رافع عبيد

الكرسي الوحيد في الغرفة، يجلس عليه الشيخ رافع عبيد. يقتعد شحاتة عبد الكريم والتلاميذ الكليم الأسيوطي، الممتد إلى قرب الجدران.

يشدِّد على التلاميذ بمداومة تلاوة سور القرآن وآياته، حتى لا يتوه من الأذهان ما تم حفظه. إذا انتهى التلميذ من حفظ القرآن كله، فإنه لا بد أن يواصل التلاوة.

لم يقتصر على تحفيظ القرآن. أضاف إليه فرائض الصلاة، وبعض المعارف الدينية، وسيرة الرسول وقصص الأنبياء، ومفردات اللغة والنحو والصرف ومبادئ الحساب.

يعلِّم التلاميذ كلَّ ما كان يعرفه. لا يرفض حتى الذين لا يدفعون مقابلًا للتعلم. يؤمن بقول الرسول: «مَن تعلَّم القرآن، وعلَّمه، ولم يأخذ بما فيه، وحرَّفه، كان عليه شهيدًا، ودليلًا إلى جهنم.» ويردِّد قولَ وليِّ الله عبد الرحمن بن هرمز: «اطلبوا العلم، فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلا تُبغضوهم.» وقول الولي: «لا يكون عالمًا حتى يكون متعلمًا، ولا يكون عالمًا حتى يكون بالعلم عاملًا.» وقول الولي: «ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل»، سبع مرات.

يؤذيه أن معاكسات الأولاد في الكُتَّاب له، أقسى من العصا في يده، والفلكة المعلقة على الجدار. حتى لو ضربهم. العصا والفلكة وسيلة وحيدة للتخويف، أما وسائل الأولاد فلا عدد لها. بينه وبين آباء الأولاد صداقات. يرفض فقدها لأذية طفل. يتوعد بالضرب. ربما شتم بالآباء، وإن حاذر، فلا تتجه شتائمه إلى الأمهات.

يعتز بأنه من حملة القرآن وقرَّائه، العالمين بأحكامه وحلاله وحرامه، والعمل بما فيه، «إنما مثل صاحب القرآن — في قول النبي — كمثل صاحب الإبل المعلقة (أي المربوطة، أو المشدودة بالعقال، وهو الحبل) إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت.»

لم يتحدث — ولا أحد — عن مدرسة تخرَّج فيها، لكنه حفظ سور القرآن. يجوِّدها بالسبع. والكثير من الأحاديث النبوية، ومواقف السيرة، وألمَّ بقراءات في الكتب القديمة.

بدأ حياته قارئًا للقرآن الكريم. امتهن تلاوة القرآن في المآتم، وخصص له الكثير من البيوت والدكاكين رواتب. إذا وجد وقتًا في النهار، مضى إلى مقابر العمود يتلو آيات القرآن.

اتهمه بيرم التونسي بأنه جعل تلاوة القرآن مكسبًا وحرفة يتَّجر بها. لا يقرأ لله، وإنما للأجرة.

قال له معاتبًا: قد يقرأ القرآن مَن لا خير فيه.

ثم وهو يُزيح خصلة متهدلة من شعر رأسه: المثل يقول: أحمق من معلِّم كُتَّاب.

ذكَّره الشيخ رافع — في نبرة متسامحة — بقول سيدي عبد الرحمن بن هرمز: اطلبوا العلم، فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلا تُبغضوهم.

عُنيَ بجودة الخط عند التلاميذ، يكتبون بالطباشير على لوح الأردواز، وبالقلم البسط، وبالسن ذي الأحجام المختلفة، يغمسه في الحبر الشيني.

لجمال خطه، كان عبد اللطيف النشار يُملي عليه ما يريد إرساله إلى الصحف من قصائد، ويخشى عدم فهمه. ينقل الشيخ رافع أصل القصيدة من أوراق النشار، يُعنَى بوضوح الحروف والكلمات، وبالتشكيل.

يثق أن حفظ القرآن وتلاوته منغمًا، يعنى حفظ اللغة العربية. ارتبط الغناء بطرق أداء القرآن. ظل له طابعه التقليدي الذي يختلف، حتى مع المغايرة، ومحاولات الإضافة والتطوير، عن الغناء الأوروبي.

ظلت الأنغام العربية خالصة، تنتقل — عبر تلاوات القرَّاء — منغمة، ومجودة، ومفخمة. يقرءونها في المناسبات الدينية والموالد والأفراح، يُضمنونها الأدعية والتواحيش والابتهالات والقصائد والأدوار وأهازيج السحر. معظم الملحنين والمطربين كانوا — في الأصل — حفظةً للقرآن وقرَّاء: أبو العلا، المسلوب، المنيلاوي، علي محمود، الصفطي، صبح، سلامة حجازي، سيد درويش، زكريا أحمد.

بعد أن لاحظ تفوُّقَ تلميذه سلامة حجازي عنه في المكانة وذيوع الصيت، اقتصرت قراءاته على المناسبات الدينية، وإن ظل على ثقة بجمال صوته.

لأنه أحب صوت محمد عبد الوهاب مثلما أحب ألحانه، فقد خشيَ على صوت عبد الوهاب من صوته. غنَّى عقب أداء عبد الوهاب وصلته في قصر رفقي زلابية. نطقَت الغيرة في وجه عبد الوهاب.

أظهر الشيخ رافع تأثره: توقفت من يومها عن الغناء. أردت أن يحصل عبد الوهاب على الفرصة!

لما أهداه محمد كاظم ميلاني — التاجر بشارع الميدان — نسخةً من روايته «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين»، تساءل الشيخ رافع في نبرة ساخرة: رواية عن فتاة خذلت حبك لها؟!

قال ميلاني: هي ردٌّ على دعوة قاسم أمين.

قال الشيخ رافع: أعتزُّ بأني أول مَن طبَّق دعوة الرجل.

واتسعت ابتسامتُه فكشفت عن غياب معظم أضراسه: كُتَّابي يختلط فيه الأولاد والبنات، ويلزمون حدَّ الأدب!

رفض تصور أن المدرسة الجديدة، المجاورة، تؤثر على الكُتَّاب. مَن يطلبون لأولادهم دراسة علوم الدين يدفعون بهم إلى الكُتَّاب. الكُتَّاب يُعنَى بتحفيظ القرآن كله، لا يتخرج التلميذ فيه إلا إذا حفظ سورة ومعانيها. المدرسة تكتفي بأجزاء يسيرة، وقد تكتفي بقصار السور. ربما المدرسة خطوة تالية.

تابع إغلاق أبواب الكتاتيب في بحري. اقتصر تحفيظ القرآن ومعرفة علوم الدين على المدارس والمعهد الديني. أقلقه تقلُّص دور الكُتَّاب في مواجهة المدارس الأولية والابتدائية والمعهد. اجتذبت إليها تلاميذ الكتاتيب، منها كُتَّابه.

•••

نسيَ رافع عبيد ما تفرضه أصول الاحترام لأولياء الله. قال في حق سيدي الأنفوشي ما لا يصح قوله. اتهمه في ولايته، وما إذا كان داخل الضريح — بقلعة قايتباي — وليٌّ بهذا الاسم.

تعددت مؤاخذة رافع عبيد على إيمان الناس بكرامات سيدي الأنفوشي ومكاشفاته. زاره وليُّ الله في منامه، دعاه إلى ضبط النفس، والامتثال للخلق القويم.

جلس رافع عبيد يأكل سمكًا مع جماعة من أصحابه. وكان سادرًا في رفض معجزات ولي الله. فدخلت شوكة سمكة في حلقه، فلم تخرج.

لجأ رافع عبيد إلى مستشفى رأس التين، وإلى الحاج جودة هلال، وإلى الطبيب الأرمني بشارع إسماعيل صبري.

تخلصوا منه جميعًا لعجزهم عن إخراج الشوكة. ظلت في موضعها، تمنعه من الأكل، وتُعيق تنفسه.

قال له غريب أبو النجا: تذكر سيدي الأنفوشي … عاديته، فحقت عليك عداوته.

قال رافع: تُبت إلى الله من ظلمي لوليِّه!

عطس رافع في اللحظة التالية. انتترت الشوكة من حلقه، دون أن تُسبب ألمًا، ولا أذًى.

عاد الشيخ رافع إلى القعود أمام حامل المصحف، يقرأ القرآن كما اعتاد عقب صلاة العشاء كل ليلة.

طالعه بياضُ الصفحات، تخلو من كلمة واحدة. استعاذ بالله، وأعاد النظر إلى ما بين يديه. طالعَته الصفحات البيضاء. أغمض عينيه. حاول استعادة ما يحفظه من سور القرآن. تبيَّن أنها نُسخت من صدره، فلا يذكر منها سورة ولا آية.

رأى في المنام أنه يركب قاربًا يتجه به إلى صخرة الأنفوشي. يجتذبه سرسوبُ الدم المتساقط من ثقب الصخرة.

طالعته — في اقترابه — صخورٌ أخرى كثيرة، منعَت اقترابه من الهدف الذي يتجه إليه. حاول أن يلتفَّ حول الصخور المتقاربة، المتناثرة.

عاد إلى حيث بدأ.

كرر المحاولة، حتى أدركه التعب. اختلطت أمامه المرئيات وتشابكت. مضى في قلب غلالات ضباب لا نهاية لها.

رأى أنه يقلع لؤلؤًا ويبيعه. تأكد من أنه نسيَ ما كان يحفظه من القرآن.

أدرك أن ما حدث هو انعكاس لغضب ولي الله.

أطال الجلوس في حضرة المقام، يرجو، يتوسل، يُظهر الاستكانة، يطلب رفع الغضب.

غلبت طبيعة سيدي الأنفوشي المتسامحة، فعفا عنه.

أذهل الشيخ رافع عبيد الناس وهو يهبط الدرجات الرخامية لجامع أبي العباس. ارتدى جلبابًا من الصوف، ومداسًا مغربيًّا، وأصابعه تكرُّ بحبات مسبحة من الكهرمان.

خالف التوقعات بأنه سيتجه إلى ناحية الميدان. مال إلى الدحديرة الخلفية، وغيَّبته انحناءة الطريق عند مقام الست رقية.

لزم الزاوية أشهرًا، تلبيةً لنداء صوفي.

•••

تخلَّى الشيخ رافع عن الكُتَّاب، وعن كل ما يمتلك. فرض على نفسه المعاناة والتجرد. رضيَ بحياة أقرب إلى النسك، بعيدًا عن دنيا الناس.

لم يَعُد يتردد على الكُتَّاب، ولا يجلس في المقاهي، ولا على شاطئ الكورنيش، ولا يجول في الأسواق.

أقام في بيت أكبر أبنائه بصحراء المتراس، اختار غرفةً تنعزل عن بقية البيت، صغيرة، قوائمها من جذوع النخل، سقفها من الطين وسعف النخل، الباب، والنافذة الصغيرة، الوحيدة، من الخشب. تتصل بالساحة الرملية، يحيط بها سور حجري متآكل، وتخلو إلا من شجرة تين مثمرة.

ناقشه جودة هلال في بواعث انسحابه إلى الصحراء.

قال بسرعة كأنه قد اطمأن إلى الإجابة: لو أن أحد أبنائي يسكن صحراء أبعد، ربما أقمت عنده.

حبب إليه سيدي الأنفوشي الخلاء، وسلوك طريق الصوفية.

أخلص في خلوته للتجرد والتأمل والتنسك والعبادة والتفكير. يقضي أوقاته في طاعة الله تعالى، والمداومة على الذكر، والتقشف في العيش. قد يسيح في الصحراء، ويستظل بما يتناثر فيها من تلال، أو أبنية مهجورة، أو يأوي إلى بعض مساجد المنطقة وزواياها.

تمتد إقامته أيامًا، تقصر أو تطول. يقطعها لزيارة باقي أبنائه في بيوتهم في بحري والورديان وباكوس.

يطوف — قبل أن يعود إلى موضع الخلوة — بمقامات وأضرحة أولياء الله. يقرأ الفاتحة، ويلتمس العبرة والنصح. أسقط ما كان يعتقده في رفض ولاية أولياء الله تعالى، وصدق كراماتهم.

أطول وقفاته أمام سيدي الأنفوشي بقلعة قايتباي. يلوِّن صوته بالتذلل، يطلب أن يظل وليُّ الله على ثبات نفسه، وتسامحه، وعفوه.

تعمقت طاعته لله، وصدقت. عمل بتعاليم أبي الحسن الشاذلي: احتقار الدنيا، والتمسك بما في كتاب الله وسنة رسوله، واللجوء إلى الباري في كل الأحوال.

تعلَّم آداب السلوك وحقائق التصوف. عرف العلوم الظاهرة والباطنة. لم يكن التصوف مجردَ أداء لما تأمر به الطريقة الشاذلية، ولا خضوع لأحكام الرياضة والمجاهدة وحدها، إنما هو سبيل إلى المعرفة اليقينية. أخلص في الوجد والخشية والخشوع. لم يَعُد قلبه يتسع إلا لذكر الله. تهيأ لاستقبال الإلهام الإلهي، والأسرار الربانية، والفيوضات الروحانية.

•••

زاره خليل الفحام في خلوة المكس.

بدَا مهمومًا وحزينًا بما حدث في ميدان أبي العباس.

حلَّت في قلب الميدان بناية هائلة، امتصَّت الملامح والقسمات. اختفت أضرحة الأئمة الأربعة عشر، والأبواب الجانبية لجامع أبي العباس، وإطلالة الطريق إلى السيالة، والدحديرة المفضية إلى الموازيني، وغاب سوق العيد، والسرادقات، وخيام الصوفية، والموالد، وحلقات الزفاف، وأكشاك الختان.

قال الفحام: ربما تخليت عن التسجيل.

وفي لهجة متصعبة: سأعجز — بعد زمن — عن استعادة الميدان في صورته القديمة!

هزَّ رافع عبيد رأسه، مؤمِّنًا على كلامه: لأولياء الحي مكاشفات بلا حصر.

وغلبه الانفعال، فعلَا صوته: ما نملكه أن نستغيث بهم ليُعيدوا كلَّ شيء إلى ما كان عليه!

•••

رُويَ أن عيد القدوسي — فتوة المكس — لاحظ الحياة الجديدة في البيت، أول الطريق إلى الصحراء، أخبره صبيانه أن الشجرة اعتادت العقم، واعتاد الناس فروعها الجرداء. نقلوا إليه ما أذاعه الناس من توبة الشيخ رافع على يدَي سيدي الأنفوشي، وخضوعه لقطبيته، وتلمذته على أحواله ومكاشفاته وخوارقه.

دعا الأنفوشي، فسرَت الخضرة في الشجرة، وتدلَّت الثمار. يأكل منها الشيخ رافع كلما قرصه الجوع.

نسبت إلى الشجرة حالات شفاء من المرض. صار الناس يأتون إليها من الأماكن البعيدة، يأخذون ثمارها وأوراقها، يحاولون مداواة ما لم يُفلح الأطباء في علاجه.

خشيَ القدوسي من أن تتبدل نظرةُ الناس إلى الشيخ. يزورونه، يلتمسون الخير والبركة والمدد، يجدون فيه الولاية التي تجتذب وتستقطب، تهتز — أمام النظرة الجديدة — صورة الفتوة، أو يُسقطها الناس. يواجه — في قادم الأيام — ما لم يخطر في باله، ويؤذي مكانته.

أمر القدوسي أعوانه.

تسلَّلوا — في الليل — إلى موضع الشجرة. انهالوا عليها بالبلط والفئوس، يحاولون اجتثاثها. لكن النيران المفاجئة، سرَت في فروع الشجرة، وأحاطَت بالمتسللين. من لم يَفُز بحياته أكلَته النيران.

في صباح اليوم التالي، رأى الناس الشيخ رافع جالسًا على باب حجرة اعتكافه. الساحة الرملية خالية، إلا من الشجرة التي سرَت في فروعها الخضرة، وتدلَّت الثمار.

•••

انظر: الأنفوشي، جودة هلال، خليل الفحام، رفقي زلابية، سلامة حجازي، عبد الرحمن بن هرمز، عبد اللطيف النشار، غريب أبو النجا، محمد كاظم ميلاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤