سامي بهاء الدين

لا أحد يدري متى قَدِم سامي بهاء الدين من مدينته — الدلنجات — إلى الإسكندرية، ولا لماذا اختار الإقامة في بحري، رغم أنه افتتح مكتبًا للمحاماة في شارع شريف.

انتقل — في عام ١٩٣٣م — من بيته المطل على باب رقم واحد إلى طريق الكورنيش.

كان — قبل ذلك العام — يشارك أبناء بحري تحاشي الاقتراب من شاطئ البحر. لا سدود أمام مد الأمواج، لا عوائق تصدُّه عن الاندفاع إلى أقصى نقطة يريد بلوغها. تكررت حوادثُ الغرق، وتهدُّم البيوت، وارتفاع المياه الجوفية.

بيته هو الرابع بعد بيت حسين سري باشا، وبيت الدكتور فؤاد سلطان، وفيلا مصطفى فهمي باشا. وصل حلقات السلسلة. امتدت على واجهة الكورنيش الحجري، يوقف — والمصدات الأسمنتية في أسفل — اندفاع الأمواج إلى قلب المدينة.

تذكره أبناء بحري عندما قدَّم أوراق ترشيحه إلى انتخابات مجلس النواب. قدَّم نفسه باعتباره ابنًا للحي.

•••

اشتهر ببراعته في الترافع أمام محاكم الجنايات ومحاكم النقض. يُجيد تقديم الدفوع، والاستشكالات، وفتح الثغرات، والمماطلة في تنفيذ الأحكام. قد يلجأ إلى محامي الخصم، يعرض عليه ما يُغريه بالعدول عن القضية، أو خيانة موكله.

تشمل قضاياه القتل والاتجار في المخدرات والاختلاس والغش والرشوة والتزوير والابتزاز وهتك العرض ومقاومة السلطات وحيازة الأسلحة والممنوعات والهروب من الأحكام. عرف أسرار الكثير من الرجال والأُسَر. لا يترك معلومة دون أن يدفع بها في ملف، يضمُّه إلى الملفات الكثيرة المرصوصة في أرفف المكتب.

يظهر غضبه للقول بأنه لا يُجيد الترافع إلا تحت تأثير المخدرات. إن زال تأثير قطعة الحشيش، أو فص الأفيون، شردت ذاكرته، وعانى التلعثم والتهتهة.

•••

تعددت مجالسه وجلساؤه في سيسيل وسان جيوفاني ويونيكا وبترو والإكسلسيور. أكثر مجالسه في التريانون، إلى جانب النافذة المطلة على ميدان سعد زغلول، على طاولته عصير برتقال وفنجان شاي وتوست محمص وشطائر بطريقة البوربون وقطعتا كيك.

صارت له علاقاته الواسعة بالوزراء ورجال الأحزاب والساسة وحاشية الملك. تحدَّث عن زيارات متقاربة إلى دار المندوب السامي (السفارة البريطانية فيما بعد) بقصر الدوبارة. قطع زياراته بعد اقتحام القوات البريطانية قصر عابدين، وفرض حكومة برئاسة النحاس باشا. اعتبر ما فعله اللورد كيلرن إهانةً للملك، وللمصريين، وللنحاس نفسه.

ربما استقبل أصدقاءه في الشاليه المطل على شاطئ المنتزه، أو في البيت الصغير بناحية كنج مريوط. يعتز بعضويته في أندية الإسكندرية: سبورتنج، سموحة، الاتحاد، الأولمبي، الترام، المكابي. حتى أندية بحري المطلة على الكورنيش، يساعدها — بتبرعات مادية — على أداء أنشطتها.

لاحظ سعيد العدوي تردده على العطارين وأحياء الرمل. يقتني التُّحف الفنية، واللوحات الأصلية لكبار الفنانين. ينقلها إلى بيته في زيزينيا.

قال: هذه وسيلة جيدة للاستثمار.

أردف للدهشة المتسائلة: إنها مثل المرسيدس والرولكس … تتضاعف قيمتها إذا زاد عمرها!

قال العدوي: تصورتُ أنك تقتنيها لإرضاء حبِّك للفن.

قال بهاء الدين في صوت مفعم بالثقة: هذا صحيح. أحب الفن، وأحب المال أيضًا!

رضخ لتهديد البكباشي حمدي درويش بأن يغيِّر لون سيارته. عرف أن الملك فاروق قصرَ اللون الأحمر على سياراته. إذا انطلقت إحداها، فطن المارة إلى أنها سيارة الملك.

همس بالقول لخليفة كاسب: قد تُطلى عربات المطافي بالأسود إرضاء لمولانا.

استطرد في لهجة عابثة: ربما يقصرونها على جلالته وحاشيته!

•••

منذ ترك الوفد مع مجموعة مكرم عبيد. أزمع أن يُهمل النوازع والحساسيات الحزبية. لا شأن له بصراعات الأحزاب. لم ينضمَّ إلى حزب الكتلة، ولا عُنيَ بالمشاركة في تأليف «الكتاب الأسود».

أعلن ترشيح نفسه مستقلًّا عن الأحزاب. حتى الوفد لم يَعُد هو وفد سعد زغلول. الولاء يجب أن يكون لملك البلاد. حذَّر من الفتن والخذلان والمخالفة والعصيان. كتب في ملصقات الدعاية: «انتخبوا سامي بهاء الدين مرشح السراي.» لم يُشِر ما إذا كان قد حصل على موافقة الملك، أم أنه كتب الكلمات من نفسه. لما استبدل بها — بعد أيام — ملصقات عن مرشح بحري، قال خليفة كاسب إن فاروق لم يَعُد الملك الذي يحبه الناس. وقال أحمد المسيري إن السراي طلبت — ثمنًا لاسم الملك — مبلغًا لم يقوَ بهاء الدين على دفعه.

لما هبَّت الريح بما لا تشتهي سفينته، وافق بهاء الدين على دعوة نبوية موسى، بأن تكون الانتخابات على درجتين. حكم البلاد يجب أن يقتصر على الصفوة، مَن أُتيح لهم التعلُّم ويسر الحال والمكانة الاجتماعية. أمية غالبية الناخبين تجعل الانتخابات المباشرة مستحيلة. معنى ذلك أن يسيطر على الانتخابات العوام والحوذية والبوابون والخدم وماسحو الأحذية والأوباش.

•••

في مساء السادس والعشرين من يناير سنة ١٩٥٢م، أقال الملك فاروق حكومة الوفد. أدرك بهاء الدين أن استقالته القديمة من الوفد فرصة تُتيح له الاقتراب من السراي.

وقَّع عريضة مع عدد من النواب والشيوخ الحزبيِّين، تلتمس من الملك أن يجنِّب البلاد شر الحزبية.

•••

لما صدر قرار حل الأحزاب السياسية، ومُصادرة أموالها ١٧ يناير ١٩٥٣م اعتبره سامي بهاء الدين انتصارًا شخصيًّا. قال إنه يضع أمله في الجيش ليحقق الديمقراطية للبلاد، بعيدًا عن صراع الأحزاب ومعاركها.

انضم بهاء الدين إلى هيئة التحرير عقب قيامها، ثم انضم إلى الاتحاد القومي، فالاتحاد الاشتراكي. وانضم إلى تيار الوسط عند إعلانه، ثم أصبح عضوًا قياديًّا في حزب مصر. فلما أنشئ الحزب الوطني تحوَّل بهاء الدين إليه بمكانته القيادية.

•••

أعدَّ نفسه لدخول الانتخابات قبل إجرائها بأعوام. جعل همَّه توثيق علاقاته بأُسَر الحي وتجَّاره وحرفيِّيه. يبعث بطاقته في المناسبات، يشاهد مباريات كرة القدم، يدفع النقوط في حفلات الزفاف، يعود المرضى، يشيع الجنازات.

وعد الناخبين بعالم تتحقق فيه كل الأمنيات والرغبات. أتاح لهم أن يفكروا في كل شيء. لا حواجز، ولا قيود، أو عقبات. من حق الجميع أن يتطلعوا إلى ما لا نهاية لآفاقه، لكنه رفض التفكير — أو التحدث — فيما لا يستطيع أن يحققه، ما تعجز قدراته عن فعله. أولو الأمر في القاهرة لا يعصون له أمرًا، ولا يردون له طلبًا.

وعد بتحصين قلعة قايتباي، وتقوية أبراجها، وتعزيزها بما يُتيح لها الدفاع عن الإسكندرية، كما كان الحال حتى تدمير الأسطول الإنجليزي لها في عام ١٨٨٢م. وأمر ببناء الخرائط عن بناء الجوامع والمساجد والزوايا والحصون والقلاع والأسوار والأبراج والجسور والقناطر والمدارس ودور العلم والمسارح والموانئ والأسواق والحمامات والأسبلة والأحواض والسقايات والمروج الخضر والحدائق والأروقة والنافورات الرخامية والمآذن والقباب ذات الرسوم الهندسية والدوائر والنقوش العربية والأكشاك.

تحدَّث عن شقِّ الطرق وترصيفها، وشق الخطط والحارات والدروب والسكك والأزقة، توصيل المياه النقية والكهرباء إلى البيوت القديمة، زرع الأشجار والنبات على امتداد الكورنيش، وفي الشوارع، توسيع الميادين، تتوسطها شاشات سينما، ووضع أجهزة الراديو على نواصي الشوارع، تقديم البرامج المفيدة والمسلية لمن طال حرمانهم. تحدَّث عن العناية بالأسواق والمساجد والمدارس والبنايات الثابتة وحمام الأنفوشي، تأهيل الأسواق بالدكاكين العامرة بالبضائع والبيع والشراء، تغطية شارع الميدان بقيساريات تحمي التجار والباعة والمشترين من رخات المطر وحرارة الشمس، استبدال بنايات من الطوب والأسمنت بالكبائن الخشبية على يسار الشاطئ، منع إلقاء الصرف الصحي في المينا الشرقية، والتأكد من نظافة مصادر المياه، إقامة ورشة في القزق لتقطيع الأخشاب وتصنيعها، إجراء بحوث لزراعة أنوع جديدة من الأسماك في معهد الأحياء المائية، زرع أشجار مثمرة على جانبَي الشوارع، دوام إماطة الأذى عن الطرق، وتجميلها، وضع المصابيح على أبواب الدور والمحال والشوارع، توصيل المياه النقية إلى بيوت السيالة والأنفوشي، بدلًا من الحنفيات العمومية، وإنشاء أسبلة في مواضع متقاربة، ودورات مياه لعابري الطريق، وتحديد مواضع لقضاء الحاجات، بالإضافة إلى بيوت الخلاء الملحقة بالدور.

تحدَّث عن إنشاء تكية للفقراء، أكبر من التي في نهاية شارع إسماعيل صبري، وإعادة خانقاوات الصوفية، وعدم اقتصار حلقات الذكر على رصيف جامع البوصيري، فتقام على أرصفة جوامع بحري ومساجده وزواياه، وإنفاق ريع الأوقاف على مستحقيه، فتح العديد من كتاتيب للأطفال يقرءون فيها القرآن، ويتعلمون مبادئ الدين واللغة والحساب. تُتيح التعلم — بالمجان — لكل مَن يقصدها، إقامة حدائق واسعة يغرس فيها الأشجار، تتحول الساحات الترابية الخالية، إلى ملاعب للكرة، وللأطفال، ردم مساحات من البحر، أيمن خليج الأنفوشي، لإقامة بيوت لأهل السيالة، بدلًا من التي يُسقطها القدم، إنشاء أحواض كبيرة مليئة بالماء المثلج في الحلقة، لغسل الأسماك، تكييف الحلقة مركزيًّا فلا تُفسد الحرارة ما بها، إضافة إلى وضع ماصَّات — في جوانب الحلقة — لرائحة الزفارة، والروائح الكريهة، إضاءة الحلقة — من الداخل — في الليل، لا تُغلق أبوابها أبدًا، بناء مصنع لتجميد الأسماك، وتعليبها، رعاية الناس منذ مولدهم، فتسبق الوقاية العلاج. إذا حل المرض، أمكن علاجه قبل أن يتفاقم، تحول مستوصف أطفال الملكة نازلي إلى مستشفى متعدد الطوابق، فيغني عن التردد على مستشفى دار إسماعيل البعيدة، تخصيص مساحة في مقابر العامود لأهل بحري، تولِّي فِرَق من البنائين والنقاشين ترميمَ واجهات البيوت القريبة من البحر، وداخل البيوت. البيت الآيل للسقوط يُعاد بناؤه على أحدث طراز. الإفادة من الخبرات الأجنبية في صناعة مراكب تمشي على اليابسة، وتزلق — لا تتوقف، ولا تبدل وسائلها — على المياه. عمران الخولي هو الذي يتولَّى الإشراف على التصنيع، فيلحق الآلاف من أبناء بحري بالقزق. تخصيص أوتوبيسات صغيرة تخترق شارع السيالة، ما بين ميدان أبي العباس وانحناءة الطريق إلى المينا الشرقية، وإلى خليج الأنفوشي. ما يعوق انطلاق الأوتوبيسات يُزال، تُشيد بيوت — بدلًا من التي هُدمت — على جانبَي الشارع الجديد، توسيع الميادين، توضع فيها الساعات الكبيرة والتماثيل وأكشاك التليفون وأكشاك الموسيقى، عودة سوق العيد إلى ميدان الخمسة فوانيس، إعادة حفلة الساعة العاشرة صباح كل جمعة — بالمجان — في سينما رأس التين. تقليد استنته الأميرة فايقة، للأطفال الأعضاء في نادي مدرسة إبراهيم الأول. انتهى بسقوط الملك فاروق عن العرش. تعدد الحمامات إلى جانب الحمام الوحيد، الحالي، بشارع التتويج. بناء استاد في موضع الساحة الترابية، قبالة حديقة سراي رأس التين. الإذن للناس بدخول حديقة السراي، للراحة، والمذاكرة، كما في الزمان القديم، تقديم عروض موسيقية وغنائية وراقصة داخل أسوارها، للترفيه عن الأُسَر. عزف موسيقيِّين في فرقة ماهر الصاوي، أو المسيري، أو حمامة العطار، لمرضى مستشفى رأس التين، تخفيف آلامهم بالموسيقى.

وعد باستبدال أئمة جوامع الحي. لا يقتصر علم الإمام على القرآن والسنة والقياس واللغة العربية. يُضاف إليه علوم المحدثين، مثل التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلوم اللغويات وتحليل الخطاب والعلوم الطبيعية والكتابة على الكومبيوتر واستخدام الإنترنت.

تكلم عن مشروعات قوانين بحق العمل وحرية الاجتماع والرأي والمناقشات والتظاهر والإضراب والاعتصام، إباحة الأمن فيترك الناس بيوتهم مفتوحة، وتظل أبواب الدكاكين بلا مزاليج. رفع العقاب عن تعاطي المخدرات، للقضاء على الألم، أو للشفاء من مرض عضوي أو نفسي. شدَّد على حق المرأة التي يطول غياب زوجها في ركوب البحر، أن تُرضي جسدها. جعل أماكن للزواج العرفي، أو زواج المسيار، أو المتعة الوقتية بإشراف خبير اجتماعي وطبيب.

تبنَّى مشروعًا لإبحار سفن — يساهم فيها الصيادون — إلى أعالي البحار.

•••

جعل سامي بهاء الدين من شقة في بناية تُطل على ميدان أبي العباس مكتبًا يُدير منه حملته الانتخابية. يعقد الاجتماعات، ويستقبل أبناء الحي. قد يخرج إلى الشرفة لتحية المظاهرات التي تدعو لانتخابه، وإلقاء الكلمات المناسبة.

توالَت زياراته — وتعدَّدت — لمساجد الحي: أبي العباس والبوصيري وياقوت العرش ونصر الدين وطاهر بك وعبد الرحمن والشوربجي وعلي تمراز وتربانة. يكتب له موظفوه الأسماء. يزورها بالترتيب، ثم يُعيد القائمة من أولها. يصلي الجمعة، يطوف حول المقامات، يزور الأضرحة، يشاهد الجلوات والموالد وحلقات الذكر. يعتذر بأن نشاطه السياسي لم يجعل مواعيده منتظمة. حتى سرادق أحمد المسيري بشارع التتويج، دخله دقائق لتحية الجمهور، ثم انصرف معتذرًا بأن الفن مما يضيق عنه وقت السياسي. وكان يحتفظ في جيبه بزجاجة عطر صغيرة. إذا صافح أحدًا لجأ إلى شمِّها، أو جرى بها على أصابعه.

تناثرت الملصقات واللافتات — تحمل اسمه وشعاراته ووعوده — في مفارق الطرق، والتقاطعات، وعلى الجدران. السرادقات في الميادين تعلوها الأنوار والزينات، ويفترشها السجاد الأحمر، وتصطف فيها الكراسي المذهَّبة.

استضاف جلساء قعدة الحاج جودة هلال. أكلوا ما لم يتذوقوه من قبل. داروا دهشتهم من الفرقة التي عزفت بالقرب من مائدة الطعام.

فاجأ سكان شارع قبو الملاح بالبلقطرية بالجلوس على أحد مقاهيه.

عرف عن الشارع بيع البانجو والأقراص والهيروين والكوكايين وأدوية السعال والكحوليات والحشيش.

اخترق المقاهي والدكاكين الصغيرة والمستندين على الجدران، والمقتعدين الأرصفة، وباعة الحشيش والأفيون والروائح التي لا تغيب.

شك الناضورجية في بواعث دخوله الشارع، فيبادرونه — كما ألفوا — بالعداء. يعرفونه جيدًا. لم يتصوروا أنه يدخل الشارع للشراء. أحاط نفسه بما يُشبه مصدات الأمواج، لا يأذن لأحد أن يقفز من فوقها، ولا حتى أن يقترب منها.

رجَّحوا قدومه لدراسة ظروف قضية.

أهمل النظرات الرافضة، والمتسائلة. تحدث إلى مَن عرفه. شاركه الجلوس على طاولته.

لم تُثِر سامي بهاء الدين كعوب المسدسات أو المطاوي المطلة من الجيوب. حدس أنهم يطمئنون إليه، وإن لم يهملوا التوقع.

أدخلت الانتخابات في حياته مَن لم يكن يتصور أنهم يجلسون إليه، مَن تُضيف جرائمهم إلى احتمالات فوزه. يدافع عن تُهَم بالاتجار في المخدرات والمقامرة والنشل والقوادة والدعارة والتهريب والسرقة.

اجتذبت كلماته مَن أصاخوا السمع. تقاطروا نحوه، يسألونه، ويناقشونه. أرضاهم بفتواه أنه إذا كان القرآن قد حرَّم الخمر، فإنه لم يحرم الحشيش ولا أنواع المخدرات.

طرح ما كانوا يحرصون أن يظلَّ في صدورهم. العقاب ليس الحل الوحيد لكل الجرائم. الاتجار بالمخدرات تهمة عقابها الإعدام، أو السجن المؤبد. المحامي الشاطر يحل من حبل المشنقة، ويفتح أبواب السجن ليُخرج مَن أُدينوا بتُهَم ثابتة.

قال لنظرات الدهشة من حوله: إنها مسألة إجراءات، وهي مهمتي!

قال له رجل ميَّز نفسه بعباءة من الجوخ أسدلها على كتفَيه: شرطُنا لتأييدك أن ندفع التكاليف بدلًا منك.

ثم في نبرة مجاملة: هذا أقل واجب.

عُرف بجولات خليل الفحام في بحري. يسجل أسماء الجوامع والمساجد والزوايا والميادين والشوارع. تشكك في البداية. سعى إليه في قهوة المهدي اللبان والغضب في ملامحه.

تحدَّث الحفناوي بما أذهب قلقه.

أظهر بهاء الدين تأثره لما عرض الحفناوي أن يدعوَ له في جولاته المتمهلة داخل بحري. لمَّح بهاء الدين بما يعين الرجل على مضاعفة جهده، لكن الابتسامة المعتذرة، المؤدبة، دفعَته إلى تغيير دفة الحديث.

•••

لم يسترد بهاء الدين تأمين الترشيح.

اتهم معاونيه بإهمال الدعاية اللازمة. اكتفوا بابتزازه، وسرقة أمواله، ثم تركوا الناس لاختياراتهم أمام صناديق الانتخاب. لم يحاولوا التأثير في نفوسهم على نحو حقيقي.

•••

تعددت الروايات حول بواعث ابتعاد سامي بهاء الدين عن بحري، وانتقاله إلى البيت المطل على المينا الشرقية. هل هو سقوطه في الانتخابات؟ هل هو إخفاقه في استعادة تأمين الترشيح؟ هل عانى الفشل في الحصول على براءة للمعلم معاطي الرخاوي، التاجر بالبلقطرية؟

تكررت رواية الولد كاكا، فصدقها الناس.

ذات مساء، قاد سامي بهاء الدين سيارته بنفسه. تركها على ناصية السيالة. لم يحاول التلفت وهو يخترق الشوارع الضيقة إلى شارع الفرماني. يعرف أن الحادثة الصغيرة، المناقشة العابرة، التحية وردَّها، تتحول — بالشائعات — إلى فضيحة، تتناقلها الأفواه داخل البيوت، وعلى المقاهي، وفي المساجد والحلقة والأسواق.

استعاد اسم الفتاة من علية عشماوي.

قالت: فتنة.

– أنا أعرف أباها. أليس هو الصياد في بلانسات بدوي الحريري؟

– البنت لا تعرفك.

ثم في نبرة محرضة: إذا لم توافق على وجه القفص، فسيرحب غيرك!

سكت، حتى لا يُطيل مناقشته لنفسه.

اعتاد مكالماتها المتباعدة. تعرض عليه مَن ترى أنه سيدفع فيها ما تطلبه. غياب العذرية (العذرية مطلبه) يعوضه — قالت المرأة — افتقادها للتجربة. لم تكن تأذن بعلاقات داخل بيتها. يصحب الرجل مَن تدلُّه عليها إلى خارج البيت، أو ينتظرها أمام الباب الخارجي.

دفع باب البيت الموارب. طالعَته رائحة نفاذة، خليط من السمك المتعفن والبول والبراز.

تلمَّس طريقه — في الظلمة — إلى الطابق العلوي. أخفق في إضاءة النور. اكتفى بالضوء الشاحب عبر النافذة المفتوحة.

كتم — براحته — صرخةَ الفزع لرؤية الجسد النازف بالدم.

كانت عيناه قد أَلِفتا الظلمة وهو يهبط السلم المتآكل، يعروه التلفت، والخوف من أن يراه أحد.

•••

انظر: أحمد المسيري، بدوي الحريري، جودة هلال، حمامة العطار، خليل الفحام، شوقي أبو سليمان، علية عشماوي، فاروق، فتنة السعداوي شبانة، ماهر الصاوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤