رفقي زلابية

حين قال الحاج جودة هلال إن الست صبيحة الدخاخني تظهر جالسة — أحيانًا — لصق المقام الذي بنَته لنفسها، تحدَّث رفقي زلابية عن اختفاء الموتى، وأنه لا يكون تامًّا. نحن ندفنهم، ونزورهم، نتذكرهم أو ننساهم، لكنهم يعودون — في كل الأحوال — إلى حيث عاشوا.

موتانا ينتقلون إلى العالم الآخر، فيظلون أحياء، يزورون مَن يعيشون معهم في الأبدية، ويزورون أحباءهم في الحياة الدنيا، يلاحظون، يتألمون، يُشفقون، يتصعَّبون، يبذلون النصيحة.

قال الشيخ عبد الستار: يتحدث القرآن عن حياة ثانية بعد الموت.

وعدل من وضع عمامته فوق رأسه: إنها حياة موجودة، ولولا ذلك ما خاطب الرسول أهل القبور المؤمنين بقوله: السلام عليكم دار قوم مؤمنين.

وخالط صوتَه حنوٌّ واضح: مخاطبة الموتى حقيقة لا تُنكر.

وأومأ بابتسامة متواطئة: لكننا لا نعرف كيف تكون الحياة الثانية، وما أوجه الشبه بينها وبين حياتنا في الدنيا؟ ومتى تنقطع؟ وهل هي للمؤمن، أو للكافر، أو لكليهما؟

زارَت رفقي زلابية — في حجرته — أمُّه الميتة. وقفت فوق رأسه. انتتر في موضعه، ورآها رؤية العين.

عرف أن جدران البيت لن تُعيق دخولها، ولا تنقُّلها بين الحجرات. هي — بعد الموت — طيف أثيري، لا يجسد إلا في المنام، ولمن تريد أن يراها.

قالت إنها رأت — في منامها — ثمرةً تسقط من شجرة. أدركت أن أجلها قد حان. رأت — في ليلة ثانية — سقوطَ خاتم من إصبعها، فتأكدت من المعنى. رأت — في ليلة ثالثة — أنها سقطت من فوق شجرة، وماتت. أيقنت أن هذا هو ما ستواجهه في وقت قريب. احتفظت بما رأَته في نفسها. لم تحدِّث فيه رفقي حتى لا تؤذيَه، وإن تهيَّأت للرحيل.

قالت الأم إن كل ما يولد لا بد أن يموت، وكل ما يأتي لا بد أن يذهب. وقالت: إن أرواح الموتى لا تموت بموت الأبدان. تخرج أرواح الناس من أجسادها في لحظة الوفاة. تنتقل إلى عالم آخر، تنتظر فيه يوم الدين، تتركه — في حالات معينة — إلى دنيا الأحياء، تطمئن على أحوال أحبائها. تدخل أجسادًا روحية لا تُرى إلا لأولياء الله، أو في منام الأحباء. تتصل — من خلالهم — بالحياة الدنيا، تسأل عن أحوالها، وأحوال ناسها، وتتحدث عن أحوال الآخرة، وما ينعم به المؤمنون في جنات الفردوس. وقالت الأم: في دنيا الراحلين لا توجد أسرار، حتى ما يحرص المرء على إخفائه في حياته، لا يملك الفعل نفسه في العالم الآخر.

لما سألها رفقي إن كانت تعرف شيئًا حقيقيًّا وراء الموت، اكتفت بابتسامة مشفقة، وقالت: ليس إلا الخير.

أدرك أن الإشفاق يغلبها، فتسكت عن الأسئلة التي — ربما — شغلَتها مصائر من أسرفوا على أنفسهم.

قال الشيخ عبد الستار إن الحياة الأخرى على اتصال دائم بالحياة الدنيا، لا انفصال بينهما. الإنسان يتلاشى جسدًا، لكنه لا يتلاشى روحًا. يبقى الذكر والعلم والعادات والميول والأذواق. قال الشيخ إن روح الأم، وليس جسدها، هي التي تظهر، وتخاطب ابنها. من يُنكر وجود الروح، إنما يُنكر وجود النفس، ومَن يُنكر وجود النفس، إنما يرفض حقائق الدين. الروح لا تموت، تظل حية في عالم البرزخ، وإن مات الجسد. تملك القدرة — بحول الله — على رؤية الأحياء، ومخاطبتهم، والاتصال بهم، بوسائل يعلمها الله.

قالت الأم إنها التقَت — في الحياة الآخرة — بكل مَن سبقها من الأقارب والمعارف والجيران. حتى الذين أخذهم الأجل ممن كانوا يشاركونها وقفة شروات السمك في الحلقة، سهل عليها تبيُّن ملامحهم، كما سهل عليهم تبيُّن ملامحها. لم يصعِّب الأمر ما ارتداه الجميع من ثياب سماوية.

تهدَّج صوتُها بالعتاب وهي تُحدِّثها عن حاجة الراحلين إلى الأحياء، مثلما أن الأحياء في حاجة إلى الراحلين. تبادُل الزيارات والود والمؤانسة، هو ما ينبغي أن يحرص عليه الجميع. الحياة — بعد الموت — تتواصل بلقاء الأعزاء، نتعرف على أحوالهم، نُشاركهم الفرحة، ونواسيهم فيما قد يعانون من مشكلات. الموتى يترددون على آخر الأمكنة التي عاشوا فيها، وهي لم تغادر البيت الذي قضت فيه كلَّ سِنِي حياتها. طال غيابهم عن قبرها فعانت الحرج في العودة إلى البيت. رباط — تدركه جيدًا — يشدُّها إلى البيت الذي أمضت فيه معظم عمرها.

الحب — حتى في دنيا الموتى — يصعب أن يكون من طرف واحد. البعيد عن العين، تُقرِّبه الزيارات التي تسأل وتطمئن. ما جئتُ — رغم حزني — إلا لأدلَّك على موضع الكنز الذي تركه أبوك في قاع البحر، بالقرب من الإسكندرية. عرف أبوك — من تعالي الأمواج بما لم يشهده من قبل — أن البحر يُعَد لابتلاع البلانس نوفل. حدد الأب موضعًا، ألقى فيه بما كان يحمله من رحلته في عالم جنيات البحر. ربما وافقت الجنية على عودة الأب إلى بحري، ثم انتابها الرفض. ابتلع البحر البلانس بعد أن اطمأن المعلم زلابية الشيمي إلى موضع الكنز خارج البوغاز. التقت الأم في دنيا الغيب بمن دلَّها على موضع الكنز، وخطوات الوصول إليه. قالت إن الموتى يطلعون على عوالم من أمر الله، يصعب على سكان وجه الأرض إدراك شيء منها.

كان السعداوي شبانة من بحارة البلانس تحت قيادة أبيه لما ابتلعه البحر. اطمأن إلى الموضع الذي نصح به أبوه. الكنز مدفون في مكان ما داخل البحر، في المسافة بين مرسى قوارب المينا الشرقية وما وراء مساكن السواحل. ظل الكنز مخفيًّا، لا ينقصه إلا تحديد المكان. هذا ما أبلغته به أمُّه.

نصحته أمه أن يكون البدر في تمامه، ليلة نزوله إلى موقع الكنز.

وضع همَّه في أن يحصل على الكنز. لا بد أن يحصل عليه. هو بغلة العرش التي تُنقذه مما يعانيه. يصل إلى الكنز. يفعل — بما يحصل منه — على ما يريد. يعيش في هناءة كتلك التي عاشها علي بابا، بعد أن عثر على كنز الأربعين لصًّا. يتزوج فتاةً أجمل من مرجانة، وأشد منها وفاء.

غالب تردده وهو يمضي بالفلوكة في اتجاه الجزيرة الصغيرة، قبالة شاطئ الأنفوشي. يداخله ما يُشبه اليقين أن الجزيرة لا تصلح حتى لهبوط البشر. هي تمتلئ بالأطياف والأرواح والأشباح ومخلوقات البحر الغريبة. من المستحيل أن تطأها قدم بشر.

رُويت حكايات كثيرة عن المخلوقات التي تُعنَى بالكنز، تحرسه من الأيدي الشريرة. مَن تأخذه الجرأة فإنه سيواجه بما لم يخطر على قلبه: التجمُّد في هيئته، أو التحول إلى كومة رماد، أو إلى طائر يغيب في الأفق، أو الموت.

رأى عروس بحر جالسة فوق صخرة على حافة الجزيرة. حدس — في أول رؤيته — أنها امرأة تستحم بضوء القمر. انتبه لذيل السمكة في الجسد المتصل بالجسد الأنثوي العلوي.

هي عروس البحر كما تحدثت عنها حكايات أبيه، ومَن سبقوه إلى ركوب البحر: وجه إنسان، وصدر إنسان، وذيل سمكة.

قبل أن يغالب ارتباكه، نادَته باسمه.

فاجأته بكلام البشر، فشحب خوفه.

قالت وهي تُنهنه: رافقت قافلة حتى بعدت عن موطني.

– أليس البحر موطنك؟

– أقصد الأعماق التي يعيش فيها أهلي من مخلوقات البحر. بعدت المسافة بيني وبينها، فلا أعرف أين هي.

– ما عليك إلا أن تغوصي وتواصلي السباحة، حتى تجدي أهلك.

– أخشى أن أمضيَ في الاتجاه الخاطئ.

– ألَا تذكرين الموضع الذي كنتِ تخرجين إليه؟

– هو قريب من أبو قير.

– اسبحي إذن على امتداد الساحل حتى أبو قير.

قال غريب أبو النجا: لم تكن مَن التقيتُ بها جنية البحر الأم.

أردف موضحًا: جنيات البحر مثل نسائنا فيهن أمهات وبنات.

ثم في نبرة مستغربة: العادة أن الجنية الأم التي تملك الحياة في البحر هي التي تجلس فوق الصخرة.

وضرب بأصابعه على ظهر كفِّ زلابية: هي جميلة، وتُجيد اجتذاب الرجال، لكنك التقيت بواحدة من بناتها.

دانت جنية البحر الأم له بفضل عودة صغيرتها إلى موطنها. انتظرت رفقي زلابية فوق الصخرة. نادته. حدَّدت له موضع الكنز. الأمواج فوقه تفور وتغلي. دائمًا تفور وتغلي، كأنها فُوَّهة بركان. غطَّته الرمال والأصداف وقِطع الحجارة والطحالب والأعشاب وكومات الحطام المتبقية من السفن الغارقة. اختار المعلم زلابية الشيمي الموضع، فلا يتصور أحد أن الكنز تحته. يخشى الاقتراب منه، فيظل في مأمن من محاولات السلب والسرقة.

رافق عروس البحر في غوصها حتى الموضع الذي تحدَّثت عنه أمه.

لم يكن في تصوُّر رفقي زلابية أن البشر يستطيعون العيش تحت الماء، لكن الحورية اصطحبَته إلى الأعماق. أهملت ما رُويَ عن المخلوقات التي استأثرت بالكنز، لا تُتيح الحصول عليه لأحد.

هبط إلى أماكن مجهولة، ساحرة، لم يتخيلها، ولا توقَّع رؤيتها. أمرت عروس البحر حراس الكنز من الجان أن يُخلوا أماكنهم.

عاد بالكثير مما في داخل البلانس الغارق من النفائس والذهب والمجوهرات.

أخذ ما استهوى عينَيه.

لم تَطُل إقامته في دنيا الحوريات، حتى ذوَى السحر والدهشة. تملَّكه الحنين إلى بحري: الكورنيش، والحلقة، وميدان أبي العباس، والموالد، والجلوات، وحلقات الذكر، والمجاذيب المستندين إلى الجدران، ومباريات الكرة، والقعدة فوق السطح، ومدخل البيت الخافت الضوء، واختراق زحام شارع الميدان.

وهبَته العروس شعراتٍ من رأسها، صارت — بالتضفير — حبلًا طويلًا، قويًّا، لمرساة فلوكته.

قبل أن يتصرف في النفائس التي عاد بها، اتجه رفقي إلى الشيخ عبد الستار بالسؤال: حين أجد كنزًا في داخل البحر … ماذا أفعل به؟

قال الشيخ: صيد البحر حلال. حتى كنوز الأعماق حلال لمن يعثر عليها!

•••

تبدَّل حال رفقي زلابية من يومها.

خاصم الفقر، وأوصى المعلم عمران الخولي بصنع ثلاثة بلانسات في القزق، أتاح له صيدها الجلوس شيخًا للصيادين في الحلقة. خصص لأمه مقبرة في حوش العائلة بالعامود، وأقام ليلة لأبيه أمام مسجد نصر الدين.

طالبت الأم ابنها أن يسدد من أموال الكنز ديونًا عليها لمعلمين في الحلقة، وتاجر منيفاتورة في شارع الميدان. أضاف إلى ما سدده من ديون، صدقة جارية على روح الأم الراحلة.

سكن في بيت — من بابه — بحارة صحصاح. لما وسِّعت الحارة، وتحوَّلت — في ١٩٣٥م — إلى شارع، انتقل إلى شقتين. وصل بينهما. في البيت رقم سبعة، المطل على الأنفوشي.

عاش في عالم لم يكن رآه من قبل، ولا يعرفه، ولا عهد له به.

أقبل على الدنيا، وانقطع عن الآخرة. انشغل بالشهوات والملذات الدنيوية. ذهب حبُّ الترف، والميل إلى الاستمتاع بملذات الحياة، بما كان في نفسه من التقوى والورع. غفل قلبه، فتاهَ في ظلمات الضلالة. غابت من نفسه خشيةُ الله وتقواه. اشتهر بليالي الغناء والرقص والطعام والشراب والنشوة والمؤانسة وما لا يحل، ويستظهر بذلك. اخترع له خدم القصر أفانين اللذات والرقصات والأغاني. جرَّته الشهوات إلى الحضيض الأسفل. لم يرتدع بالوعيد، ولا أنصت إلى عظات الأئمة في صلاة الجمعة، ولا قنع بما يساوي جهده، ولا شَبِع من الحرام. نسيَ الموت والحساب.

لم يَعُد للزمن عنده شأن. الأمس مضى، واليوم نحياه، والغد في يد الله.

حتى الشيخ خلف فرحات إمام جامع المسيري القريب، خطب في المصلين أن زلابية يُزعج قاصدي بيت الله، يُشغلهم عن الصلاة، وتلاوة القرآن، وتأمل الملكوت.

أَلِف سكان الشارع ترامي الموسيقى والغناء من بيت زلابية. لم تكن تمرُّ ليلة دون أن يستضيف ضيوفًا من بحري وخارجه. يُقلق النائمين بالصراخ ودقِّ الدفوف والطبول والصاجات، والعزف بالنايات والكمنجات، والغناء، ومجالس الأنس والطرب والدعابة والقافية، وغير ذلك مما يأباه الناس في بحري.

يواصل وأصدقاءَه الشربَ واللهو حتى الصباح. يحيا حياةَ الأمراء المترفة.

تعالَى صوتُ ماهر الصاوي:

طول ما معاك المال
تعمل لك الرجال خاطر
كلامك يمشي ع العدا يا عم
ع العين وع الخاطر
واللي بلا مال بين الرجال
لا هو على البال ولا الخاطر

دعا إلى بيته كبار المطربين: سلامة حجازي، وصالح عبد الحي، وحامد مرسي، ومحمد السبع، وعلي عبد الباري، ومحمد فوزي، وجلال حرب، وعبد العزيز محمود، وعزت عوض الله، وحمامة العطار.

زاره محمد عبد الوهاب — مطرب الملوك والأمراء — ثلاثَ ليالٍ، في أشهر صيف متتالية. خصص له رفقي سيارة مسدلة الستائر، فلا يفطن أهلُ الحي لقدومه. قصرَ الحضور على أصدقاء من خارج بحري.

احتضن عبد الوهاب عودًا قدَّمه له رفقي زلابية. حرَّك عبد الوهاب في الليالي والموال. غنَّى: صوتي كمنجة وأحب المنجة، فيك عشرة كوتشينة في البلكونة، مين عذَّبك بتخلصه مني، جفنه علم الغزل، الميه تروي العطشان، ياوابور قوللي، حسدوني وباين في عينيهم.

غلبت النشوة الحضور. اهتزوا، تمايلوا، هللوا، استعادوا المقاطع.

ترك رفقي مقعده. جلس تحت قدمَي عبد الوهاب. يُغمض عينَيه في تأثر، ويطلب الإعادة.

أهدى عبد الوهاب — عند وداعه — صندوقًا خشبيًّا صغيرًا، مغطًّى بمربعات الصدف. بداخله بعض ما عاد به إلى البر من المجوهرات والحلي النفيسة.

قال وهو يعود إلى البيت: صار عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء … ورفقي زلابية.

كان يستعيد — في ليالي السمر — ما جرى له منذ هبوطه إلى أعماق البحر. يستعين بخياله في وصف قصور الزجاج، الأرضية ذات الرمال الناعمة، المزينة بالذهب المرصَّع بالجواهر، والأصداف في أشكال مربعات ومثلثات. البوابات الجرانيت والرخام والمرمر. الأعمدة القرميد المزينة باللؤلؤ، وبفصوص الزمرد الأخضر والياقوت الأحمر، الأصداف الهائلة، والمحارات الجميلة التكوين، الجدران المغطاة بالجواهر. الأسرَّة على هيئة الأصداف، تُحيط بها صفائح الذهب، الحمامات كأنها محارات مزينة بفصوص الأحجار الكريمة.

رَكِب عربة من الذهب الخالص، مزينة باللآلئ والأحجار الكريمة، مبطنة بالديباج، يجرُّها أربعةٌ وعشرون من جياد البحر. يَسبح أمامها، وحولها، أسماك من كل الأحجام والأنواع.

كان يعاني شعورًا مفاجئًا — كهبَّات ريح ساخنة — بالعزلة والوحدة. حجبه العزُّ عن الناس الذين طالت معاشرته لهم. استبدل بهم ناسًا آخرين، غيَّروا حياته. ندماؤه وسُمَّار لياليه من أحياء بعيدة، لا صلة له ببحري، ولا بأهله. هذه السهرات التي لا تنتهي.

قال الحاج جودة هلال: أنت الآن معلِّم قد الدنيا. صبيانك يتولَّون العمل، ويأتون لك بالإيراد!

يُغنيه خدمُه عن البيع والشراء، والنزول إلى الأسواق. تمنعه مكانته من الجلوس على المقاهي، أو المشاركة في سباقات البنز، أو مشاهدة مباريات كرة القدم في الخلاء.

تاق إلى وقفة الحلقة. الضوء الشاحب المتسرب من ثقوب السقف المعدني، وملاقف الهواء، والطاولات، والطبالي، والقفف، والمقاطف، والطسوت، والقروانات، والمزاد والبيع، والشراء، والفصال، وألواح الثلج، والماء العطن، والفريشة، وأرقام مفتش الضرائب، وملاحظات مفتش الصحة، وإتاوات الأبجر وحميدو شومة.

•••

حين دُعي رفقي زلابية إلى سراي رأس التين، أسلم نفسه لتصورات. يثق أن ما يحياه في بيته لا يبلغ ما يحياه الملك.

هل استدعاه الملك ليعرف حكايته العجيبة؟

كان عمران الخولي قد أتاح له — قبل أن يعود من رحلة الثراء — أن يدخل السراي، وهو مختبئ خلف المقاعد الخلفية في سيارة الملك الحمراء. ظل متداخلًا في موضعه، حتى همس الخولي بما يعني الأمان.

لم يستطع رؤية القصر من الداخل، وإن بدا ما رآه أجمل مما كان يتصوره: النخيل الملكي ذو السيقان البيضاء، والقامة الفارهة المستوية، أشجار البانسيانا ذات الزهور الحمراء، أزهار البنفسج والزعفران والتيوليب والسوسن، الحدائق الواسعة، المفروشة بالخضرة، تتخللها أحواضٌ مزدانة بما لم يسبق له رؤيته من الورود، الفسقية الرخامية، ينبثق الماء من نافورتها الهائلة، ومن حولها تماثيلُ لأسود وتماسيح وثعابين، الجواسق المطلة على النافورة وسط الساحة الهائلة. في الزاويتَين برجان عاليان، لهما نوافذ حجرية، مفتوحة على الجهات الأربع. امتداد البحر — باتساعه الذي لا ينتهي — يقابل حدائق القصر وبناياته.

سبقه الرجل ذو البذلة الكحلية داخل القصر.

تأمل ما حوله بالذهول: الباب الخشبي العالي، الأسقف العالية المزينة بالنقوش والزخارف الدقيقة والمنمنمات والمقرنصات والتيجان الرخامية والقبب، الجدران المكسوة بخشب الماهوجني والجوز، المكتبات التي تَصِل بين الأبواب والنوافذ، وتغطي مساحات الجدران، السجاجيد الفاخرة، الردهات المزدانة باللوحات، ورءوس الحيوانات الأفريقية.

إن كان هذا ما أُتيح له رؤيته من قاعات القصر وردهاته وقاعاته، فكيف تكون بقية القصر؟

الطريق خالية، والصمت سادر، وإن شعر بالأعين التي تتابعه من مواضع لا يراها.

عرف أنه يقف أمام باب مسحور، لما انشق الجدار عن فتحة في هيئة الباب. بدَت — من ورائها — قاعة واسعة، يتوسطها مكتب جلس وراءه الملك.

راعه أن الملك استقبله بنفسه.

قال في جلسته وراء المكتب الضخم، المصنوع من الأبنوس والصدف: رفقي زلابية؟

وهو يُربِّت صدره، وينحني: خادمك يا مولانا.

قال الملك: البكباشي حمدي درويش يرى أننا نستطيع أن نعتمد عليك.

أعاد القول: خادمك يا مولانا!

أشاح الملك بيده دلالة إنهاء المقابلة.

زار — وهو يمضي خارج القصر — ضريح سيدي البرقي. قرأ الفاتحة. تشفَّع عند وليِّ الله، حتى يحفظ الله نعمته.

دعا أصدقاءه — في مساء عودته من لقاء الملك — إلى أكلة كافيار، أمر الملك بإهدائها له.

•••

أيقظه صوتٌ — ذات ليلة — كأنه لعروس البحر. عاشا معًا، وتكلَّما كثيرًا. لم يَعُد يخفى عليه صوتُها.

أخذ عليه الصوتُ انغماسَه في ملذات الحياة، واستمتاعه بها. كثرت أمواله فلا يعرف كيف يُنفقها، ولا أين يجد وسائل الإنفاق. أهمل ما يفرضه عليه العزُّ الطارئ من الاعتراف بنعمة الله. باع دينه بعرَض من الدنيا، فقصر حياته — أو كاد — على الندامى والكئوس والطرب وسماع مزامير الشيطان، وفتَحَ أبواب مجلسه لضعاف النفوس والجهَّال والأحداث، وأصحاب الأهواء والشهوات واللعب.

طالبه الصوتُ بأن يستنَّ بسنة رسول الله، ويهتديَ بهدي السلف الصالح. يبتعد عن طريق السوء، ويتخلَّى عن صحبة أهل الشر. يتخلص من حظوظه، وأوصاف بشريته. يحفظ نفسه من الاحتراق بأمور الدنيا وزخرفها.

– أبقيتُ على إنسانيتك لأنك أنقذتني.

وتداخلَت في الصوت بحَّة غريبة: حرمت نفسي من الاستمتاع بجسدك، لكنك أنفقت — من كنوزي — على استمتاع هذا الجسد.

قال زلابية كأنه يحدِّث نفسه: أثق أني أفضل من آخرين.

قال الصوت: لستَ أفضل من الذين يؤدون فرائض الله.

استطرد في نبرة ساخطة: ويسرقون ويظلمون.

أهمل زلابية الصوت. أرجعه إلى إلحاح عظات الشيخ خلف فرحات إمام مسجد المسيري ونصائحه.

أزمع أن يُعلن توبته في لحظة استقباله للموت. عندما يشعر بدنو الأجل، يعرف أن هناك ما يسبق طلوع الروح. أضمر توبةَ اللحظة الأخيرة.

قال له الصوت، في ليلة تالية: هل أنت على معرفة ما إذا كان الأجل سيمتد بك حتى تُعلن التوبة؟

وعلا الصوت في تساؤل مستغرب: ألم يَرِد في بالك أن الموت قد يُفاجئك واللقمة في فمك؟!

لاحظ أن أمَّه لم تَعُد تزوره في نومه. غابت زياراتها، وأسئلتها، وأحاديثها عن الحياة الآخرة، ونصائحها.

حدس رفقي أنها غاضبة منه، أو أنها تخشى عليه غضب عروس البحر.

مرة وحيدة، ظهرَت له أمُّه في لحظة، لم يتبين إن كانت في الصحو أم في المنام.

كانت في غير الهيئة التي زارته بها من قبل. بدَت شعثاء الشعر، دامعة العينين، ترتدي عباءة سوداء، في حلكة الظلام الذي يحيط بها.

لم يكد يتعرف على ملامحها، حتى استدارت بجسدها ناحية النافذة.

ناداها، فلم تردَّ عليه.

أعاد النداء، فلم تتحرك في موضعها. قالت — دون أن تحوِّل نظرتها عن فراغ الظلمة — إنها غفرت له تعجيله بدفنها.

كانت الشمس قد مالت إلى الغروب حين مضى وراء نعشها، مع قلة من الجيران إلى مقابر العامود. استعان التربي بكلوب، استكمل في ضوئه إعداد القبر. إذا كانت قد غفرَت له فعلته الأولى، فلن تغفر له أذيتها مرة ثانية. الحياة — حتى بين الآباء وأبنائهم — أخذٌ وعطاء. مَن يطلب المنفعة ينبغي أن يبذل المقابل، هي لا تأمل سوى أن يعمل رفقي بفضل الله عليه.

انتفض جسدها بنشيج.

فرك عينَيه لتبيُّن الأمر.

كانت الروح التي تشكَّلت في جسد أمه قد اختفت. حدس أنها انطلقت من النافذة المفتوحة.

رأى في المنام أنه يصعد إلى أعلى مئذنة، تنبثق في الضباب، لا تبين عن الجامع الذي تعلوه. ألقى بنفسه من الشرفة الدائرية الصغيرة. تلقَّفه الفراغ. استيقظ على صرخة يرادفها تحسُّس لما تَصِل إليه يدُه من جسده.

قال شحاتة عبد الكريم: المئذنة خير.

وفي نبرة تهوين: أما سقوطك من فوقها، فالأحلام تفسر بعكس ما نراه!

•••

صحا ذات يوم، فوجد نفسه وحيدًا، غريبًا، على الصخرة بالقرب من الأنفوشي.

انبجس ثقبُ الدم من الصخرة، كقطرات المطر، تغطَّى رفقي بالحمرة.

فرك عينَيه، يتبين الجسد العملاق، ألقى ظلَّه من قلب الصخرة إلى حيث ارتمى رفقي زلابية على الحافة. له هيئة البشر، وإن علَت قامته كصاري البلانس. الشرر في عينيه، وما يُشبه الدخان ينبعث من فمه وفتحتَي أنفه، ويداه تشكلان نصف دائرة، تعدان بما لا يقوى رفقي على تصوره.

توله عقله بما رأى، وسمع.

قالت روايات إن ولي الله علي تمراز هو الذي دفع رفقي زلابية إلى مصيره. عاب عليه التهالك على الدنيا وزينتها. لم يؤدِّ شكر النعم التي أنعمها الله عليه، صرفها في المعاصي، وتمادى فيها. أصمَّ أُذُنَيه عن تلقِّي النصيحة، واستمر في غيِّه. دعا علي تمراز مخلوقات البحر أن تسلب زلابية ما لم يَعُد من حقه.

استجابت عروس البحر لدعوة ولي الله. ألقى به أعوانها في أرض الجزيرة. تركوه للمارد يفعل فيه فعله.

•••

انظر: جودة هلال، حمدي درويش، شحاتة عبد الكريم، صبيحة الدخاخني، عبد الستار، عروس البحر، عمران الخولي، علي تمراز، فاروق، المارد، ماهر الصاوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤