خليل الفحام

بعد أن خرج خليل أفندي الفحام إلى المعاش، لزم البيت، لا يغادره إلا إلى مشاوير قليلة في السوق، وزيارات إلى المكتبة الحجازية بشارع الميدان، وجلسات عابرة في قهوة الزردوني بالسيالة.

استعار من المكتبة الحجازية ما قرأه من الجلدة إلى الجلدة، من كتب قدامى المؤرخين: المقريزي وابن تغري بردي والسيوطي وابن خلكان وابن إياس وغيرهم. استعار خطط علي مبارك من مكتبة البلدية. رجع إلى الصحف والدوريات. ما لم يستطع قراءته مترجمًا عن لغة أجنبية، قرأ ملخصًا له باللغة العربية. جلس إلى الشيوخ من أهل الحي.

تقدَّمت به السن.

لم يَعُد يلجأ إليه أحد في مهمة ولا مشورة، ولا يجد مَن يشاركه الحديث. شعر أن الحياة تمضي حوله، غير مبالية به، قراءة الصحف وسماع الراديو والجلوس على المقاهي والتمشِّي على البحر والصلاة والصوم والنوم والزحام والمناقشات والأسئلة والأجوبة والنكات والحكايات القديمة. كأنه قد انتهى تمامًا، لا قيمة لأي شيء في حياته.

أزمع أن يُشغل نفسه بما يُفيده، ويفيد الناس. قرأ للعماني أحمد بن ماجد: «إن البحر أكبر من البر، وعلم البحر أكثر من علم البر، وينبغي لعارف هذا العلم أن يسهر الليالي، ويجتهد فيه غاية الاجتهاد، ويسأل عن أهله ومَن جرَّبه …»

أدرك أن الكتابة عن البحر مما لن يُسعفه الوقت ولا العمر، ولا حتى ما سيحصل من العلم، على إتمامه. أزمع أن يقتصر بحثُه على علم البر، ويقتصر ما يدرسه من علم البر على جغرافية بحري.

صار التجول في الشوارع والحواري والأزقة عادةً أَلِفها. مساحة الكيلومتر المربع. بحري، نسبته إلى البحر. البحر يحيط بالحي من ثلاث جهات، يجعله لسانًا طويلًا، ممتدًّا في قلب البحر. شبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية.

سُمِّي حيَّ الجمرك لالتحامه بأبواب المنطقة الجمركية. يُطل — من الشرق — على المينا الشرقية، ومن الغرب على المينا الغربية. أما الشمال فيطل على خليج الأنفوشي، بينما يمتدُّ الجنوب إلى داخل المدينة.

هذه المساحة من قصر رأس التين إلى ميدان المنشية، تضم ١٦ شياخة، آخرها من الشمال شارع قصر رأس التين، ومن الشرق طريق ٢٦ يوليو، ومن الغرب شارع الترسانة وشارع البحرية وباب الكراستة. أما حدُّها من الجنوب فيشمل شوارع الجمرك القديم والميدان والنصر وقبو الملاح والمتنبي والباب الأخضر.

ثمة الملامح والقسمات: الشوارع، والميادين، والتقاطعات، والمفارق، والأسواق، والساحات، والحدائق، والبنايات، والأزقَّة، والخرائب، والأرض الخلاء، والجوامع، والزوايا، والأضرحة، والمدارس، والميناء، وقلعة قايتباي، وحلقة السمك، ومتحف الأحياء المائية، ومحطة الركاب البحرية، ومستشفى رأس التين، ومستشفى الملكة نازلي، وقصر الثقافة، وسراي الملك.

يسير في أيِّ شارع. يميل في تقاطع النهاية. يواصل السير والانحناء، فلا بد أن يُطالعَه البحر في النهاية.

يتأمَّل الشوارع المتعرجة، المتقاطعة. البيوت القصيرة، المتلاصقة، المزدحمة، تتكئ على بعضها. يُدرك أنه إذا سقط أحدها فإنه ما يلبث أن يجرَّ الباقي. يتحول صفُّ البيوت إلى خرائب وأنقاض. المداخل المظلمة للبيوت، وقِطَع الفلين وشباك الصيد المكوَّمة في الأركان، والشبابيك الخشبية العالية، والكوات الصغيرة، ومناشر الغسيل، والعبارات المكتوبة على الجدران، ولعب الكرة في الخلاء، ولعب البلي والدوم والنحل، والطائرات الورقية.

تابع امتداد مساحة الأرض الجيرية الخلاء، المطلة على خليج الأنفوشي، ما بين مساكن السواحل والبنايات الحكومية، على يمين الشاطئ.

القلَّابات تُضيف — كل يوم — أمتارًا من ردم البيوت وقِطَع الحجارة والرمال، تُلقي بها في المياه.

بحري حيٌّ خاص.

الشواطئ من حوله شواطئ خاصة. أهل بحري يرتبطون باليابسة والبحر. غزل الشباك، بناء البلانسات، الصيد، بيع أدوات الصيد، العمل في الدائرة الجمركية، الذاكرة، والرؤية، والآفاق، ورائحة اليود، والملح، والقرب من البحر، وطيور النورس فوق الساحل، وهجرة السمان إلى طريق الكورنيش، أو الشوارع الجانبية، وترامي هدير الأمواج، وهجرة الرمال من الشواطئ إلى داخل الشوارع الضيقة، وبركات أولياء الحي ومكاشفاتهم، والموالد، وحلقات الذكر، وحفلات الزفاف والختان.

استعاد — من حكايات القدامى — صورةَ أسواق التُّرك والمغاربة والخيط وزنقة الستات، عندما كانت موضعًا لإسطبلات جياد الملك، أمواج البحر في اندفاعها إلى داخل المدينة، لا تصدُّها حواجز، إنشاء طريق الكورنيش في عهد وزارة إسماعيل صدقي، إعادة ترميم قلعة قايتباي بعد ضرب الإنجليز لها في ١٨٨٢م، سير الترام — للمرة الأولى — بين بحري والرمل، اكتشاف المسرح الروماني في كوم الدكة عام ١٩٦٤م، تغيُّر اسم ميدان القناصل إلى ميدان المنشية. كان — في القديم — موضع إقامة قناصل الدول الأجنبية منذ أيام محمد علي. لذلك — ربما — سُمِّيت مساحة الامتداد المفضية إلى شوارع توفيق وشريف والسبع بنات والميدان وفرنسا ميدان محمد علي. هو الذي أنشأ الميدان، ويتوسطه تمثالُه جالسًا فوق الجواد.

أعاره حجازي أيوب معجم البلدان لياقوت الحموي، وخطط المقريزي، والخطط التوفيقية.

لاحظ أن قدمَيه لم تعودَا تقويان على حمله، فاعتمد على عصًا لا تفارقه.

مضى في شوارع بحري.

ينظر إلى ما حوله، وفي باله أن كل شيء سيختفي في يوم لا يستطيع أن يحدده، لكنه لا بد أن يأتي، فتتبدل الصورة تمامًا. كل ما يسجله يصبح ذكريات، ما تلبث أن تُنسى، إن تبدَّلت جغرافية المكان، تزال البنايات، وتضيق الميادين، وتسد الشوارع. تغيب المشاهد، فلا تُدركها الذاكرة.

ناوشه قلقٌ لأنه قد يمضي — ذات يوم — في ميادين الحي وشوارعه وحواريه وأزقته، لا يعرفها، ولا يعرف البنايات التي تُطل عليها. تعكس المرآة ما لم يألف رؤيته، ولا توقعه.

تعالَى الأذان — ذات عصر — من ميكروفون مئذنة جامع ياقوت العرش. نظر من النافذة المطلة على الجامع. لم يجد المؤذن في موضعه. عرف أنه اكتفى برفع الأذان من وقفته في صحن الجامع.

لم يَعُد خليل الفحام — من يومها — يتابع — في وقفته وراء النافذة — صعود المؤذن على سلَّم المئذنة الحلزونية، إلى البسطة الأخيرة، تحت الهلال المعدني، ثم يرفع الأذان.

افتقد الطقس الذي أَلِف متابعته، منذ صعود المؤذن المتمهل على درجات المئذنة، تسبقه همهماته ونحنحاته، وإطلالته العفوية من جوانب المئذنة المفتوحة، لا يبدو أنه يتأمل مشهدًا محددًا، ثم التأكد من انطلاق صوته قبل أن يضع راحتَيه على جانبَي وجهه، ويرفع الأذان.

امتدَّت جولاته من سراي رأس التين إلى باب الجمرك رقم واحد، إلى باب الكراستة، باب ١٤، حتى باب ٢٢ المقابل لهويس المحمودية، الميناء الغربية، الساحل الغربي للإسكندرية. التوكيلات الملاحية، وشركات النقل البري، والبحري، ومخازن الاستيداع، وورش صيانة السيارات، وتجار الأدوات البحرية، ومخازن الدخان، وعمليات النقل والتخزين والتخليص وتشوين السفن وتفريغها.

أمضى أوقاتًا طويلة في كازينو كليوباترة مع الكاتب نقولا يوسف. حلا له الوقوف — قبل الغروب — في نهاية السلسلة. يتصور ما كانت عليه المينا الشرقية حتى القرن الثالث بعد الميلاد.

لم يكن الميناء في موضعه، لم يكن بحرًا. كان حيًّا رئيسًا في الإسكندرية، قبالة شارع النبي دانيال. هبط الحي بأكمله في زلزال غاص بالحي، ناسه وبناياته وشوارعه وأسواقه، تحت سطح البحر. صارت المينا الشرقية — فيما بعد — اللسان الموصل بين نهاية السلسلة وقلعة قايتباي.

تمتد الأمواج إلى نهاية الأفق. تشحب الحرارة في تحوُّل الشمس إلى قرص برتقالي، بعيد. يتعرف على الشخصيات التي يشاهد صِوَرها في الصحف وهي تمارس رياضة المشي: أم كلثوم، وتوفيق الحكيم، ويوسف وهبي بك، وعثمان محرم باشا، وعبد الفتاح الطويل باشا، وأحمد فرغلي باشا (عُرف اسمه ومكانته مما كتبَته الصحف عن زهرة القرنفل الحمراء في عروة جاكتته).

لم تقتصر جولات خليل الفحام على كتابة أسماء الشوارع والميادين والمدارس والجوامع والزوايا وحلقة السمك وغيرها من البنايات. امتدَّ اهتمامه إلى الأولياء والموالد والساحات ونوعيات القهاوي، وسباقات القوارب والبنز والجياد، ومَن هو سكندري الأصل، ومن قَدِم من رشيد، أو الصعيد.

لم يعتمد على الحكايات المتناقلة، أو الشفاهية، دون وثيقة مكتوبة: شهادة ميلاد، رسالة شخصية، صورة من عقد زواج، وثيقة طلاق، أجندة قديمة، شهادة بدرجات الانتقال من فصل دراسي إلى فصل دراسي أعلى، مصحف سُجِّلت ملاحظات على هوامشه.

عرف ما يتأثر به بحري من أحوال الجو: النوات والمد والجزر، وأنسب مواعيد الصيد. عرف أسماء النوَّات ومواعيدها من بدوي الحريري: المكنسة في ١٧ نوفمبر، قاسم في ٥ ديسمبر، الفيضة الصغرى في ٢٠ ديسمبر، عيد الميلاد والفيضة الكبرى في ٢٩ ديسمبر، الغطاس في ١٩ يناير، الكرم في ٢٨ يناير، الشمس الصغيرة في ١٨ فبراير، السلوم في الثاني من مارس، العوَّة — ما بعدها نوة — في ٢٤ مارس. تستمر النوة ما بين يومين إلى اثني عشر يومًا.

سجل معلومات عن الشمس والقمر والكواكب والنجوم والفصول والبحر والبر والجبال والرياح والنوَّات، وعن أسماء الشهور العربية والقبطية والميلادية، وأعياد المسلمين والنصارى واليهود، وأيام الصوم لكل دين، ومواعيد إجازات كل ملة.

حدَّثه خليفة كاسب عن خطر المد الذي يهدد الإسكندرية، يأكل النحر الشواطئ، يقضم من المدينة، يهدد بابتلاعها.

أسلم خليل الفحام نفسه — في أوقات انشغاله بالمشاهدة والتأمل والتسجيل — لحلم السدود التي تحمي شواطئ الإسكندرية، تصدُّ تلاحق المد والجزر، النحر الذي قد يعلو بمياه البحر، فتغرق كل شيء.

•••

تطول جولات خليل الفحام، ثم يلزم البيت. لا ينزل إلى الشوارع، ولا يتردد على المقهى، أو يلتقي أحدًا. يقلِّب في الأوراق والمجلات القديمة، وفي الكتب الصفراء، المتيبسة، اشتراها من العطارين للبحث في أصل مسميات الأماكن، وسير الأعلام، وتواريخ الوقائع.

سجَّل — في النوتة الصغيرة — أسماء أفراد وأُسَر وعائلات. وصل الأوراق بالفروع والأبدان والجذور. تقصَّى جذور عائلات بحري: هنو، عبد المجيد، الإسكندراني، أبو هيف، الكسباني، الجريدلي، العطار.

قال له حجازي أيوب: ما دمت ستتناول سِيَر البشر، اقرأ هذه الكتب.

زوَّده بالعديد من كتب التراجم والسير: وفيات الأعيان لابن خلكان، فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي، أعمال الأعلام لابن الخطيب، طبقات الأمم لصاعد الأندلسي، جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس للحميدي.

•••

استغرقَته جوانب الاتفاق والاختلاف بين الأبجر وحميدو شومة: لماذا اتجه كلٌّ منهما إلى الفتونة؟ ولماذا حرص كلٌّ منهما على أن يكون متبوعًا، فلا يقترب من صاحبه إلا في تساوي الرأس بالرأس؟

بعد أن أشار الحاج جودة هلال بيده ناحية باب الدكان، وقال: لا تَعُد إلى هنا، جعله المعلم بدوي الحريري من صبيانه في الحلقة، يحمل الطبالي من السيارات إلى مواضعها، يدس فيها قطع الثلج، يغسل الأرضية بالمياه، ينادي على المزاد، يشتري احتياجاته، يُعِد له النارجيلة، ينقل له أخبار الناس في بحري.

دخل الحريري في خناقة لم يُعِد لها نفسه. تصدَّى الأبجر للساطور الذي استهدف رأس معلِّمه. قذف به، ودخل المعركة بذراعيه. اعتصر الرجل حتى تدلَّى رأسه على كتفه. التفت الأبجر — وهو يسقطه — إلى صبيانه بعينَي التحدي.

عمل الأبجر — من يومها — لحساب نفسه، يحمي، يفرض الإتاوات، يخوض المعارك، يتقدم الجلوات ومواكب الزفاف.

صارت الخناقات جزءًا من حياته اليومية. أشد ما يصيب أذاه الغلابة ممن لا يستطيعون مواجهته. لو لم يجد أحدًا يُعاركه، تعارك مع نفسه. يُدلي أمامه وسادة. يوجِّه إليها لكمات متوالية حتى يتخاذل ذراعاه. يستريح — لحظات — ثم يعود إلى ما كان يفعله. يخترع أوضاعًا أخرى.

استهوَته المغامرة في الميناء: سرقة الطرود، تهريب البضائع، استبدال العملة. تعدَّدت الحكايات عن سطوه على معسكرات الإنجليز، وتسوَّر قصر عصمت محسن، ونقب وكالة درويش بشارع الميدان. حتى الشقة التي خصصتها علية عشماوي للبكباشي حمدي درويش، أفرغها صبيانه — ذات ليلة — من كل ما بها.

طرد فتوة رأس التين، وجعل نفسه في موضعه. جاوره حميدو شومة في الأنفوشي. وهاطة زعزع في اللبان، وفتوات أخرى في بقية الأحياء.

•••

حميدو شومة سار خلف أبو حلوة، حتى تعلَّم ما ينبغي أن يتعلَّمه، ثم استقل بحياته.

اجتذب الأعوان، والسمعة، في بحري وأحياء الإسكندرية. خاض المعارك بقوته، وما تعلَّمه، ومساعدة أعوانه.

ظل ما كتبه الفحام سطورًا في أوراق، لا يقرؤها أحد. أخفى الملاحظات عن أصدقائه في الحي.

ناقش أنجلو سبيرو — ذات مساء — في معارك الفتوات. استعاد ما كتبه عن الأبجر وحميدو. انتصر لحميدو. لم يحترف الفتونة، وإن ظلَّت دنياه حتى معركة الخمس فوانيس. جعل الأبجر قوته لغته الوحيدة، يهدد، ويواجه، ويخرج من المعارك منتصرًا.

•••

الحجرة في شقة من ثلاث حجرات، بالطابق الأرضي من البيت المطل على حارة أبو يوسف. نافذتها من الزجاج المسلح أوسط السقف، والجدران مصمتة، خالية إلا من سرير سفري، وطاولة معدنية صغيرة، أسندها على الجدار. تناثرت على الأرض، وعلِّقت في مسامير بالجدران، أدوات موسيقية، ومجلات قديمة مُزقت أغلفتها، وتهرَّأت أوراقها وألوانها، وكرسيَّان من الخيزران، وملابس حالت ألوانها، وفتات خبز، وزجاجة بيضاء فارغة، وأطباق متسخة، وشمعة مطفأة مقلوبة على جنبها، ومنفضة سجاير امتلأت بالأعقاب.

كان يحتفظ بالكثير من الأشياء الصغيرة: تذكرة قطار من القاهرة إلى الإسكندرية، دمية من أيام الطفولة، كراريس مدرسية، عملة ورقية تآكلت حوافُّها، دعوة إلى عرض مسرحي في الأزاريطة، بقايا نتيجة سنوية، عبارات منقولة من كتاب لا يذكره.

•••

قال لملاحظة أنجلو سبيرو عن قصر جولاته على بحري: الإسكندرية الحقيقية ليست الرمل وطالع. الإسكندرية هي الرمل ونازل.

وأومأ إلى الأرض: الإسكندرية هنا!

الإسكندرية — في ذهنه — ليست بنايات زيزينيا، وكامب شيزار، والإبراهيمية، ولوران، والسرايا، وسبورتنج، وكليوباترة، والمنتزه، وسيدي جابر، وستانلي، وميامي، ورشدي، وجليم، وسان ستيفانو، وثروت، ومصطفى كامل، ومحطة الرمل، والترام ذا الطابقَين، والتريانون، وأتينيوس، والشوارع المغسولة. هي الصيادون، وعمال البحر، وصغار الموظفين، ومظاهرات الطلاب، والجيرة، والتكافل، وليالي رمضان، وسوق العيد، وبائع العسلية، وعفريت الليل، والحاوي، ورقصات سيد حلال عليه، وأغنيات ماهر الصاوي، وخطب الشيخ عبد الستار، ومباريات كرة القدم في الساحات الخالية، وحلقة السمك، والمذاكرة في صحن جامع أبي العباس، وأهازيج السَّحر، وموالد الأولياء، وحلقات الذكر، وصافرات البواخر في الميناء الغربية، وصيد العصاري في المينا الشرقية، وصيد السنارة والطرَّاحة، والجرافة، والتمشِّي على رصيف الكورنيش، والتطلع إلى أفق البحر.

أذنت له قيادة البحرية وهيئة الميناء. وقف على رصيف ١٨. أطل على اللسان الممتد داخل البحر، المقابل لسراي رأس التين ومرسى المحروسة وبواخر عبود باشا.

في أيام نزول الملك فاروق السراي، يلاحظ خليل الفحام زيادة أعداد الحرس الملكي حول قصر رأس التين، تكرار فتح — وإغلاق — أبواب القصر، غياب شخصيات — مدنية وعسكرية — في الداخل، وخروجها، اشتداد الحركة في الساحة الأمامية والشارعَين الجانبيَّين والحديقة، بالحرس الملكي والعاملين في السراي والباحثين عن الفرجة.

يتوقع السؤال في جولاته: إلى أين؟

روى سويلم أبو العلا أنه شاهد رجلًا يرتدي زيًّا غريبًا، كالذي يرتديه الممثلون في الأفلام التاريخية الأمريكية. كان الرجل يقف في زاوية الطريق من ناحية الأنفوشي إلى ما وراء سراي رأس التين. بدا كأنه لا يشعر بما حوله. نظرته مثبتة في نقطة، يراها، ولا يراها سويلم أبو العلا.

تردَّد في الاقتراب، ثم حدس أن الرجل قد يكون ضيفًا أجنبيًّا على الملك فاروق. تراجع بظهره إلى الوراء، ثم مضى — بآخر ما عنده — في موازاة الشاطئ حتى طالعه الميدان الصغير، قبالة حديقة السراي.

لمَّا همس لخليل أفندي بما رآه، قال خليل في لهجة واثقة: الرجل هو الإسكندر.

أعاد القول في دهشة: الإسكندر؟!

– أنت لا تعرفه … هو الرجل الذي بنى الإسكندرية!

لم يلحظ خليل أفندي في وقفة الرجل ما يشي بالتأله. كان يتحرك، وينظر — بالدهشة — إلى ما حوله. ما يشبه الإحساس بالغربة يبين في وقفته، وإن حدس الفحام أنه تردد على الموضع من قبل. صار على ثقة من أن الإسكندر يأتي — بين فترة وأخرى — إلى المنطقة الواصلة بين قرية راقودة وجزيرة فاروس.

ظن الأمر حلمًا أو توهُّمًا، ثم تأكد له الأمر، حين رأى الإسكندر — بثيابه العسكرية — يقف على اللسان الداخل في البحر. متوسط الطول، متين البنية، أشقر الشعر، هادئ النظرة، بشرته أميل إلى البياض.

أعاد خليل الفحام التحديق في عينَيه. بدَت إحداهما بُنيَّة، والثانية سوداء … لم يأتِ في باله — في البداية — أنه هو الرجل. لما حاول التحديق ثانية، كان الرجل قد اختفى.

نسيَ خليل الفحام ما كان أعدَّ له نفسه. شُغل — من يومها — بالإسكندر، مولده، حياته، فتوحاته، موته. أشد ما عُنيَ به موضع قبر الإسكندر.

لم تتفق كتابات المؤرخين على الموضع الذي دُفن فيه الإسكندر، ما إذا كان في الإسكندرية، أم في مدينة أخرى؟

معظم الروايات أكدت وجود قبر الإسكندر في المدينة.

تكررت وقفتُه أمام تقاطع شارعَي النبي دانيال والحرية.

غادر الموضع إلى بحري، فلم يغادره ثانية.

لاحظ أن انشغاله بموضع قبر الإسكندر فاق ما كان قد أعد نفسه لإنجازه، تسجيل جغرافية الحياة في بحري هو ما ينبغي أن يصرف له وقته: الميادين والحدائق والشوارع والحواري والأزقة والبنايات. لا يفوته جامع ولا مسجد ولا زاوية ولا مدرسة ولا دكان ولا وكالة. حتى الأكشاك وفرشات الأرصفة، يُضيفها إلى كتابه. قد لا يشكل أهمية خطط المقريزي، ولا الخطط التوفيقية، لكنه سيفوق. هذا هو ما أعد له نفسه. ما كتبه علي مبارك عن الإسكندرية. تركيزه على بحري، وإن خرج — بحثًا عن اتصال الوقائع والتواريخ والشخصيات والعلاقات — إلى أحياء الإسكندرية الأخرى.

جاوز الإسكندر ما ينتسب إلى القبر والكنز والحلم والأسطورة، إلى ما رآه خليل الفحام بنفسه على اللسان الحجري بين راقودة القديمة وجزيرة فاروس.

هذا هو ما يشغله، ما يجب أن يشغله. لا يستطيع الحكي إلا إذا تثبَّت مما رآه. يؤلمه تصوُّر الوهم، عمق الغموض، صمت خلفاء الإسكندر عن التأكيد، أو مجرد التكهن بموضع قبره. آثروا الكتمان لانشغالهم بالعثور على الكنوز الهائلة التي ضمَّها القبر.

عرف خليل الفحَّام أن انتساب الإسكندر إلى الآلهة أتاح له إخضاع الزمن بأبعاده الثلاثة — الماضي والحاضر والمستقبل — في زمن حاضر، ذي بُعد واحد، لا ينتهي.

•••

قال أنجلو سبيرو: إذا كانت المواطنة بالتاريخ، فنحن أصحاب الإسكندرية.

أضاف في نبرة واثقة: بنَى الإسكندر المدينة بوصل مدينة وقرية. ظل اليونانيون داخل مصر من يومها إلى الآن.

وهزَّ قبضته: الإسكندرية الكوزوموباليتينية صناعة اليونان.

كتم خليل الفحام ما رآه في تقابل فاروس وراقودة. غاب تصوره لتقبُّل أنجلو سبيرو رؤيتَه للإسكندر. هو نفسه لا يدري إن كان ما رآه بتأثير استغراقه في القراءة، والملاحظة، وإعادة الاكتشاف، أم أن ما رآه قد حدث بالفعل.

حدَّثه كامل أبو السعادات عن الآثار التي صَعِد بها من أسفل قلعة قايتباي. تنتمي إلى العصر الفرعوني، وإن نُسبت إلى العصر اليوناني الروماني.

كانت راقودة ميناءً بحريًّا، ومنفذًا، بين مصر ومواني البحر المتوسط. وكان في جزيرة فاروس — قبل عصر الإسكندر — منارة لإرشاد السفن.

الإسكندرية، راقودة وفاروس، قديمة، موجودة من قبل أن يصل الإسكندر إلى مصر بعشرات السنين.

ثمة الرعاة والصيادون والبحارة وغازلو الشباك والجنود. يقول الملك أوديسيوس في ملحمة هوميروس «الأوديسة» إنه — في عودته من حرب طروادة — مرَّ بجزيرة فاروس، أول أراضي الفرعون من ناحية البحر. كان فيها خليج هائل، تُبحر منه السفن الكبيرة، بعد أن تتزود بالماء. ما كان قرية هي راقودة، وجزيرة هي فاروس، وصلهما دينوكراتيس. أعاد تأسيس ما كان قائمًا، وأعاد تخطيطه وتوسيعه.

تاريخ الإسكندرية بدأ قبل قدوم الإسكندر. تاريخ الإسكندرية استمر بعد رحيل الإسكندر. لم تلامس عصاه الأرض المجدبة، فتهبها الحياة.

معظم المدينة مغطًّى بالآثار الفرعونية، مثل عامود السواري، والمسلة، والكثير من الآثار الصغيرة.

بعد مئات السنين، ظلت التماثيل والآثار منذ عهد الإسكندر والبطالسة قليلة، بالمقارنة بتماثيل ملوك الفراعنة وآثارهم.

•••

انظر: الأبجر، أبو العباس، الإسكندر، أنجلو سبيرو، جودة هلال، حجازي أيوب، حمدي درويش، حميدو شومة، سيد حلال عليه، عبد الستار، عصمت محسن، علية عشماوي، فاروق الأول، كامل أبو السعادات، ماهر الصاوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤