عصمت هانم محسن

اسمها الكامل عصمت محسن حسن الإسكندراني.

وُلدت في الإسكندرية عام ١٨٩٧م. جدُّها أمير البحر حسن باشا الإسكندراني، أحد قادة الأسطول المصري في القرن التاسع عشر. أبوها محسن باشا من كبار رجال الدولة. أمها عزيزة حسن ابنة الأمير حسن إسماعيل. شقيقها عزيز حسن من قادة الجيش المصري الذين شاركوا في حرب البلقان عام ١٩١٢م. لُقِّبت بأم البحرية، وكتبت العديد من المؤلفات باسم بنت بطوطة.

لم تبتعد لا هي ولا عائلتها عن بحري. وحين أسرَ جدُّها سفينتَين يونانيَّتَين، وعاد بهما إلى الإسكندرية، رُقِّي إلى رتبة اليوزباشي (النقيب)، ومنحَته الدولة بيتًا بشارع أبي وردة.

التردد على البحر عادة يومية، أَلِفَتها. تصيد، تستقل اليخت، أو القارب الشراعي، تغطس إلى عمق قريب.

أحبَّت البحر من حُب أفراد أسرتها له، وارتباط حياتهم — وموتهم أحيانًا — به. «البحر تعبير سما على بقية التعبيرات اسمًا ومعنًى، فهو مهد الكائنات ولَحْدها، ومبعث الأمل، ومنشأ اليأس، يختار لنفسه مَن يشاء من الناس، فيُسعده، ويُعلي من شأنه، ويرفع من صيته».

ركبَت البحر إلى لبنان وسوريا وتونس والجزائر والمغرب والأندلس. أجادَت قيادة السفن الشراعية واليخوت والبلانسات. تنقَّلت — على سفن صغيرة — بين مواني البحر المتوسط ومواني البحر الأسود، شاركت ملَّاحي السفن الصغيرة مخاطر ركوب البحر. تردَّدت على المتاحف والمكتبات في فرنسا وبلجيكا وسويسرا. تواصلت رحلاتها ثمانية عشر عامًا.

سمِّيت بنت بطوطة، تشبيهًا بابن بطوطة، أشهر الرحالة العرب. قرأت في كتب التراث، وأخبار المعارك البحرية، ورحلات الملاحين القدامى، وجرائم القراصنة، وفي أحوال البحر وتقلباته، وأخطار العواصف والنوَّات، وأماكن السكينة والخطر، والوفرة والجدب. عرفت من أحوال البحر ما لم يعرفه الذين اتخذوا ركوبه مهنةً لهم.

كانت تقرأ عن المعارك التي خاضها حسن باشا الإسكندراني. تحتفظ بالكتب والدوريات والصحف التي تتناول سيرته. حتى القصاصات الصغيرة، تُلصقها على ورق، تُودعها درجًا في المكتبة. تستغرق في القراءة والتأمل والشرود. تُعيد روايةَ ما حدث، كأنها شاهدته، كأنها شاركت فيه.

أمير البحار حسن باشا الإسكندراني. اسمه الأصلي زكريا. نجل الإمام حسن، أحد رؤساء قبائل الشراكسة. قَدِم إلى مصر مع أبيه على ظهر سفينة شراعية. أقام الابن في بيت سلحدار شركسي، وسافر الأب في رحلة حج لم يُعِده الموت منها. تعلَّم زكريا صناعة الأسلحة، وعيَّنه الوالي محمد علي (عام ١٨١١م) في الديوان.

دخل زكريا حسن مجال العسكرية، وأزمع الالتحاق بالبحرية. بدَّل اسمه إلى حسن، وتلقَّب بالإسكندراني. ثم سافر (١٨١٧م) في بعثة تعليمية إلى فرنسا. درس العلوم والفنون البحرية. عاد — في مطالع ١٨٢٥م — حيث عُيِّن ضابطًا بحريًّا برتبة ملازم. تولَّى قيادة إبريق تابع للأسطول المصري. رُقِّي إلى مناصب أعلى. شارك في العديد من المهام، حتى أُصيب في معركة نافارين.

تحيا عصمت وسط المعارك البحرية، وحكايات القراصنة، والمغامرات، والخوارق، ومخلوقات البحر، والملامح الغاضبة والخائفة والمتألِّمة والمتشفية والمنتصرة، وخيالات الموتى، والقتلى، والمقطوعي الأنوف والآذان والأرجل، والمشجوجي الرءوس، والمسمولي الأعين. تتعالَى الاهتزازات القاسية، والأوامر، والنداءات، وأصوات المدافع، والتأوهات، والعويل، والصراخ، والأنين، والنحيب، والحشرجات. تومض قذائف البنادق والمسدسات والمدافع، وانفجارات القنابل، وفرقعات البارود، ونثارات الشظايا، والشرر، واللهب، والوهج، ووميض البروق والرعود، واختلاط الألوان، تندلع النيران والأبخرة والدخان والحرائق والرياح السوداء. تصطخب الأمواج. تتهاوى الصواري والأشرعة. يتناثر الحطام وأشلاء القتلى. تهبط السفن إلى الأعماق. تستقر في قاع البحر. تصطبغ المياه بلون الدم. يرافق صوت جدها — الذي لم ترَه — ارتفاع سيفه، وهو يعلو بالقول: هذه مكيدة. وهو يأمر، ويحذر، ويوصي، ويشرح الخطط.

أبحرت إلى المورة سبعون سفينة، من بينها ثلاثون سفينة تجارية نمساوية وأيونية محمَّلة بالإمدادات. تأخرت أيامًا بسبب الرياح القاسية، ثم وصلت بين السادس عشر والعشرين من ديسمبر ١٨٢٦م. عُنيَ حسن الإسكندراني بتسريح المئات من البحارة الأتراك، وإحلال أطقم مصرية — بالكامل — محلَّهم.

تنام وتصحو وليس في خيالها سوى البحرية، والبوارج، والفرقاطات، والحراقات، والزوارق، والصواري، والأشرعة، وسفن نقل الجنود، والمدافع، والقراصنة، ولصوص البحر، وبراميل البارود، والقراويت، والقوارب، والصنادل، والرافعات، وحوض إصلاح السفن.

إذا جاء الليل، أغلقت الباب والنوافذ في حجرة المكتب. الجدران مغطاة بالمجلدات. معظم ما بها عن التاريخ والآثار. وبلوحات المواقع البحرية، وقادة البحرية المصرية القدامى. تُقلل من الإضاءة فلا تبين إلا عن الجالس أمامها. الجالس هو جدُّها حسن باشا الإسكندراني. أطالت التحديق في الصورة المعلقة على الجدار حتى حفظَتها. أودعَتها ذاكرتها فلا تنساها: السحنة البيضاء المشربة بحمرة، الذقن التي وخطَها الشيب، العينان النفاذتان. تستعيد معاركه وانتصاراته، حتى معارك القرم. دمَّر القصف أجزاءً من سفينة الفريق الإسكندراني «مفتاح جهاد». دفعت بها العاصفة العنيفة، المفاجئة، إلى قرب ثلاثين ميلًا من البوسفور. اصطدمت السفينة بالصخور، فانشطرت نصفين. رفض الإسكندراني — كما تقضي قواعد القيادة — أن يترك سفينته للنجاة. انتهت سيرة حياته في ٢٥ أكتوبر ١٨٥٤م.

لكثرة ما قرأت عن موقعة نافارين: البحث عن ذريعة للقضاء على الأسطول المصري، اعتبار الوثائق والمعاهدات أوراقًا لا قيمة لها، المفاجأة الغدر دون باعث حقيقي، ولا إنذار، ولا إعلان حرب، إغراق السفن المصرية، حتى ما رفع بحارتها رايات الاستسلام … لكثرة ما قرأت عن الموقعة الكارثة، صار الشك جزءًا من تكوينها. تَهَب إنصاتها، ولا تَهَب ثقتها، تسأل، تناقش، تتأمل، تتدبر، تصل إلى رأيٍ تُحيطه — ما وسعها — بأسوار الشك، وعدم الثقة.

تثق بمن حولها. لا تبذل جهدًا للتعرف على ما قد يُضمرون. تصدِّقهم دون أخذٍ ولا رد، أو استشفاف ما قد تُضمره النفوس.

يتغير الحال أمام مَن يقصدونها — لأعمال — بالهدوء والمحايلة. لا تُعطي ثقتها حتى بعد أن تُبديَ الموافقة.

•••

تسلم الخيال، يقوده جدُّها إلى نافارين.

٢٠ أكتوبر ١٨٢٧م، ذلك اليوم الحزين. واجه الأسطول المصري مؤامرة تحطيمه، فتغيب منافستُه في سيادة البحر. تعود مصر— كما كانت — ولاية في دولة الخلافة التي تعيش أعوامها الأخيرة.

كان قد مضى ثمانية عشر شهرًا على انتهاء معركة «سريجو». قطع الأسطولان المصري والتركي مسافةً طويلة حول السواحل اليونانية، حتى ألقَت مراسيَها في خليج نافارين جنوبي المورة في أغسطس ١٨٢٧م، ٨٩ سفينة، تضمُّ بوارج وفرقاطات وقراويت وسكونات، ٣١ سفينة للأسطول المصري، منها جهاد. وقيادتها لمحرم بك، صهر الوالي محمد علي، ومن كبار مساعديه حسن الإسكندراني. وثريا، وإحسانية، وبرج الظفر، وجيلان، ورشيد، وزهير جهاد، والتمساح، وشير جهاد، ونافارينو، وليون، وواشنطن.

رسا الأسطول — تُرافقه ٨٨ سفينة تركية، في مقدمتها «بندينو سيريت، بقيادة الأميرال طاهر باشا — في خليج نافارين.»

تَصِف عصمت محسن خليج نافارين — صباح ذلك اليوم — وصواري سفن الأسطولَين التركي والمصري متراصة، كأنها أشجار غابة، والسفن تتأرجح وادعة، وهي مستقبلة على مخاطيفها. وثمة بيوت صغيرة بيضاء تُطل على الميناء، «كأنها كانت تستيقظ وتتمطَّى، مستقبلة ضوء شمس الخريف، وقصر بليو كسترون البيزنطي، وقد تحوَّل إلى أنقاض، ثم أصلح على عجل، وقلعة نيو كسترون القديمة ذات الطراز البندقي، وعلى أسوارها جثمَ عددٌ كبير من المدافع، كأنها ضوار تتحفَّز للوثوب. أما الجو فكان مشبعًا بالبخار، لكنه صافي الأديم.»

علَت صيحة مفاجئة: في الأفق إلى اليسار سفن قادمة.

ردَّد مراقبو السفن الصيحة، انتقلت من سفينة إلى أخرى، حتى بلغت آخر سفينة في الخط، في أقصى الطرف الثاني، كأنها الصَّدى المتصل، ثم حلَّ السكون.

ظهرت في الأفق سفنٌ لا حصر لها. اقترب الأسطول الإنجليزي، تلاه الأسطول الفرنسي، ثم الأسطول الروسي. تشكَّلت الأساطيل الثلاثة في صفَّين، أحدهما إلى الشرق. تألَّف من ثلاث سفن إنجليزية، تتقدمها الفرقاطة «وردتمادث»، وأربع سفن فرنسية بقيادة اللورد كودرنجتن. أما الصف الثاني، فيتألف من ثماني سفن روسية، تتقدمها السفينة «أزوف».

وشَى تحرُّك الأساطيل الثلاثة بما يصعب إهماله. أمر قائد الأسطول المصري محرم بك (أطلق اسمه على حي مهم بالإسكندرية) أحدَ ضباطه أن يطلب من قائد الأسطول الإنجليزي الأميرال اللورد كودرنجتن، أن يراعيَ وجود السفن المصرية والتركية في الخليج.

قال كودرنجتن: أنا أراها جيدًا.

– أحذِّر من إمكانية وقوع حوادث.

– جئت لأعطيَ أوامر لا لأتلقَّاها.

وربَّت صدره: حماية استقلال اليونان مسئوليتنا.

حمَّل الأميرال الضابط المصري رسالةً إلى محرم بك، تطلب نقل الأسطولَين المصري والتركي بعيدًا عن الخليج، أو إفراغ السفن من الجنود.

كانت السفن المصرية في وسط الخليج. تُشكِّل مع الأسطول العثماني — على يمينها — هيئة الهلال. بدَت الحركة أمامها صعبة، وأكثر تعرضًا للقصف.

أدرك محرم بك أن ما طلبه الأميرال الإنجليزي يعني أمرين: التسليم بلا شروط، وترك السفن ليستوليَ عليها الحلفاء، أو تعريض السفن لمدافع السفن المعادية، فتُدمرها، أو تُغرقها.

قال محرم بك في محاولة لمنع الكارثة: نحن لن نُطلق النار ما ظلوا ممتنعين عن إطلاقها.

لكن الانفعال أطلق القذائف الأولى من سفينة مصرية، وانطلقت المدافع من كل ناحية كأنها الجحيم.

أطلقت السفينة الفرنسية «سيرين» أول قنبلة على السفينة «إحسانية». جاءت الفرصة للضابط حسن الإسكندراني حتى يحصل على مكانته. ردَّ على القصف بمثله. واصلَت مدافع سفينته إطلاقَ قذائفها بلا توقف. ساعدَتها الفرقاطة «ثريا» بإطلاق مدافعها على السفن المعادية. أطلق من القذائف ما دمَّر سفنًا كثيرة للإنجليز والفرنسيِّين والروس.

ظل الإسكندراني يقاوم، ويردُّ القصف بمثله، إلى قرب الغروب. اختار الجنود أن يغرقوا، ورفضوا الاستسلام. انفجر مخزن للبارود، فانشطرت «إحسانية» إلى نصفين، ثم تحولت إلى حطام، تناثر فوق الأمواج. تحطمت ٣٤ قطعة من الأسطول المصري. غاصت في أعماق البحر جثثُ الجنود المصريين، وحطام السفن. لا أسرى في الجنود، ولا في السفن. لم يُفلت من الغرق سوى الفرقاطة «ليون»، وأربع حرَّاقات، وستة مراكب من ذات الساريتين، وأربعة مراكب شراعية صغيرة. لوجود تلك القطع خارج نافارين، فقد انطلقت في رحلة العودة إلى مصر. لم تستسلم سفينة واحدة، واعترف الحلفاء أنهم أخفقوا في أن يأسروا أية سفينة.

قفز الإسكندراني إلى الماء جريحًا، يساعده جنوده. حصل — في روايات الجنود — على المكانة التي تعتز بها حفيدته.

لم يهجر الإسكندراني البحر.

خاض المعارك، امتدَّ تأثير قيادته إلى الأمواج، والريح، ومخلوقات البحر، طوَّعها لتُشاركه في دحر سفن الأعداء، نال لقب أمير البحر، أشرف على الترسانة وأحواض بناء السفن.

حاولت الشركات الأجنبية أن تُعيق عمليات بناء الترسانة، وتطويرها. أدركَت أن المشروع الجديد قد يؤدي إلى توقُّف نشاطها في المنطقة. لكن حسن الإسكندراني واصل الإعداد والتنفيذ. أصبحت الترسانة البحرية — في مدى ثلاث سنوات — من أهم المنشآت الحربية في مصر. أُقيمت — على طول رصيف الميناء — ورش للصواري، وللأجهزة الخاصة بها، وللأشرعة، والقلوع، والفلايك، والبويات، والبكر، والأعلام، ومساكن مديري الترسانة وموظفيها، ومخازن الأخشاب، وورش صناعة المداخن والرصاص والبراميل، وورش الحدادة والسباكة وصناعة الحبال. أُضيف إليها حوض جاف، انتهى بناؤه في ١٨٤٤م.

كان محمد علي — الكلام لرفاعة الطهطاوي — «يُديم النظر في السفن عند صناعتها، ويصوِّر الغرض منها. وكلما شارفت الإتمام، ازداد فرحًا وسرورًا. وإذا نزلت في البحر، لم يتمالك نفسه مع ما كان عليه من كمال الهيبة وحفظ ناموس الوقار، أن يُظهر إمارة السرور؛ فلهذا كملَت عنده دونانمة ملوكية طبق مرامه، وطقمها بالمدافع والعساكر، ونظمها على نسق نظام العساكر البرية.»

عادت إلى الأسطول المصري مكانته القديمة.

ثم أصبح حسن باشا الإسكندراني في يونيو ١٨٣٧م وزيرًا للبحرية.

أمضى معظم وقته في تحصين الشواطئ المصرية، يدعم القلاع، يُشرف على نظام الدوريات، يسيِّر جماعات الاستطلاع والإشارات. أشرف بنفسه على بناء حاجز صخري في الجهة الجنوبية للميناء القديم.

قال حسن الإسكندراني: كانت أية محاولة للتحديث والتقدم مقضيًّا عليها بالفشل، ما لم ينشأ أسطول بحري يدافع عن السواحل المصرية، الطويلة. وقال الإسكندراني: كانت نافارين ضربةً قاتلة للقوات البحرية المصرية، لكنها لم تَنَل من إصرار الوالي على إصلاح ما أُصيبت به السفن من أضرار وتلفيات، وإعادة تصنيع سفن جديدة. وقال: بعد هزيمة الأسطول المصري في نافارين، ظل الباشا على إيمانه — ومحاولاته — بضرورة استعادة السلاح البحري لعافيته. وقال: حين عَهِد لي الوالي محمد علي بمهمة إصلاح ما دمر من الأسطول المصري في نافارين، أرجأت تشييد السفن في ترسانات أوروبا. أزمعت إنشاء ترسانة الإسكندرية لبناء السفن المصرية فيها. كان لا بد — لتقليل الإنفاق العسكري، وللتخلص من كساد التجارة المصرية — أن يقتصر بناء السفن على ترسانة الإسكندرية.

قال الإسكندراني: عوَّضت الخسائر، وأصلحت الأضرار، وشيَّدت الكثير من السفن الجديدة. وبعد عامين على الكارثة، بلغ عدد السفن الجديدة ٨٩ سفينة، فوقها ٩٢٢ مدفعًا. وقال: الآن، لا أحب لنفسي أن أكون مكان ذلك القائد المسكين المكلَّف بالهجوم على الإسكندرية.

•••

كتبت عصمت محسن في الصحف الفرنسية، وألَّفت كتبًا بالفرنسية، عن أشهر المواقع الحربية التاريخية الفاصلة: حطين، عين جالوت، شريش، وغيرها. ألَّفت «المغامرات البحرية»، «بطولة قرصان»، «صفحات من تاريخ البحرية»، «معركة نافارين». أعادت طبع كتاب حسن الإسكندراني عن فن الحرب البحرية.

لما عادت إلى مصر واصلت الكتابة في الصحف المصرية. محور انشغالها ما يتصل بالتاريخ العربي، وانتصارات المصريين في المعارك البحرية، ومخاطر الحياة في البحر عمومًا «إن للبحر قضاء، امتزجَت قسوته بعذوبته، وسخريته بعطفه، حتى ليعز على المرء أن يضرب عنه صفحًا، أو أن ينثنيَ عنه بعطفه. إننا نلجأ إليه دائمًا بأيدٍ مبسوطة وقلب ملتهب، يزداد ضرامه عندما نقف مسيطرين على الدفة … الرجل — وهو قابض على الدفة — رمز للنبل والشهامة؛ فكلما ابتعدت عنه الأرض، زالت عن نفسه الصغائر، فالبحر كفيل إذن بتنقيته من رذيلة الزهو والخيلاء، وكلما اتسع الأفق في عينيه، اتسع في بصره جوُّ الفضاء «وأصبح رجلًا كاملًا».»

استقبلت في قصرها قادة ووزراء وسفراء أجانب وشعراء وأدباء وهواة فنون، إلى جانب أصدقائها الشخصيِّين من أبناء طبقتها. يتنقل الخدم بزيِّهم الموحد: القفطان الأسود ذي الحزام الأحمر.

إذا طالت إقامتها في مصر، اعتلت البحر بيختِها الخاص. حرصت على تجهيزه بنفسها. قرأت عن الخديو عباس حين تابع — في جلسته بشارع عماد الدين — عمليةَ بناء العمارات التي سُميت باسمه. أدوات الصيد الآلية، أجهزة كشف قاع البحر، وزوايا الاتجاه، وقياس الأعماق، تنجيد الحوائط لامتصاص الصدمات، السجاد المضاد للحريق، الموائد المقعرة، لا يُطيح الاهتزاز بما فوقها. أضافت ماكينة صغيرة لتحلية مياه البحر. تضع في قمرتها باليخت بوصلة، وخريطة، وجهازًا لتحديد الأعماق.

تصيد البياض والبلاميطة، والمياس أحيانًا. ربما امتدت رحلتها إلى البحر الأحمر، تحب الشعب المرجانية. تصيد الشراع والتونة والدراك وغيرها، أسماك تخلف أشكالها وألوانها ومسمياتها، تعرف كل سمكة باسمها.

•••

القصر بُني على هيئة القلعة، من الحجر الأبيض، ذو ثلاثة طوابق. بابه الرئيسي يُطل على ميدان سراي رأس التين. الحديقة المحيطة به مزروعة بأشجار الكافور والصبار والورد البلدي والياسمين. أمام المدخل نافورة رخامية تنبثق منها المياه، وعلى جانبَي المدخل الرئيسي تمثالان من الرخام لعرائس بحر. وفي مدخل الطرقة المفضية إلى ما وراء القصر— من اليمين — تمثال «بوسيدون» إله البحر، يقود جياده البحرية بشعورها المتماوجة.

عُلِّقت — على الجدران — بنادق صيد، ورءوس حيوانات مائية، وأسماك هائلة، محنطة. واحتُفِظ — في دواليب هائلة — بمجموعات من أدوات البحر الصغيرة، ما انتهى استخدامه، وما ظل في حياة البحارة.

تقتني الساعات الرولكس، والنقود الفضية والذهبية، واللوحات الفنية القديمة وطوابع البريد، والأسلحة الصغيرة النادرة، والآثار الفرعونية، تشتريها من رحلاتها في الخارج، أو جولاتها — المتباعدة — في مدن الصعيد.

تُطيل الوقوف أمام مقتنياتها، تُزيل عنها الأتربة، تتفحصها. لا تأذن للخدم بملامستها.

•••

حين طرق خليل أفندي الفحام باب القصر، وطلب مقابلة عصمت هانم محسن، نزلت إليه في القاعة المطلة على خليج الأنفوشي. يعرفها ولا تعرفه.

كانت تُعنَى بكل مَن يتصل عمله بالبحر: كمال أبو السعادات، عمران الخولي، عبد الله أبو رواش، كرم حامد، رفقي زلابية، بدوي الحريري، غريب أبو النجا.

قد تمضي — في ساعات الصباح الأولى — إلى الحلقة. تتابع تصنيف السمك إلى أنواع، صف الطبالي، تكسيتها بالثلج، البيع بالمزاد، وبالقطاعي. تعود بمفردها — كما جاءت — ماشية. تستعيد — برؤيتها زيَّ الصيادين وباعة السمك — زي بحارة الأسطول في عهد محمد علي: حسن الإسكندراني والغزوات والمعارك البحرية.

تأملت القامة الأقرب إلى القصر، والجبهة العريضة، وشعر الرأس الأسود، تتناثر فيه شعيرات بيضاء، والعينين البنيَّتين اللامعتين تحت حاجبَين كثيفين، والأنف الأقرب إلى الاستدارة. تلوح أوسط جبهته سجدةٌ خفيفة من تأثير الصلاة. اطمأنت إلى الهدوء والطيبة في استرخاء ملامح وجهه، وإلى الثقة التي يَشِي بها صوته.

قال: جئت في الأسبوع الماضي … قيل إنكم على سفر.

رفَّت على شفتَيها ابتسامة: إلى البر وليس إلى البحر.

وأشاح بحركة قاطعة: أسفار البحر صارت ماضيًا.

كل ما له صلة بالبحر يُشعرها بالحنين إليه. البحارة والصيادون وعمال الميناء والسفن العابرة في خليج الأنفوشي.

قال: أؤلف كتابًا عن جغرافية بحري … الشوارع والميادين والأسواق والبنايات.

وتعلَّقت عيناه بالفراغ: محاكاة لخطط المقريزي.

اكتفَت بالقول: جميل!

قال في اندفاع: أعرف أن مكتبتكم بها وثائق ومعلومات قد تُعينني على ما أؤلفه.

وهي تمسح المكتبة بعينَيها: أخشى أن معظم ما في المكتبة عن البحر.

وأشارت بيدها ليجلس: لكنني أَعِد بتقديم ما قد يُفيد دراستك.

جاوزت المعنى.

هي أم حقيقية للآلاف من الضباط والجنود الذين يركبون البحر. تخرج — في غبشة الفجر — إلى الشرفة المطلة على الميدان الواسع. يتجه الترام من اليسار إلى مستشفى رأس التين ومدرسة إبراهيم الأول الثانوية. في الناحية المقابلة من قضيب الترام مدافن البطالمة. تفتح — بيدها — أبواب الشرفة الواسعة. تُطالعها رائحة البحر، ونسائم الصباح الصيفية، والمشاهد التي تُحبها.

الزاوية التي تحتلها الشرفة تُتيح لها التطلع إلى حديقة السراي، والطريق المفضي إلى نهاية الكورنيش، ورؤية العشرات من ضباط وجنود البحرية، يتوزعون في طريقهم إلى أماكن مختلفة. تدقق في الثياب ما إذا كانت نظيفة ومكوية، أم أن إهمالها يستحق المؤاخذة. تصعد إلى المدمرات والبوارج والفرقاطات، دون أن تُواجه السؤال: إلى أين؟

هي أم البحرية، من حقها — وواجبها — أن تتفقد قطع الأسطول، تُظهر رعايتها لضباط البحرية وجنودها. تحضر احتفالات التخرج لطلبة الكلية البحرية، تُهدي أولَ الخريجين ساعةَ رولكس فاخرة، ترفع مصحفًا على كل سفينة، وتضع لوحةً نحاسية بها آية الكرسي، على صاري السفينة. إذا التقَت بضابط في البحرية، أو دُعيت لحفل تخرُّج، أو لمناورة بحرية، فهذه فرصة للحديث عن حسن باشا الإسكندراني، جدها، قائد الأسطول المصري القديم.

تحرص — في المناسبات الوطنية — على تغطية واجهة القصر بالأضواء الملونة، تكوينات من ألوان مختلفة، يتوسطها شكل النسر.

طالبت بأن يُطلق اسم أبيها محسن باشا على ميدان رئيس بالإسكندرية. الشارع الجانبي الصغير باسم سراي أبيها — قبل أن تتهدم — أقل من قيمة الأب والجد. تهامس خدم القصر بخوفهم من أن يستاء العفريت لحرصها على إبعاد اسم أبيها عن الشارع الذي تُطل عليه الخرابة، سراي محسن باشا. قد يفعل العفريت ما يؤذي. اكتفت بالوعد دون أن تُلحَّ في المطالبة. هي أم البحرية، وأفضال أبيها وجدها لا تحتاج إلى ما يُثبتها.

أنفقت من أموالها في عمل الخير، وإغاثة المعوزين والمحتاجين والمرضى وذوي العاهات. تُسدد المصروفات الدراسية لغير القادرين من الطلاب، تحرص — بعد صلاة الظهر، كل اثنين — على زيارة سيدي علي تمراز. يتولَّى الخدم — بأمر منها — توزيعَ الهبات المادية والطعام — الفتة وقطع اللحم — على الفقراء. تطلب أن ينتظم الجميع في طابور، فلا يحصل أحد على ما ليس من حقه.

إذا كان الجامع باسم ولي الله علي تمراز، فإن جدَّها حسن باشا الإسكندراني هو الذي شيَّد الجامع على نفقته، إحياءً لذكرى الولي الذي أحبَّ سيرته، وآمن ببركاته ومكاشفاته.

رفضت النصيحة بأن تُجريَ في القصر عمليات ترميم. شغلها أن تُعيد بناءَه كقصر لأم البحرية. تأخذ شرفتُه الحجرية هيئةَ الحدوة، وتعلو — في مقدمته — منارة صغيرة، تطلُّ على المياه المحيطة بشبه جزيرة بحري، وتزيد قاعاته وصالوناته لتسَعَ أعدادًا أكبر من الزوار.

ماتت قبل أن تبدأ في بناء قصرها الجديد.

أظهرت رئاسة الحي خريطة بتوسيع المساحة الممتدة أمام حديقة رأس التين. كان موضع القصر من بين البنايات التي تنتظر الإزالة.

•••

انظر: خليل الفحام، عبد الله أبو رواش، عمران الخولي، كرم حامد، كمال أبو السعادات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤