فتنة السعداوي شبانة

الابنة الوحيدة للصياد السعداوي شبانة. ماتت أمُّها وهي في السادسة. تزوَّج السعداوي من ثانية بعد سبعة أشهر من رحيل أم فتنة. أنجب منها ولدًا وابنتين. تردَّد أبوها في إدخالها المدرسة. عرض على الشيخ رافع عبيد أن يعلِّمها القراءة والكتابة، ويحفِّظها القرآن. جلست أمام الشيخ مرتين، ثم اعتذر بضيق الوقت.

قال لخليل الفحام: البنت جميلة … خشيت أن تفتني عن نفسي!

نفر عرق في جبهة الفحام: فتنة طفلة … في سن أحفادك.

– تبدو أكبرَ من سنِّها.

دخلت فتنة المدرسة في محرم بك. أمضت غالبية أيامها في بيت خالة لها بشارع الإسكندراني.

كانت تُمضي الصيف في بيت أبيها. لم يكن في صلتها بزوجة أبيها شدٌّ ولا جذب. تتنقل سحابة النهار بين بيوت الجيران، تُعاملها النسوة بحبهن لأمِّها الراحلة. إذا ظلت في البيت، أغلقت عليها باب حجرتها، وأدارت الراديو دون أن تهبَه إنصاتها. تنشغل بقراءة مجلة الاثنين والدنيا، وروايات الجيب ومسامرات الجيب. تستعيرها من مكتبة النن أول شارع الموازيني، أو من مكتبة فارس في تقاطع شارعَي رأس التين وصفر باشا. تنعزل بقراءتها عن العالم. تشرد. تتخيل ما تقرؤه. تُمصمص شفتَيها لمصير مؤلم، تضحك على موقف مغاير، قد تُحاكي الشخصية بيدَيها وملامح وجهها. تخترع عالمًا شخصياته موجودة في الكتب والمجلات التي قرأتها. تُضيف، وتحذف، وتحور. لا تترك الحجرة إلى القاعة التحتية، إلا لتناول الطعام مع أبيها وزوجته وإخوتها الثلاثة.

لما أراد أبوها تزويجها اشترطَت على زوجها — خيري أبو العز، تاجر الأسماك في الحلقة — أن يُخصص لها بيتًا بالقرب من بيت أبيها. رفضت عرضَه بالسكنى في أحياء الرمل. لا تتخيل نفسها بعيدةً عن بحري.

•••

إذا ترددت النسوة على الحمام العمومي بشارع التتويج. علَّق عم نجاتي على الباب الخارجي فوطة كبيرة، أو ملاءة، لإشعار الرجال بأن الحمام مقصور — في هذه الفترة — على النساء. يجلس عم نجاتي على الكرسي جوار الباب، لا يأذن حتى لنفسه بالدخول. يُصر أن تكون للحمام حرمته. لا يأذن بحدوث اختلاط، ولا شجار، ولا أعمال سحر.

تأخذ الملابس — بعد نزعها — لواحظ التمورجية بمستشفى الملكة نازلي. تدفع بها إلى غرفة البخار، الملاصقة للمدخل، وتُعيدها بعد انتهاء الحمام. تُوزع الصابون واللوف والفوط. تُشير إلى كل واحدة على مربع، أيمن الطرقة المستطيلة.

لما بدَّلت فتنة بثيابها أدوات الحمام، مضَت إلى المربع الذي اختارته. تُهمل رفضها لقذف الثياب في غرفة التبخير. تُعيدها لواحظ بعد أن تُجفف نفسها. إذا عرف أبوها بالأمر، فلن يأذن لها بالتردد على الحمام. تبخير الثياب شأن الفقراء وحدهم، لمنع الأمراض والأوبئة.

تحب الوقوف في المساحة الصغيرة، ما بين الجدران الثلاثة والستارة المشمع، هي الموضع الذي تشعر فيه بالراحة، وأنها تملك روحها. تسدل الستارة. تخلو إلى نفسها تمامًا. تستمتع بنزول الماء الدافئ على جسدها. تُدندن بأغنيات تتذكرها، أو ألحان نسيت كلماتها، وتناقش نفسها، وتتأمل. هذا هو عالمها، تفضله على أي مكان. تنسحب إليه من عالم البيت والأب وزوجة الأب والملاحظات والتوبيخات والأوامر. تُواتيها الأفكار بما يصعب أن يحدث، حتى في بيت خالتها بمحرم بك. لا أسئلة، ولا ملاحظات، ولا نظرات لوم.

انهمرَت مياه الدش ساخنة، شعرت بلسعتها على الكتفين والظهر. تراجعت بتلقائية. مدَّت يدها، فأدارت الخلاط على الماء البارد. اطمأنت إلى اعتدال حرارة الماء. عادت إلى الوقوف بجسدها العاري تحت الدش. غمغمَت بدندنة يغيب عنها المعنى، ثم وجدت الكلمات واللحن، فعلَا صوتُها بالغناء.

تأملت الماء وهو ينزل على رأسها ووجهها وعنقها وكتفَيها. ينحني باستدارة نهدَيها. يهبط إلى البطن والساقين. تُبطئ في الحركة، حتى لا تنزلق قدماها في الأرضية الزلقة.

كان الوقت ظهرًا، والمربعات خالية.

تنبَّهت من دندنتها بأغنية تحت الدش على ملامسة يد لكتفها. أجفلت. نظرَت خلفها بتلقائية، تلفتت حولها. كانت لواحظ قد أغلقت باب الحمام الداخلي، وترامى صوت كلمات مداعبة بينها وعم نجاتي، من النافذة العلوية، المطلة على شارع التتويج. شكَّت فتنة فيما أحست. تفحصت المكان جيدًا. لم تعثر على مصدر الصوت.

تصورت اللمسة تيارًا هوائيًّا مفاجئًا.

عاودت تدليك جسدها باللوفة، وعلا صوتُها بالدندنة:

ادلع يا رشيدي … على وش الميه
سيب رجلي وامسك إيدي … على وش الميه

كان العفريت قد لامس كتفها بإصبع الغواية، ومضى. نسيَت فتنة ذكْرَ اسم الله، فظل داخل الحمام، كعادة العفاريت ما لم يُصرَفوا بسم الله الرحمن الرحيم، وبآية الكرسي، والأدعية.

بدَت فتنة — حين رآها العفريت تُطل من نافذة البيت — مثيرةً بما يجعلها سببًا للغواية. راعَه جمالها. افتتن بها، فتَبِعها في كل الأماكن التي تتردد عليها.

أصاخت السمع، كأن صوتًا يناديها. رافق الصوت — ذات صباح — تصاعُد ما يُشبه الطيف من قلب الأمواج، بعد أن استحمت في غبشة الفجر. كان العفريت يغطس ويقب في الموضع نفسه الذي استحمت فيه فتنة، ينثر على صدره ما يتصور أنه الماء الذي لامس جسدها. يكرر تقبيل الماء، ويمتص ملوحته. هذا هو الماء الذي تقبِّله شفتاها!

حوَّم في أوقات من النهار والليل حول البيت. يرنو إلى الحجرة المضاءة. يدرك أن فتنة تعيش وراءها. يكتم الخاطر بأن يصعد إليها. يُخيفها في الحالين، إن أحست بوجوده وهو في الخفاء، أو رأته رؤية العين.

أكثر العفريت من التحول. لم يجاوز سحنة البشر، يشغله أن يستهويَ عين فتنة. تُبطئ خطواتها، تأخذ منه وتعطي، ترضى به. يكرُّ طرف الخيط، فيهمل نهاية صورة العلاقة في اكتمالها.

انتظرها، وتابعها، في ميدان أبي العباس، على كورنيش الأنفوشي، وهي تنشر الغسيل فوق سطح البيت، عند لحظات الصباح الأولى في الحلقة، صحبتها لأخيها الصغير إلى سينما رأس التين، أمام مصلى السيدات بجامع ياقوت العرش، في الساحة الترابية قبالة شارع أبي السعادات.

ناداها باسمها وهي تصعد دحديرة أبي العباس. كان الوقت ظهرًا، والشمس لاهبة. لاذ الناس بداخل البيوت.

استدارت وراءها.

رآها، ولم ترَه. ذوَّب نفسه في الفراغ.

واصلت السير بتصور أنها أخطأت السمع.

حاول أن يصرفها عن ذهنه، لكنها ظلت في موضعها، لا تتركه.

تسلَّل — باليأس — وراءها إلى حمام الأنفوشي. وجد — في ملامسة جسدها — انفراجة باب، يُطل منه على دنيا يتوق إليها.

تبدَّلت — في اليوم التالي — حياة فتنة.

اتجهت عيناها إلى ما لم تكن تراه من قبل. مالت إلى كلمات الغزل، واستجابت لها. أكثرت من النزول إلى زحام المولد في ميدان أبي العباس وسوق العيد وشارع الميدان وزنقة الستات. خلعت حذاءها، وسارت — بخطوات متباطئة — أمام الجالسين تحت الشماسي وداخل الكبائن.

لأنه من المستحيل على المرأة أن تتزوج من رجلين، فقد اتخذت لنفسها عشيقًا: حاولت مع كرم حامد، ثم رضيت برزق جرسون قهوة مخيمخ.

حلمت بالعيش مع حميدو شومة. لو أنه اختطفها من البيت، أو وهي في الطريق. يصحبها إلى عالم السحر والإثارة والمغامرات، إلى الخلاء والظلمة والخوف والتوقع والدفاع عن النفس. يضع ما يحصل عليه من مال ومجوهرات وذهب تحت قدمَيها. تقبل ما يستهويها. توزع الباقي على جاراتها في السيالة.

داخلها شعورٌ أنها لم تُخلق للحياة في بيت أبيها (إلى متى تتحمل منغصات زوجته؟) أو الحياة في بحري، وفي الإسكندرية كلها؟

ما يُشبه اليقين استقر في نفسها، أنها خُلقت لشيء آخر، لحياة أخرى، لا تدري أين، ولا كيف، ولا صورتها على وجه التحديد؟

بلغت الهمسات أُذُن خيري أبو العز.

عرف أن أمرًا ما يشغل المرأة، ويُبعدها عنه. ضاق بإيماءاتها، ولمزاتها، وبعدم قدرته على إشباعها، وإن أهمل — في عدم تصديق — ما قيل عن لقاءاتها برزق، في غفلة منه. تصعد إلى حجرته، فوق سطح بيت ابتهال المنسي. يُغلق عليهما الباب أوقات القيلولة، يفتحه لما تعلو الشمس واجهةَ البيت.

قال الشيخ عبد الستار: هذا نشوز!

وأومأ برأسه: علاج النشوز بالنصح أولًا، ثم بالهجر.

قاطعه: هي التي تهجرني.

– من حقك إذن أن تؤدب زوجتك بما لا يمسُّ وجهها، ولا يوجعها، أو يترك عليها أثرًا!

ركبه القهر مما يجري. أحزنه — حتى الموت — تصوُّر أن رجلًا آخر في حياة فتنة، يلتقي بها، يسمحان لنفسَيهما بما لا يستطيع تصوره. سعيًا للممكن والمتاح.

لجأ خيري إلى شحاتة عبد الكريم.

حدَّثه عن ظنونه وشكوكه، وما تتسلل به الشائعات إلى أذنه.

عمل له شحاتة فائدة لعقد المرأة عن غير زوجها، كتب فيها وفقًا، وضع اسم فتنة في الخانات الخالية منه. يجامع المرأة، فلا يطؤها غيره بعد ذلك. الظنون والشكوك لم تبرح مواضعها. زادت الشائعات من إلحاحها على أُذُنه. أيقن أن الإخفاق نصيبُ ما فعله شحاتة عبد الكريم من السحر.

لم يَعُد خيري يدخل حجرة النوم. يقضي الليل — بمفرده — في حجرة القعاد. يغالب ضيقه وأرقهَ بشرب الشاي والجوزة، يعدُّهما له الولد كاكا. أخفق في أن يضبطها بما يُدينها. طال ترقُّبه لأي تغيير في سلوك فتنة، حتى يتناسى شكوكه. تعود حياتهما إلى ما كانت عليه. لكن غربان البحر واصلت الصراخ، وعلَت الطحالب والأوساخ والأمواج الداكنة.

لمضايقتها، كرر توسيخ ملاءة السرير بأسماك غير طازجة، والشكوى من رائحة النتن. يحرص على الاستحمام قبل أن ينام، من أين تأتي الرائحة الكريهة؟!

لما رفضت أن تغسل له قدمَيه، رمى عليها يمين الطلاق. أهملت ما اعتاده منها: إعداد الطست والإبريق وجلباب البيت، نزع الحذاء والجورب عن رجليه. عقب عودته من الحلقة. وغسل قدمَيه في الطست.

فطنت إلى أنه خاض في المياه الآسنة. علَت رائحة الزفارة بما أشعرها بالغثيان.

قال: ألم تشمِّي زفارة الحلقة إلا الآن؟!

ترددت في الكلام، ثم قالت: لم أَعُد أُطيق.

– الرائحة التي تشمينها فيكِ أنت لا في زفارة الحلقة.

وقال في هدوء: أنت طالق!

لم يحدِّث أباها في باعث تطليقه لها، ولا تحدَّثت فتنة.

ثاني شهر من عودتها إلى بيت أبيها، التفَّت بالملاءة، وأسدلت البرقع على وجهها، وسارت إلى بيت علية عشماوي على ناصية شارع قبو الملاح. جاوز الأمر مجرد نزوة تريد إشباعها. تمنَّت أن تخوض تجربتها، تبدل عالمها بما لم يخطر في بالها، ولا تصوَّرته.

اتجهت إليها المرأة بملامح متسائلة: السعداوي صياد قد الدنيا … ألا تخشَين أذاه؟

أربكها السؤال.

شغلها السر. تطلَّعت إلى معرفة العالم السحري، وملامسته. تنفرد بمن توافق على لقائه. الخلوة تشجع على امتداد العلاقة إلى نهايتها. ذلك ما تريده.

تمنت التجربة.

بدَت لها المرئيات ممتدة بلا آفاق تنتهي إليها. أزمعت أن تترك نفسها للانطلاق. هذه هي فرصتها الوحيدة التي ربما لن تتكرر، تنفذ ما تفكر فيه، وتطلبه. لا توقفها همسة تحذير، ولا شخطة رفض، ولا عين تلحظ حتى ترددات أنفاسها.

هزَّت رأسها، ولوت شفتَيها، وأشاحَت بيدها، ولم تُجِب.

تنامى — في داخلها — إحساسُ المغامرة، مواجهة المجهول الذي لا تدري ملامحه. شردت بالتصورات. ما تتمنَّى حدوثه، وما تُصر على رفضه. يجوس بها مَن لا تعرفه، وإن تُصر على اختياره. عالَمًا لم تدخله من قبل، ولا تعرف منه إلا ما يتناثر في الكلمات المدغمة، أو الهمسات.

أسلمت نفسها لتصورات، بدَت كالأصداء البعيدة: الحجرة التي تضمهما، أنفاسه فوق وجهها، ساعداه يعتصرانها. يقبِّلها. لا تقاومه فذلك ما تريده. روت للمرأة ما تهيأت له. حدست أن مجرد البوح بما في داخلها، سيخفف مما تعانيه. لعله يخلصها منه تمامًا.

داخلها ضيقٌ لما رافق تحسُّس يد المرأة جسدها، وهي تتحدث عما ينبغي فعله. تحركت في موضعها. فكرت في أن تُزيح يد المرأة، ترفض ما تفعله. الخوف مما لا تعرفه شلَّ تصرُّفَها.

أدهشها رفض المرأة اختلاءها بالبحار الإنجليزي. أصرت أن تظل معها داخل الحجرة. فاجأتها بالقول: سأدخل معك؟

– لماذا؟

ثم وهي تداري ارتباكها: أريده هو لا أنت.

انتزعت المرأة ابتسامة: سأظل في الحجرة دون أن أفعل شيئًا.

– لا أتصور وجود عينين تراقبان ما يحدث.

– هذا لصالحك.

قالت المرأة: إنهم يقلدون الأفلام الأمريكية. يطعنون الصدور في ذروة اللحظة.

وربتت كتفها بإشفاق: تكررت حوادث طعن بحارة أجانب لنساء في غرف الفنادق.

استطردت وهي تلون صوتها: وفي بيوت مثل بيوتنا!

ورجعت إلى الوراء، حتى لامست مسند الكنبة: ترفض المرأة دخول الحجرة إلا بصحبة صديقة لها.

فاجأتها الملاحظة.

تحوَّلت الدهشة إلى ذهول، لما روت لها المرأة ما تتوقعه: تتعالى أغنيات النشوة والتراتيل والابتهالات الملتذة. البحار يشغله ما لا يشغلها. أن يكون هو الأقوى، وتكون هي الأضعف. يشعر في عناقها بكل قوته. يملأ الحجرة المغلقة، الضيقة. يتمدد جسده، يتمطى، يتلوى، يحلق، يطير، يفعل فعل البراكين. تأتي الطعنة في لحظة الذروة. يخترق أوسط الصدر تمامًا. ينبثق الدم ممتزجًا بآهة يعقبها أنين. يحل الصمت تمامًا. يترك السكين في موضعه، ويرحل عن المدينة قبل أن يفطن أحد إليه، ولا إلى ما فعل.

ما يحدث تكرر كظاهرة. يغيب الدافع. لا يبقى إلا التطلع لفعل الإحساس بالذات، الفرحة بما تؤديه. ربما ثار السؤال: لماذا؟ يغيب في الفعل وإلغاء المعنى. يحدث لأنه يريد أن يجرب ما امتلأ به ذهنه من تطلع إلى ذروة النشوة.

الارتباك — في داخلها — قيَّد أفكارها. لا تدري كيف تواجه ما لا تعرفه، ولا الخطوات التالية.

أدركت أنها تورطت فيما لا قِبَل لها على مواجهته، وأن ما تُقدم عليه هو مخاطرة لا تعرف نتائجها.

تمنت لو أن الموقف الذي تعانيه انتهى. لو أنها وجدت نفسها في البيت، تُغلق حجرتها عليها، تُطل من النافذة، تقرأ روايات الجيب والمجلات، تستمع إلى الراديو، تُدندن بينها وبين نفسها.

قتلها الارتباك والخوف. تملَّكها خوفٌ من التورط. بدَت المرئيات حولها كأطياف. فقدت الرغبة حتى في الكلام.

فكرت في أن تعود. تلفتت تبحث عن مخرج. مالت بجانب جسدها، تتهيأ لمواجهة السلم. لكن نظرة المرأة القاسية جمدتها في مكانها. خيِّل إليها أن حدة نظرات المرأة تُتيح لها النفاذ إلى داخل نفسها، وقراءة ما يشغلها.

همَّت بأن تصرخ، تستغيث.

فتحت المرأة الباب عن آخره، دفعَتها، ودخلت وراءها.

•••

واجه السعداوي شبانة بالصمت، شائعةَ خطف جني لفتنة، وهي تميل إلى الوسعاية لملء صفيحة الماء من الحنفية العمومية.

لم يصدق السعداوي ما همس به السَّماك عراقي أبو سنة في أذنه، بأنه شاهد فتنة تركب عربة حنطور مع بحارَين يرطنان بالإنجليزية، في طريق الكورنيش، بالقرب من سيدي بشر.

وضع عراقي راحته على موضع صفعة السعداوي على وجهه. أدرك قسوة ما قاله، وإن أراد أن يطمئنه على فتنة. كان القهر قد رسم خطوطًا ودوائر على جبهة السعداوي، وحول عينَيه وشفتَيه. بدا أكبر من عمره الحقيقي بسنوات.

غلبه القهر. رأى فتنة — بعينَي الشرود — تُسلم نفسها لأمواج عالية، متتالية.

كان يخرج في غبشة الفجر. يتجه إلى شاطئ الأنفوشي. يجلس في مواجهة البحر. يُطيل الانتظار والتحديق في الظلمة الشاحبة.

حين همس السعداوي إلى الست صبيحة بما يعانيه، تحدثت عن الجن الذي تلبَّس فتنة. دخل في شرايينها وعروقها. يُملي عليها ما تقوله، أو تفعله. حرام أن تؤاخذ البنت بما لا حيلة لها فيه. رفضت فكرة زوجته أن تقيم لها الكودية سيسبان ليلة زار.

قال في أسًى: فلتَعُد فتنة أولًا.

نصحَته الست صبيحة بدوام الصلاة والدعاء وتلاوة آيات القرآن وذكر الله، طقوس تطرد كل الشرور، تخلِّص الإنسان مما يعانيه.

أوقد الشموع على المقامات والأضرحة. تمسَّح بها، وكنس ما حولها، ونذر النذور. نصحه جودة هلال بأن يزور سيدي المتولي، هو شيال الحمول، الذي لا يشق عليه أيُّ حمل، مهما يكن ثقيلًا. زار — بمفرده — سيدي العدوي، في ضريحه بشارع صفر باشا. سرُّه معلن في إعادة الغائبين. حكى معاناته لولي الله. تمنى عليه أن يعيد فتنة إلى نفسها، وأهلها. زار مقام سيدي الطرطوشي في شارع الباب الأخضر. نذر على نفسه عهدًا، إن عادت البنت، أن يرش عتبة أبي العباس بالحناء، وأن يكنس الميدان، وما يحيط به من شوارع وحوارٍ وأزقة، لا يوقفه إلا البحر.

قال له الشيخ جميل أبو نار إمام أبي العباس: اكتفِ بكنس الجامع. هذا هو مهر الحور العين!

لجأ السعداوي إلى كل مَن يعرف طريقةً يستعيد بها ابنته. حثَّ حمدي درويش ضباطه ومخبريه على كشف حقيقة ما حدث. ظل السعداوي على سؤاله، فقال البكباشي دون أن يرفع عينه عن «المقطم»: ابحث عنها على الكورنيش!

فتحت غجرية — لم يكن قد التقى بنعمات — المندل. أومأت بما يعني قرب الفرج. مارس شحاتة عبد الكريم أعمال السحر. صنع له عملًا لعودة الغائب. أتى لسيسبان بما طلبه — لفك الكرب — أهل العوالم السفلية. قيلت أسماء بشر وأماكن، دون أن يجد إجابة عن السؤال: أين اختفت فتنة؟

هل اجتذب الإنجليز ابنته للحياة في معسكراتهم؟ هل أخطأ باقتصار تردده على أولياء الله؟ هل تعيش فتنة في معسكرات الإنجليز برأس التين، أو الميناء، أو مصطفى باشا؟

عبارة «قف» تمنعه من مجرد تأمل ما وراء الكردونات. أعين الجنود تقتحمه بالأسئلة والتوجس والشك. مَن يسأل؟ وكيف يعرف إن كانت فتنة قد اختارت الحياة في معسكر للإنجليز؟!

•••

انظر: جودة هلال، حمدي درويش، خليل الفحام، رافع عبيد، عبد الستار، علية عشماوي، سيسبان، شحاتة عبد الكريم، صبيحة الدخاخني، نعمات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤