عفريت الخرابة

تسمية العفريت في المعاجم والقواميس مأخوذة من تعفرت، يتعفرت، تعفرتًا، وعفرته، صار عفريتًا، وهو أقوى الجن قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ. العفريت هو الجن الصالح، المحبُّ للخير.

كان الجان جلساء نبي الله سليمان. وفي التراث الديني أن رسول الله ذهب إلى الجن قصدًا. تلا عليهم آياتٍ من القرآن. دعاهم إلى الحق سبحانه. شرَّع لهم — على لسانه — ما هم في حاجة إليه. ربما أن المرة الأولى التي سمع فيها الجن رسول الله يقرأ القرآن، لم يشعر بهم — كما قال ابن عباس — ثم وفدوا إليه بعد ذلك. كما يروي ابن مسعود. وقد أرسل رسول الله رسلًا من الجن إلى قومهم.

قال نخلة صبي جودة هلال إنه رأى العفريت رؤية العين. عيناه تبثَّان نارًا، وأشداقه تتلمَّظ دمًا، ومن حوله ثعابين، وحيات، وجماجم بشر وحيوان.

روى مدين السلاموني الطالب بالمعهد الديني أن العفريت فاجأه وهو يمرُّ أمام الخرابة. لم يتصور أن العفريت يُطالعه قبل أن يأتيَ الليل. التفت مدين بتوجس ناحيةَ الخرابة. التقط — بين تداخل الحجارة والتراب وكومات القمامة — شيئًا ما يشبه الجسد الآدمي، وإن اختلف في التكوين. التفَّ بسواد قاتم. قبل أن يحاول تبيُّنه، كان العفريت قد انقض عليه، كاد يلامس وجهه. لم تُسعفه اللحظة — كأنها الومضة الخاطفة — لتبيُّن ملامح العفريت. هل الوجه لوحش أو لإنسان؟.

روى ما حدث بيقين أن الذي انقض عليه هو عفريت الخرابة. لولا أنه جرى نحو ميدان الخمسة فوانيس، ربما أفلح العفريت في أذيته.

قال الشيخ عبد الستار: العفريت لا وجود له إلا في الحواديت.

قال نخلة: كيف وأنا رأيتُه؟

– رأيتَ ما تصوره خيالك!

– هل لا بد أن تلقاه كي تصدق؟!

– اللى يخاف من العفريت يطلع له.

حذَّره من أن يشغله الأمر، فيجد ما يخافه في كل ما يراه.

فضَّل مدين السلاموني أن يواصل السير في شارع رأس التين، ويميل من شارع أبي العباس إلى نهاية الموازيني. مقصده المكتبات المتجاورة، يشتري ما يحتاجه من كتب دراسية.

•••

لم يكن عفريت الخرابة — في يقين الناس — شريرًا، مثل الغيلان والمردة والجن العاصين، لكن سيسبان نفت أن يكون العفريت في الصورة التي اطمأن الناس إليها. حذَّرت من أنه يملك أن يحول نفسه إلى غير هيئته، إنس أو حيوان أو طير، أو غيرها من المخلوقات. ربما جعل نفسه شجرةً تسكن بالتوقع. يقف مَن ينتظرها تحتها، أو يسير بالقرب منها، تمدُّ أغصانها، تلتفُّ حول عنقه أو جسده، لا ترفع الأغصان حتى تُهلكه.

وضع الناس حسابًا للكائن الذي اعتادوا رؤيته في الخرابة المطلة على شارع سراي محسن باشا، والأماكن القريبة، هو — بهذا المعنى — عفريت، يخشى أذاه سكانُ الشارع والمارة.

قال شحاتة عبد الكريم إن العفريت هو نوع من الجن المتشيطنة، وإنه يرتاد الخرابات والأماكن المهجورة والخلاء والمقابر. يتلون بأشكال مختلفة، يتقمص أجساد الحيوانات المفترسة، يثقب شباك الصيادين فيعود السمك إلى المياه، يتسلق الجدران والمواسير، يتقافز على أسلاك الكهرباء والهاتف، يَثِب فوق الأسطح وبين الطوابق العليا، يقذف الملابس المنشورة على أعمدة الغسيل، يُغلق أبواب البيوت والنوافذ ويفتحها، يُطفئ أنوار الدكاكين فتحل الظلمة، ينفخ بآخر زفيره فيُثير الهواء والأتربة، يدقُّ الأبواب والجدران والأرضيات، يتسلل من انفراجات الأبواب، يهزُّ الستائر، يبدِّل مواضع الأثاث والصور واللوحات، يترصد للبشر في النواصي وأماكن اختفائه، لينالَهم بعداوته وأذاه.

كانت الخطوات تُبطئ، أو تغالب الارتباك، وهي تقترب من شارع سراي محسن باشا، أو تهبط من داخل بيت فيه، أو تدخل إليه، أو تُطل من نافذة.

آخر سكناه بيتٌ في حارة سيدي داود، المتفرعة من شارع سليم البشري. تلحظه الأعين المتسائلة، مهما أجاد التحوُّل. يقيد حركته تلاصق البيوت، والحارة الضيقة، والجيرة، والصداقة، وسهولة تبيُّن الملامح المغايرة.

لما انهار البيت — أول شارع سراي محسن باشا — فضَّل العفريت أن ينقل سكناه إليه. يُطل — من جانبه — على ميدان الخمسة فوانيس، وتُطل الواجهة على بداية سراي محسن باشا.

قال شحاتة عبد الكريم: نحن ننفي وجود العفاريت … لكننا نبتعد عن الأماكن التي يقال إنهم يعيشون فيها!

تباينت الروايات في حقيقة ما يفعله العفريت داخل الخرابة، لكنها اتفقت على خطورته، وأن أذاه يبدأ بالتخويف، وينتهي بالقتل.

يتشكل في هيئات مختلفة: ثعبان، قط، كلب، غراب. تتعدد رؤيته — على هيئة البشر — في شوارع بحري وحواريه وأزقَّته. يُطل من أسطح البنايات، أو من فوق أعمدة الإضاءة، أو مواسير المياه والصرف الصحي. يُدرك أن محاولة صعوده إلى مآذن جوامع الحي، أو حتى ملامسة جدران الجوامع، أو سيره على أرصفتها، لا تعني موته حرقًا. قراءة آية الكرسي، أو الصمدية، أو المعوذتين، تُخفيه في مكان غير معلوم. لكنه ما يلبث أن يعود — بعد أيام أو ساعات — إلى موضعه في الخرابة. ينسى — بتوالي الوقت — ما لَقِيه من تأثيرات الآيات القرآنية. يعود إلى مداعبة الناس وإخافتهم، ومساعدتهم أحيانًا، والتنقل بين مواضع بعيدة عن الخرابة. يتقافز — بساقَيه النحيلتين — بين الأسطح وأعمدة الإنارة والتليفونات والشرفات العليا، المغلقة.

لم يرَه الناس على هيئته الحقيقية. يمشي بينهم في هيئات مختلفة، يتخذها فلا يفطن إليه أحد. تطيب له لعبةُ التحول. هو رجل، وهو امرأة، وكلب، وقط، وفراشة، وحمار. قد يتشكَّل في هيئة طائر، يكسو جسده بالريش. لا يُطيل الحياة في هيئة ما. يمتلك التشكُّل في الهيئة التي يريدها.

تقافز في هيئة فأر على حامل اللوحة في أثناء جلوس محمود سعيد للرسم بالقرب من قصر أم البحرية. قبل أن يقترب الخادم — استجابةً لصيحة الفنان — كان قد تلاشى. شاغله المعاكسة لا الأذى. ينزع جلده، ويبدِّل ملامحه. يبدو بشرًا سويًّا. يمشي بين الناس في الشوارع والأسواق، كأنه كائن بشري، لا يلفت النظر، ولا يُثير الانتباه. هو مجرد عابر طريق. يظل على حالته البشرية حتى يقرصه الجوع. يأكل مما تراه عينه، أو تصادفه يده. لا يقرب البشر.

إذا استعاد هيئته الحقيقية، قفز إلى أقرب بناية، تنقَّل بين الأسطح والأسلاك العالية، حتى يصل إلى موضعه في الخرابة.

بعد أن تبدلت حياة فتنة بلمسة إصبعه، فاجأته بالحياة بعيدًا عن بحري. آخر ما يؤذن له بالتحرُّك فيه — من اليمين — انحناءة الطريق ولسان السلسلة، ومن اليسار حد نهاية جانب قصر رأس التين. تنقَّلت بين بيوت ضباط الجيش الإنجليزي في الرمل، وتردَّدت على البارات والكازينوهات في المنطقة.

أعاد التجسُّد في هيئة آدمي، شاب وسيم الملامح، يرقب عودتها إلى بحري، أو الاقتراب منه.

تحدَّث السعداوي شبانة عن الحافرَين اللذين أطلَّا من أسفل جلباب الواقف أمامه. استوقفه لكبريت يُشعل به سيجارة. أدرك أن الرجل عفريت. هو عفريت الخرابة بما يُضمره من الأذى. ترافقت صرختُه مع سقوطه على الأرض مغشيًّا عليه.

لاذ العفريت — من صيحات المغيثين — بالخرابة. قفز فوق الجدار إلى الناحية الخلفية، واختفى.

لم يتسبب ما حدث في أذًى بالسعداوي، لكنه ظل يعاني الخوف من الشوارع المهجورة والمظلمة. لم يتصور أن العفريت يلتقي البشر فلا يؤذيهم.

أشد خوفه من الخرابة. ما رُوي عن العفاريت التي ظلت تسكنها لسنوات طويلة، منذ سقط البيت في ظروف خفية. تُثير الخرابة خيالاته، في وقفته في ميدان الخمسة فوانيس. تبدو جسدًا من أطلال الحجارة والتراب، له وجه وصدر وذراعان وساقان.

رأى الولد نخلة حمارًا صغيرًا يقف — بمفرده — في انحناءة الطريق إلى شارع الأباصيري. امتطى الولد الحمار، وسار به. خطوات، ثم لاحظ أن الحمار يعلو به، وتعلو ضحكاته بما يُشبه ضحكات البشر. ألقى الولد بنفسه إلى الأرض، قبل أن يزيد علو الحمار. روى ما حدث بين لهاث أنفاسه.

اصطدمَت قدما رافع عبيد — أول شارع الأباصيري — بتراب الطريق. علا التراب كسحابة، تشكَّلت في ارتفاعها. أخذت صورة كائن يختلف عن تكوين البشر.

رآه مدين — خادم علي تمراز — جالسًا فوق سطح بيت من طابقين بشارع الأباصيري. تدلَّت ساقاه. لاحظ أن إحدى القدمين لآدمي، والقدم الأخرى لحصان.

أغمض عينيه، وفتحهما. كان العفريت — هذا ما تصوره — قد اختفى من مكانه. لم يعرف كيف، ولا أين ذهب؟

خمَّن أن ما رآه من أفعال السحر. لم تكن حكايات المردة والعفاريت والأشباح والجان تُثير خوفه أو خياله. اطمأن إلى قول أمه: ما عفريت إلا بني آدم. نحن نخترع ما يُخيفنا.

•••

دخل عفريت الخرابة في خناقة بين فتوات الأحياء في ميدان الخمسة فوانيس. آخر معارك الفتوات قبل أن يفرض البكباشي حمدي درويش إرادتَه. لأنهم يُفسدون على الناس حياتهم؛ فقد سعى العفريت بالفتنة بين الفتوات. حاول أن يُفسد ما بينهم. دفعهم إلى العراك، وتنقَّل بين المتعاركَين ليزيد من اشتعال النيران.

أصابته طعنة سكين، فقضى.

زوَّده الله بالقدرة على التشكُّل فيما يتيح له قضاء مآربه. الصورة التي يختارها العفريت تتحكم فيه، سواء كانت صورةَ إنسان أو حيوان أو طير أو حشرة. إذا واجه الخطر بالهيئة التي اختارها — الطعن أو الضرب أو إطلاق الرصاص — تأثَّر بكيفية تأثُّر المخلوق الذي تشكَّل على صورته. نسيَ العفريت الأمر. نفذت طعنة السكين في صدره، فقتلته.

حين مال عليه شحاتة عبد الكريم ليغسِّله، ويكفِّنه، فتح العفريت عينَيه، وقال بلهجة مطمئنة: لا تحرمني من ميتة الشهادة.

أدرك شحاتة أن العفريت من الجنِّ المسلم، وأنه يجوز عليه ما يجوز على البشر المسلمين.

ترك شحاتة ما كان العفريت يرتديه — عند قتله: السروال والصديري والحذاء الكاوتش.

كانت الدماء تغطي الثياب، وتغطي الرأس والوجه، وما ظهر من جسد العفريت في هيئته البشرية.

كفَّنه شحاتة بثيابه. تركه لصبيانه يحملونه — داخل النعش — إلى مقابر العامود.

روى شحاتة للشيخ إبراهيم سيد أحمد ما جرى، من أوصاه، ومات بين يديه، ليس من بني آدم.

عاب الشيخ على شحاتة ما فعله، وأدانه. الملائكة والجان سجدوا لآدم إلا إبليس، فإنه أبى.

العفريت من الجن، وليس من الأبالسة. الصلاة على العفريت تخالف الدين. دفنه في مقابر المسلمين قد لا يقصر الإقامة فيها على عفاريت القيالة. تزدحم بعفاريت لا حصر لها. تجد في المقابر موضعًا أشد طمأنينة من الكهوف والخرابات والخلاء.

عندما التفَّت مقابر العامود بالظلمة، سبق التُّربي قمشة خطوات شحاتة عبد الكريم إلى حيث دُفن العفريت.

رفعَا المجاديل، ومسح التُّربي داخل القبر ببطارية.

كان القبر خاليًا إلا من عظام متناثرة، غابت عنها رائحة الموت.

أدرك شحاتة أنها لموتى دُفنوا في زمن قديم.

•••

انظر: إبراهيم سيد أحمد، حمدي درويش، رافع عبيد، سيسبان، شحاتة عبد الكريم، علي تمراز، فتنة السعداوي شبانة، محمود سعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤