خاطب سيدي الشاذلي، فظهر للفتوة الأبجر في نومه. وبَّخه، ودفعه إلى تبديل حياته، والسير في طريق الخير، خاطب سيدي الأنفوشي، فظهر للفتوة حميدو شومة في نومه، ودلَّه على ما يجب فعله. أعاد وقف عائلة خضر إلى أصحابه. ساءه أن يسرق الناظر وقفًا باسم الخضر، اسم ولي الله. صرف أعين الساعين للشر عن ضياء خير الله، فهي لا تُبصر لواذه بمقام المرسي أبي العباس. أتاح لضربات ابن خطاب على الجدران أن تقوضه، فيخرج إلى النور. صنع ما أعاد بدوي الحريري إلى أم أبنائه. رعى سعيد العدوي في لحظات احتضاره. زرع جنود الإنجليز في طريق اغتيالات جميل الخضراوي. انحرف بالرصاصة التي أُطلقت من نافذة قصر رأس التين. لو أنها أصابت مقتلًا، ربما دارت معركة دامية.

عُرف عنه أنه يستجيب للطلبات، يقضي الحاجات، يحلُّ المشكلات، يفصل بين المتقاضين، يُصلح بين المتخالفين، يهب وساطته بين الأزواج المتخاصمين، يفك المربوط، ييسِّر لقمة العيش لمن يصعب حصولهم عليها.

لم يبخل — فيما يُشبه الإلهام — بنصيحة، أو موعظة، أو كلمات تدل على الطريق الصحيحة. لا يعلو الصوت، أو يهمس، لكنه يداخل النفس، فيتبدل المألوف.

ضبط الأمور.

لم يأذن للشر أن يجاوز مكمنه، ولا أن يمارس سطوته في ميادين بحري وشوارعه وبيوته وخلائه ومقاهيه.

•••

لماذا يحضر الخضر هذه المواطن كلَّها، دون أن يراه أحد؟

الأصل — في قول ابن كثير — عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العموميات بمجرد التوهمات. ثم ما الحامل له على هذا الاختفاء، وظهوره أعظم لأجره، وأعلى في مرتبته، وأظهر لمعجزته، ثم لو كان باقيًا بعده، لكان تبليغه عن رسول الله الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة، والروايات المقلوبة، والآراء البدعية، والأهواء العصبية، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم، وشهوده جمْعهم وجماعاتهم، ونفعه وإياهم، ودفعه الضرر عنهم ممن سواهم، وتسديده العلماء والحكام، وتقريره الأدلة والأحكام، أفضل مما يقال عنه من كنونه في الأمصار، وجَوْبه الفيافي والأقطار، واجتماعه بعباد لا يعرف أحوال كثير منهم، وجعله لهم كالنقيب المترجم عنهم.

•••

جاء في «معجم مصطلحات الصوفية»، في مادة خضر: الخضر يعبر به عن البسطاء، فإن قواه المزاجية مبسوطة إلى عالم الشهادة والغيب، وكذلك قواه الروحية.

تعددت الروايات حول الخضر: هل هو نبي، أو رسول، أو من الصديقين، أو هو عبد صالح أخلص في عبادة الله؟

قيل إنه إيليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقيل إنه إيليا بن عاميل بن شمالخين إرما بن علقما بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم. وقيل اسمه إرميا بن حلقا من سبط هارون. وسماه الرسول بَلْيا بن ملْكان. وقيل: كان من بني إسرائيل. وقيل: كان من أبناء الملوك، يسمَّى العبد الصالح، وكنيته أبو العباس. وقال الماوردي إن الخضر ملك من الملائكة، يتصور في صورة الآدميِّين. وقال السهيلي: كان أبوه ملكًا، وأمه اسمها الهاء، ولدَته في مغارة، ظلت شاة من غنم رجل في القرية تُرضعه كل يوم، وعندما وجده الرجل عُنيَ بتربيته. وذات يوم، طلب الملك كاتبًا. تقدَّم إلى الوظيفة كثيرون، من بينهم ابنه الخضر. أُعجب الملك بخط الخضر. سأله عن أصله، فعرف أنه ابنه. ضمَّه إلى نفسه، وولَّاه أمر الناس. ترك الخضر مُلْكه زاهدًا، وساح في البلدان، حتى وجد عين الحياة. هي العين التي أخفق الإسكندر في الشرب منها. موضعها في مجمع البحرين، مَن يشرب منها لا يموت، ومَن سبح فيها أكل من كبد البهموت، حوت في البحر، على ظهره يقف البرهموت، ثور يحمل الأرض على قرنَيه. شرب الخضر من العين، وكُتب له العمر الطويل، حتى يظهر الدجال — ذات يوم — ويقتله، ثم يُحييه الله سبحانه.

قال الثعلبي في كتاب «العرائس»: «والخضر — على جميع الأقوال — نبيٌّ معمر محجوب عن الأبصار.» وفي «الإصابة» لابن حجر: «ومما يستدل به على نبوة الخضر، ما قاله عبد بن حميد، نقلًا عن الربيع بن أنس: «قال موسى لما لقيَ الخضر: السلام عليك يا خضر. فقال: وعليك السلام يا موسى. قال: وما يدريك أنى موسى؟ قال: أدراني بك الذي أدراك بي».» وقيل إن الخضر هو العبد الصالح، وهو مؤمن آل فرعون. وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ.

وفي رواية، إن الخضر وُلد في فارس. كان أبوه ملكًا وأمه فارسية، اسمها الهاء. ولدَته أمه في مغارة، وأرضعَته شاة كانت ترعى. ربَّاه رجل غير أبيه. ولما التقى بأبيه فرَّ منه، حتى وجد عين الحياة، فشرب منها. قيل إنه ابن آدم لصلبه، أذن لحياته أن تمتدَّ حتى يقتل الدجال. وقيل إنه ابن قابيل واسمه خضرون، وهو ابن نوح، ومن ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وابن إرميا بن خلقيا، وابن فرعون، أو ابن بنت فرعون، ومن سبط هارون، وهو المعمر بن مالك بن عبد الله بن الأزد، وهو اليسع.

أما تسمية الخضر، فقد تعددت فيها الروايات: هل لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز تحته خضراء؟ هل لأنه كان إن صلى، اخضر ما حوله؟ هل لأنه يظهر في زيٍّ أخضر؟ هل لحسنه وإشراق وجهه؟ هل لأسباب أخرى يعلمها الله؟

قال الحافظ ابن عساكر: يقال إنه الخضر ابن آدم عليه السلام لصلبه. وعن ابن عباس قال: الخضر ابن آدم لصلبه، ونُطيل له في أجله حتى يكذب الدجال. وقيل: إن أطول بني آدم عمرًا الخضر، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم. وذكر ابن إسحاق: أن آدم عليه السلام لما حضرَته الوفاة، أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس، وأوصاهم — إذا كان ذلك — أن يحملوا جسده معهم. فلما هبطوا إلى الأرض، أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه، فيدفنوه حيث أوصى. فقالوا إن الأرض ليس بها أنيس وعليها وحشة، فحرَّضهم، وحثَّهم على ذلك. وقال إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولَّى دفنه، وأنجز الله ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله له أن يحيا.

ثمة روايات أن حياته ممتدة منذ آدم إلى قيام الساعة.

في رواية ابن إسحاق أن آدم — لما حضره الموت — جمع بنيه. قال: إن الله منزل على أهل الأرض عذابًا، فليكن جسدي معكم في المغارة حتى تدفنوني بأرض الشام.

وفي رواية ثانية، أنه حين جاء الطوفان، قال نوح لبنيه: دعا الله آدم أن يُطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة، فلم يزَل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي دفنه، وأنجز الله ما وعده، فهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا. أعطى الحياة من أيام إبراهيم الخليل حتى يوم النشور. يبعث في زمرة أمة محمد. هو حيٌّ حتى يظهر الدجال، حيث يقتله، ثم يُحييه.

وقال أبو العباس: «وأما الخضر — عليه السلام — فهو حيٌّ، وقد صافحتُه بكفَّي هذه، وأخبرني أن كل من قال — كل صباح — اللهم اغفر لأمة محمد ، اللهم تجاوز عن أمة محمد ، اللهم اجعلنا من أمة محمد ، صار من الأبدال.»

عرض بعض الفقراء ذلك على أبي الحسن الشاذلي، فقال: صدق أبو العباس.

لم يتحدث الشاذلي عن الجلسات التي تجمعه — إلى زماننا الحالي — بسيدي الخضر، وبأولياء الله الصالحين، بالقرب من ضريح أبي العباس، وداخل قلعة قايتباي، وفي أراضي خلاء مستورة عن أعين الفضوليِّين.

كان الخضر قد دخل على أبي العباس، وعرَّفه بنفسه. اكتسب منه أبو العباس معرفةَ أرواح المؤمنين بالغيب: هل هي معذبة أو منعمة؟

قال أبو العباس: فلو جاءني الآن ألف فقيه يجادلونني في ذلك، ويقولون بموت الخضر، ما رجعت إليهم!

ورُويَ أن ذا القرنين طلب من ملك صديق أن يدلَّه على شيء يطول به عمره. قال الملك: إن لله عينًا تسمَّى عين الحياة، مَن شرب منها شربة لم يمت أبدًا، حتى يكون هو الذي يسأل ربه الموت.

قال ذو القرنين: هل تعلم موضعها؟

– لا، غير أنَّا نتحدث في السماء أن لله ظلمة في الأرض لم يطأها إنسٌ ولا جان، فنحن نظن أن تلك العين في تلك الظلمة.

جمع ذو القرنين علماء الأرض. سألهم عن عين الحياة.

قالوا: لا نعرفها.

قال: هل وجدتم في علمكم أن لله ظلمة؟

قال عالم منهم: لمَ تسأل عن هذا؟

قال ذو القرنين: إني قرأت في وصية آدم ذكر هذه الظلمة، وإنها عند قرن الشمس.

تجهَّز ذو القرنين، وسار اثنتَي عشرة سنة، حتى بلغ طرف الظلمة. لم تكن بليل، وتفور مثل الدخان.

جمع ذو القرنين عساكره وقال: إني أريد أن أسلكها، فمنعوه.

سأله العلماء الذين معه أن يكفَّ عن ذلك كي لا يسخط الله عليهم … لكنَّ ذا القرنين أصرَّ على ما أراد. انتخب من جنده ستة آلاف رجل على ستة آلاف فرس أنثى بكر، وعقد للخضر على مقدمته في ألفَي رجل.

سار الخضر بين يدي ذي القرنين الذي كتمه ما يطلب، وكان هو يعرف ما يطلب الرجل. وظهر وادٍ، أدرك الخضر أن العين فيه. واصل السير حتى وقف على حافة عين من ماء أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من الشهد. نزع ثيابه، وشرب من العين، وتوضأ، واغتسل ثم خرج فارتدى ثيابه، وواصل السير. أما ذو القرنين، فقد أخطأ الظلمة.

•••

ثمة رواية أن الخضر كان وزير الإسكندر — سمِّي ذا القرنين — وأنه وقف معه على جبل الهند، فرأى ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. من آدم أبي البشر إلى ذريته: أوصيكم بتقوى الله، وأحذِّركم كيد عدوي وكيد إبليس، فإنه أنزلني هنا، فقال: فنزل ذو القرنين، فمسح جلوس آدم. وكان مائة وثلاثين ميلًا.

ثمة رواية أن ذا القرنين بدأ رحلة، سار فيها اثنتَي عشرة ساعة، حتى بلغ حدَّ الظلمة. هي ليست بليل، وتفور مثل الدخان.

جمع جنده، وقال: إني أريد أن أسلكَها.

طلب منه العلماء الذين كانوا معه، أن يكفَّ عن ذلك، فلا يسخط الله عليهم.

أبى، واختار من جنده ستة آلاف رجل، على ستة آلاف فرس أنثى بكر، وعقد للخضر على مقدمته في ألفَي رجل.

سار الخضر بين يدَيه، وقد أدرك ما يُخفيه ذو القرنين. وفي أثناء سيره، طالعَه وادٍ، فظن أن العين فيه. ولما اقترب من أوله، استوقفه أصحابه. ومضى، فإذا هو على حافة عين ماء. نزع ثيابه، واقترب.

كان الماء أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من الشهد. شرب، وتوضأ، واغتسل. ثم خرج، وارتدى ثيابه، وتوجَّه، ومرَّ ذو القرنين، فأخطأ الظلمة.

ما عين الحياة التي سافر الإسكندر إليها ليشرب من مائها؟.

حدد الجيلي موقعها بأنه في جانب المغرب عند البلد المسمَّى بالأزيل المغرب، فمن خاصية هذا البحر المعين الذي خلقه الله في مجمع البحرين، أن مَن شرب منه لا يموت، ومن سبح فيه، أكل من كبد البهموت. البهموت حوت في البحر الهائج، جعله الله الحامل للدنيا وما فيها، فإن الله تعالى لما بسط الأرض، جعلها على قرنَي ثور يسمَّى البرهوت، وجعل الثور على ظهر حوت في هذا البحر يسمَّى البهموت، وهو الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله: وَمَا تَحْتَ الثَّرَى.

الرحلة الثانية إلى مشرق الأرض. سار والخضر يريدان مطلع الشمس. عبرَا أرض الجزيرة والعراق وفارس ونهاوند، حتى دخلا أرض يأجوج ومأجوج. بلغَا جزائر الأرض التي تزورُّ عنها الشمس حين طلوعها. هل هي خور فكان؟ ثم سارا حتى أطراف جزر المحيط. ركب الإسكندر البحر المحيط. كانت الطير تصنع — فوق رأسه — مظلة تحميه من الشمس. سار فيه زمنًا حتى لفته الظلمة. ثم طالعته أرض بيضاء كالثلج، ضوءها شديد، يكاد يخطف الأبصار. لم يكد يمضي — وجنوده وخيله — خطوات حتى ساخت الأجساد إلى الصدور. ترك جنوده، ومضى وحده حتى بلغ نهاية العالم الأرضي. بدَت الحواجز مانعًا دون أن يصعد إلى عالم السماء. تيقن أنه في أرض الملائكة. ظهر له الملك إسرافيل. أعطاه عنقود العنب، وجرى ما تيقن به ذو القرنين من أنه لن يُفلح — للمرة الثانية — في أن يجتاز عتبة الخلود.

لم يهتدِ الإسكندر إلى الخضر إلَّا لأن قلبه رُسم عليه خاتم الأسرار والنبوءات. كانت مهمة الخضر هي البحث عن ماء الحياة، وأصبح الخضر خالدًا، بعد أن شرب من عين الحياة.

•••

قال الدميري إن الحكمة في جمع موسى مع الخضر عليهما السلام، بمجمع البحرين، أنهما بحران في العلم، أحدهما أعلم بالظاهر، أي علم الشرع، وهو موسى، والآخر أعلم بالباطن، أي علم الحقيقة وأسرار الملكوت، وهو الخضر، فكان اجتماع الخضر وموسى بمجمع البحرين، فحصلت المناسبة.

•••

قال رسول الله — ذات يوم — لأصحابه: ألَا أُحدِّثكم عن الخضر؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل، أبصره رجل مكاتَب، فقال: تصدَّق عليَّ بارك الله فيك. فقال الخضر: آمنت بالله، ما شاء الله من أمر يكون، ما عندي من شيء أعطيه. فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقتَ عليَّ، فإني نظرت إلى السماء في وجهك، ورجوت البركة عندك. فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه، إلا أن تأخذني فتبيعني. فقال المسكين: وهل يستقيم هذا؟ قال: نعم، الحق أقول لك لقد سألتني بأمر عظيم، أما إني لا أخببك بوجه ربي، يعني.

قال: فقدَّمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم، فمكث عند المشتري زمانًا لا يستعمله في شيء، فقال له: إنك إنما ابتعتني التماسَ خير، فأوصني بعمل. قال: لأكره أن أشق عليك، إنك شيخ كبير ضعيف. قال: ليس تشق عليَّ. قال: فانقل هذه الحجارة. وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم، فخرج الرجل لبعض حاجاته، ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة، فقال: أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرَك تُطيقه. ثم عرض للرجل سفر، فقال: إني أحسبك أمينًا فأخلفني في أهلي خلافة حسنة. قال: فأوصني بعمل. قال: إني أكره أن أشق عليك. قال: ليس تشق عليَّ. قال: فاضرب من اللبن لبيتي حتى أقدم عليك. فمضى الرجل لسفره، فرجع وقد شِيد بناؤه. فقال: أسألك بوجه الله ما سبيلك وما أمرك؟ فقال: سألتني بوجه الله، والسؤال بوجه الله أوقعني في العبودية، سأخبرك مَن أنا؟ أنا الخضر الذي سمعتَ به، سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي من شيء أعطيه، فسألني بوجه الله، فأمكنتُه من رقبتي، فباعني. وأُخبرك أنه من سُئل بوجه الله فردَّ سائله وهو يقدر، وقف يوم القيامة جلده لا لحم له، ولا عظم يتقعقع. فقال الرجل: آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم. فقال الرجل: بأبي وأمي يا نبي الله، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله، أو أُخيِّرك فأُخلي سبيلك. فقال: أحب أن تُخلي سبيلي، فأعبد ربي، فخلَّى سبيله، فقال الخضر: الحمد لله الذي أوقعني في العبودية، ثم نجاني منها.

•••

عن أنس أنه لما قبض رسول الله ، اجتمع أصحابه حوله يبكون. دخل عليهم رجلٌ طويل الشعر والمنكبين. تخطَّى أصحاب النبي حتى أخذ بمصراعَي باب البيت، فبكى، ثم اتجه نحو الحضور بعينين دامعتين، وقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضًا من كل ما فات، وخلفًا من كل هالك، فإلى الله أنيبوا، وبنظره إليكم في البلاء فانظروا، فإنما المصاب مَن لم يَحُز الثواب.

ثم ذهب الرجل.

قال أبو بكر: عليَّ بالرجل.

تلفَّت الصحابة حولهم، فلم يجدوا أحدًا.

قال أبو بكر: لعل هذا هو الخضر أخو نبينا، جاء يعزينا فيه.

كان أول لقاء سيدي الخضر بالإمام الشاذلي في تونس. شاهده الشاذلي في أكثر من موضع، يظهر ويختفي، ثم يظهر ويختفي. فلما انتهى الشاذلي في الجامع من ركوع تحية المسجد، وسلَّم، سلَّم عليه الرجل، هو الرجل نفسه عن يمينه.

سأل الشاذلي: يا سيدي … بالله مَن أنت؟

قال الرجل: أنا أحمد الخضر. كنت في الصين، وقيل لي: الحَقْ عليًّا بتونس. أتيت مبادرًا إليك.

أنهى الشاذلي صلاة الجمعة، ونظر إلى الخضر بجانبه، فلم يجده.

التقيا — فيما بعد — في فترات متباعدة. يخطر الخضر على ذهن الشاذلي. يأتيه، فيحاوره.

•••

الخضر هو شيخ الأولياء.

الخضر بالنسبة للقطب، هو القطب بالنسبة لمريديه. من المهام التي يحيا من أجلها الخضر — حتى قيام الساعة — اختيار الأبدال، وتعيينهم. يختارهم من اللوح المحفوظ.

قال أبو العباس: رأيت — ليلة — كأني في سماء الدنيا، وإذا برجل أسمر اللون، قصير الطول، كبير اللحية، فقال: «قل اللهم اغفر لأمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد، اللهم استر أمة محمد، اللهم اجبر أمة محمد.» هذا دعاء الخضر، مَن قاله كل يوم، كُتب من الأبدال، فقيل: هذا الشيخ ابن أبي شامة. فلما انتهيت، وأتيت إلى الشيخ أبي الحسن، جلست، ولم أُخبره بشيء، فقال: اللهم اغفر لأمة محمد … الدعاء. مَن قاله كل يوم كُتب من الأبدال.

•••

عانى العارف بالله الشيخ رستم خليفة البرسوي رمدًا في عينَيه، أخفقَت في مداواته قطرات ومراهم، حتى قابله — ذات يوم — شاب، فاجأه بالقول: اقرأ المعوذتين في الركعتين الأخيرتين من السنن المؤكدة.

داوم الشيخ البرسوي على ذلك، فاستعاد — بحول الله — بصره.

سأل الشيخ عن الشاب الذي أنقذ عينَيه من الرمد.

أتاه الصوت — دون أن يشاهد صاحبه: هذا رجل مشهور.

عرف الشيخ أن الشاب هو الخضر.

•••

قال تلميذ للولي عبد الرحمن السقاف: أودُّ أن ألقى الخضر، وأعقد معه الأخوة.

قال الشيخ السقاف: تنال ذلك.

لقيه الخضر في صورة بدوي، كانت بينه وبين التلميذ معرفة. عقد معه الأخوة، وغاب.

شم التلميذ — في حضوره، وبعد انصرافه — رائحةً طيبة.

قال الشيخ السقاف: ذلك الخضر.

ثم لقيَ البدوي صديقه، فأنكر أنه التقاه من زمان طويل.

تأكد التلميذ أن الخضر هو مَن كان التقاه.

•••

قال أبو محمد القاسم بن عبد الله البصري: اجتمعتُ بأبي العباس الخضر، وقلت له: أخبرني بأعجوبةٍ مرَّت بك من الأولياء. فقال: جزتُ يومًا بساحل البحر المحيط حيث لا يُرى آدمي، فرأيت رجلًا نائمًا ملتفًّا بعباءة، فوقع لي أنه ولي، فركضته برجلي، فرفع رأسه، وقال: ماذا تريد؟ فقلت: قم للخدمة. قال: اذهب واشتغل بنفسك، فقلت: إن لم تَقُم لأنادين عليك في الناس وأقول لهم: هذا ولي الله. فقال: إن لم تذهب لأقولن لهم: هذا الخضر. فقلت: وكيف عرفتني؟ فقال: أما أنت فأبو العباس الخضر فقل لي مَن أنا؟ فرفعت همتي إلى الله وقلت في سرِّي: يا رب أنا نقيب الأولياء، فنوديت: يا أبا العباس، أنت نقيب مَن يحبُّنا، وهذا ممن نحبُّه. فأقبل عليَّ، وقال: يا أبا العباس، سمعت حديثي معه؟ قلت: نعم، فزوِّدني بدعوة. فقال: منك الدعاء يا أبا العباس. قلت: لا بد. قال: مر وفَّر الله نصيبك، فقلت: زدني. فغاب عني، ولم يقدر الأولياء يغيبون عني. ثم رأيت في نفسي بقيةً من المشي، فمشيت حتى انتهيت إلى كثيب عظيم من الرمل، فدعَتني نفسي إلى صعوده. فلما استويت على أعلاه، ظننت أني أسامق السموات، فرأيت على ظهره نورًا يخطف الأبصار فقصدته، فإذا ثَم امرأة نائمة ملتفة بعباءة تُشبه عباءة الرجل صاحبي، فأردت أن أركضها برجلي، فنوديت: تأدب مع مَن تحبُّ، فجلست أنتظر انتباهها، فاستيقظت وقت صلاة العصر، وقالت: الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور، والحمد لله الذي آنسني به، وأوحشني من خلقه. ثم التفتَت فرأتني، فقالت: مرحبًا بأبي العباس، ولو كنت تأدبت معي من غير نهي كان أحسن بك. قلت: بالله عليك أنت زوجة الرجل؟ قالت: نعم، فقد ماتت في هذه البرية بدله، فساقني الله تعالى إليها، فغسَّلتُها وكفَّنتُها. فلما فرغتُ من تجهيزها، وقعَت من بين يدي نحو السماء حتى غابت عن بصري. فقلت: زوِّديني بدعوة. قالت: وفَّر الله نصيبك منه. قلت: زيديني. قالت: لا تلمنا إذا غبنا عنك، فالتفتُّ، فلم أرَها.

•••

قال الخضر: إن الناس معذَّبون في الدنيا على قدر همومهم بها. وقال: إن الولي قد يطَّلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر، لا سند يستندون إليه، ولا معتمد يعتمدون عليه.

•••

في سورة «الكهف»: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (الكهف: ٦٠–٨٢).

هذا ما أَلِف أهلُ بحري سماعه في مساجد الحي قبل صلاة الجمعة.

أهملوا تعدُّدَ الروايات، ما إذا كان قد خرج من بيت فرعون مصر، تربَّى فيه بعد أن تبنَّته آسية امرأة الفرعون، وقالت لزوجها: اللهم اجعله قرةَ عين لي.

لا يشغل أهل بحري كذلك ما رُوي عن الخضر أنه كان وزيرًا لذي القرنين، ولا أنه كان ملكًا من ملوك الزمان القديم، ولا أن الذات الإلهية حمَّلته ما حمَّلت به الأنبياء والرسل، أو أنه من أولياء الله.

لا يشغل أهل بحري حتى إن كان الخضر أفضل من النبي موسى، أو أن موسى هو الأشد فضلًا.

يقول القرطبي: «إنها حجة على موسى لا عجبًا له؛ ذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة، نودي: يا موسى، إن كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحًا في اليم. فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطي، وقضائك عليه. فلما أنكر إقامة الجدار نُودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر؟»

أما قول القرطبي في حكمة قتل الغلام، فهو أن الآية تهوِّن المصائب بفقد الأولاد، وإن كانوا قطعًا من الأكباد، ومن سلَّم للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء.

قال قتادة: «لقد فرح به أبواه حين وُلد، وحزنا عليه حين قُتل. ولو بقيَ كان فيه هلاكهما، فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب.»

تأمل الناس حكمة خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، طرفاها جميعًا الخضر وموسى عليهما السلام. يأتي الشيخ في صورة مذمومة في الظاهر، لكنها محمودة في الواقع.

وجد الناس في آيات القرآن حضًّا على الصبر. إيمان متوارث يؤمن به المصريون، أيوب مثلٌ للأنبياء الذين اعتصموا بالصبر. ابتُليَ في جسده بكل أنواع البلاء. لم يبقَ منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، وهو صابر محتسب. يذكر الله في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه. ضُرب المثل بصبره، وبما حصل له من أنواع البلاء. صابر تسمية يختارها الآباء لأبنائهم. لعل الهيروغليفية والقبطية حملتا الاسمَ نفسه، قبل أن تصبح العربية لغةً وحيدة.

ما استقر عليه الناس أيضًا، أن الخضر — عليه السلام — صاحب مقام رفيع، له القداسة والاحترام والتوقير، يتطلع إليه الناس بطلب الشفاعة والنصفة والمدد. يُطوَى له البحر والأرض والجبل والسهل.

كل ما فعله — ويفعله — ليس من تلقاء نفسه، وإنما بأمر الله تعالى. قال وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، بمعنى أن كل أفعاله بوحي من الله سبحانه. كان علمُه ربانيًّا، علَّمه الله من لدنه علمًا. لم يكن نبي الله موسى وحده، هو الذي ذهب إليه ليتعلم على يديه، ويأخذ مما خصَّه الله به من العلم والفهم والمعرفة والرحمة.

إذا كان الخضر قد أقام الجدار، وغيره من الأعاجيب التي خفيت على النبي موسى، فذلك ما اختص الله به الخضر، باعتباره وليًّا لا نبيًّا.

لم يكلم الخضر ربَّه بواسطةٍ مثل كل الأنبياء والرسل، إنما اصطفاه الله — سبحانه — على الناس برسالاته وكلامه، وعلْمه علَّمه الله إياه.

قال الخضر: ما نقص علمي وعلمك وعلم الخلائق من علم الله، إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر.

وأشار بيده إلى أفق الأمواج.

احتاج موسى للخضر، ولم يحتَج الخضر لموسى، ففارقه.

•••

انظر: إبراهيم سيد أحمد، الأبجر، ابن خطاب، أبو الحسن الشاذلي، أبو العباس، الإسكندر، الأنفوشي، بدوي الحريري، جميل الخضراوي، سعيد العدوي، ضياء خير الله، عبد الستار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤