صبيحة الدخاخني

تعتز الست صبيحة الدخاخني بأنها عاشت في حياتها للحب، تبحث عنه، وتمارسه.

ترمَّلت عن ستة أزواج، لم تُغضب أحدَهم، ولا توعَّدها بالطلاق. الموت اختطفهم جميعًا، وهو ما لا حيلة لهم — أو لها — فيه. أول أزواجها دخل عليها قبل أن يُدركها الطمث. بعد أن ظهر طمثُها الأول، حملت بأول أبنائها. سُمِّي الأبجر أزواجها ملوك النحل. يدفعون حياتهم ثمنًا لفعل الجنس الأول، هو الفعل الأخير.

أعطى الإسلام المرأة حقَّ تعاقب الأزواج. إذا مات زوجها، أو افترقَت عنه بالطلاق، فإن الدين يَهَبُها الحق في طلب زوج جديد.

كانت صبيحة — في كل مرة — تختار زوجها بنفسها، لا تطلب الطلاق إلا إذا فعل ما يغضب الله. تمنَّت الزواج من حميدو شومة. قال لمن سعى إليه بتمنيها، إنه لا يستطيع أن يتصور زوجة إلا أم أبنائه!

لم تُنجب صبيحة من أزواجها الستة إلا ابنة واحدة وثلاثة أبناء.

لما مات آخر أزواجها، كان قد تقدَّمت بها السن. أدركت أنه لم يبقَ أمامها من العمر إلا سنوات قليلة. عانَت الخوف من المعصية، وفعل ما لا يُرضي الله.

قالت: آخر أزواجي هو خير أزواجي. لن أعقبه بآخر، حتى يأذن الله أن أتزوجه — إن شاء الله — في الجنة!

مالت إلى العبادة والتأمل والاجتهاد، والتزام الصلاح والتقوى، والعمل بأوامر الله وآداب الإسلام. ساعدها أنها تعلَّمت إلى الثالثة الابتدائية. أكثرت من زيارة أبي العباس، تؤدي الصلوات لأوقاتها، تُضيء الشموع، تدعو، تُقدِّم النذور، تُلامس المقصورة بأصابعها، تدور حول المقام، حتى يُدركَها التعب.

قالت: لا حياء في الدين.

دعَت الشيخ حامد فرغلي، قارئ جامع أبي العباس. جوَّد آيات القرآن في جلسته على كنبة الصالة. استعادَت، وحاولَت المحاكاة، حتى اطمأنَّت إلى قُدْرتها على التجويد. حفظت القرآن، ووعَته، ودرسَته.

أخلصت في مجاهدة النفس.

سعَت إلى تحصيل العلوم العرفانية. صانَت جوارحها عن الخوض في الباطل، وغالت في الحشمة، ولزوم أداء شعائر الدين.

لم يُفلح الشيطان في أن ينفذ إليها، أو يكون له حظٌّ معها. استبدلت بنعيم الدنيا نعيم الآخرة. تَذْكر الله، وترتعش فرائصها. تنغمس في حالات الشرود التي تُلمُّ بها. تستحضر عظمة الله — سبحانه — في نفسها. تقضي وقتها — حتى وهي بين الناس — في العبادة والطاعة، وتمارس الاعتكاف والتهجد والرياضات والزهادة والورع والمجاهدات الروحية.

ربما صعدت إلى سطح البيت. جعلَت لنفسها خلوة في الحجرة الوحيدة المطلَّة على الزقاق الخلفي، تتلو آيات القرآن، تُطالع كتب التفسير والأوراد وأحزاب الشاذلي.

اعتكفت بمصلَّى السيدات في جامع أبي العباس، لا تُفارقه إلا لقضاء حاجة، أو عقب صلاة العشاء. يتعاقب إطفاء اللمبات، وتَصرُّ الأبواب، تأهبًا للإغلاق. تلتفُّ بملاءتها، وتتجه — قبل أن تحلَّ الظلمة تمامًا — ناحية الباب.

ظهرت لها في المنام رؤيا. يدعوها مَن لم تتبين ملامحه جيدًا، أن تُعين الآخرين على أمور دنياهم ودينهم.

همست بالسؤال: لماذا أنا؟

قال ذو الملامح الشاحبة: تعلمت بما يعينك على النصح.

اطمأنَّت إلى أن الله يسَّر لها نفع الناس. ظلت على النسك والزهد والتعبد، لا تأذن بالدخول عليها إلا لخادمتها فلة. تُرتب لها الحجرة، تسخن ماء الطهارة، تطهو الطعام، تشتري احتياجات البيت من السوق.

لم تعتزل الجماعة.

ظلَّت على اتصال بها في المجالس التي تُقيمها في قاعة البيت السفلية. تتضوَّع في المكان روائح بخور الجاوي والعنبر الخام والكافور والزعفران والمسك. تجلس — بالساعات — لمن يقرأ لها قصص الدين والأنبياء والصحابة وأقطاب الصوفية.

كانت تُطيل الاعتكاف ليلًا، وتعقد الحلقات، أو المجالس نهارًا. توزع فيها الشاي والقهوة وأكواب العنَّاب.

عُرفت بالعلم والورع وخشية الله والتواضع لعباد الله.

تناقل الناس عنها شدة الميل إلى مجاهدة النفس، ومراقبتها، ومحاسبتها، وقيام الليل. تستعيد في خلواتها صورة سيدي المرسي، تأتي لها روحُه، تردُّ على أسئلتها، تقضي حوائجها، تُطلعها على خفيِّ الألطاف، تبوح لها بالأسرار.

كانت تؤدي الفرائض على أكمل ما يجب، تحذِّر من الوقوع في الخطيئة، تُلحُّ في طلب المغفرة. وكانت دائمة التردد على أضرحة الأولياء.

لا تجد تعليلًا لحياة الناس — دون أن يعصف بهم غضب الله — إلا بركات الأولياء ومكاشفاتهم. إنهم يتوسلون بالشفاعة، حتى تعفيَهم السماء من عقابها، ولا تجعل عاليها أسفلها.

شكَت إليها علية عشماوي من أفعال شحاتة عبد الكريم في السحر. نصحَتها (تعلم مهنتها) بأن تلجأ إلى الله تعالى، تتقرب إليه بتلاوة القرآن، والتوبة، والاستغفار، وقراءة الأذكار المستعيذة من الشيطان.

ارتدَت الست صبيحة — ذات صباح — خمارًا صوفيًّا، وعباءة بيضاء، وبيدها مسبحة زرقاء طويلة، على حباتها أسماء الله الحسنى.

وجدت نفسها أهلًا للفتوى.

الفتوى — في معاجم اللغة — هي الجواب عمَّا يُشكل من المسائل الشرعية، أو القانونية، جمعها فِتًي وفتاوى. أفتاه في الأمر: أبان له، وأفتى الرجل — أو المرأة — في المسألة، واستفتيتُه فيها، فأفتاني إفتاء. ويقال: أفتيت فلانًا رؤيا رآها، إذا فسرتها له، وأفتيته في مسألة إذا أجبته عنها.

رأت الست صبيحة نفسها ندًّا للعلماء من الرجال، تُغيظها نظرتهم المتعالية إلى المرأة. لو أن الحديث لم يَقُل إن النساء ناقصات عقل ودين، هل كانت تلك النظرة تتغير؟ هل كان يؤذن للمرأة بما حرم عليها؟

ساءها رفضُ الشيخ إبراهيم سيد أحمد مجلسَها: لا توجد نصوص دينية تمنع إلقاء المرأة دروسًا للناس.

عابت على الرجال تسكُّعهم أمام مقام السلطان، أو الجلوس لصق الجدار بالقرب منه. يرمقون زائرات المقام بنظرات، وعابت على مَن يتعرضون للمحصنات، ويفترون عليهن.

ترقَّت في المقامات والأحوال: الإيمان، والصدق، والإخلاص، واليقين، والمعرفة، والتوكل، والمحبة، وغيرها.

ظهر لها أبو العباس في المنام. ناقشها في علمها. سألها، ولاحظ عليها.

لما أَنِس فيها القدرة على الاستقلال بالفتوى، أذن لها بالإفتاء، دون أن ترجع إلى شيخ معلِّم، ولا إلى كُتَّاب. ما حفظته، ووعَته، من سور القرآن والأحاديث النبوية والتفاسير واجتهادات الصحابة والأولياء والتابعين، يُتيح لها الفتوى من ذهنها واجتهادها، بلا توجُّس في صحة القول.

انتفع بها الناس في بحري انتفاعًا كليًّا، واجتمعوا عليها. اعتقدوا في صلاحها وبركتها. اشتهرت بعلو الهمة، وقوة العزم، والتصرف من رأسها، وإهمال همسات الوشاية والنميمة والغدر والحسد، والانتقاص من الآخرين. تجد الخير طبيعة النفس البشرية، والشر مجرد زوائد لا تُفسدها.

اشتهرت بأنها من أرباب الأذواق والحقائق والمجاهدات والمشاهدات. تحدَّث الناس عن أحوالها ومكاشفاتها وشطحاتها. شُفي على يدَيها مَن كانوا أقربَ إلى الموت، تحرص أن يقرأ المريض الرقية الشرعية بنفسه. إذا لم يستطع، فعلى أحد الصالحين (ربما كانت الست صبيحة) أن يقرأها على المريض، بعد أن تضيق به السبل، وتبدو محنة المرض كالزقاق المسدود.

كانت مجالسها — في البيت المطل على مقام سيدي كظمان — تتحول إلى أسئلة وتساؤلات في أمور الدين والتعبد. تعتز بأنها حصلت على إجازة لتعليم فقه الدين، ومبادئ الصوفية من سيدي المرسي أبي العباس. حفظت أقواله، تتبَّعت أحواله، ما رُوي عن انصرافه إلى الفرائض والسنن، نقلت ما عرفته إلى زوَّارها ومريديها، علم الباطن، وأعمال القلوب، والمقامات، والأحوال.

كَثُر مريدوها وزوَّارها، يتلاصقون تحت مجلسها، وأعينهم ترنو — بلهفة — إلى ما تقول، يتناوبون الشكوى من أمور الدنيا، وما تُطالعهم به ظروف الحياة، يسألون فيما غمض من أمور الدين. قد تصمت قليلًا، وتتأمل السؤال، ثم تُجيب بالرأي الصواب، والذي يُثمر الفائدة.

قَدِم إليها الناس من خارج الإسكندرية، يطلبون ما حذقته، وأحكمَته، من أمور الدين والدنيا.

رُوي أن زائرًا لمجلسها نظر إليها نظرة الرجل إلى الأنثى. صرخ — في اللحظة التالية — لأن الله سلبه نور عينيه.

قالت الست صبيحة في هدوء مَن يدرك ما حدث: إذا أردتَ أن تستعيد ما فقدتَه فاعتذر!

أحسَّ الرجل في عينَيه ما دفعه لفركهما. صاح بفرحة الرؤية.

قالت الست صبيحة في نبرتها الهادئة: لا أريدك في مجلسي!

أصابها — ذات ليلة — تغيُّر، ما يُشبه التصلب، والارتجافة في الأنف والشفتين، والشرود فيما لا يراه أحد. ثم ران الهدوء على ملامحها، وأغمضت عينيها: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سأل واحد من المريدين: مَن كان معكِ؟

– سيدي المرسي. أودع في رأسي بعض علمه، وانصرف.

أَلِف مريدوها ترديدَها دعاء السلطان، حتى حفظوه: اللهم اغفر لي واسترني، ولا تفضحني في الدنيا والآخرة، وعلِّمني وذكِّرني وفهِّمني، وأرحني وفرحني وبرِّئني، وفرغني من كل شيء إلا من ذكرك وطاعتك وطاعة رسولك، ومحبتك ومحبة رسولك. روَت الكثير من مواجيده وأحواله ومكاشفاته وكراماته وخوارقه وأقواله: رأَته — بعينَين صاحيتَين — يمشي على الماء، ويطير، ويُمسك النار، ويطوي الأرض. ربما قطع المسافات البعيدة في لمحة بصر.

نقلت عن أبي العباس قوله: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا. وقال: الزاهد غريب في الدنيا، لأن الآخرة وطنه. وقال: العارف غريب في الآخرة، فإنه عند الله. وقال: الولي يكون مشحونًا بالمعارف والعلوم والحقائق، حتى إذا أعطى العبارة، كان ذلك كالإذن من الله في الكلام، كلام المأذون له يخرج من فمه، وعليه كسوة وطلاوة، وكلام الذي لم يؤذن له يخرج مكسوف الأنوار. وقال: أوقات العبد أربعة، لا خامس لها: النعمة والبلية والطاعة والمعصية، والله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية، فمَن كان وقته الطاعة، فسبيله شهود المنة من الله عليه إذ هداه لها، ووفَّقه للقيام بها، ومَن كان وقته المعصية، فسبيله الاستغفار والتوبة، ومَن كان وقته النعمة، فسبيله الشكر، وهو فرح القلب بالله، ومَن كان وقته البلية، فسبيله الرضا بالقضاء والصبر. وقال: صلاح العبد في ثلاثة أشياء: معرفة الله، ومعرفة النفس، ومعرفة الدنيا، فمَن عرف الله خاف منه، ومَن عرف النفس تواضع لعباد الله، ومَن عرف الدنيا زهد فيها.

تتلمذ على يدَي السيدة صبيحة الكثيرُ من طلبة المعهد الديني بالمسافرخانة، وأئمة المساجد والزوايا في بحري، لا يجدون حرجًا في سؤالها عن المعاني الغامضة وفقهِ الدين، وينقلون اجتهاداتها وآراءها.

لم تكن توافق على جلوس المريد بين يديها، إلا إذا أظهر في أقواله مثابرتَه على القراءة والدرس، وتفقه في الفقه وعلوم الشريعة.

حتى أئمة الجوامع المهمة: أبو العباس والبوصيري وياقوت العرش وطاهر بك ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز والشيخ إبراهيم، تردَّدوا على مجلسها. يحرصون على التأدب، وإن اكتفَوا بالإنصات إلى أحاديثها دون أن يشاركوا في توجيه الأسئلة.

لم تشغلها طبيعتها المغايرة لطبيعة الرجال، ولا اقتصر مجلسها على مَن تغمض عنهم أمور الدين. جاوزت النواحي الفقهية (اجتهدت بما وَسِعه علمها) إلى الإرشاد عن أفضل الطرق للعيش.

تسكت عن الكلام بلا حجة، أو القول بغير دليل.

أَلِف مريدوها أن تُجيب السائل بأكثر مما سأل عنه. تضع النظائر، وتضرب الأمثال، وتُكثر من الاستشهادات، وتضع الاحتمالات الغائبة.

إذا واجهَتها مشكلة لرجل أو امرأة أو جماعة، شقَّ عليها حلُّها، لجأت إلى كُتُب القدامَى والمحدثين، تستفتيها الرأي. ما يغيب عنها فهْمه، أو لم تقرأ فيه جيدًا، استعانت بمن تثق في علمه من المشايخ، أو لجأت إلى حضرة سلطان الإسكندرية.

استأذن في الدخول رجال ونساء شغلَتهم أمور الدنيا. هي بين الرجال ذات كلمة مسموعة ورأي صائب. لم يجدوا حرجًا في أن يترددوا على مجلسها، يستفتونها، ويتلقَّون العلم عنها. تتدخل بمحاولات الوفاق بين الأزواج المتخاصمين.

وجد النساء في مجلسها ما يُتيح السؤال — بلا حياء — عن أمور الدين والدنيا. تُشدد على النساء بأن يخضعن لأزواجهن، حتى فيما يطلبونه مما قد يبدو غريبًا أو نابيًا. مَن تهجر فراش زوجها ناشز، تحوطها — حتى الصباح — لعنات الملائكة. تحذِّر من فكرة الطلاق، وتطلب مراجعة كلا الزوجين لنفسه، تبشِّره بما وعد الله تعالى به الصابرين من الأجر والثواب، لا تُخلي مسئوليتها إلا عندما تصطدم بحائط مسدود، تتجه محاولاتها بالوفاق إلى فراغ. تهمس بموافقتها على الطلاق بإحسان. أفتت بتطليق المرأة التي تطول غيبةُ زوجها في البحر، أو التي يُعاني زوجها عنَّة مستديمة، أو حتى الذي تستثقل الزوجةُ ظلَّه. أفتت بعدم جواز الطلاق بالثلاث. هي طلقة واحدة، ينطقها الرجل — غالبًا — في لحظة غضب. غضب، أو سكر، أو ضيق. يراجع نفسه، فيرجع عن يمين الطلاق. تظل الطلقة واحدة غير بائنة، فيملك أن يردَّ زوجته، ويردها مرة ثانية. لا يستحق زوجته إن طلقها للمرة الثالثة. المحلل تحايل على الشرع، نقيصة لا يرضى بها زوجٌ يحترم نفسه، وزوجة تحترم نفسها.

لاحظت أن الناس حمَّلوا كلمات الله ورسوله — من المعاني — ما تحتمل، وما لا تحتمل.

ذكَّرت المعلم محفوظ الصاوي — والد جندية — برأي المذهب الحنفي. يعطي الفتاة في سن الرشد، حقَّ رفض الزيجة التي تُدبر لها، يعطيها الحق في أن ترتِّب لزواجها بنفسها. عابت على المعلم خلف زيدان قهره لمن يعيشون تحت أمره وسطوته، وأن نفسه تميل إلى قطع الأرزاق، دون تدبر للنتائج على النساء والأطفال.

بعد أن تبيَّنت ابتهال المنسي ما لم يرق لها — عقب زواجها من شحاتة عبد الكريم — أوصت لأبنائها بكل ما تملكه من أموال وأسهم وأراضٍ وعقارات. تحدَّثت الست صبيحة — بإلحاح من شحاتة — عن عدم جواز الوصية بأكثر من الثلث.

في إجابة عن سؤال لامرأة من السيالة، قالت الست صبيحة بصوت تملؤه الثقة: لمثل هذا السؤال تُفتي صبيحة.

استعادَت السؤال من المرأة.

قالت المرأة وهي تغالب ارتباكها: هل يجوز تعويض الصلاة الفائتة، بسبب العذر الشرعي كل شهر؟

قالت الست صبيحة: للرجل ظروفٌ تخصه، وللمرأة ظروف تخصها، وللتشريع خصوصية الواقعة التي لم يرقَ إليها تشريعٌ مثله، لم يغفل عند المرأة، وعند الرجل، خصوصية كل واحد منهما. الطمث الشهري عارض ينال من جهد المرأة، ومن جوانبها النفسية، وقد يؤدي إلى توتر أعصابها. ولأن الصيام شهر في العام، فمن السهل تعويضه، وقد راعى الإسلام هذا العارض، فأوجب عليها أن تعوِّض الأيام التي فاتتها في رمضان بسبب هذا العارض. أما الصلاة فهي يومية، وهي موقوتة بخمسة أوقات، وللتكرار في اليوم الواحد فقد رفع الله عن المرأة إعادة الصلاة لما فيها من المشقة. فإذا تحاملت المرأة على نفسها، وصلَّت، أو صامت، وهي تُعاني العارض الشهري، كان فعلها باطلًا، وحرامًا، حتى لو كانت حجتها هي التقرب إلى الله. الطهارة من الحيض والنفاث شرطٌ لصحة العبادة، وإعادة الصوم واجبة، وإعادة الصلاة لا تجب ولا تجوز.

لما بدأت الانتخابات، لجأ إليها المرشحون، ينشدون رضاءها، يستعينون بها في استمالة الناخبين، يطلبون مشورتها فيما يستشكل عليهم من مسائل. لم تتكلم بعبارات دلالة التأييد أو الرفض. اكتفت بهمسات مدغمة كالأدعية.

حين ذكرها سامي بهاء الدين بأنه من بحري، ولم يَفِد من خارجه، هزَّت الست صبيحة رأسها، وقالت: ربنا يُولي الأصلح!

قال في لهجة متواطئة: لن أقبل سوى مجلسك وفتاواك.

وقال لأصدقائه: ما أجمل الإمام المرأة في وضع الركوع والسجود!

لم يكن يشغلها — في الحقيقة — مَن قَدِم إلى مجلسها، ولا مَن انصرف، ولم تسأل عن شخص بما يَشِي أنها لاحظت غيابه. ما كان يشغلها أن تجيب عن الأسئلة، تنصح بما تراه أخذًا بتعاليم الدين.

استأذنت فتنة — ذات صباح — في دخول مجلس الست صبيحة. أومأت بما يعني طلبَ انصراف الخادمة فلَّة، يخلو المجلس إلا من الست صبيحة، ومنها — أشارت الست إلى فلة — تركت القاعة، وأغلقت الباب وراءها.

تحدَّثت فتنة عن تغيُّر حياتها.

قالت الست صبيحة: نقضي على المشكلة إذا عرفنا أسبابها.

وواجهتها بنظرة مستفهمة: كما أرى … أنت تعرفين سبب مشكلتك!

وخبطت فخذها بأصابعها: الحل في نفسك!

ما يذكره الناس من آخر أيامها، أنها اعترضت سيارة الملك فاروق، في اتجاهه إلى سراي رأس التين. لم تأبه بنداءات الأسطوات في ورش القزق، ولا تحذيراتهم.

أوقف الملك السيارة، ربما لأن هيئتها لم تكن تدل على أنها تستطيع الأذى، وربما لأن قدرتها الروحية أجبرَته على التوقف.

كان الملك يقود السيارة بنفسه، دون مرافقين ولا حراس. ظل في موضعه، وإن لم يتجه بنظراته ناحية الست صبيحة.

عابَت عليه أنه يأتي بالقراء، يتلون آيات القرآن في حديقة السراي، طيلة ليالي رمضان، ويُطعم الفقراء، ويقدم لهم الشاي والقهوة والمشروبات الباردة. يحاول أن يداري سوء أفعاله، وما يشغى به القصر من تصرفات معيبة.

سلَّط الملك مَن حاول قتلها.

ارتفعت اليد بالسكين، فتجمدت، سكنت في الهواء. حمل الناس غانم عبد الفضيل، الخادم بالسراي، إلى مستشفى رأس التين. تصعب الطبيب للغرغرينا التي أكلت الذراع، ونصح ببترها من مفصل الكتف.

غابت الست صبيحة عن بحري في الأيام التالية. لم تظهر في بيتها بشارع سيدي كظمان، ولا في صحن مسجد المسيري بالسيالة، ولا في ميدان أبي العباس، ولا حتى في الضريح الذي أقامته لنفسها في المساحة الرملية الموازية للطريق إلى قلعة قايتباي.

أُشيع بين الناس أنها رُفعت.

رآها الحاج جودة هلال — سابع يوم — فيما يرى النائم. أنبأته بأن الملائكة الكرام صحبوها من هواها في بحري، إلى دنياهم العلوية، لتنعم بأنهار اللبن والعسل، والأشجار الوارفة، والأغنيات.

اعتاد الناس — بعد سنوات — رؤية امرأة التفَّت بملاءة سوداء، تستند إلى ضريح سيدي محمد البحيري. دفنه الناس في الموضع الذي هيَّأته لنفسها السيدة صبيحة. لما أحسَّت بدنو أجلها، حفرت قبرها بيدها في طريق القلعة. أضاء الليل بنور ربها. أتاح لها أن تواصل الحفر بيدَيها حتى أتمت القبر. نزلته، وصلَّت ما لا حصر له من الركعات.

كانت المرأة تُسدل طرف الملاءة على وجهها كالنقاب. هيبة مجلسها حالَت دون التحديق، أو إلقاء الأسئلة. قال الولد عماد إنه اقترب من المرأة المتخفية بالملاءة بحيث رأى وجهها، وإن المرأة الجالسة عند الضريح هي السيدة صبيحة.

لم يحاول أبناء الحي إعادة النظر، وإن رجَّحوا صدق رواية الولد. يجذبها إلى الضريح، وإلى بحري — من دنياها العلوية — هوى قديم.

•••

انظر: أبو العباس، فاروق، فتنة، سامي بهاء الدين، علية عشماوي، شحاتة عبد الكريم، محفوظ الصاوي، جندية محفوظ الصاوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤