سيسبان

يُروى أن الأرض كانت — قبل آدم — مسكونة بنوع من المخلوقات العاقلة المكلفة، وأنهم أفسدوا فيها، وأسخطوا الله، فنفاهم منها إلى الأماكن النائية، أو المهجورة، الخربة، أو استأصلهم تمامًا، وعمَّر الأرض بذرية آدم، واستخلفهم فيها.

مخلوقات العالم الأخرى تُشبه البشر في كل طرق حياتها، بل إنها تتزاوج — أحيانًا — مع بني الإنسان، لكنها لا تتخذ — في الأغلب — سمة البشر، بل تتخذ أشكالًا مختلفة، مثل الثعابين والعقارب والأسود والذئاب والقطط. وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: نوع يسكن الأرض، وآخر يسكن البحر، ونوع ثالث يسكن الهواء. الأنواع الثلاثة إما ملائكةٌ خُلقت من النور، أو جنٌّ خُلقت من النار، أو شياطين هي — في الأصل — من الجن العاصين.

كانت كودية الزار سيسبان تُدرك أنها تُداوي مرضاها من تسلُّط الجن عليهم، تلبُّسهم لهم.

في حضرة الزار يحل الأسياد مكان العفاريت التي تلبس أجساد النساء. أهملت سيسبان ما رواه لها زوراها من قول الشيخ جميل أبي نار إمام جامع أبي العباس، إن الخضر له فضله في طرد الجن الذين يقصدون الناس بأذاهم. يُخرجهم — بلا تعاويذ ولا دقات دفوف أو بخور — من الأجساد التي تلبسونها.

قالت: للشيخ شغله … لا شأن له بشغلنا!

تعيش في عالمها المفعم بالجن، والشياطين، والأرواح، والأطياف، والأشباح، والبخور، والأنياب، والأذناب، والأظافر، والمخالب، والأظلاف، والأتر، والمريوحة، والرُّقى، والتعاويذ، والأدعية، والاستخارة، والشبشبة، ونحر الذبائح، والبخور، وصنع الأحجبة، وإيقاد الشموع، والوعد بالنذور، والأسوار، والخلاخيل، والأطواق، والخواتم، والعبد الحبشي، والعبدة الحبشية، والعفاريت، والأرواح، والدفوف، والطبول.

تعلَّمت من المعارف ما يُتيح لها إبعادَ الجن والأرواح الشريرة عن المرضى، وحماية البيوت من أذيتهم.

عالمها، أدواتها، القراءات والأناشيد والصراخ وذبح النذور وشرب دمائها، والمبخرة النحاسية والشموع والشمعدانات والسكر والعسل والورود والفطائر والحلوى والصابون والظلمة والضوء. ترفض وجود الذكور — حتى الأولاد الصغار — في حضرة الزار.

تحرص سيسبان أن تجلس على الأرض. ترفض أن تكون النسوة — في الجلسة — أعلى منها. ذلك ما يشترطه احترام أهل العوالم السفلية. الشياطين والمردة والعفاريت والجان والكائنات غير البشرية. تتناثر — من حولها — حبات قمح، وعظام حيوان، وأوراق مهترئة، وخنافس ميتة، ورماد متخلف من بخور. في إصبعها خاتم، تثق أنه يحميها من السحر.

القرآن يتحدث عن أرواح من نار.

أفلحت في تحضير الجن، وكتابة العهد معه. تستطيع أن تؤذيَ عن طريق الجن، ويطيعها الجن حتى فيما يغضب الله، يؤذي الإنسان، يصيبه بأمراض لا شفاء لها. تأمر الجن أن يتلبس جسد الإنسان، وتأمره أن يخرج منه. ما بين الحالين تُملي ما تريده: النقود والذهب والطير والحيوان والملابس. تلك مطالب الجن حتى يغادر الجسد المتعب، يتخلَّى عن تلبُّسه له.

تتلو ما تحفظه من تعاويذ. تأمر الجن الذي تلبَّس الجسدَ أن يغادره، تَعِده بما يحرضه على الموافقة. ينطلق إلى دنياه التي لا صلة لها بدنيا البشر، لا يُؤذِي بأفعاله، ولا يُؤذَى بآيات الله والرقى والأدعية.

من حسن طالع المريضة-المريوحة، أن يكون الجن مسلمًا، يمتثل للخروج من الجسد عندما تُصدر له الأمر. الجن الكافر تعوزه دقات عالية، وأدعية، وأغنيات، تعبِّر عن واقع الحال.

تُضيف سيسبان إلى النقود ما يطلبه العفريت من المصاغ والحلي.

ربما ظهر العفريت لها في المنام. يطلب أن تشدد على المرأة، تَفِي بما طلبه حتى لا يعاكسها، ويلبسها المرض. ثمة مَن لا يقبل إلا الفضة، وثمة من يقبل النقود والذهب والأطواق والأساور والخلاخيل والكرادين والخواتم والحلقان والثياب والطعام.

تذبح — لأداء النذر — خروفين في حالة المولود الذكر، وتذبح خروفًا واحدًا في حالة المولود الأنثى.

ترى ما لا يراه أحد: الجن عند حضوره. تتجه إليه بالأسئلة، تناقشه، توصيه بمن يهمُّها، تُطالبه بأن يرفع أذاه عن المرأة التي يتلبسها. غالبية الجن يُطيعونها، وينقادون لها، ويُنفذون ما تطلبه.

تخرج الجن من مواضع كثيرة: مسام البشرة، فتحة البول، فتحة الشرج، الأذنين، فتحتَي الأنف، الفم. قد تخرجه من خلال دموع العين. قد يخرج من العين، أو إصبع القدم، أو من تحت شعر الرأس.

جعلت همَّها مساعدة الأرواح التي عذَّبها المرض.

شفاء المريض من متاعب النفس يصدر منه هو نفسه. لشفاء النفس من المس الروحي، تنصح النساء بالإكثار من تناول الأطعمة المخلوطة بالثوم، ومن العسل، وقرقشة عظام السمك.

أفادت من الأحجار السحرية التي تشفي من الأمراض. لها خصائص تختلف عما في الأحجار العادية. جرَّبت بعضها بنفسها، وعرفت بجدواها من آخرين: الجمشت الأخضر يعالج الباه، يصرف عن إدمان الخمر، يسكن الشجار، يدفع إلى اكتساب المعرفة، يُهدئ آلام الكبد، يوقف الفواق والتجشؤ المستمرَّين، يُعين الجسد على مجاوزة التعب، يحفظ الوئام بين الزوجين. الزمرد حجر ذو طبيعة طاهرة، إذا خُلطت حبات صغيرة منه بجرعة ماء، وظلت في جوف فتاة، فهي طاهرة لم يمسسها بشر. يشفي الزمرد كذلك من الصرع، يُقوِّي الأسنان، يُذهب آلامَ المعدة، يطرد الأشباح والثعابين.

لما طلب سيد درويش أن تصنع زارًا، يحضره بمفرده، تصورت أنه يُداعبها بالعشرة القديمة.

قناع الجدية الصارم دفعها إلى السؤال: لماذا؟

– أريد أن أعيش دقات الدفوف والأغنيات.

استغرق سيد درويش في الأغنيات تمامًا. استعادت ما جرى حين استمعت إلى لحن سيد درويش عن الزار — للمرة الأولى — في سرادق بشارع أبي وردة.

قالت سيسبان: الطرب الحقيقي يختلف عن صراخنا!

المجمرة التي يتصاعد دخانها، تلتفُّ به أجساد الفتيات، في الخطو سبع مرات. يرافق الفعل تلاوة سيسبان لآيات من سور البقرة وياسين والفلق، ونداؤها بصوت رتيب: شيخ محضر، يا شيخ محضر، واللي عليه عفريت يحضر!

تنفك الضفائر، تتطاير خصلات الشعر، تدبُّ الأقدام الحافية على الأرض، تتمايل الأجساد، تهتز على إيقاع الدفوف، وأغنيات الزار، تتصاعد ضربات الدفوف، يعلو معها إيقاع الرقص، يبلغ الانفعال ما يبدو كأن المرأة تُعاني تقلصات أو ارتعاشات قاسية، كأنها تموت.

حين يتلبس الشيخ عبد السلام المرأة، تعود إلى الطفولة، تتكلم، وتلعب، وتنظر كالأطفال. يحلُّ بعده في جسدها العبد مرجان، فتتكلم، وترقص كالعبيد. ترش سيسبان الماء المالح على رأس المريوحة ووجهها، لتُخلِّصها من تأثيرات السحر.

استنتجت أن المرأة نجمها خفيف، تخشى الحسد. وضعت قطعة رصاص في كوب ماء، ثم استعادَتها. حرَّضتها على جرع ما في الكوب، فيزول تأثير الحسد.

نصحت المرأة أن تكنس مقام المرسي أبي العباس، والاستحمام بماء ساخن مخلوطًا بكناسة المقام. وعدت المرأة أن يحضر عليها السلطان. يسكن جسدها، فيطرد الشياطين والعفاريت والأرواح الشريرة.

طلبت من المرأة — التي طال عقمها — أن ترقد أعلى الدحديرة الخلفية لجامع أبي العباس، وتتدحرج في اتجاه جامع البوصيري. ثم طلبت — لما تأخر الحمل — أن تذهب المرأة إلى البحر في موضع وزمان، لا يراهما أحد. ترتدي ثوبًا، وتحمل ثوبًا ثانيًا. تنزل المالح عارية، وتغسل الثوب الذي كانت ترتديه. تعود بالثوب الثاني إلى حياة جديدة، تحصل فيها على ما تتمناه.

ذكرت الأسماء الأولى لنساء، طالبت المرأة أن تستكمل أسماءهن من معارفها. إذا التقَت بإحداهن، أدارَت وجهها، تتجنَّب الشرر من العينَين الصفراوَين، المستديرتَين.

اتخذ زوج المرأة زوجة ثانية، خرجت عن شعورها، وتلبسها الجنون. قالت سيسبان إن من تلبس المرأة جنيٌّ، وجد في حزنها الشديد ما دفعه إلى تقمصها. كتبت لها كلمات رقى على فخذها. طلبت أن تنزل إلى المالح في لحظات الحسم بين الليل والنهار. تترك للمياه إزالة الرقى، فيذوب الجني في البحر كما يذوب الملح.

إذا عجزت عن شفاء المريضة، المريوحة، فالأمر في يد أولياء الله. عندهم الشفاعة والمكاشفة والبركة والمدد. سيدي المتولي هو الذي يقضي بالشفاء. تنصح المرأة بوضع قطعة صغيرة من ذيل ملاءتها، في مسمار بالباب الخلفي لجامع المرسي.

رُوي أنه إذا قلَّت أعداد المترددين عليها، أمرت الجان أن يلبس جسد المرأة. يظل الجان داخل الجسد، حتى تلجأ المرأة إلى سيسبان، تُخرجه بالرقى والتعازيم، أو تنصح بالزار.

أعطَت الفتاة رقائق عشبية، مخلوطة في الماء. تغسل عينَيها — قبل النوم — بقطرات منها. يزورها طيفُ مَن تحبُّه في منامها، تراه، تتشرب ملامحه، تُكلمه، تأخذ منه وتُعطي.

أنكرت ما أُشيع من أنها تسهِّل — في حفلاتها — اجتماع الجنسين.

لم يقتصر زوارها على أبناء بحري. قَدِم إليها ناسٌ مساكين ومهمون، من أحياء الإسكندرية الأخرى. اجتذبهم صيتُ المعلمة سيسبان، وحالات الشفاء التي تمت على يدَيها، والقدرة على تسخير الجان، للفرج عن المكروبين، وحل العقد والربط، والوفاق بين المحبين.

•••

حين لجأت إليها سنية الطبلاوي، صاحبة البيت المطل على ناصيتَي ميدان الخمسة فوانيس وشارع الشيخ نجيب، تشكو استيلاء زوجها على ما تملك، وطردها من البيت الذي تملكه، نطقَت سيسبان بتعاويذها وطلاسمها. خاطبت الجانَّ بأسئلةٍ يملكون — وحدهم — إجاباتها.

التفتَت نحو المرأة بسحنة متغيرة: هل تُمارسين حياتك بصورة طبيعية؟

– لا أفهم!

– هل تنامين وتستيقظين وتأكلين وتشربين دون متاعب؟

– ما أعيشه يُصيبني بالتوتر، وينعكس على كل حياتي!

تكلَّمت عمَّا ينتابها من الصرع والهياج الشديد.

لقَّنت الفتاة ما تُردده في لحظات وحدتها، أو وهي تتهيَّأ للنوم:

«اللهم لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك. سبحانك وبحمدك، تحصَّنتُ بالله الذي لا إله إلا هو، إلهي وإله كل شيء، واعتصمتُ بربي ورب كل شيء، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، واستدفعت الشرَّ كلَّه، بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. حسبي الله ونعم الوكيل. حسبي الرب من العباد. حسبي الخالق من المخلوقين. حسبي الرازق من المرزوقين. حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى. لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.»

عادت إليها المرأة — بعد أشهر — وخيبة الأمل مرتسمة على ملامحها.

قالت سيسبان: المشكلة صعبة، وإن كان حلُّها سهلًا.

ثم وهي تُظهر القلق: ما حدث أن جنيًّا تلبَّس زوجك، هو الذي يُملي عليه تصرفاته، ويقف في طريقك.

أضافت في لهجة حاسمة: لا بد من زار!

قالت المرأة: هل نُقيمه في البيت؟

تزيينُ الشر للإنسان، وصرْفُه عن الخير، هو ما يملكه الجن. أسلحته الحيلة والمكر والخداع. أما أسلحة البشر فهي ذكر الله في قرآنه، وأدعية رسوله وأوليائه والتابعين.

الآلام التي بلا علة ظاهرة، من أفعال الجان. يتلبس الجسد، أو يستقر في المكان، لا يتركه إلا بحفل زار.

قالت في لهجتها الحاسمة: لن يترك الجن بيتك إلا بالزار.

صمتت المرأة حتى عن التفكير فيما ناوشها من المؤاخذة والرفض. تُدرك أن ما تقوله، أو تكتمه، ينقله الجن إلى سيسبان، هي مريدته التي لا يُخفي عنها سرًّا. يُبلغها بكل ما يصدر عن النساء المترددات عليها من أقوال وتصرفات.

استطردت سيسبان في هيئة مَن اطمأنَّت إلى موافقة المرأة، تُعِد ما ينبغي إعداده ليحقق الزار تأثيره، فيخرج الجني من البيت.

لجأت — في بداية العلاج — إلى الطرق العادية، حتى يخرج الجان. قراءة أذكار الصباح والمساء، تلاوة آية الكرسي، أداء الصلوات الخمس، الرقى، التعاويذ. إذا ظلت الأمور على ما هي عليه، فإنها تلجأ إلى وسائل أخرى ترى أنها أشد تأثيرًا.

قالت وهي تُضوِّع البخور في فراغ الحجرة: «بسم الله الحي القدوس، رب الملائكة والروح، أسألك بحق مَن سخَّر الجن لسليمان، وبحق قول الرحمن الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، وبحق قوله وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، أسألك بالله العظيم، وبسلطانه القديم، وبعزِّه الذي لا يروم، وملكه الذي لا يُضام، أن تنطق، وإلا حرقتك بقول الواحد الديان كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ

تصاعد بخور الشبَّة في أشكال وتكوينات. أدركَت أنها صورة السحر أو الحسد، أو الجني نفسه. انهالَت على المبخرة بعصًا أقرب إلى الشومة. لم تسكت إلا بعد أن اطمأنت لتحطُّمِها، وتناثر الشَّبة، فيتلاشى الأذى.

هزَّت الخادم مرزوقة المنقد الفخاري، تصاعد منها اختلاط البخور وعين العفريت والشبَّة والملح والفكوك.

وضعت مرزوقة المجمرة على الأرض. مرَّت عليها المرأة بقدمَيها سبع مرات، وسيسبان تُردد التعازيم والأدعية والرقى.

عاودت سيسبان تقريبَ الدف من سخونة مدفأة الفحم الخزفية، حتى يتصلب جلد الدف.

علا إيقاعُ الدفوف. ترفض سيسبان النغمةَ الواحدة في الزار السوداني، تُدير الدفوف بالنغمات المصرية، أو المغربية. تشتد الرقصات وإيقاع الدفوف والصاجات، ويعلو البخور والتعاويذ والأدعية والصراخ والأناشيد:

مدد يا أهل الله … نظرة يا أسيادي!

قد تستخدم الآلات الموسيقية التي يستخدمها المنشدون الشعبيون: الدربكة والصاجات والسلامية.

نسبت ما حدث إلى جنٍّ غير مرئي دخل البيت. حاولت أن تُخرجَه بالصلاة والرقى والتعاويذ، لكنه أجاد التخفِّي.

تآخَى الجني والزوج. دخل في جسده، جرى في عروقه. ارتفع الخلط الحراري داخل الجسد، لوجود ثقل الجان الريحي.

ما أحزن سيسبان أن الجن لم يكتفِ بتلبُّس الزوج، بتقمصه، لكنه ترك مَن ينتمون إليه يسرحون ويمرحون في البيت. يفتحون، ويُغلقون، ويحطمون، ويكسرون، ويفرضون الخوف على ساكني البيت.

بدَت المشكلة أقسى من أن تنتهيَ بحفل زار، البيت المسكون يتركه أهله، يفرون بحياتهم من الأذى.

قالت: طردُ الجن من جسد زوجك ومن البيت يحتاج إلى ما هو أشد من الزار.

واحتضنَتها بعينَيها: ربنا معك!

قالت المرأة: لا أتصور أني أترك البيت ليسكنه الجن.

قالت سيسبان: أعرف ظروفك. ساعديني على أن نصرف الجن.

استطردت كالمستدركة: قد لا يكونون من الجن. لعلهم عفاريت!

قالت وهي تدور بالمبخرة: يا ضيوف البيت، اتركوه لأهله، لا يملكون سواه!

ملأت حجرات البيت بتضوعات البخور والأدعية والرقى والتعاويذ.

عرف الرجل بدعوة المرأة لسيسبان، تضوع البخور، وتقرأ الأدعية، وتتلو الرقى والتعازيم.

طرد زوجته من البيت، وأغلقه.

عرفت الزوجة أنه لم يَعُد يتردد على البيت. إذا جاءه، فبمفرده، يحمل في يد حقيبة، ويطوي أصابع اليد الثانية على مفتاح. يصرف سائق السيارة. يصعد الدرجات الثلاث، ويفتح الباب. يَشِي الصوت من الداخل بأنه يحكم الرتاج. يظل في البيت ساعة، أو أقل، ثم يُطِلُّ — من الباب الخارجي — على السائق، في موعد تُدرك المرأة أنهما اتفقا عليه. يمتدُّ غيابه أسابيع، أو أشهرًا، قبل أن يتجه من السيارة إلى باب البيت المغلق، المفتاح بين أصابع يده، والحقيبة في اليد الثانية.

يظل الباب الخارجي مغلقًا، والشرفات والنوافذ مغلقة. لا أصوات، ولا روائح. لولا أنها رأَته يدخل البيت، لتصوَّر أنه يخلو من الناس.

نقلت لها سيسبان عن الجان حكايات السراديب والأقبية والحجرات المغلقة. روَت أنه يدسُّ العملات الورقية في تجاويف الجدران، وتحت الأرضيات، وفي زوايا الأسقف، وداخل الوسائد والمراتب، وتتخلل قطن الألحفة.

•••

قالت سيسبان: كل ما جاء به زوجك إلى هذا البيت حرام لا بد أن يزول!

ثم وهي تهزُّ يدها: هذا هو رأي الجن الطيبين.

لاحظ الناس — في الأيام التالية — على واجهة البيت شقوقًا وشروخًا وتصدعات وعيوبًا لم تكن موجودة. حتى مصاريع النوافذ والشرفات تساقطت وتطايرت.

خرب البيت، وانطمست معالمه، وتكسَّرت محتوياته، وتبعثرت، قبل أن يسقط البيت تمامًا.

انطبق البيت على الرجل وهو فيه. وما كان يُخفيه من أموال. تلاصقت الطوابق الثلاثة. وحين رفع العمال الحجارة وأسياخ الحديد والأتربة وبقايا الأثاث، أخفقوا في العثور على رفاته.

امتدت عملية رفع الأنقاض خمسة أيام.

فحصت المرأة ما نقلَته عربات النقل من ردم البيت، وبقايا الأثاث. قلَّبت بين الأنقاض، وداخل قِطع الأثاث المتكسرة، لعلها تجد ما كان يحمله الرجل من حقائب النقود والذهب والمجوهرات. لكن صيحة الاكتشاف لم تنطلق منها.

أرجعت سيسبان ما حدث إلى عشرات العفاريت التي فرَّت من البيت المهجور. تابعت لقاءاته بصبيان الفتوات ومحترفي الإجرام، وما أعطاه لهم — داخل البيت — من أموال، والأماكن التي أخفى ما احتفظ به لنفسه. خضعت لأمر — لا يدري من أملاه — فسربت ما كان بالبيت قبل هدمه.

تناقل الناس ما حدث في البيت المتهدم. مع قلة مساحات الأرض الخلاء، فإن أطلال البيت ظلت على حالها. خشيَ الناس عودةَ العفاريت إلى حيث كانت تختبئ في البيت المهجور.

بدأ الفواعلية في إزالة الأنقاض، ففر مَن كان تحتها من العفاريت.

كانوا قد سكنوا في البيت فترةَ إغلاقه. اندفعوا في غير اتجاه. اختبئوا في الخلاء والشقوق والغرف المهجورة. صعدوا إلى أبواب البيوت المفتوحة، أو تسلقوا الأعمدة والمواسير إلى النوافذ والشرفات والأسطح، أو جرَوا — دون أن يفطنوا لهيئة العفاريت في أجسامهم — إلى الشوارع الجانبية، للبحث عن الملاذ في خرابة، أو خلاء، يستفزُّهم شعورٌ بالانتقام.

تعالَت التحذيرات من أن تؤذيَ العفاريت مَن تقابله.

رقيَ الشيخ مدين — خادم علي تمراز — درجاتِ السلالم الحلزونية، إلى أعلى المئذنة. قرأ ما كتبه الشيخ عبد الستار من حثٍّ للناس على أن يلزموا بيوتهم، حتى يزول الخطر، وتنمحي الغمة. انطلق شبان أطلقوا اللِّحَى، وارتدوا الجلابيب، من جامع علي تمراز إلى الميدان والشوارع المتفرعة عنه، يوزِّعون أوراقًا توضح خطورةَ مواجهة العفاريت. وضع مريدو علي تمراز مبخرةً من النحاس، وسط ميدان الخمسة فوانيس، في الموضع الذي كانت عليه الفوانيس، بين الجامع وبيت حسين بيكار. تضوعت — من المبخرة الهائلة — روائح المستكة والكسبرة والشبَّة والجاوي والحنتيت وعين العفريت ودم الأخوين. تداخلت معها أدعية المريدين وابتهالاتهم، تتوسل إلى الله — بشفاعة وليِّه — أن يرفع البلاء، ويحمي المؤمنين من أذى العفاريت.

•••

انظر: أبو العباس، حسين بيكار، الخضر، سيد درويش، علي تمراز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤