ابن خطاب

تتفق المراجع على أن اسمه شفيع عبد الصبور. قَدِمَت أسرتُه من قرية تابعة لمركز إيتاي البارود. عَمِل أبوه في الدائرة الجمركية. تنقَّل بين الإسكندرية وقرية الأسرة. لمَّا مات، دفنه شفيع في مقابر العامود. قلَّت — من يومها — زياراته لقرية أبيه، حتى انعدمَت تمامًا.

ابن خطاب تسمية، أطلقها عليه الشيخ رافع عبيد معلِّم الكُتَّاب، لأنه نذر نفسَه لزاوية خطاب، على ناصية شارع المسافرخانة.

استغرق وقته ما بين العمل والطاعات. يعمل فترة الصباح مخلِّصًا للبضائع في الجمرك. يغادر باب واحد — عقب انتهاء العمل — إلى شارع صفر باشا، يميل — في تقاطعه مع المسافرخانة — إلى زاوية خطاب. يمضي إليها على الطريق المرصوف بأحجار البازلت الصغيرة، المستطيلة.

يقضي ما يحتاجه إلى ما بعد صلاة العشاء. يجلس ساعةً أو أقل على قهوة مخيمخ بميدان المساجد، ثم يعود إلى بيته في شارع ابن وكيع، على ناصية الطريق إلى الموازيني. يحرص على أن يزور مقام سيدي أبي العباس قبل طلوع فجر السبت. يكون السلطان — في هذه اللحظات — حاضرًا.

طالَت إقامته في الزاوية. يجلس في نصف الحلقة حول دكة المبلِّغ، يُنصت إلى الشيخ نعمان حبة إمام الزاوية في دروس المغرب، يفسِّر آيات القرآن، والأحاديث النبوية، ويدرِّس الفقه. يتحدث بكلمات تُزهِّد في الدنيا، وتُرغِّب في الآخرة.

يستمع ابن خطاب إلى درس الشيخ، ويسأل عما يغمض، ويقرأ، ويتأمل.

حاول أن يُخضع نفسه لطاعة الأوامر، واجتناب النواهي، والتحلي بأنواع الفضائل، والتخلي عما يُعَد من الرذائل.

تلقَّى الكثير من العلم، وارتقى في سلوكه، وامتلأ قلبه بأنوار الطاعات. لامسَت قدماه الطريق.

وجد الشيخ نعمان أن ابن خطاب أصبح جديرًا بأن يلعب دور المعلم لا دور المريد. أذن له بالإرشاد، ونصيحة الناس. أعطاه حقَّ جمْع المريدين والأتباع، ووعْظهم، والإشارة إلى الطريق التي يجب أن يسلكوها.

عرف الطريق إليه في الزاوية صيادون وموظفون وحرفيُّون وتجار، يقرأ لهم دروس الفقه، ويجمعهم على تلاوة القرآن والأذكار.

زادت أعداد المترددين على الزاوية. يقرءون آيات القرآن، ويذكرون الله، ويستمعون إلى أحاديث ابن خطاب.

حفظ لسانه من التكلم بكلام الدنيا. اقتصرت الأحاديث على الصلحاء، وما يكون من أمورهم، وفي كرامات الأولياء ومكاشفاتهم.

كان يفعل ذلك لأنه يستمتع به. يشعر بالنشوة حين يلجأ إليه مَن يطلب مشورته في أمر ما، أو يستفتيه فيما استعصى عليه فهمه من أمور الدين والدنيا. يسألونه فيُجيب بعلمه، أو يعتذر بالقول أمام الأسرار والغوامض التي لا يستطيع كشفها: لا أدري.

قال لسائل بما لا تخفَى دلالته: لا تطلب من الأعمى أن يفرِّق بين الألوان!

لم يحاول أن يفعل ما أذن له به وليُّ الله، فيمنح العهود من الباطن. حرص على نقطة لا يبتعد عنها، تنتهي عندها قراءاتُه واجتهاداته، وما يستطيع أن يُفيد به المترددين على مجلسه.

•••

حبسه البكباشي حمدي درويش في نقطة الأنفوشي — بتهمة اختلاس — أربعًا وعشرين ساعة. أحاله إلى النيابة، فبرَّأته.

هزَّه ما حدث.

تبدَّلت — من يومها — حياته. هبَّت ريحٌ طيبة دفعَته إلى طريق السلامة. أزمع ترْك الدنيا، والاشتغال بما يعود عليه بالنفع من العلم، والصدع بالحق، والعمل به.

مال إلى حب الخلوة، وإيثار العزلة، والانقطاع عن الناس. شغله اعتقادُ الصوفية، وتصديق كلامهم، وعلومهم، وأحوالهم. غلب عليه النسكُ والمجاهدة وسلوك الطريق. يحافظ على صلواته، يحفُّها بالنوافل.

إذا انشغل بالمطالعة، انصرف عن كلِّ ما عداها، لا يسأل عن طعام ولا شراب ولا أهل ولا مؤانسة. صار على معرفة بكلام أهل الحقائق، وأرباب الطرائق.

عرف عنه الناس التقوى، وحفظ الفرائض، ورفض المعاصي، ومجالسة الصالحين، ومداومة الصلاة والصوم والذكر وتلاوة القرآن، والأخذ بما يقضي به الله من فرائض ونوافل، وإهمال ما يُنافي تعاليم الكتاب والسنة، والوقوف على حدود الله من الأوامر والنواهي، ومعرفة ما يحل، وما لا يحل، وفعل الحلال، واجتناب الحرام، والإمساك عن الشبهات، وعدم الوقوع في المحظور، وخشية الله في كل أموره، وقيام الليل، وصوم النهار، والتضرع عند السَّحر.

زاد زهدُه في الدنيا، أعرض عن فتنتها وزخرفها. زهد فيما يُقبل عليه الصيادون والبحارة والأقارب والجيران من مُتَع الحياة وزائلها. حرَّم على نفسه حتى ما أحله الله. أقبل على الله. توكَّل عليه، وخاف منه. دام تفكيره بينه وبين نفسه.

أغلق عليه بابَ بيته، لا يغادره إلا لأداء الصلاة في زاوية خطاب. قلَّ إقباله على الدنيا. كَثُر ذكرُه لله، والانقطاع إليه. أخذ نفسه بالانصراف عن دنيا البشر، وبالزهد والورع والعبادة. انفرد عن الناس في الخلوة التي صنعها لنفسه داخل الزاوية. شعر أن ما يعيشه هو حياته الحقيقية.

هذَّب نفسه بالرياضة والعبادة وأحوال الإرادة. استغرق جميع أوقاته في العبادة. يحصِّن نفسه بآيات القرآن والأدعية والأذكار وقراءة الأوراد. زال عن نفسه الغيم. صفَت نفسُه من الآفات. استغرق في بحار المكاشفة والرياضات والمجاهدات والأذواق والمواجيد. أشرقَ عليه نورُ الروح الإلهي مددًا من الفيوض النورانية.

قدَّر سيدي أبو العباس مجاهداتِه الروحية، وجهودَه العلمية. عرف ما يُضمره في نفسه عن طريق الكشف، الرغبة في السياحة، والمجاهدات الروحية، وتحصيل العلوم من الفقهاء والزهاد والمحدثين والمفسرين وأئمة الكلام، والفتح والكشف والمشاهدة.

عهد إليه — في رؤيا منامية — بالخدمة في زاوية خطاب.

صرف همَّتَه، وبذل جهده، في خدمة الزاوية.

يطمئنُّ ابن خطاب إلى أن القوى القدرية، العلوية، تبسط سيطرتها على حياتنا. انقطاع الواردات، وعدم دوام الأوراد. شحبَت شموس الجذب من أقطاب الصوفية، حتى تلاشَت تمامًا. لم يعد إلا مَن يعانون، الزهاد والعباد والصوفية وأهل الباطن، أصحاب الأذواق وأرباب الأحوال. «اللهم أعنِّي بالعلم، وزيِّنِّي بالحلم، وكرِّمني بالتقوى، وجمِّلني بالعافية.»

ظل متقشِّفًا، متقلِّلًا من الدنيا، راضِيًا باليسير منها. يقوم الليل، ويصوم النهار. يحافظ على صلواته، يحفُّها بالنوافل. يصلي الصبح بوضوء العشاء. يحرص — قبل أن يخلوَ إلى ما بين يديه — على الصيام، وطهارة الباطن والظاهر. يجلس بعد طهارة كاملة، وأداء ركعتَي صلاة. يستقبل القبلة في جلسته، وهو يقرأ القرآن.

قطع المنازل، وترقَّى في المقامات: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، التوكل، الرضا.

ذاق حلاوة المراحل الأربعة: الوجد، الغلبة، السكر، الشطح. عرف البقاء والفناء والقبض والبسط والجمع والفرق والصحو والغيبة والمحق والتجلي والتخلي والمشاهدة والمكاشفة والسر وسر السر.

أجمع الناس على اعتقاده.

وهبَه الله بصيرةَ اليقين، ومعرفة الغيب، والتنبؤ بالمستقبل، واستشراف عواقب الأمور في الدنيا والآخرة. والإشراف على الأحوال كلها. عرف المعاني الحقيقية للحب والعشق والغرام والهيام والصبابة والوَجد والسُّهاد والجوَى. القباب المذهبة، أعمدة الذهب والفضة، الأرض المفروشة بالريحان، الأشجار المثقلة بالفاكهة التي لا يعرفها أهل الدنيا. تئويه الجنة كما تئوي أرواح المؤمنين، يتنعمون بنعيمها، يتنسمون من طيب رائحتها، يمشون، يقعدون، يتنقَّلون، يأوون إلى قناديل من نور تحت العرش الإلهي. يستلقي تحت شجرة الخلد، ظلُّها يمتد في الزمان أكثر من سبعين سنة. يُغمض عينَيه على رُؤَى الجنان السبع: دار الجلال، دار السلام، جنة عدن، جنة المأوى، جنة الخلد، جنة الفردوس، جنة النعيم. فيها من النعيم والثواب والكرامات ما لا أُذُن سمعَت، ولا عين رأَت، ولا خطر على قلب بشر. لا ليل ولا نهار، ولا موت، ولا حزن ولا حقد ولا ضغينة ولا حسد، ولا مؤاخذة على أي نحو. الخضرة التي بلا آفاق، والأنهار، والنخل والشجر والفاكهة، والورود والرياحين والأزهار، والقصور ذات اللَّبِنات الذهب، واللبنات الفضة، وشرفات الذهب، وبلاط المسك الأذفر، وحصباء الدر والياقوت، والتراب الزعفران، والزرابي والأكواب والنمارق، وعبق البخور السماوي، والأنغام العلوية، وجماعات الملائكة، والحور العين، والتسابيح المتداخلة بالغمامات البيضاء، والأساور الثلاثة في الأيدي: من الذهب والفضة واللؤلؤ، والوجد، والنشوة، والتأمل، والانبساط.

•••

قدمت المظاهرة من المعهد الديني.

اخترقَت شارع صفر باشا من المسافرخانة. بدا كأنها تتجه إلى شارع رأس التين.

هل يقصدون السراي؟

لم يناقش حمدي درويش ما حدث، ولا ناقش الاحتمالات. أدرك أن السراي وجهة المتظاهرين. إذا كانت مظاهرات الأزهريِّين قد هتفَت بحياة الملك فؤاد، فإن مظاهرات ما بعد الحرب العالمية الثانية تهتف بسقوط الملك فاروق.

أعطى حمدي درويش أمرَه. انطلق الرصاص في الهواء، وارتفعَت الهراوات والخوذات.

تراجع المتظاهرون أمام موجات العساكر. لاذوا بالأبواب المفتوحة، والشوارع الجانبية.

عاد الجنود بأعداد من الطلبة، من داخل الدكاكين والمقاهي والبيوت. ميَّزوهم بالزيِّ الأزهري.

دفعوا ابن خطاب — بزيِّه الأزهري — معهم إلى داخل عربات البوليس.

بقيَ بمفرده في قسم الجمرك، بعد أن أُعيد الطلبة إلى المعهد.

فاجأه حمدي درويش بصفعة على قفاه، اندفسَت لها رقبتُه داخل جسده بتلقائية.

– لست طالبًا في المعهد … لماذا كنت في المظاهرة؟

– لم أكن فيها. أخذني العساكر من داخل زاوية خطاب.

رمقَه بنظرة محدقة، كأنه يحاول قراءة ما يُخفيه: كنت تؤذِّن، أم تُقيم حلقة ذكْر؟!

•••

الحجرة، الزنزانة، ضيقة، بلا نوافذ، والباب أُحكم إغلاقه، كأنه تحوَّل إلى جزء من الجدار المصمت. الكُوَّة الصغيرة. أعلى زاوية السقف. بحجم قبضة اليد، تأذن بدخول الهواء، وأصداء الطريق.

لم يعرف كيف يُواجه ما يحدث، ولا كيف يَصِل إلى هؤلاء الذين يتحركون خارج الزنزانة. لا يراهم ولا يرونه. إنما هي أصوات صاخبة، خافتة، متلاغطة، متشابكة، تترامَى بما يُشبه الصدى. لم يحاول تبيُّن مصدرها، وإن حاول أن يلتقط الكلمات التي تقولها.

انثالَت على ذاكرته: بيوت، خرائب، أنفاق مضيئة ومظلمة، أطفال يلعبون البلي، كومات قمامة يغطيها الذباب، وجوه تُطلُّ من النوافذ، مناشر غسيل، باعة وراء أقفاص، قطَّان يتعاركان حول ما لا يتبيَّناه، تلويحة يد من خلف قضبان حديدية، خيمة متصوفة في دحديرة أبي العباس، هوائيات، تطوحات الذاكرين، أعمدة صحن أبي العباس، مقام سيدي كظمان، طائرات ورقية تتصادم في الفراغ.

غاب ضوءُ الشمس، فلا يفرق بين الليل والنهار. يحدِّق في الظلمة، فلا يرى شيئًا. اقتحمه شعورٌ بالوحدة والعزلة والوحشة، وأنه يهبط إلى أعماق الظلمة، دون أمل في النجاة.

تاقَ إلى الضوء والناس، والمؤانسة والبيع والشراء، والشوارع والبنايات والمساجد، والموالد وخيام الصوفية وأكشاك الختان، وحلقة الذكر على رصيف البوصيري، وزحام شارع الميدان، ووقفة الفصال في حلقة السمك، وصلاة الجمعة في أبي العباس، ودروس المغرب في زاوية خطاب، وأشعة الشمس الساقطة من أعلى زاوية الأعرج.

أفزعه التصور أن يظل محبوسًا في الحجرة.

لم يَعُد يتصور مرور الوقت إلى اليوم التالي. تحوَّلت الجدران إلى أيدٍ تخنقه، تُطبق على جسده.

هل يقتله الرجل في هذه الحجرة، الزنزانة؟

قال أبوه: إن الوطن قد يكون بين أربعة جدران، لكن الجدران الأربعة، المصمتة، تُعطي معنًى مختلفًا. العزلة التي لا تطلبها النفس، والوحدة القاسية. يشعر بأن ترك المكان — في الموعد الذي يريده — ليس حقَّه. قيمة الجدران والفضاء والخلاء، فيما تهبه من راحة وسكينة واطمئنان، وغياب التوقع الرديء. ما عدا ذلك، فهو السجن الذي قد تضمُّه حديقة.

أدرك أنه يعوم في بحر بلا أعماق ولا ضفاف.

أصاخ السمع لما يُشبه الهمهمات، تترامى من وراء الجدران والكُوَّة الحديدية العلوية الضيقة.

ضرب الجدار الفاصل بقبضته. انعكس الصدى تحولت الهمهمات إلى صيحات ونداءات تصدر عن مئات الأفواه.

وقف تحت الكُوَّة الصغيرة على أطراف قدميه. أدار يده حول فمه. رفع صوته — بالاستغاثة — إلى آخره. يعرف الناس في الخارج أنه مسجون داخل حجرة مغلقة.

لكن: مَن يستمع إلى صراخه؟ مَن يعرف بوجوده في هذه الزنزانة الضيقة؟

إذا حدث الموت، فلن يُتاح له رواية ما حدث، منذ دفعه الجنود في السيارة، حتى أغلق حمدي درويش عليه هذه الحجرة.

تمنَّى ألَّا يموتَ في صمت، اقتحمه التفكير في ضرورة الهرب. يرفض أن يكون الموتُ هو المتاح الوحيد.

لم تَعُد لديه رغبة ما، فيما عدا أن يظلَّ حيًّا. لا ينتهي العمر في هذه الزنزانة.

•••

لماذا يسبق القرين الإنسان في العالم؟

عرف أن القرين وُلد قبل يوم من خروجه إلى الحياة. يسبقه — بعد ذلك — إلى حيث يذهب. هل بالتخمين، أو أنه يتلقَّى أوامر لا يعرف مصدرها؟

لا يذكر متى عرف — للمرة الأولى — تسمية القرين. لعلها كودية الزار سيسبان. قالت — وهي تُعينه على القيام: اسم الله على أختك!

سأل أمه: ماذا تقصد المرأة:

قالت: أختك هي قرينك … إذا أرضيناها بالكلام فلن تُؤذيَك.

– هل يمكن أن تُفيدَني.

– يقترب القرين من النفس — أحيانًا — أكثر من الروح!

وهي تربت فخذه: المهم أن تُبعدَ عنك أذاها.

رفض الشيخ نعمان حبة إمام زاوية خطاب دعوةَ سيسبان وتفسير أمه. تشكَّك فيما نُسب إلى الرسول: «ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينُه من الجن.» القرين فكرة سخيفة لا معنى لها. الجن مذكور في القرآن، لكنه جنس آخر، كائن آخر قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. الضرر والشر هما — في آيتَي القرآن — المعنى المحدد للقرين. يصعب أن يلتحم بجسد الإنسان، يصبح جزءًا من حياته، يُؤذيه أو يمنع عنه الأذى.

حلَّت فكرة القرين في اللحظة التي خايله فيها الجنون: هل القرين معه الآن؟ في داخل جسده، أو بالقرب منه؟ هل تُشاركه الحياة في الزنزانة المغلقة؟ هل تُنقذه إن استغاث بها؟

هو يحتاج إلى القرين للسبب نفسه، لإغاثته من الخطر، لا تشغله الوسائل، ولا تأثيرات أفعال القرين على مَن يهددون حياته.

لم يُسخِّف الفكرة — كما فعل إمام الزاوية — ولا رفضها. اطمأن إليها، واستدعاها عندما خنقه الحصار، وبدا الأفق مليئًا بالتوقعات المخيفة.

يُسلِّم نفسه إلى الصمت السادر. يُصيخ السمع لتبيُّن صوت القرين.

يعرف أن قرينه، الجنيَّة التي يخاويها، تُقاسمه الحياة أينما كان. حتى في الشوارع تُلازمه كظلِّه. تستطيع أن تدخل من الباب، وتخرج منه. تخترق الجدران، لا شأن لها بأقفال ولا مزاليج ولا عيون راصدة. تفعل ما تُقيده الحركة عن فعله، ما لا يستطيع أن يفعله. لعلها تعيش في داخله، تُلاصق جلده ومشاعره، تُقاسمه الصحو والنوم.

أزمع أن يجعل القرين طوع إرادته. يأمر، فتمتثل القرين. لا تُخيفه، ولا تعترض، أو تحاول إثناءَه عمَّا يطلبه.

•••

علا صوتُه.

رددت الجدران صدى الصوت.

قال ما لم يتدبره، ولا تصوَّر أنه يقوله. كان لا بد أن يفعل شيئًا لمجاوزة الحصار، التحذيرات والتهديدات والأوامر.

طال تطلُّعه إلى الباب المغلق، وإن توقَّع أن ينشقَّ الجدار عمَّا ينتظر قدومه. تطالعه القرين والأنيس وتفريج الكربة. تُجالسه، تُجيب عن أسئلته، تدلُّه على ما ينبغي فعله.

هذه القرين، متى تُنقذه؟

شاهد في السماء طاقةً من النور. أدرك أن الله — سبحانه — استجاب لشفاعةِ سيدي خطاب ومددِه.

أطال التأمل.

لم يكن في ملامح الواقفة أمام الباب المغلق ما ينتمي إلى عوالم غريبة، أو مجهولة. قرأ عن الحور العين، ولم يقرأ عن القرين. السحنة تختلف عمَّا رسمه في خياله للحور العين. تصور الجسد الأثيري كطيف، البدن المضمخ بالزعفران والمسك والعنبر والكافور، ضوء الابتسامة الذي يُضيء الجنة. لو أن شعرة من رأسها سقطت على الأرض لأضاءت كلَّ ما حولها إلى مسافات بلا آفاق.

أدرك — هذا ما حدَّثه به قلبُه — أنها هي القرين، الجنيَّة التي يخاويها.

لم يُخفِ امتنانه ولا فرحته برؤية المرأة. لا بد أنها أتت لإغاثته، لإنقاذه مما يُعانيه.

لم يَعُد وحيدًا.

قاسمَته الأخت الجنيَّة الحجرة. العزلة والوحدة والجلوس والتمدد والطعام والنوم والأفكار والمخاوف.

تروي القرين ما يعرفه. لا تُضيف ما يبعث على الفضول والمتابعة والأسئلة والدهشة، تُعيد ما عاشه، وإن محَا النسيان جوانبَ منه.

تصوَّر أنه إذا جاءت القرين، إذا قاسمَته العيش في الحجرة، فسيقاتلان ما لا يقوى — بمفرده — على مقاومته. تنتصر له القرين، تنتصر لهما، تُشاركه العراك — بميلها إلى الشر — حتى يريا النور.

قالت القرين: دعوتَني للإقامة — مجسَّدة — معك.

قال: لا معنى للونس في زنزانة مغلقة.

حوَّلَت عينَيها بعيدًا عنه: خلِّص نفسك، فلم نتفق على ذلك.

تنامَت في داخله قوةٌ هائلة، لم يفطن إليها من قبل، ولا شعر بها. أدرك أن قوةً عُلْيا تسيطر على تصرفاته، لا يستطيع رفضها، ولا مقاومتها، ولا التغلب عليها، تدفعه لفعل ما تريده.

عمَّق إحساسَه بما تصاعد في داخله من الرفض لما يحدث. هو الذي ينبغي أن ينفعل، ويثور، وليس القرين التي اكتفَت بالمؤانسة.

ليس ذلك ما تخيله. لم يتخيل أي شيء، لا مخلوقات سفلية ولا علوية. هو الذي ينبغي أن يواجه ويتحدى.

«اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت. اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أنت الحي لا تموت، والجن والإنس يموتون. اللهم إنى أسألك الصحة والعفة والإنابة وحسن الخلق والرضا بالقدر.»

ضغط بآخر قوته على الباب المغلق.

شعر أن جدران الغرفة تبتعد.

واصل الضغط حتى تهاوَى الباب تحت قدميه. زال الباب والجدران والكوة الصغيرة في زاوية السقف. لم يَعُد إلا الفضاء من كل الجوانب.

تحرَّك بين الحجرات، لجأ إلى رأسه وصدره ويدَيه وقدميه، يدفع الجدران والأسوار، وكل ما يحيط به، حتى أنفاسه القوية كإعصار، أطلقها في كل ما هو قائم ليتداعى ويسقط. تحطَّمت النوافذ والشرفات والأبواب، تحطمت حتى الأشجار المحيطة بقسم الشرطة.

أخلى لنفسه منفذًا.

•••

انظر: أبو العباس، حمدي درويش، رافع عبيد، سيسبان، فاروق الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤