سيد حلال عليه

لا أحد يعرف: هل اسم «حلال عليه» هو اسم الأب أو الجد، أو أنه اختار الاسم لنفسه، أو أنه أطلق عليه؟

مجرد نطق الجملة من الكلمتين تعني الاسم وليس التعبير الذي نتداوله في عمليات البيع والشراء.

رُوي أنه سُمي سيد حلال عليه لإلحاح الشيخ رافع عبيد على أبيه أن يُلحقَه بالكتَّاب. يُفيده حفظ القرآن في احتراف تلاوته. ويُفيده تعلُّم القراءة والكتابة في التوظُّف، أو مراجعة حسابات أبيه في دكان البقالة بشارع رأس التين. الرقص في الموالد والأفراح طريق مسدودة لا مستقبل لها.

لاحظ الأب ما يربحه سيد من تنقُّله بين السرادقات ومقدمة الموالد وحفلات الزفاف والختان.

تحسَّس شاربه بإصبعه: حلال عليه!

أَلِف الناس — من يومها — ترديدَ الاسم. هو الاسم الذي يُعرف به.

لما مات أبوه، وقف سيد وراء الواجهة الزجاجية المطلة على شارع رأس التين، يعوض ضيق مساحة الدكان بصفِّ البضاعة على الرصيف. الصفوف الهرمية من عُلَب التونة والصابون، وأقراص الجبن التركي، وبراميل المخللات، وصناديق الرنجة، وحباش أم الخلول: الطحينة والليمون والزيت، وجريد أرغفة الخبز، والأرض المغطاة بالمياه الراكدة.

أضاف العطارة إلى بضاعة الدكان: الزعتر، الكمون، الكزبرة، القرفة، ورق اللوري، ورق الأثل، لسان العصفر، الشيح، النعناع، المستكة، الحبهان، الزنجبيل، الفلفل الحار، الفلفل الأسود، الكركديه، الحنة، الحلبة، الخروب، التمر هندي، العرقسوس، الحنظل، لباب الصبار.

يتبين — في وقفته خلف الواجهة الزجاجية — مواكب الصوفية القادمة — عبر الموازيني والحجاري — من ميدان المساجد: الزحام والأعلام والدفوف والطبول والإنشاد وأولاد عبد السلام وأفعال الخوارق.

يأخذ موضعه في مقدمة الجلوة، يرتدي السروال الفضفاض، والصديري المزركش، والحذاء الكاوتش. يتلاعب — فوق رأسه — بالعصا الطويلة، ثم يُرسل العصا في الهواء، ويتلقاها على جبهته، أو على أرنبة أنفه. يلتقط الكرسي الخيزران بأسنانه، يرفعه، يرقص ويداه تُحلقان في الهواء. يقذف السكين في الفراغ، ويتلقفه. يصحبه عازف، أو زامر، أو ضارب على الطبلة. تمتزج حركاتُه بالعصا، فوق رأسه وجبهته وذقنه وأنفه وكتفَيه، تطويحه لها، والتقاطها، بعزف المزمار وإيقاع الطبلة والنقرزان. ربما رافق رقصاته شقلباظ، يؤدي حركات بهلوانية، يطير في الهواء، ينثني حول نفسه.

قد ينضم إلى مواكب الزفاف أو الختان القادمة في امتداد رأس التين، ومن ناحية صفر باشا وأبو وردة، أو من الناحية المقابلة في شارع الميدان، وشارع فرنسا، والشوارع المتفرعة. يُنهي الموكب لفَّاته السبع حول الدائرة الرخامية أوسط الميدان: اقرءوا الفاتحة لأبي العباس … يا اسكندرية يا أجدع ناس.

يحرص أن يكون في المقدمة. لا ينتظر أجرًا، ولا يطلبه. البقالة مهنته. ما عدا ذلك فلإرضاء النفس. يُعيد إلى الأذهان أيام الفتوات.

يتأمل مظاهرات طلبة المعهد الديني القادمة من المسافرخانة. الجبب والقفاطين والعمائم والهتافات والأيدي الغاضبة. تخترق الشوارع الصغيرة إلى رأس التين. تميل إلى اليسار، متجهة إلى قلب المدينة. يُدرك الطلبة — مثلما يُدرك المصلون في أبي العباس — أن مظاهراتهم من الميدان تنتهي عند الطرف الخارجي لحديقة رأس التين. هو آخر ما يمكن بلوغه.

تمضي مظاهرات المصلين من الأباصيري والتتويج والموازيني، أو تتجه ناحية طريق الكورنيش. امتداده بلا تقاطعات. يجتذب المتظاهرين من الشوارع الفرعية. يظل في وقفته وراء الواجهة الزجاجية. يصعب أن يتصدر المظاهرة، أو يتلاعب بالعصا والسكين، وسط زحام المتظاهرين وهتافاتهم.

في مناسبات عودة الزعماء السياسيِّين من الخارج، كان سيد حلال عليه يُسدل الشيش الحديد على الواجهة الزجاجية. يمضي — باللهفة — إلى باب رقم واحد. يُفسح له الواقفون دائرة، يتلاعب فيها بالعصا والسكين. يُرادفها تمازج صوت المزمار وإيقاع النقرزان ودقات الطبلة والدف.

يرتدي الصديري الأسود ذا الياقة العالية. يعوج على رأسه الطاقية الشبيكة، أو الطربوش الأحمر بلا بطانة داخلية. ربما لفَّ على رأسه لاسة حريرية كالعمامة، تبرق الأسنان الذهبية من بين شفتَيه، ويبدو الشارب الرفيع خطًّا يفصل بين الأنف والشفة.

حين تترامى صافرات البواخر من الميناء، وتتعالى الصيحات والهتافات، يُدرك أن الزعيم أطل من أعلى الباخرة. تذوب الدائرة في اندفاع الناس نحو الرصيف، أسفل الباخرة. ذلك ما فعله سيد حلال في استقبال سعد زغلول ومصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين، وأبطال الرياضة الفائزين في بطولات العالم والدورات الأولمبية.

•••

ينسب إلى نفسه اختراع رقصات الصهبة:

صلاة النبي … صلاة النبي
مالحة في عين اللي مايصلي ع النبي
الحارس الله والصلاة على النبي
العروسة بنت حارتنا وعريسها فنجري
يا ما انت صغير … حلو يا عريس

التلاعب بالعصا، قذف السكين في الهواء، والتقاطه، قد يضع السكين بين إصبعَيه، يدور بها حولهما دون أن يُصيبَه جرح، السير — بخطوات راقصة — في مقدمة الجلوات وحفلات الختان وحفلات الزفاف. هو أول مَن بدأ ذلك كلَّه، أول مَن أضافه إلى الصهبة فاكتسبَت معناها. لم تَعُد مجرد تسمية.

قد يساعده رجل يرتدي زيًّا يتعمد به الإضحاك. الوجه مصبوغ بالألوان، الزر يتلوَّى فوق العمامة الحمراء، الطبلة تحت الإبط، اليد تنقر عليها في ضربات متلاحقة، حركات الجسد وتأوداته لا تنتهي.

•••

لم تكن الفتونة في باله، ولا حاول الدخول في معارك من أي نوع. الفراغ هو الخصم الذي يوجِّه إليه سكاكينه. يقذف بها، ويستعيدها في اتجاهها إلى الأرض. تأخذ أشكال الدوائر والمثلثات والمربعات. يضع قناع الجدية، ويقذف بها إلى هدف غير مرئي.

قال له حجازي أيوب: ما تفعله ألعاب مهرجين لا معنى لها.

وأظهر التصعب: ربما قتلت مسكينًا بسكينك.

•••

لكي يظلَّ في عافية، كان يتعاطى على الريق وصفةً عشبية، يُعِدها له الحاج جودة هلال. يأكل — لتقوية جسده — كميات من الفلفل الأبيض، وبذر أبو النوم، وبذر الفجل، وعرق الدهب والحبهان والزنجبيل والعسل الأبيض. يَثِق بتأثيرها في عافية البدن، وسهولة الحركة. اليود مفيد لصحة الإنسان. يحرص أن يضع ثلاث نقط من صبغة اليود في فنجان صغير. يحذِّر من أكل السمك والبيض في وقت واحد. يُورث وجع الطحال والرياح في رأس المعدة. وكان يتلاعب بالعصا.

•••

القرد هي التسمية التي أطلقها عليه أحمد المسيري، ليس للشبه الجسدي، وإنما لإجادته الرقص، واللعب بالعصا، ومحاكاة ما يصنعه الحواة.

حين عرض عليه المسيري أن يشارك في سرادق العيد، اشترط أن تنفصل فقرته الراقصة عن العرض الجماعي، لا ينتظر حتى يُغني مع أفراد الفرقة: يا اللي زرعتوا البرتقان.

قال المسيري: نحن لا نقبل الشروط المسبقة، إن شئت خصِّص لنفسك مسرحًا!

رفض سيد أن يكون أقل مكانة من الحاوي. يُخرج من فمه شريطًا من المناديل الملونة، ومن جيوبه حمائمَ وأرانبَ ونقودًا، ويفاجئ المشاهدين بما لم يتوقعوه.

رفَّت على شفتَيه ابتسامةُ زهو: قد يتابع أبناء بحري فقرة الحاوي، لكنهم يحبون رقصتي!

كان يُجيد الكلام من بطنه. لا يُحرك شفتَيه، ولا يعبِّر بيديه عن معنى الكلمات، دلالة أنه لم ينطق بها. يظن محدِّثُه أن الكلام من موضع قريب، لا يتبيَّنه. يُصيخ سمعه، يحاول التعرف على مصدر الصوت، لكن الصوت يلحقه بما يثق أنه موضع آخر. يبدِّل إرهاف السمع حتى يُدركَه الملل أو اليأس. ربما ظن البعض أنه يتعامل مع الأرواح، أو الكائنات التي لا تُرى. هي التي تُصدر الأصوات. ربما أحدث الوهم بأن شيطانًا في بطنه هو الذي يعلو صوته بالحكايات والمداعبات.

يمدُّ يده في الجراب الجلدي، يأخذ ما به من الحصى، يدفع بها إلى فمه، واحدة، واحدة، حتى يتكور خداه. يبصق الحصوات واحدة، واحدة، لكنها تبدو للمشاهد كرات صغيرة، ملونة. تتمدد المرأة ذات المايوه على طاولة خشبية، يُغطيها سيد بملاءة بيضاء. يسحب الغطاء. يبدو في موضعها رجل. يكرر سيد الفعل، حتى تنهض المرأة، وتتجه بالتحية إلى الجمهور.

يُدرك المسيري أن سيد حلال عليه يلجأ إلى الخفة والمهارة فيما يفعله. لا سحر، ولا ما يخالف الطبيعة، يُجيد تحويل المشاهدين، فلا يكتشفون الحِيَل.

•••

لا أحد يدري تمامًا متى ولا كيف انسحب سيد حلال عليه من حياة الناس. انكفأ على حياته الخاصة، لا يزور ولا يُزار، لا يغادر بيته إلا لضرورة.

ربما أدار الفونوغراف على أغنيات لسيد درويش، ومنيرة المهدية، وأم كلثوم، وعبد الوهاب، ونادرة. يكتفي بهزة الرأس للأصدقاء على قهوة الزردوني دون أن يميل للجلوس عليها.

لم يَعُد لديه ما يتطلع إليه. عاش في ذكريات الماضي.

•••

انظر: أحمد المسيري، حجازي أيوب، رافع عبيد، سيد درويش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤