ضياء خير الله

أعاد النظر إلى ما حوله: الشوارع والبيوت والمارة والمطلين من النوافذ ومناشر الغسيل ورائحة البحر والنخيل العالي على امتداد طريق الكورنيش.

لم يصدق أنه ابتعد عن جامع عبد الرحمن بن هرمز، وشارع رأس التين، وإطلاق الرصاص، ومطاردة الشرطة.

حدث ما حدث في لحظات، توالى إطلاق الرصاص، تعالَت الصرخات والنداءات، ووقع أقدام العساكر.

كيف اختطفته اليد — التي لم يرَها — من استلقائه المسترخي، وهو يذاكر لصق ضريح سيدي عبد الرحمن؟

عرف أن الرصاص استهدف مسئولًا، كان يتجه للصلاة في الجامع، أو أنه كان يمر من أمامه.

استعاد الاسم: السلطان حسين كامل.

عرف — بعد أن خلف المكان — أن الجناة أرادوا قتل السلطان.

تبدَّلت حياته بعد ما جرى.

حاصرَته الوحدة. لم يبقَ في صحبته إلا الخوف والإحساس بالمطاردة. يعاني التوقع والتلفت والخوف. يقاوم رغبة بأن يلتفت وراءه، ليرى إن كان هناك مَن يتبعه. إذا صَعِد درجات المسجد للصلاة، أو دخل دورة المياه لقضاء الحاجة، أو تمشَّى على طريق الكورنيش. يُدرك أن مَن يكلم البائع الذي تركه في شارع الميدان يسأله عن أشياء تخصه، ومَن يقفز وراءه إلى ترام رقم ٦. يضايقه — في أثناء سيره — تعدُّد الظلال، بتعدد لمبات الطريق، والمنبعثة من النوافذ والدكاكين. تتشابك. يتخيل مَن يسير وراءه، شخص أو أكثر. يلتفت وراءه. لا يجد إلا تعدد الظلال. ينسى الأمر — بعد لحظات — ويعاود التلفت.

لم تكن السياسة تدور له ببال، ولا شارك في تنظيم، أو مظاهرة، أو ناقش قضية تتصل بالسياسة. التردد على جامع سيدي عبد الرحمن للمذاكرة، أو للانضمام إلى حلقات الدرس بعد المغرب. المسافة بين الجامع والبيت في شارع أحمد كشك، أقل من مائتي متر، يذاكر مع زملاء يقيمون في شارع حلابو. في منتصف المسافة، يُكمل المشوار إلى البيت، أو إلى الجامع. لم تكن تفوته دروسُ المغرب لإمام جامع سيدي عبد الرحمن بن هرمز. يُنصت، ويتأمل، ويسأل، وتُداخله نشوة للنظرة المتعاطفة في عينَي الإمام.

نشأ في أسرة متدينة. أبوه خير الله الطماوي من علماء الأزهر الشريف. ظل — بعد أن أُحيل إلى المعاش — يعتز بتلمذته لعلماء مهمين، مثل الشيخ عليش، والشيخ محمد شاكر، والشيخ دراز.

اعتاد زيارة الجوامع والأضرحة والمقامات. يقدم النذور، يوقد الشموع، يلامس المقصورات بأصابعه، يُتمتم بدعوات. رافق أباه في زياراته إلى أولياء الله، ففعل مثله. لم يسأل عن المعنى. أعاد ما كان يفعله أبوه لمجرد المحاكاة.

لم يحاول مشاهدة مباريات كرة القدم في الأرض الخلاء برأس التين، وإلى جوار حلقة السمك، وفي الأرض الخلاء برأس التين، وفي شارع التتويج، ولم يرفع الأثقال في الأكشاك على نواصي الشوارع الخلفية.

اكتفى بالقراءة هواية وحيدة. يشتري المجلات والكتب من مكتبة النن بالموازيني، والاستعارة من مكتبة فارس قبالة فرن حبيب. يقرأ حتى قصاصات الصحف.

ظلت الواقعة القديمة في داخله. تُناوشه، تلحُّ عليه. تعروه ارتجافة في استعادتها.

استعاد طمأنينته بعد أن ألحقه خليفة كاسب — بالابتدائية — مخبرًا بمكتب مباحث الأسماك. الكشك القريب من سراي رأس التين. عمله بين الشواطئ، يومين أو ثلاثة، ثم يعود إلى الإسكندرية.

شغلَه حبُّ القراءة والسماع والمشاهدة. استهوَته روايات روبن هود ومغامرات روكامبول وكنوز الملك سليمان وسكاراموش وهي أو عائشة وشرلوك هولمز وأرسين لوبين والفرسان الثلاثة والتاجر هورن وروبنسون كروزو والكابتن بلود وأسرار باريس واليهودي التائه وفانتوماس، ومجلات البلبل والبعكوكة والفارس وسندباد.

تردد على المجلس البريطاني بشارع طوسون، والنادي الثقافي بوسط البلد، والمكتبة الأمريكية بشارع فؤاد، وجماعة الصداقة الفرنسية.

سأله حجازي أيوب، وهو يبادله كتبًا بأخرى: هل تأكل الكتب؟!

تعرَّف — بالمصادفة — إلى حسين بيكار.

طابق ملامح الصورة المنشورة في الصحف، وملامح الرجل الواقف على شاطئ الأنفوشي، يتأمل الأفق والبلانسات والصيادين والطائرات الورقية والأعلام الملونة فوق ورش القزق.

استحثه بيكار — بابتسامة — على الكلام.

– قرأت رحلات السندباد. لم يكن ذلك الطفل الصغير.

قال بيكار: ما أرسمه هو سندباد المجلة، سندباد الطفل.

– من اختراعك؟

استطرد بيكار: مثلما أن سندباد الحكايات من اختراع مؤلفها.

حيَّاه بيكار، ومضى ناحية أصدقاء نادوا عليه.

ظل اللقاء في باله، وهو يقرأ «سندباد» في الأسابيع التالية. تبدَّلت صورة خياله. سندباد بيكار يختلف عن سندباد الحكايات. حرص أن ينتزع رسوم بيكار من الصحف وأغلفة الكتب، يحتفظ بها في ألبومات، أو في دوسيهات يعود إلى مطالعتها، أو يغطي بها جدران حجرته.

كان يحرص على التنقل بين دور السينما: أوديون، الهمبرا، رأس التين، التتويج، كونكورديا، بلازا، ماجستيك، ركس. أحب سابو في «لص بغداد» وجوني ويسمولر في «طرزان». أحب سيلفانا مانجانو في «الأرز المر»، وآفا جاردنر في «الكونتيسة الحافية»، وريتا هيوارث في «سالومي»، ومارلين مونرو في «الرجال يفضلون الشقراوات»، وتحية كاريوكا في «شباب امرأة»، وهدى سلطان في «امرأة على الطريق». أحب المرأة الأنثى، الفتنة. يُطيل التحديق. يستعيد — في البيت — ما اختزنه. تمضي راحته باللذة إلى منتهاها. يسكن بالرجفة، ويهدأ.

حين شاهد فيلم «والله خلق المرأة» في حفلة العاشرة صباحًا، عاد إلى سينما استراند في حفلتي الثالثة والسادسة. اجتذبَته عينا بريجيت باردو. تبيَّن أنه يحب العين الواسعة ذات الرموش الطويلة، لا يستوقفه لون العين، ولا مدى تعبيرها عن البراءة أو الوحشية. أدرك — في لحظة كالومضة — أن العينين تُشبهان في اتساعهما عينَي نعمات.

حذَّره رفقي زلابية أنه لن يحصل من نعمات بأكثر مما حصل هو عليه. تَعِد ولا تفي، تكتفي بالإيماءة المحرضة دون أن تتجاوزها إلى الفعل. أهملت كلَّ ما وضعه تحت قدمَيها من نقود وهدايا.

ثم وهو ينفخ في استياء: تظن نفسها السفيرة عزيزة!

•••

سعى ضياء خير الله إلى الشاعر عبد اللطيف النشار في جلسته ببار البوستة.

داخلَه نوعٌ من التردد والتوجس، وهو يقترب من البار ذي المصراعَين الخشبيَّين المفتوحين، والضوء الشاحب. لم يكن تردد عليه من قبل، ولا عرف الجلوس في الأماكن العامة، حتى الجوامع — منذ الحادثة القديمة — لم يَعُد يتردد عليها.

كان قد سمع عن ميل نفسية عبد اللطيف النشار إلى التغير. وصفه حجازي أيوب بأنه رجل مزاجي، متقلب النفسية، يصعب التنبؤ بأفعاله، وردود أفعاله.

دلَّه النشار على قراءات لم تكن تهمُّه. قرأ الذخيرة لابن بسام، ومروج الذهب للمسعودي، وحياة الحيوان للدميري، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، وخطط المقريزي، ونفح الطيب للمقري، وفتوح البلدان للبلاذري، وأدب الدنيا والدين للماوردي، والكامل للمبرد، والكامل في التاريخ لابن الأثير، والبخلاء للجاحظ، وتاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام للزركلي، وحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطي، وعجائب الآثار للجبرتي.

التقى في المكتبة الحجازية — للمرة الأولى — بجميل الخضراوي. اجتذبته العناوين التي طلبها الخضراوي. ليست الألفية ولا هي في الفقه أو أصول الدين أو العبادات. تناثرت أسماء عبد الرحمن الرافعي وعمر طوسون وأحمد خاكي ومحمود كامل ومريت غالي ومحمد عوض محمد وحسين فوزي وصبحي وحيدة ومحمد خطاب.

قال: فهمت أنك طالب بالمعهد الديني.

– هذا صحيح.

– قراءاتك — كما أرى — تقتصر على التاريخ.

– أنا أدرس الدين، لكنني أحب قراءة التاريخ.

زار جميل الخضراوي في المعهد الديني.

البناية ذات الواجهة المتآكلة، والنوافذ الخشبية العالية، الكالحة اللون، والشرفات الحجرية، التي تغطَّت بطبقة من الطحالب الخضراء، وتساقط العديد من مقرنصاتها.

صعد الدرجات الرخامية الخمس، المفضية إلى ظلمة المدخل.

أَلِف السلمات الرخامية المتآكلة، الدرابزين المعدني الأسود بنقوشه المتداخلة، الجدران المكسوة بتكوينات النشع، أبواب الحجرات المواربة، يتسلل من ورائها ضوء النهار، أو ضوء اللمبات في الليل، تمازج روائح الطعام والبخور والصنانة المنبعثة من دورات المياه.

تناقشا. اتفقا واختلفا. انتقلت جلساتهما إلى قهوة أنح على ناصية صفر باشا ورأس التين. اطمأن كلٌّ منهما إلى صداقة الآخر. طرح السؤال الصعب نفسه: هل تستمر الصداقة بعد أن يُنهيَ الخضراوي دراسته؟

لكن التطورات السياسية المتوالية ألجأت جميل الخضراوي للعودة إلى الدلنجات، وألجأت ضياء خير الله للاختفاء.

صداقته لسعيد العدوي غيَّرت حياته تمامًا، بدَّلتها.

لم يكن يعرفه، ولا التقى به من قبل. تبادلا حديث المصادفة وهما يتطلعان إلى سباق البنز على طريق الكورنيش. امتد الحديث — لا يذكر كيف — إلى القراءات. تحدث ضياء عن طه حسين والعقاد والمازني والزيات وهيكل.

قال سعيد العدوي: لم تتكلم عن سلامة موسى؟

قال ضياء: لا أعرفه.

– ألم تقرأ سلامة موسى؟

أعاد القول: لا أعرفه.

– من المهم أن تقرأه.

واتسعت ابتسامته: سأُعيرك بعض كتبه.

أعاره العدوي — فيما بعد — الأم لجوركي، العادلون لألبير كامي، الجدار لسارتر، الأحمر والأسود لستاندال، لمونتسكيو، الأحياء للافاييت، صمت البحر لفيركور، الأجزاء الأربعة من مذكرات أحمد شفيق باشا.

زادت انفراجة الباب، اتسعت، صارت فضاء بلا آفاق ينتهي إليها.

قال للعدوي في تظاهر بالجدية: أصبحت من الإنتلجنسيا.

وأشار إلى نفسه: كما عرفت، فهي تعني الطبقة المثقفة!

كان قد نسيَ الحادثة القديمة تمامًا، حين أُلقيَ القبض عليه في مظاهرة على طريق الكورنيش.

اجتذبه الهتاف، وتحطيم المصابيح وإشارات المرور وعربات الترام والأوتوبيسات وواجهات الدكاكين، وإشعال النيران في الإطارات وسط مفارق الطرق.

اندسَّ في المظاهرة، ذاب في الزحام، ودخان القنابل المسيلة للدموع، والأحذية الثقيلة، والهراوات، ودباشك البنادق، والخوذات، والدروع الحديدية، وقطع الحجارة، والصرخات، والصيحات، والدماء.

ردَّد — بآلية — صراخ الهتافات: أين أمك يا فاروق؟ … الاستقلال التام أو الموت الزؤام.

في مواجهة المتظاهرين صفوف متلاصقة، متتالية، من الجنود، الخوذات على الرءوس، والدروع والهراوات في الأيدي.

لم يلحظ متى، ولا كيف، اجتذبَته الذراعان القويتان، ودفعتا به داخل اللوري المغلق.

التقى — بعد غيبة طويلة — البكباشي حمدي درويش.

قال البكباشي: أهملت النيابة حادثة سيدي عبد الرحمن فأفرجت عنك.

وواجهه بعينَين متَّقدتين: أنت في وضع المحكوم عليه مع إيقاف التنفيذ … أي خطأ يجر القديم والجديد!

وصرَّت أسنانه على غضب واضح: لا تُصعِّب علينا الأمر.

وعلَت وجهَه إيماءةُ تهديد: اعترافك يُنهي كل المتاعب.

ورمقه بنظرة رافضة: لن تتوقف أعين رجالي — منذ الآن — عن مطاردتك.

ثم وهو يهزُّ إصبعه: لن تستطيع الصمود طويلًا!

جذبه شيخ الحارة شوقي أبو سليمان، من زحام شارع الميدان إلى داخل دكان الكبابجي «على الناس»: خذ بالك فأنت مراقب!

قال في لا مبالاة يائسة: هذا ما هددني به البكباشي حمدي درويش.

– ليس تهديدًا، الرجل ينتظر وقوعك في أي خطأ.

هتف في حيرة: لماذا؟

– لم يتصور أن النيابة تُخلي سبيلك!

ثم وهو يرسم في الفراغ دائرة هائلة: يغزل لك شبكة على مقاسك.

واجهه بعينَي الحيرة: المهم ألَّا تلصق بي تهمة كاذبة.

– الأهم ألَّا تُتيح له الفرصة!

وأدار إصبعه في الهواء: إذا كفَّ مخبر عن مراقبتك، فسيتولَّى مخبر آخر المراقبة من بعده.

وحدَّق فيه بعينين تُفتشان عن معنًى مفتقد: مطاردة حمدي درويش لك قدَرٌ لن تستطيع الفرار منه!

لاحظ في نفسه إصغاءَه للخطوات التي تتبعه. وقْعُ الأقدام يلاحقه، يقترب، يبتعد، لكنه يظل في أذنه. تزايد التلفت خلفه وحوله، معاناة الإحساس بالمطاردة. ظلت المسافة بينه وبين السائر وراءه على حالها. كلما أسرع، علا إيقاع الخطوات من ورائه.

يُفاجئه النداء باسمه — يهمُّ بالرد — يُدرك أن أعوان حمدي درويش يحاولون اجتذابه بالنداء. يردُّ فيفطنون إليه. يُلحق استجابته بالصمت. يتجه إلى الناحية المقابلة.

ضبط نفسه وهو يميل من شارع الميدان إلى شارع وكالة الليمون. النظرة متشككة في عينَي الرجل ذي الجلباب والبالطو والطربوش. أعطى ظهره لسور الدائرة الجمركية. ظل واقفًا حتى اطمأن إلى غياب النظرة.

أحزنه أن الخوف في نفسه لم يَعُد طارئًا. لم يَعُد يُدرك حتى بواعث الخوف، يخاف من المجهول، وما لا يعرف طبيعته.

يتنبه إلى ما يُشبه الهمس أسفل البيت. يحدق من خصاص النافذة. يطالعه الصمت والظلمة الشاحبة، وغياب الظلال. ربما استيقظ — في أثناء الليل — ليتأكد من إحكام رتاج باب الشقة وإغلاق النوافذ. حتى نافذة المنور كان يطمئن إلى إغلاقها.

في انحناءة الطريق من مرسى القوارب، استدار ليُواجه الخوف.

لم يجد الشخص الذي يتبعه.

مال إلى التخفي، والتستر على نفسه من الأعين الراصدة والمطاردة. يطمئن — قبل أن يدخل حجرته — إلى إغلاق مزاليج الأبواب والنوافذ، وإطفاء النور.

أرهقه السير المتخفي في الشوارع والحواري والأزقة. صارت حياته سلسلة من الاختفاء والمطاردة. يشعر أن هناك مَن يتبع خطواته، ما يُشبه الأطياف أو الأشباح يلاحقه. يتلفت وراءه لتعدد الظلال، يتبين أنها ظلُّه المتعدد في تداخل الظلال. يديم التلفت في المارة والسيارات والبنايات. لا يطمئن لأي إنسان، ويرتجف لكل حركة، ويتوجس من أي حوار هامس. يعاني القلق والخوف والمطاردة والتوقع والمصير الذي ينتهي تصوره إلى أفق أسود. أدرك أنه لا قِبَل له بمواجهة ما يترصده.

قال لعبد اللطيف النشار: أسخف ما أُعانيه أنِّي أفرُّ إلى الظلام. أخشى الضوء، وأحتمي بالظلام.

وضرب الفراغ بجانب يده: لم أَعُد أحتمل!

روى له النشار عن معاناة بيرم التونسي خلال الأشهر الستة التي أمضاها في مصر، قبل أن يُنفى — مرة ثانية — إلى الخارج. غاب عن الأماكن التي اعتاد التردد عليها. عانى التلفُّت والإحساس بالمطاردة.

قال النشار: أنت تشكو تعقُّب رجال البكباشي. بيرم أرهقَته المطاردة والنفي.

قذف السيجارة من يده — بتلقائية — وسحب من العلبة سيجارة أخرى. أشعلها، وواصل الكلام: عاد بيرم من المنفى باختياره. اعترف أنه عانَى النفي بما فيه الكفاية!

ووشَى صوته بتأثره: المطاردة تهون أمام الابتعاد عن ناسك!

•••

تمنَّى أن يصل إلى نهاية.

أرهقه الهرب من النظرات المتابعة، والتلفت الدائم، والتحديق بتوجس، وتخمين التوقعات.

بدَت له الأعين التي تحيط به، كأنها اقتصرت على مراقبته، ملاحظة حركاته وتصرفاته. كيف تصل أخباره، والأماكن التي يسير فيها، أو يتردد عليها، إلى البكباشي حمدي درويش. يحرص على التلفت فلا يتابعه أحد.

لكن الأعين الراصدة ظلَّت تُطارده حتى غلبه اليأس، وأهمل التوقع.

ألحَّت عليه فكرة الهرب، يمضي إلى مكان لا يرى فيه أحدًا، ولا يراه أحد.

أيقن من زيف الأمان الذي اطمأن إليه. النظرات تُحاصره كأنها تتجه كلها ناحيته، الشرخ يتسع، يَشِي بالانهيار، الأشباح تُلامسه دون أن يراها.

تكرَّر حلمه بالسير في خلاء أشبه بالخلاء المحاذي لمساكن السواحل. غلفت المرئيات بضباب متكاثف. صعب عليه التعرف إلى طبيعة المكان. مضى دون أن يعرف أين هو، ولا أين تقوده خطواته. تلفَّت حوله بشعور الوحدة. تنبَّه لأشباح أو أطياف، تتحرك من حيث تقف متناثرة في الأطراف، تتجه ناحيته كأنها تريد أن تحيط به.

صحا على صراخ الاستغاثة.

أرهقه مجانبة الناس له. يرونه، ويتظاهرون بعدم رؤيته. يتحاشَون لقاءه أو مجالسته. إذا قَدِم على مقهى الزردوني، انصرف مَن كانوا جالسين، أو اكتفَوا بهزِّ الرءوس، وتشاغلوا بلعب الطاولة، أو الكوتشينة.

مرة وحيدة، التقط ما حدس أنه دعاء له من امرأة لحيمة، لم ترفع رأسها وهي تُنقِّي الأرز.

قال له الشيخ عبد الستار إن البكباشي حمدي درويش قد يحدُّ من حريته، أو يسدُّ عليه أبواب الرزق، لكنه سيظل عاجزًا عن النيل منه.

وقال الشيخ: إذا أظهرتَ الخوف أمام مَن يراقبك أو يتبعك، فأنت تدفعه إلى ملاحقتك. أنت تقضي على الخوف باقتحامه. إذا أقدمت على الهجوم، فالأغلب أن مَن يطاردك سيلجأ إلى الفرار!

وتألق في عينيه حزنٌ هادئ: نحن نخاف الموت والليل والظلام والمجهول والمرض والوحدة والعزلة والشيخوخة والأصوات القبيحة … نحن نخاف ذلك كلَّه، لكننا نستطيع أن ننتصر عليه — أو نُوقفه — إذا لم نكتفِ بالفعل. إذا واجهنا الفعل بفعل مماثل، أو أقوى منه، أو حاولنا المبادأة بالهجوم دفاعًا عن أنفسنا.

ثم وهو يتخلل لحيته بأصابعه: يجب ألَّا نحزن إذا دخلنا السجن من أجل ما نؤمن به.

أضاف في لهجة تأكيد: قد يدفع المرءُ حياتَه ثمنًا لحرية الآخرين.

واصطبغ وجهه بحمرة الانفعال: إذا كنَّا ندين الحكام على أنهم يضحُّون بالناس من أجل مصالحهم، فإننا مطالبون بأن ندين أنفسنا إذا اكتفينا بالفرجة على تلك التضحيات. ما نحمله من معرفة ووعي يُلزمنا أن نتجاوز الفرجة إلى الفعل، حتى لو بدَت النهاية الشخصية، القاسية، عند الأفق.

وربت ركبته في إشفاق: قد تلقَى الإيذاء، أو تخضع للتهديد، فتفعل ما لا ترضاه، ليكن ذلك بلاء، حاول — بمشيئة الله — أن تتخلص منه.

لاحظ العينين المتابعتَين، وهو يغادر الساحة المجاورة للحلقة، بعد انتهاء المباراة. أزمع ألَّا يعود مباشرة إلى البيت. تعمَّد أن يُبدل سيره. مضى ناحية مساكن السواحل. مال — فجأة — ناحية البحر. تعثَّرت خطواته في كومات الردم التي أضافت إلى مساحة اليابسة.

استدار لتبيُّن مصدر الخوف.

أمسك الرجل بساعده. دفعه ناحية الخلاءِ المطلِّ على البحر: لا تخَف. أريد أن أكلمك.

استعاد قول عبد اللطيف النشار: الخوف ظاهرة طبيعية.

حدثه عن المخاوف التي لا تنتهي: الخوف من الفشل، ومن قلة الحيلة، ومن المرض، ومن الموت، ومن عذاب القبر، ومن عقاب الآخرة.

وضغط على الكلمات في صوت متلكِّئ: الإنسان — وحده — هو الذي عرف فكرة الوطن والجنسية والانتماء. بقية المخلوقات تنتمي إلى أي مكان تجد فيه الرزق والدفء. هذا ما يفعله طائر السمان. يضيق — حيث يُقيم — بالبرودة وغياب الرزق. ينطلق — في أسراب لا تنتهي — نحو ما يتصور أنه سيجد فيه الشيء المفتقد.

وحدجه بنظرة متأملة، لكي يرى وقْعَ كلامه في نفسه: نحن نصيد السمان في الفجوات التي تفصل بين الوطن واللا وطن، عندما يقتصر البحث عن موضع للإقامة المؤقتة، أو الدائمة، فرارًا من خطرٍ لا يقوى على مغالبته.

ثم وهو يهزُّ قبضته: من واجبنا أن نقاوم الخوف!

بدا — في نظرته الجانبية إليه — في حوالي الثلاثين. يرتدي زيَّ الصيادين: السروال الضيق من أسفل، الفانلة ذات الرقبة، الصديري الكثير الأزرار، الحذاء الكاوتش.

عمق إحساسه بأنه يملك الموقف. يستطيع أن يُبديَ الرأي، ويقبل، ويرفض، ويرفع الصوت، دون أن يشغله التوقع ولا ردُّ الفعل.

وهو يقاوم دفعة الرجل: ماذا تريد؟

– لن أوذيَك.

في صوت متحشرج: سأصرخ.

التفت الرجل حوله بنظرة مستخفة: مَن يسمعك؟!

كانت الساحة خالية إلا من قلاب في الحافة يعطي ظهره للبحر، والصمت السادر يُعمق صراخ طيور النورس المحلقة في امتداد الشاطئ.

شعر بجفاف في الحلق وما يشبه الغثيان، ورعشة في الأطراف والركبتين، وميل إلى التبوُّل.

أدرك أن الذي تبعه — طيلة الأيام الماضية — هو مساعد لحمدي درويش: ضابط، أو صول، أو مخبر. يطلب ما لا يعرفه. ليس القبض عليه، فما أيسر ذلك. ربما يريد أن يتعرف على حياته، أصدقائه ومعارفه والأماكن التي يتردد عليها. حياته تبتعد عن الأماكن الشاحبة والهمسات. لعل تشكُّك حمدي درويش على حاله من أن انخراط ضياء في المظاهرة لم يكن وليدَ اللحظة ولا مصادفة.

مال — بتلقائية — يتقي اللكمة الموجَّهة إلى وجهه. أفلح في تفاديها. لكن الضربة التالية، المفاجئة، فوق رأسه، لفَّته بإعياء.

دفعه الرجل من حافة الشاطئ الحجري. حاول أن يغالب الإعياء، ويتماسك في وقفته، ثم تهاوى في الفراغ.

حين صحا في مستشفى رأس التين، أدرك أن الأمواج تلقَّفته. لم يجد في جسده رضوضًا ولا جروحًا. إغماءة الخوف انعكاس ما حدث. هل كانت في البحر يدان حمتاه من الوصول إلى القاع الصخري؟

أحسَّ بما يُشبه بشرة الإنسان لامسَت ذراعَيه ووجهه، خاضَت به اليدان الموج، ترفَّقتا به، حملتاه إلى رمال الشاطئ، بعيدًا عن توقُّع ألسنة الأمواج.

إذا لم يكن الملمس لبشرة إنسان، فلمن يكون؟!

قبل أن يصعد الدُّحديرة الخلفية لجامع أبي العباس، أطلق ساقَيه. جرى بآخر ما عنده. علا إيقاع الخطوات المتابعة.

الخوف وحده هو الشعور الذي اقتحمه، واستولى عليه.

وجد في داخل أبي العباس أفضل مكان للاختباء. يُدرك أن السلطان يحمي كلَّ مَن يلوذ بمقامه. يُعمي أعينَ مَن يترصدون له، فلا يرونه. لن يتصور أعوان حمدي درويش أنه يلوذ — بأفكاره — داخل الجامع: حول المقام، دورات المياه، قاعة المكتبة. الباب المغلق في جانب المنبر.

اشتدت المطاردة. تناثرت الأعين حول أبي العباس، وفي الميدان والشوارع المحيطة. أطلَّت النيات من الأعين. بدا باب النساء — المفضي إلى الموازيني — خاليًا من المتناثرين داخل الصحن، فهبط منه.

احتواه ميدان أبي العباس.

المولد في تمامه: خيام الصوفية، وحلقات الذكر، ومواكب المولد، وراكبو الجياد، وحاملو الأعلام واللافتات والبيارق والمباخر، وقارعو الطبول والدفوف، وضاربو الصاجات، وعازفو الربابة والمزمار والبيانولا والأكورديون، وأصوات المطربين والمنشدين والمدَّاحين، ورواة السيرة، وترتيل الأذكار، والترنم بالتواشيح، وأكشاك الختان، وسرادقات السيرك، والأراجوز، وخيال الظلِّ، وغرفة المرايا، والمراجيح، وألعاب النشان والقوة، وطاولات القمار، ولاعبو الثلاث ورقات، والرفاعية والحواة وأكلة اللهب، والفتاة الكهربائية، والثعابين الملتفة حول الأعناق، والدواء الشافي من كل الأمراض، والابتهالات، والأدعية، والمجاذيب، والمتسولون، وتمازج رائحة البخور والصندل المحروق والند.

اندسَّ في زحام حلقة الذكر. شارك المريدين ما يفعلون. إغماض الأعين، واهتزاز الرءوس، وتطوُّح الأجساد يمينًا ويسارًا، وإلى الأمام والخلف.

أملت المسايرة — بالخوف — فعله في البداية.

قال له الشيخ عبد الستار: لماذا لا تعدل خوفك؟ لماذا لا تخاف الله وحده؟

واحتواه بعينَيه النافذتين: أيًّا يكن مَن تخافه من البشر، فكلاكما يخضع لإرادة الله.

وأشار بإصبعه إلى السماء: الخوف من الله هو الذي سيُتيح لك الأمن وهدوء النفس.

ثم وهو يحتضنه بعينيه: اعتصم بالله!

انغمس في التأود والتثنِّي والأدعية والابتهالات. حتى بعد أن غابت الأعين الراصدة، والأجساد التي تنوي الشر، ظل على حرصه في الوقوف وسط الأجساد التي اجتذبها الوجد. في رحاب المرسي أو البوصيري أو ياقوت العرش. يُغمض عينَيه، يعلو صوته، يُقبل على التصوُّف، يخضع لأحواله ومواجيده وشطحاته.

ذات صباح، ارتدى الشيخ ضياء خير الله المرقعة، وأطال ذقنه، ودلَّى المسبحة على صدره، وحمل العصا.

بلغ حدَّ النهاية من الفرار والمطاردة.

لم يَعُد يشغله التوقع ولا النظرات المتابعة والمتسائلة. هو وسط الزحام ليس وحده، اختلطَت من حوله الأجساد والرءوس والعيون والأنوف والأفواه. ذاب في الأجساد المتلاصقة. أهمل الضغط القاسي، وكتمة النفس. يصعب أن تصل إليه أعين حمدي درويش، أو يناله بالأذى.

صار جزءًا من الدراويش اللائذين بأبي العباس، المستندين إلى جدران مسجده، الزهاد، العابدين، المتوكلين، الفقراء، الصابرين، ومن المآذن والأروقة والمحاريب والصلاة وحلقات الذكر والمدد والصراخ والرقص والوجد والتطوحات والانجذاب وآيات القرآن والأدعية والأوراد والتسابيح والنذور والابتهالات والتراتيل والتواشيح والبخور والسبح والبيارق والأعلام والأناشيد ولطم الرءوس والنداءات المستغيثة، والزجاج المتناثر — عمدًا — تحت الأقدام الحافية، والأسياخ التي تخترق الوجوه، والنار المندفعة من الأفواه، ودقات نقرزان سيد حلال عليه.

طال ارتداؤه للخيش، وأَلِف رائحة العرق في جسده، وطالت لحيته حتى بلغت أعلى الصدر.

لا يذكر من أيامه الماضية إلا جلسة عبد اللطيف النشار على مدخل بار البوستة، منعزلًا في عالمه: القلم والأوراق وزجاجة النبيذ والمزَّة وعلبة السجائر.

•••

انظر: أبو العباس، جميل الخضراوي، حسين بيكار، حمدي درويش، سعيد العدوي، سيد حلال عليه، شوقي أبو سليمان، عبد الرحمن بن هرمز، عبد الستار، عبد اللطيف النشار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤