سلامة حجازي

لم يتصور سكان حارة «بز أمه» أن الواقف في أول الحارة، بقامته النحيلة، وشاربه المقوس وعينَيه النفاذتين. استبدل البذلة والطربوش، بالجبة والقفطان والعمامة. يُطيل تأمل الأبواب المغلقة، والمواربة، والنوافذ المفتوحة، وتكوينات النشع والرطوبة على الجدران … لم يتصور سكان الحارة أن هذا الواقف هو الشيخ سلامة حجازي.

آخر زياراته إلى الإسكندرية قبل عامين. حضر احتفالًا بمناسبة مرور خمسة وعشرين عامًا في مهنة التمثيل. عاد إلى القاهرة في اليوم التالي. لم يجد وقتًا لزيارة بحري.

قال شوقي أبو سليمان: حسبنا أنك نسيت الحارة.

قال الشيخ: هل ينسى الإنسان أصله؟

تصور أنه بالابتعاد عن حارة بز أمه، وعن بحري، والإسكندرية، قد طوى صفحةً من حياته، وأنه سيبدأ صفحة جديدة في حياة مغايرة.

قال شوقي أبو سليمان: ملامحك لم تتبدل كثيرًا. الانقلاب في ملابسك!

قال جودة هلال: هل نقول الشيخ سلامة أم سلامة أفندي؟

– قل سلامة.

حتى تُرضي مَن أحبها مبادلته مشاعره، كان عليه أن يبدِّل ملابسه. هي من أسرة موسرة، أميل إلى التحرر. من الصعب أن ترضَى بالعمامة فوق رأس مَن يحبها!

•••

كان بحري — حتى منتصف القرن التاسع عشر — موطن العاملين في خدمة الحاكم، بالإضافة إلى الصيادين والملاحين وقاصدي أولياء الله. ربما لقرب الحي من سراي الوالي، ثم الخديو، فالسلطان، فالملك فيما بعد. كانت الميناء الغربية مهبط القادمين من الأقطار العربية. وكان القادم من السلوم، والمتجه إلى رشيد، يقضي أيامًا — تقصر أو تطول — حتى يجيء موعد إقلاع البلانس.

كان أهل بحري يؤدون الصلاة في زاوية سلامة، لأهازيج السحر، وإقامة أذكار الصوفية، وزاوية خطاب لصلاة النهار والجمعة. كانت دار حجازي بين الزاويتين، يقصدها أبناء بحري وعابرو السبيل من مريدي أولياء الحي. هي — على حد تعبير الريس إبراهيم حجازي — «مضيفة الفقير والقاصد، ودار الكرم والسماحة».

•••

سلامة إبراهيم حجازي.

انتقل أبوه — وهو طفل — من موطنه رشيد إلى الإسكندرية. أقام في بحري. ركب البحر ملاحًا في بلانس صيد. ثم اقتنى بلانسَين شراعيَّين، يحملان البضائع من رشيد إلى الإسكندرية، ثم إلى السلوم.

بعد أعوام عزوبة طويلة، فاجأ الريس إبراهيم حجازي أهل بحري بالزواج من بدوية من عرب السلوم، اسمها «سلومة»، على جانب وفير من الجمال. أثمر الزواج طفلًا ذكرًا، وُلد في ١٨٥٢م بدار أبيه برأس التين. سمَّياه «سلامة»، تيمُّنًا باسم الشيخ سلامة الرأس، شيخ الطريقة الرأسية.

لأن عمل الريس إبراهيم حجازي كان يتطلب كثرة الأسفار، فقد أناب صديقه محمد الكحلة وكيلًا عنه، فتظل الدار مفتوحة.

أُصيب الأب بالتهاب رئوي، ومات قبل أن يهجر سلامة أعوام الطفولة. ترك وراءه زوجَه وسلامة وأمه العجوز التي ما لبثت أن فارقت الحياة.

كانت سلومة تُعاني وضع النساء حينذاك، لا تعرف ركوب البحر، ولا الصيد، ولا التجارة. لم يكن أمامها سوى قبول الزواج من محمود الكحلة، هو وكيل الزوج الراحل، وأقربهم إلى نفسه وعمله.

أظهر الكحلة — بعد أشهر قليلة — سوءَ تصرُّفه. أبطل الاستضافة. أغلق باب الدار أمام المتصوفة ومريدي الريس إبراهيم حجازي. بدَّد تركة الريس إبراهيم حجازي. قسَا على الأم وطفلها.

استنكر شيخ الطريقة الرأسية ما حدث. أخذ الطفل سلامة من حضانة زوج أمه. ألحقه صبيًّا عند المعلم أحمد فراج الحلاق، في مواجهة زاويته بشارع الميدان. أفرد للأم بيتًا في حارة «بز أمه»، سماها دار سلامة. عُنيَ بإرسال الطفل سلامة — وإخوته من أمه — إلى كُتَّاب عبد الرحمن بن هرمز. أوصى به الشيخ رافع، ليحفظ القرآن على يديه — فترة الصباح — ويتعلم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب. يظل — بقية اليوم — في عمله بدكان الأسطى فراج.

حاول — في تلاوته للقرآن — أن يعبر عن الموسيقى الباطنة لآياته. يُدرك أن كلمات القرآن لا تنتسب إلى الشعر، ولا إلى السجع، ولا حتى إلى السرد كمألوف الكتابة النثرية.

قرن تلاوة القرآن بإنشاد المدائح النبوية، والقصائد الدينية، والتسابيح، والتواحيش، والمواويل.

•••

في «لسان العرب»: «نشد بمعنى عرَّف، ونشد الضالة، ينشدها نشدًا، ونِشدانًا أي طلبها وعرَّفها، وأنشدها عرَّفها. ويقال: نشدها وأنشدها ونشدانًا، إذا طلبتها فأنا ناشدها، ونشدها وأنشدها فأنا منشد». وقد بدأ الشيخ سلامة حجازي حياته منشدًا، ثم تحوَّل إلى الإنشاد السلطاني، فالغناء.

حين مات الشيخ الرأس، تولَّى سلامة حجازي رئاسةَ الطريقة وهو في الخامسة عشرة. لم يَعُد يحاكي الشيخ رافع في طريقة نطقه. بدَّل في كلمات الذكر وألحانه، حذف وأضاف. لما زاد الإقبال على ليالي الذكر، قسم سلامة الليالي على مساجد الحي وزواياه. تناوبت استضافة الليالي. كان سلامة يؤم المصلين في صلاة الفجر، فتكرر صعوده إلى مئذنة البوصيري لرفع الأذان. يُطيل في الأذان. ينطلق صوته في الفضاء بلا ميكروفون. حلاوة الصوت أتاحت له رفع الأذان من جامع البوصيري، ثم في جامع أبي العباس. إذا رفع الأذان قطع الذاكرون ذكرهم. يجتذبهم الصوت الملائكي، فيصمتون. تظل أجسادهم في اهتزازها، وتحلق المشاعر في أجواء علوية، كأن ملائكة السماء يتجاوبون مع التسابيح والأدعية والتهدجات والأهازيج وتواحيش رمضان.

وصف شوقي أبو سليمان صوتَه بأنه يتصل بالعرش الإلهي، ويتشبث بكرسي الرحمن، وروى غريب أبو النجا أنه رأى الشيخ يُهمل سلالم المئذنة الدائرية، ويصعد سلالم لا تُرى، يعلو — آخرها — فوق مئذنة الجامع.

قال الشيخ رافع عبيد: إنه يشغلني بأدائه الملحن عن تلاوتي للقرآن في الخلوة.

قال شوقي أبو سليمان: الأذان لتقول صدق الله العظيم، ثم تقوم للصلاة.

– حذَّرته كثيرًا من أن يؤديَ الأذان بهذا التنغيم.

– ما دام لم يبدل الكلمات أو يحوِّرها فلا لوم عليه.

أشاح الشيخ رافع بيده: إذا وافقنا على تلحين القرآن، فمن حق سلامة أن يُلحن الأذان!

حذَّر الشيخ جميل أبو نار إمام أبي العباس من أن يفتتن الناس بصوت سلامة حجازي في رفع الأذان. يشغلهم عن الأذان نفسه، فتحل المعصية.

زاد مريدو الطريقة الرأسية، لحسن قيادة سلامة حجازي لليالي الذكر، ولجمال صوته في الإنشاد، ورفع الأذان، وما قبله من تسابيح.

•••

البداية، الأرضية: لا إله إلا الله. التدرُّج إلى مقام الراست، فالدوكاه، فالسيكاه، فالجهار كاه، فالحجاز، فالرهاوي، فالكرد، فالبياتي، فالصبا. أنغام المنشد تتتابع في التنقل بين المقامات. الإنشاد صوفي، في مناسبات الحج، وليلة الهجرة، وليلة المولد النبوي، وليلة المعراج، وليلة النصف من شعبان:

إلهي توسلنا بجاه محمد
نبيك، وهو السيد المتواضع
أنِلْنا مع الأحباء رؤيتك
حتى إليها قلوب الأصفياء تسارع

ينتهي الإنشاد إلى حيث تتردد الاستغاثة: أغِثْنا، أدرِكْنا، يا رسول الله.

يعلو صوت سلامة حجازي بالموال. النغمة نفسها، لا تتبدل. يندمج الذاكرون في الحركة، وفي إنشاد الأبيات. يغنِّي بعدها القصائد الصوفية، محمَّلة بالتوسُّل والحب والهيام.

قبل أن ينتقل إلى إنشاد قصائد الذكر، ناقش الأمر بينه وبين نفسه. يُغمض عينيه. يتأمل موسيقى تلاوة القرآن. يتشرَّبها. تتملَّكه حال الوجد، تتسلل بالنشوة إلى أطرافه. يحاول — في خلواته إلى نفسه — محاكاة ما حفظه، وطريقة الأداء.

تعلَّم قراءات نافع وابن كثير وحمزة وعاصم وأبي عمرو ويعقوب وابن عامر وأبي جعفر وخلف. حفظ القراءات السبع الأولى أعوامًا، ثم أضاف إليها القراءات الأخرى.

سنُّه الصغيرة لم تكن تُتيح له المشاركة في حلقات الذكر. يكتفي بالفرجة، ومحاولة تقليد الإنشاد، وصوت السلامية، وحركات الرءوس والأيدي. ثم ضمَّه المنشد الشيخ كامل الحريري — بعد أن أعجبه صوته — إلى بطانته.

سلوا حمرة الخدَّين عن مهجة الصب
ودر ثناياكم عن المدمع الصب
ولا تُنكروا لَحْظ العيون، فإنه
لَسيف إلى قلبي وسحر إلى لبي
بعدتم عن العينين فازداد حبُّكم
فأنتم أحبائي على البعد والقرب

•••

أعاتب روحي في هواكم فإنها
لأبعد شيء في الغرام عن القلب
وأسأل قلبي: أي ذنب جنيته
فلم يعترف قلبي بشيء سوى الحب
فإن كان ذنبي شدة الحب عندكم
سألتكم بالله لا تغفروا ذنبي

•••

وكنت خليًّا أعزل الناس في الهوى
فأصبحت ولهانًا وأمري إلى ربي
فو الله ما أدري أَروحي ألومها
على الحب أم عيني القريحة أم قلبي
فإن لمت قلبي قال لي العين أبصرت
وإن لمت عيني قالت الذنب للقلب
فقلبي وعيني في دَمِي قد تشاركا
فيا رب كن عوني على العين والقلب
ويا رب لا تحرم محبًّا حبيبه
ويا رب لا تحكم على الناس بالحب

بدأت موهبة سلامة حجازي في التجلي. رتَّل آيات القرآن في مساجد الحي وبيوت الأسر الكبيرة. ترك صالون الأسطى فراج. اقتصر عمله على تلاوة القرآن والإنشاد.

داوم على السماع — منتشيًا — في البوصيري، واظب عليه. أعطى الألحان إصغاءه حيث يكون. صار السماع هو مصدر الوجد والجذب عنده. قدَّر أن حبه القديم للموسيقى هو الباعث لحرصه على السماع.

أتقن أداء القصائد الدينية والابتهالات والتسابيح والأوراد والأحزاب والذكر ورفع الأذان والأدعية والتوشيحات والتسليم وقت السحر والتواحيش والتلبية والتمجيد والتهليل وتكبيرات العيدين والموالد.

طلب الشيخ أحمد الياسرجي — أهم المنشدين في تلك الفترة — أن يتوقف سلامة عن الغناء، ويجتهد في تقوية قرار صوته. لاحظ رقة الصوت، وارتفاعه، وخلوه من القرار.

تتلمذ سلامة على أيدي الكثير من المنشدين: كامل الحريري، سلامة الرأس، أحمد الياسرجي، خليل محرم، وغيرهم. تعلَّم أصول فن الإنشاد. لم يترك مجالًا موسيقيًّا — عند العرب — دون أن يتعلمه: الأهازيج، والحداء، وأغنيات الحرب، والزواج، والنواح، والأعياد، والمواسم، وقصائد المديح، ومنظومات الأدعية، والأوراد، والأحزاب، والتسابيح، والابتهالات.

ظل الشيخ سلامة على عادته في رفع أذان الفجر من جوامع بحري، وإنشاد التسابيح، والابتهالات، والتمجيد، بالإضافة إلى التواحيش في الليالي العشر الأخيرة من رمضان: لا أوحش الله منك يا شهر الصيام، منذ الإمساك حتى رفع أذان الفجر:

شهر الصيام مفضل تفضيلا
نويت من بعد المنام رحيلا
قد كنت شهرًا طيبًا ومباركًا
ومبشرًا بالعفو من مولانا
بالله يا شهر الهنا ما تنسانا
لا أوحش الرحمن منك

لما دمر الأسطول الإنجليزي الإسكندرية، ودخلت قوات الإنجليز المدينة في ١٨٨٢م، تعرَّف أهل بحري — للمرة الأولى — على البكباشي حمدي درويش.

في العام نفسه، سافر سلامة حجازي إلى رشيد. عمل — في جامع المدينة — مؤذنًا، وقارئًا للقرآن، ومنشدًا للمدائح النبوية.

•••

هل الغناء حرام أم حلال؟

تعددت الآراء ما بين مُبيح للغناء، ومحرِّم له. استندت كلُّ الآراء على آيات من القرآن، وأحاديث نبوية، وفتاوى السابقين.

زادت حيرةُ سلامة بين المشايخ. مَن يُبيح الغناء، ومن يرفضه. مَن يعتبره أمرًا مشروعًا ومستحبًّا، ومن يجد فيه ما يخالف الشرع، ويحضُّ على المعاصي. تستشهد الاختلافات (تزيد من حيرته) بأحاديث الرسول ، وأقوال الصحابة والأولياء رضي الله عنهم.

أقلقه ما رواه الشيخ رزق فتح الله إمام جامع البوصيري، عن نهي مالك بن أنس عن الغناء، وعن استماعه، وأن الموسيقى والغناء من الملاهي التي لا تليق بالمروءة، واعتبار أبي حنيفة الغناء من الذنوب، واعتبار أقطاب آخرين أن الغناء بدعة تُخرج عن حدود الشرع، وتحرِّض على ما لا ينبغي فعله، وأنه يُلهي الناس عن سماع آيات الذكر، الغناء أشبه بالخمر والقمار والحرير، كلُّها حرام يجب الإعراض عنه، أقلقه ما نقله الشيخ عن الإمام ابن حنبل أن الغناء يُنبت النفاق في القلب، وقوله عن الإمام الشافعي، إن الرجل إذا داوم على سماع الغناء، رُدَّت شهادته، وبطلت عدالته. داخلَه أملٌ في قول الشيخ عن سيدي أحمد الرفاعي إن سماع الألحان والأشعار يوفر الرغبة في القيام بأوامر الحق تعالى، ويدفع المستمع إلى التحرر من غلظة القلب وقسوته، ومن زلات النفس وشهواتها. أضاف الشيخ قول الإمام الغزالي: إن سماع الصوت الطيب حلال بالنص والقياس. وقال الشيخ نعمان حبَّة: إذا كان الغناء من أجل اللهو والتسلية ومتعة القلب، فهو جفاء وخروج عن حدود الشرع. استراحت نفسه لما أضاف الشيخ عن سيدي الشاذلي قوله إن السماع بعيدًا عن اللهو وتحريك الشهوات ليس مكروهًا. الصوت الجميل ليس حرامًا في ذاته. الحرام إذا كان تعبيرًا عن محرم، أو إلهاءً عن واجب ديني. لا بأس من الإنشاد الديني وأغنيات الحج والغزو والمناسبات كالختان وعقد القران والزفاف.

الشيخ مجاهد كريشة أباح السماع بالأدوات الموسيقية، إن لم يكن هذا السماع سبيلًا للارتداد، ولا منتهبًا بالعقل للسير في طريق الحرام.

أخذ سلامة قرار المواصلة في اللحظة التالية لقول الشيخ: قطبنا الشاذلي لا يحرم سماع الغناء الذي لا يخرج عن آداب الدين.

وربَّت كتفه في وُد: لا بأس من اشتغالك بالغناء، ما دام لا يُثير الآفات المستكنة، ولا يهيِّج الشهوات.

اطمأن إلى صحة سماع الأصوات الجميلة، والنغم الطيب. الغناء يخفف عن الإنسان ما يُرهق حياته. القلوب إذا أُكرهت عميت، ترويحها يُعينها على الجد والإخلاص في الطاعات، وإن ساوى بين النغمة في الصوت، ومعاني الكلمات. حرم السماع على مَن لم يعرف معانيَه.

أجاد سلامة حجازي سماع الموسيقى الأندلسية والفارسية والتركية. فرَّق بين النغمات.

كان الغناء سمة العصر. حتى الأُسَر الفقيرة كانت تحرص — في حفلاتها — أن تدعوَ مغنيًا لإحياء الصهبة.

تعلَّم السلم الموسيقي، ثم العزف على العود: الإمساك بالعود، إصلاح الوتر، عمل الفروقات — التي تُهملها أصابعه — بصوته.

تحوَّل من التواحيش والإنشاد وقصائد مدح الرسول، إلى الغناء على التخت. ثم اتجه — فيما بعد — إلى فن الغناء المسرحي.

•••

في ١٨٨٣م، عاد سلامة حجازي إلى الإسكندرية. اختطَّ طريقًا مغايرة لأغنيات تلك الفترة. لم يشغله كثرة منشدي الموشحات، ولا كثرة نجوم الفترة في التلحين والغناء: محمد البوشي، درويش الحريري، حسنين المكوجي، عبده الحامولي، محمود الحصري، محمد الربع، خليل القباني، الشيخ المسلوب، محمد عثمان، عبد العزيز البولاقي، عبد الحميد الجزمجي، وغيرهم.

لم يفتتح ليلته بعبارة «يا ليل» كما اعتاد مطربو الفترة. يبدؤها بتوشيح، أو مذهب من ابتداعه. لترتيله وإنشاده صدًى واضحٌ في نفوسِ مَن استمع إليه. استجاب له الصوفية والنساك والزهاد والذاكرون والفقراء.

صار يتنفس الموسيقى والطرب. مارس الغناء في الليالي والأفراح والموالد. ذاعت ألحانه، تغنَّى بها الناس في البيوت والمقاهي والساحات وحفلات الختان والزفاف.

•••

طال تفكير سلامة في العمل بالتمثيل.

التعبير المرادف للممثل هو «المشخصاتي». هو لا يقبل أن يكون مشخصاتيًّا. حين عرض عليه الخياط أن يُغني مرة، كل أسبوع، في مسرحه، وافق سلامة، لأنه سيُغني — بمفرده، وبدون أداء تمثيلي — بين فصول المسرحية، وشهد سرادق الخياط بميدان المنشية زحامًا لم تشهده الإسكندرية من قبل.

سافر سلامة حجازي — بعد فترة قصيرة — إلى القاهرة. غنَّى، ولحَّن. تعددت رحلاته. يُحيي الحفلات الغنائية للعائلات الشهيرة في مجتمع القاهرة، ثم يعود إلى مدينته.

ذاع اسمه في القاهرة.

تعرَّف إلى مطرب الخديو عبده الحامولي. اشتركا في تقديم حفل لمناسبة زواج إحدى كريمات الخديو. كان من فقرات الحفل مسرحية بعنوان «السر المكنون». بدَّل سلامة — لرؤيتها — نظرتَه إلى التمثيل. لم يجد فيه ما يتنافى مع الدين والأخلاق. تحدَّث إلى الحامولي في فكرة الغناء والتمثيل على المسرح. وافق الحامولي على الفكرة، مجال جديد للمطربين، لا بأس أن يدخلوه.

•••

أطال سلامة النقاش بينه وبين نفسه. يسافر إلى القاهرة، فيستقر فيها، أو لا يسافر؟ ينضم إلى جوقة الحداد والقرداحي ممثلًا إلى جانب الغناء؟

ودَّع بحري — ذات صباح — ثم استقل حنطورًا إلى محطة السكة الحديد.

قالت له أمه: إذا سافرت إلى القاهرة فلن تحسَّ من ألم الغربة ما أحسُّه.

تصعَّبت من بين أسنانها المثرمة: لن تطيب لي الحياة في الإسكندرية بدونك.

هجر سلامة التخت. انضم إلى فرقة القرداحي، ثم إلى فرقتَي القباني وإسكندر فرح.

عَمِل ممثلًا ومطربًا في فرقة إسكندر فرح. تعاقد على ثلاثين جنيهًا كل شهر، أعلى أجر لمطرب أو ممثل حينذاك.

كانت الفرقة تقدِّم عروضها في المسرح الوطني (مكان سينما أولمبيا بشارع عبد العزيز). استمرت عضوية سلامة حجازي في الفرقة من ١٨٨٩م إلى ١٩٠٥م. قدَّم أثناءها ما يقرب من أربعين مسرحية. صارت الأغنية جزءًا من المسرحية، تتصل بها، وتعبِّر عن أحداثها. نقلها سلامة من التخت إلى خشبة المسرح.

بعد انفصال سلامة حجازي عن فرقة إسكندر فرح، أنشأ فرقةً مسرحية. كانت «صلاح الدين الأيوبي» أولى مسرحيات الفرقة الوليدة. قُدمت في صالة سانتي في الناحية القبلية من حديقة الأزبكية.

حقَّق العرضُ نجاحًا جماهيريًّا، لم يتوقعه الفنان. استمر أربعين يومًا بلا توقف. وحققت المسرحية الثانية «اليتيمتين» نجاحًا مماثلًا. أهدَته الممثلة الفرنسية سارة برنار عِقْدها، دليلًا على إعجابها.

حاول إسكندر فرح — بعد انفصال سلامة حجازي عن فرقته — أن يدعمها، فلا تنفرط. ضمَّ إليها الفنانين عزيز عيد، وأحمد محرم، ومحمود كامل، وأحمد الشامي، وأمين عطا الله، وألمظ ستاتي، وغيرهم. ظلت الخسائر على تفاقمها، حتى حلَّ إسكندر فرح فرقته، واكتفى بتأجير مسرحه للفرق الأخرى.

حلَّت فرقة إسكندر فرح، فاقتصرت الفرق الفنية في القاهرة على فرقة سلامة حجازي.

زاد على عروضه المسرحية أسطوانات لشركة أوديون. ثم افتتح — في ١٩٠٦م — دارَ التمثيل العربي بشارع الباب البحري. قدَّم فيها مسرحيات: السر المغطى، بائعة الخبز، صاحبة الشرف، الحرم الخفي، تسبا، عواطف البنين، اللص الشريف، مطامع النساء، ثارات العرب، وغيرها.

يبدأ كل حفلة بقصيدة مطلعها:

مرحبًا بالسادة النجب
سادة العرفان والأدب

يختتم القصيدة بالقول:

فلتعش مصر ونهضتها
وليعش تمثيلنا العربي

تنقَّل بين القاهرة والعديد من المدن العربية. في رحلته الشامية ١٩٠٨م، شكا من تعبٍ وفتور يستوليان على جسده. عُولج بالأشعة، حتى زال إحساسه بالتعب. وفي أثناء جلوسه على مقهى مع أصدقاء سوريِّين، سقط رأسه على صدره، وسال اللعاب من فمه.

قال للنظرات الخائفة من حوله: أظن أني مريض، جسمي ثقيل، لا أستطيع تحريكه.

ثم علا صوته صارخًا: سأموت. أريد طبيبًا!

دخل في غيبوبة، استمرت ثلاثة أسابيع. ثم أفاق، وتحرَّك جسده، ما عدا اليد والساق.

عادت الفرقة إلى مصر، وظل سلامة حجازي في الشام بضعة أشهر، لاستكمال العلاج. حين عاد إلى بيته في بركة الفيل، ظل طريحَ الفراش ما يقرب من العامين، أنفق خلالهما على مرضه كلَّ ما ادخره. وبعث رسالة إلى صديقه الصيدلي محمد فاضل بدمنهور، يشكو له انفضاض أقرب الناس عنه. حتى زوجته هجرت البيت.

موَّل عبد الرازق عنايت بك جوق الشيخ سلامة، فاستأنف عروضه. اقتصر الشيخ على تلحين بعض الفقرات الغنائية. ثم حاول أن يؤديَ بعض الأدوار التي تُخفي ظروفه الصحية.

سافر سلامة في رحلة طويلة ١٩١٤م إلى تونس وطرابلس ونابولي. لم يكن قد استرد صحته بعد.

•••

في نهاية ١٩١٤م تكوَّن جوق جورج أبيض وسلامة حجازي. وجد سلامة في قيام جورج بالأدوار التمثيلية ما يُغنيه عن الحركة فوق خشبة المسرح، فلا يبين ما بقدمه من عرج. انضم إلى الفرقة عددٌ من الممثلين الهواة: زكي طليمات، ألمظ، صالحة قاصين، محمود رضا، فؤاد سليم، حسن ثابت، سرينا إبراهيم، ماري إبراهيم، عباس فارس، حسن فائق، إبريز ستاني، نظلة مزراحي.

لم تكن الفرقة تدفع للممثلين أجرًا ما. كان العمل بالمساهمة. لكل ممثل عددٌ من الأسهم، يوزع الإيراد بنسبة المساهمات.

تنقَّلت الفرقة بين مسرح الكورسال، وتياترو دي باري وتياترو عباس، والكوزموجراف، وأخيرًا مسرح برنتانيا. ظلت تعمل فيه حتى صيف ١٩١٥م، ثم نقلت الفرقة عروضها إلى عواصم الأقاليم. وفي أواخر ١٩١٥م، انفصل سلامة حجازي وجورج أبيض بلا أسباب معلنة. حلَّت — بدلًا من جوقهما — فِرَق أخرى جديدة.

•••

في ١٩١٦م، تحسنت صحة سلامة حجازي. لم يَعُد يشكو مرضًا ولا ألمًا، وإن ظلت آثار العرج الخفيف في قدمه اليسرى. أعاد الروح إلى فرقته. شاهد السلطان فؤاد إحدى مسرحياته في دار الأوبرا. ثم قامت الفرقة ١٩١٧م برحلة في عواصم الوجه القبلي حتى أسوان، ثم قامت الفرقة برحلة مقابلة في عواصم الوجه البحري.

قدَّم أربع مسرحيات جديدة على مسرح الكورسال، عرض آخرها مساء الأحد ٣٠ سبتمبر ١٩١٧م. وفي صباح الأربعاء الثالث من أكتوبر، اعتذر الشيخ عن عدم مرافقة الفرقة إلى المنصورة. وعد بأن يلحق بها بعد أن يزول ما برأسه من صداع، لكنه سقط على الأرض في بيته.

تبيَّن الأطباء أنه أسلم الروح.

•••

مات سلامة حجازي بعد أن قدَّم آخر مسرحياته «عظة الملوك»، وقبل أن يُتمَّ رواية «فاوست»، في العام الذي تولَّى فيه السلطان فؤاد عرشَ مصر، وتخرَّج الشيخ محمود شلتوت في معهد الإسكندرية الديني، وعاد سوق العيد إلى موضعه في ميدان الخمسة فوانيس، وشق الشارع الجديد من المينا الشرقية إلى باب الجمرك الرئيس، وأُعيد تجديد مقام سيدي كظمان وكسوته بالجوخ الأخضر، وغنَّت منيرة المهدية من لحن داود حسني: عصفوري يا امه عصفوري … لا العب وأوري له أموري، وتألفت المدرسة الحديثة من أحمد خيري سعيد، ومحمود طاهر لاشين، وحسين فوزي، وسعيد عبده، ومحمود عزي، وآخرين، واقتربت الحرب العالمية الأولى من نهايتها، وصدر وعدُ بلفور، وقامت الثورة السوفييتية في روسيا، واكتشف أينشتين نظرية النسبية، وعانت الإسكندرية طقسًا متقلبًا، وكثر تردُّد محمود سعيد على بحري للبحث عن تكوينات لوحاته، وهدَّد البكباشي حمدي درويش عمالَ الميناء بضرب أية محاولة للإضراب أو التظاهر.

•••

انظر: أبو الحسن الشاذلي، حمدي درويش، ماهر الصاوي، شوقي أبو سليمان، رافع عبيد، محمود سعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤