عروس البحر

لماذا كل الحكايات عن عروس البحر أنها ذات عينين زرقاوين وشعر أشقر؟ لماذا لا تكون سوداء العينين والشعر مثل بنات بحري؟

رُويت حكايات كثيرة عن جنيات البحر، عرائس البحر، حوريات البحر. اجتذبن رجالًا رقنَ لهن. تهبط الجنية بالرجل إلى أعماق البحر. تُنزله أحد قصورها التي تنعزل تمامًا عن دنيا البشر. تُسلِّمه نفسها — بالزواج — فيُنجبان البنين والبنات. تُدرك أنه لا بد أن يعود — في يوم ما — إلى دنيا البر. تصعد به — في ذلك اليوم — وتتركه، ومعه نفائس ومجوهرات تُغنيه عن العمل حتى آخر العمر. ثمة مَن تأخذه عروس البحر، وفي نيَّتها ألَّا تُعيدَه.

تشدو بأغنيات جميلة، للصيادين والموج والطيور والأسماك والسفن ومخلوقات البحر، يختلط شدوها بصوت الريح وجيشان أمواج البحر، أغنيات كأنها شدو السماء. تجذب إليها الصيادين وراكبي البحر:

إنى أنتظرك يا فارسي، يا أميري الجميل.
سأرحب بك — حين تجيء — وأرقص لك بمفردك، وأغنِّي باسمك.
أصحبك إلى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

إذا استغرقت في الشدو، فإن البحر يغطيه السكون. تهدأ الرياح والأمواج. حتى الطيور ومخلوقات البحر تسكت عن إطلاق أصواتها. إذا حزنت، أو استاءت، أو غضبت، فإنها تأمر ما في البحر ليتحرك، ويثور، ويكنس ما يقابله.

تَصِل الأغنيات إلى مَن تقصدهم بها، هم وحدهم يستمعون إليها، ويلفُّهم التأثر. تأخذهم إلى عوالم الأعماق. يتزوجون، يتناسلون.

إذا تقدَّم بهم العمر، عادوا محمَّلين بالكنوز والنفائس. يلقاهم أهل بحري على الشاطئ، أو في جزيرة داخل البحر. ثمة من اجتذبَتهم عرائس البحر داخل الأعماق، فلم يعودوا إلى الأرض.

رُوي أن شدوها اجتذب دياب عبد السيد الصياد. ظل يرنو ناحية الصوت:

إذا صحبتني إلى الأعماق …
فأنت تنزل إلى المكان الأجمل …
لا أعدك بالخلود ولا الثراء …
لكنني أعدك بالحياة الخالية من المتاعب والأحزان.

حين تعالى صوتها بالغناء، ظن دياب أنه صوت الريح. تبين الكلمات، واتساق اللحن، فأصاخ السمع.

بدَت له حورية البحر في جلستها فوق الصخرة، كأنها حلم. لم يلحظ انطلاق الفلوكة في البحر، حتى اصطدم بالصخور الصغيرة، المتناثرة أسفل الجزيرة. تحطمت الفلوكة. غابت وفوقها دياب عبد السيد داخل الأعماق.

لم يَعُد أحد يراه — من يومها — في ركوب البحر، ولا في شوارع بحري، ولا مقاهيه، ولا مساجده.

نسي طه عبد الفضيل ما قيل من كراهية عروس البحر لمن يرنو إليها بعينَيه.

ثبَّت نظراته عليها.

اعتبرت العروس ما فعل خطأ يجب محاسبته عليه. أمرت المارد في مدخل البوغاز. اصطاده في موضعه المفضي إلى داخل الميناء وخارجه. ابتلعه على هيئته، لم يُبقِ منه شيئًا.

هي عروس البحر، حوريته، جنيَّته، سيطرتُها لا يحدُّها أفق. البحار والمحيطات متداخلة، وكل ما فيها يخضع لأوامرها. مخلوقات البحر — بأمر منها — تركب الأمواج، وتركب البروق والرعود، والسحب المتسارعة. تتجه — بآخر ما عندها — ناحية الموضع الذي تقصده لإحداث الخطر، أو لدرئه.

هي ملكة مخلوقات البحر، وسيدتها، ما يمشي على أربع، وما يطير في السماء، وما يسبح في الماء، وما يزحف على بطنه، وما يأكل العشب، أو الأسماك. تُسخرها، تُسيِّرها وفقًا لرغبتها وإرادتها، لا يمتنع منها شيء: الأمواج، الأعماق، المخلوقات، الأشجار، الرياح، العواصف، الأنواء، البواخر. تمتدُّ سطوتها إلى كل ما تتخلله الأرض من البحار الصغيرة والبحيرات والأنهار والترع والقنوات والينابيع والعيون والغدران. حتى نافورات الميادين تخضع ما فيها من أسماك صغيرة وضفادع وقواقع وأصداف، وإن اعتبر الريس غريب أبو النجا من الكفر ما رُوي عن تحكُّم جنية البحر في أحوال الجو، وإشارتها للشمس فتبدِّل موضع طلوعها، وللسحب فتُنزل الأمطار في المواضع التي تُحدِّدها، وتغيِّر خصائص الفصول، تأتي في غير الصورة التي عهدها الناس.

تمتلك حيلًا لا نهاية لها لاجتذاب مَن تهبط به إلى أعماق البحر. إن أخفقت في اجتذابه، بدَّلت من هيئتها وسحنتها، فلا تبدو عروس بحر، جنية بحر، يختفي ذيل السمكة والبشرة العارية الملساء. تتجسد بشرًا سويًّا، تجلس على الكورنيش الحجري، تكشف عن ساقَيها، وتهزُّ قدمَيها الحافيتَين، وتمشِّط شعرها الأسود، الطويل.

تبدو غريبةً في جلستها، كأنها اطمأنت إلى خلو المكان.

معظم تكويناتها في هيئة فتاة بالغة الجمال، أو دلفين لا يخشى راكبو البحر صداقته. قد تظهر عارية تمامًا بالقرب من الشاطئ، كأنها فتاة جميلة تستحم. تحرص أن تظلَّ على حسنها. تتحور، وتتشكَّل، وتُضفي النضرة على الملامح التي يعروها الذبول، لا يبدو عليها تقدُّم العمر، فجمالها متجدد.

تُومئ للرجل على الشاطئ. يخلع ثيابه، وينزل إلى الماء. تبتعد ليلحق بها. تضيق المسافة وتتسع، حتى يبلغان الغويط، فتجذبه إلى القاع.

تشغل البلانس — الذي تريد اجتذاب أحد ركابه — بإثارة الطبيعة من حوله. تُوقف البلانسات في عرض البحر، تدور بالدوامات من حوله، تُبدل اتجاه الريح، تُثير النوات، أو تمنعها. ترتفع الصيحات طلبًا للغوث. تمدُّ عروس البحر يدَيها وسط الصخب. تدفع مَن تريد إلى داخل الموج. تمضي به حيث تريد.

لمَّا قال السعداوي شبانة: كيف، وسكت، أدرك غريب أبو النجا ما يريد السؤال عنه. قال إن حوريات البحر لهن ما يُتيح اكتمال العلاقة مع رجال البر. لها وجه البشر، وجسد الدلفين. نصف السمكة الأسفل ليس مصمتًا تمامًا. هي تضاجع، وتحمل، وتلد، مثلها مثل نساء البر تمامًا.

كانت تُسدل شعرها كالشباك على مَن تريد جذبه إلى قاع البحر. يستهويها — من ملامحه — ما يدفعها إلى احتضانه بعينَيها. أغرت الكثير من الصيادين، فحاولوا اصطيادها بشباكهم. تتحول إلى سمكة صغيرة، تختبئ تحت الصخور الطحلبية.

قال السعداوي شبانة: سأصدق أن الجنية تهبط بمن تجتذبه للعيش في الأعماق، لكنه لن يستطيع العيش دون تنفس.

قال غريب أبو النجا: للحورية وسائل تُعينها على العيش في داخل البحر دون حاجة إلى التنفس.

تحدَّث غريب أبو النجا عن ضحايا سحر عروس البحر وغوايتها، الرجال الذين صحبتهم إلى أعماق البحر، البلانسات التي حطمتها، لأن ركابها رفضوا أن تأخذ مَن تريده، مخلوقات البحر التي تدين لإرادتها، تفعل ما تقضي به، دون أن تسأل، أو تناقش، أو تتعلل بعدم القدرة.

قال أبو النجا إن مَن تلتقط جنية البحر التلفُّتَ في عينَيه، أو يظهر الرفض، تثبت نظرتها عليه. يتحوَّل — في اللحظة نفسها — إلى تمثال من صخور البحر، أو إلى دخان أبيض يُغيِّبه التلاشي.

تملك من فنون السحر — أنواعه، ووسائله، وتشكيلاته، وتركيباته — ما تخضع به البشر ومخلوقات البحر. حتى الطيور تتحكم في طيرانها، وما تفعله، والآفاق التي تنطلق إليها. تستخدم — في تعاويذها السحرية — ما في قاع البحر من أصداف وبقايا سمك وأعشاب. تُوقد نارًا على صخرة منعزلة، أو في شاطئ مهجور. تضع عليه قِدرًا مملوءًا بالماء. تخلط فيه ما حملته من البحر. ترافق ذلك بتعازيم عالية، وهامسة، ومدغمة الكلمات.

تستطيع — بما تملكه من قوى خارقة — أن تُعيد أنواع السمك إلى أعالي البحار، وتُلحق الجدب بالسواحل المحيطة بالإسكندرية. تُحيل الأمواج إلى ما يُشبه مساحة الثلج الناعمة، المنبسطة، فيسهل السير فوقها. تعرف مواعيد تحرُّك النوات فتوقفها. تضع سحابة ثابتة أمام الشمس، تسلط عليها حرارتها، فتُسقط المطر الذي يحتاجه الناس.

يثق الريس غريب أبو النجا أن لعروس البحر السيطرةَ حتى على ما قد لا يحدُّه الأفق، على الأشجار والنبات والشمس والقمر والنجوم والجبال والأنهار والطير والزواحف والحيوان والبرق والرعد والمطر والغيم والرياح والصواعق.

تُسخر طاقاتها السحرية في إثارة الرياح والعواصف. تتحكم في قوى المد والجزر. تأتي بالنوات في غير أوانها. تكنس ما تصادفه: البلانسات والأكشاك والشباك والكبائن والفلايك الراسية على الشاطئ. تكتسح النخيل وأعمدة الإضاءة. تقذف بالأمواج إلى الطريق. يصل تأثيرها إلى الناحية المقابلة، فتغلق الدكاكين والنوافذ والشرفات.

تمارس سلطانها على مخلوقات الماء، كلها مخلوقة لها على الطاعة، لا تسأل، ولا تناقش، ولا ترفض. ربما انطلقت في موكب من حوريات البحر، يحطنَ بصدفة تجلس داخلها، يتراقصن، يصنعن التكوينات، يَشدون بالألحان.

مَن يحيَون تحت حكمها من أهل البر، مَن تُغضبها تصرفاته، تأمر الأمواج، فتعلو في هيئة الجبال، وتندفع تكتسح ما أمامها، أو تأمر خدمها. يقذفون به إلى قاع سفلي، أرضيته من الصخور الناتئة، الحادة. تمزِّقه إلى أشلاء من اللحم والدم.

روى قنبر عبد الودود أنه شاهد عروس البحر — مرات كثيرة — وهي تمشِّط شعرها على حافة صخرة الأنفوشي. تصعد من داخل البحر، فتستلقي على الصخرة.

واصل انطلاقه بالقارب، دون أن يحاول التلفُّت ناحيتها، فلا يناله أذاها على أيِّ نحوٍ.

قال غريب أبو النجا: عروس البحر قدَمُ سعد وليست مصدرَ شرٍّ.

قال خلف زيدان: كيف أتصرف لو أن قدم السعد لم تكن كذلك؟

ثم وهو يُشيح بيده: لا أميل إلى المخاطرة!

كان يحرص على أن يبدِّل اتجاهه في البحر، حتى لا تفطن إليه الأعين المتابعة. يعرف أن قدرة الجنية تتجاوز اجتذابه إلى الأعماق. مَن يعلو صوته باستغاثة، أو يُبدي الرفض، تُلامس رأسه، وتتلو تعاويذ. يتحوَّل بها إلى سمكة صغيرة، وتتركه في الماء لتلتقطه شباك الصيادين، أو تأكله الأسماك الكبيرة.

علَت ضحكات السخرية وعدم التصديق، لما روى السعداوي شبانة ما فعله عند رؤيته لعروس البحر جالسة على الصخرة.

كان القارب بمفرده، يحمل الطرَّاحة إلى العميق. دفعَته رغبة لم يتدبَّرها.

أومأت عروس البحر باستجابتها. أشارت له حتى يأتيَها.

خشيَ أن تكون دعوتها له حتى تؤذيَه.

وضع قوته في التجديف، عائدًا إلى الشاطئ.

قال غريب أبو النجا: لن تحتاج إلى حيلة للإمساك بك!

وفي لهجة تسليم: يكفي أن تأمر الموج فيحملك إليها!

حلَّت لحظةُ صمت متوترة، شرد الرجال في التصورات التي لا نهاية لها.

ما تريده عروس البحر لا بد أن تحصل عليه. إذا أفلت من حضنها، فهو مجرد حلقة في سلسلة نهايتها أعماق البحر. قد يناور مَن تسعى لاجتذابه. قد يفرُّ بجسده بعيدًا، لكن الفعل المشابه لفعل النداهة يلحُّ عليه، يُنسيه ما كان اعتزمه من عدم العودة إلى البحر. يعود إلى البحر والذهن خالٍ من ترصُّد عروس البحر، تجتذبه في لحظة لا يتوقعها، تُحسن اختيارها.

تجيد التحكم في أذهان راكبي البحر، والسيطرة عليها، واختلاق ما ليس موجودًا … على معرفة بما في أعماق البحر من مخلوقات، أسماك هائلة، ووحوش، وعفاريت، ومردة، وأرواح. مَن يستهويها، تكفل لنفسها حمايته. تدافع عنه — وعن سفينته — ضد كائنات البحر التي تُضمر الأذى، وضد النوات والعواصف والأعاصير.

أمرت المئات من مخلوقات البحر. وقفت — خارج البوغاز — لنوة الفيضة الكبرى. تحدُّ من اندفاعها، أو تلغيه.

كانت النوة قد أغرقت السفن الراسية على الشاطئ، وهياكل البلانسات واليخوت في القزق. اكتسحت ما صادفها. عبرت الرصيف المقابل إلى داخل الشوارع والبنايات في الأنفوشي.

إذا أخفقت في محاولاتها، فإنها تلجأ إلى صرف انتباه الكائنات الشريرة، وتُخلص في الدعوات حتى تنقشع الغمة التي تُهدد بالغرق والموت.

تلحظ أن تردُّد الصيادين يقل داخل البحر، أو على الساحل، لصيد الجرافة أو الطرَّاحة أو السنارة، تعرف أن الصيد لم يَعُد وفيرًا. تسبح إلى مواضع متناثرة. تضرب الموج بذيلها. يرافق الفعلَ صوتُ شدوها الذي لا يُخطئه راكبو البحر. ينبثق في مواضع تحرك الذيل نافورات من السمك، بألوان وأشكال وأحجام لا نهاية لها.

انزلقت قدمُ الصياد صادق عبد المعز — بالخطأ — من قاربه. علا صوتُه بالاستغاثة. لم تكن قد أمرت باختطافه، ولا حاولت اجتذابه إلى أعماق البحر. تألَّمت لصراخه، وقلة حيلته في السباحة والعودة إلى القارب. حولت سمكة كبيرة إلى ما يُشبه قطعة الخشب. مالت ناحية الصياد، فتعلَّق بها. مضَت به في اتجاه الشاطئ.

ساعدت رفقي زلابية في العثور على كنز أبيه المفقود. بلغها سوءُ تصرفه، وميله إلى فعل الشرِّ. أمرت أعوانها، فاختطفوه من بيته. وضعوه في الجزيرة الصخرية قبالة الأنفوشي. تشاغلت بتسريح شعرها وهي تشاهد المارد يواجه رفقي بما لم يكن أعدَّ له نفسه، ولا تصوَّره.

•••

يروي — عن هذه الجزيرة الواقعة في أفق خليج الأنفوشي — حكايات كثيرة.

هي الموضع الذي اختارَته حورية البحر موضعًا للجلوس فوق الأمواج، شعرها الأسود، الناعم، ينسدل حتى يلامس الصخرة. تجلس إلى نفسها، تتأمل السفن وتبدلات الجو، تُحدِّث المردة والجان ومخلوقات البحر بما في نيتها، وما ينبغي أن يفعلوه. ربما انزلقت من الصخرة إلى البحر. تسبح فوق الأمواج، مسافة قصيرة، ثم تهبط إلى الأعماق كالغواصين. تتسع دوائر الموج، متلاحقة، ثم تبدأ في التلاشي.

تسحَّب كرم على الصخرة دون أن يُصدر صوتًا. أمسك بشعر عروس البحر. في لحظة تصوره أنه يستطيع أن يلفَّه حول جسدها، فيقيِّدها، تحوَّل الشعر إلى خصلات، وتحولت الخصلات إلى ثعابين رفيعة، طويلة.

أنقذ نفسه من أذاها، بالقفز في البحر.

تابعَته العروس — بعين مشفقة — وهو يعوم — بآخر قوته — ناحية الشاطئ.

كانت عينا عروس البحر قد وقعتا على كرم حامد وهو نائم. أحبَّته كما لم تحبَّ كلَّ مَن رأتهم، تمنَّت أن تصطفيَه لنفسها، تمتلكه، تأخذه إلى الأعماق، يشاركها العيش في دنياها الحافلة بالجمال وما لم يرَه أهل البر.

اخترقَت صدره بيدها. أخرجت قلبه المغطى بالدم. قرَّبته من شفتَيها. تمتمت بما يُشبه الدعوات أو الرُّقى، ثم أعادته. جرَت على موضع الجرح بشفتَيها. غاب أثرُ الجرح كأنه لم يكن.

أَلِفت الجلوس على الصخرة، منذ أحبَّت كرم حامد. حاولت استمالته بالغناء، وبتقمُّص أشكال الإنس والطير والحيوان. تجتذبه إلى دنيا الأعماق، تهبه الحب والمؤانسة والسحر، والثراء الذي يبدِّل أحواله حين تُعيده إلى الأرض.

ظل كرم على ابتعاده. لم يلحظ محاولاتها.

هل كانت حورية البحر تعرف ولادةَ كرم حامد من أبٍ جنيٍّ؟ هل أحبَّته لاقترابه من صفتها؟ أو اجتذبها فيه الوسامة والفتوة؟

لم تواجه الحورية كرم بمشاعرها. لم يفطن هو إلى تلك المشاعر أصلًا. ظلت تتبعه عند نزوله إلى البحر، تلاحقه بأغنياتها وتحولاتها الجسدية، والسباحة إلى أماكن وجوده.

حين ظهرت على هيئة سمكة هائلة الحجم، قذفها كرم بسكين في يده، طفرت بالدم في جنبها. تصرُّف أملَته العفوية، ليُبعدَها، أو ليُخيفَها.

كانت جالسةً على الصخرة. قالت وهي تشير إلى جنبها: انظر ماذا فعلت؟

لم يتدبر كرم قولها: سأترك دمي ليذكِّرك بي!

ظنه هواجس، أو رؤًى غير مفهومة. لم يستطع التأكد، إن كان ما حدث قد رآه بالفعل.

شقَّ عليها ما فعل، وإن استعذبت عروس البحر الألم. لم تحاول الثأر على أيِّ نحو. لم تأمر مخلوقات البحر، ولا أقدمت هي نفسها على فعل شيء. تركت ثقب الدم حيث كانت تجلس فوق الصخرة، يرادفها الأمل في أن يهبَها كرم إنصاته، يلتفت إلى محاولات استمالته. يرنو — عند ركوبه البحر — إلى موضع الدم، فيتذكر فعلته.

ظل الثقب في الصخرة — من يومها — يُسقط قطرات الدم، تصنع خيطًا من الحمرة، يضوي في ألقِ الشمس، تتاح رؤيته — بالعين المجردة — لمن يقترب. يختلط بمياه البحر، يذوب في زرقتها.

تعددت الروايات حول مصدر النبع.

تحدَّث كرم حامد عن السكين التي أصابت عروس البحر، وإن هزَّ كتفَيه لرواية علية عشماوي بأن الحورية حرصت أن يظل تساقط الدم، حتى تظل حكاية حبها لكرم حامد باقيةً في وجدان أهل بحري، وقال خليفة كاسب إن ما يبدو دمًا هو ألق الشمس على نتوءات الصخرة، ورجحت رواية أن ثقب الدم واجهة كهف تحيا فيه مخلوقات البحر.

لم يُفلح بلوغ الأمواج موضع ثقب الصخرة في إزالة قطرات الدم المتساقطة. قذف الصيادون بالماء على موضع الثقب. يدفعهم التشاؤم — وربما الخوف — لرؤية الالتماع في خيط الدم المتساقط من ثقب الصخرة. صعد إليه مَن حاول تغطيته، لكن الدماء المتساقطة ظلت على حالها.

ما أذهل الجميع أن زهورًا انبثقت من قلب الصخرة، من داخل الصخرة نفسها، وليس من شقوق تتخللها، كأنها ترتوي من سرسوب الدم.

•••

بدأ العمال — بأمر من البكباشي حمدي درويش — إزالةَ أجزاء من الصخرة، مقصدهم إزالة الصخرة كلها. أتَوا بديناميت مما يلجأ إليه الصيادون لصيد السمك.

في اقترابهم من موضع الصخرة، فاجأهم اختفاؤها. غابت كأنها لم تكن. البحر يمتد حصيرة، في المساحة التي كانت الصخرة تبرز فيها بصخورها المدببة، ولمعة الدم المنساب من الفجوة.

لم تتفق الروايات حول ما إذا كانت الصخرة طرح بحر، انحسرت عنه المياه، كما طرح النهار، أو أنها قديمة في موضعها قِدَم خليج الأنفوشي، لا زمان محدد لها.

قيل إنها من بقايا الزلزال الذي شهدته الإسكندرية في عصر البطالمة. إسكندرية الثانية فوق إسكندرية الفراعنة، الأولى. هدأت الأمواج، واستقرَّت اليابسة. لم يَعُد مما كان سوى الصخور والجزر المتباعدة في امتدادات الأفق.

روى غريب أبو النجا أن الصخرة علَت في الأمواج بأمرٍ من ولي الله الأنفوشي. يطلُّ من قمتها المسنونة — في فترات متباعدة — على بحري: المآذن والبيوت والميادين والشوارع والأسواق والحدائق والخلاء والمارة الذين، مهما ابتعدت أماكنهم، فإن العينين الحادَّتَي النظر تتبينان حتى التجاعيد الصغيرة في البشرة.

أذهل العمال أنهم — كلما اقترب البلانس من الجزيرة — غاصت في المياه. غمرَتها الأمواج تمامًا.

أدرك شوقي أبو سليمان — بتوالي اختفاء الصخرة — أن القوى الخفية في البحر تريد أن يبتعد التدمير عنها. تصرفات أقرب إلى مكاشفات الولاية وبركاتها.

قال حمدي درويش في نفاد صبر: لولا الدم المتسرب منها، كنا حوَّلناها إلى مرسى للنشات في قلب البحر.

قال شوقي أبو سليمان: المرسى يحتاج إلى أرض مستوية. معظم سطح الصخرة رءوس مدببة!

وزفر في ضيق: هذه صخرة مستحيلة!

قال حمدي درويش: يغيظني أنها بلا فائدة. أما أخطارها فلا حصر لها.

وضغط على شفته السفلى كمَن يمضغها: أقل الأخطار أن القوارب قد تصطدم بها.

قال شوقي أبو سليمان في لهجة محذرة: هل نسيت ما جرى للشطبي ناظر وقف جوربجي؟!

قال حمدي درويش: لم يَعُد أمامنا إلا أن نلعنها!

– لماذا؟ … لعل في وجودها فائدة!

– هي بالدم المنبثق منها مثل الموت الذي سيُنهي حياتنا!

– ربما لأن الدم المنبثق منها أغرق الشطبي ناظر الوقف.

سحق حمدي درويش بقايا سيجارته في المنفضة: أعرف أنه فعل ما يستحق عليه نهايته!

وعكست عيناه شعورًا بخيبة الأمل: إذا قضينا على الموت فإننا نستطيع أن نتخلص من الصخرة.

قال شوقي أبو سليمان: الموت حتم. لكننا لا بد أن نجد وسيلةً لتدميرها!

ظلت الصخرة في موضعها. منبعجة، غير مستوية الأطراف، وزواياها غير حادة، ويغيب عن تعدُّد أسطحها الاستواء والنعومة. حتى الحواف ضيقة، فيصعب الجلوس عليها.

تطول جلسة حورية البحر فوقها إلى الليل. تجلس في ضوء القمر. يضوي شعرها المسدل على ظهرها بما يُشبه الألق.

•••

لم يتحدث محمود سعيد عن أنه رأى عروس البحر في جلستها فوق صخرة الأنفوشي. تكلَّم أهل بحري عن المرأة الجميلة ذات الذيل السمكي، والجلسة المتكررة، والغناء، واجتذاب راكبي البحر.

كان يُديم التطلع — من موضعه — إلى الصخرة في مدى الأفق.

هل رآها، فاكتفى بالموديل تعبيرًا عما رأى؟

المرأة أمامه عارية، وسط البحر والمراكب والسماء المثقلة بالغيم وخط الأفق البعيد وأجواء السحر والأسطورة والموسيقى الغامضة والألوان الحارة وفضاءات البنِّي والأزرق.

قال عمران الخولي إن عروس البحر تسلَّقت الصخرة، في أثناء انشغال محمود سعيد بالرسم، وإنه لمح النظرات المتبادلة بين الفنان وعروس البحر، كأنه شرد في نظراتها، أو أنه أراد التأكد مما رآه.

يثق أن اللوحة ليست انعكاسًا لجلسة الموديل، لكنها الحورية وسط المشاهد التي روى من رأوها أنها — حين تجلس على الصخرة — تحيط بها.

•••

انظر: أبو حلاوة، حمدي درويش، رفقي زلابية، شوقي أبو سليمان، عمران الخولي، غريب أبو النجا، كرم حامد، محمود سعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤