كامل أبو السعادات

مات الغواص كامل حسين أبو السعادات (٥٥ عامًا) في الثاني والعشرين من يونيو ١٩٨٤م، داخل سفينة الأبحاث الفرنسية «بون باستير».

كان صاري سفينة قيادة الأسطول الفرنسي «لوريان» آخر ما أعلن كامل أبو السعادات أنه عثر عليه. ما حدث — في اللحظة التالية — بدا غيرَ مفهوم، وقاسيًا. اندفع أبو السعادات من قلب الماء كانبثاق نافورة.

عصاه النطق والحركة. حاول الطبيب إفاقته مما تصوَّر أنه إغماء مؤقت. الإغماء حالة طبية، اعتادها كلُّ الغطاسين بأجهزة الهواء، إذا غلبهم الإرهاق.

جرى لأبي السعادات ما كان يبدأ به دروسه لهواة الغطس. التنبُّه من الصعود فجأة، أو بسرعة. يتحدث عن ارتفاع الضغط، وانفجار المخ والشرايين، والوفاة الحتمية. صعد بالطريقة نفسها، فمات.

•••

لم يَرِث المهنة عن أبيه، ولا بدأ في تعلُّمها على النحو الصحيح إلا بعد أن علَّم نفسه الغوص. لا يكتفي بالسباحة، لكنه يضع رأسه داخل الماء، ويكتم نفَسه. يظل تحت الماء دقيقتين. يزيدها إلى ثلاث دقائق، ثم إلى أربع. أَلِف البقاء تحت الماء دقائق قد تبلغ الخمس، أو تزيد. زاد اتساعُ الوقت بزيادة محاولات الغطس. حين بدأ في تعلُّم الغوص، كان قد أَلِف السباحة — تحت الماء — فترات طويلة.

أجاد حبس أنفاسه — بدون أجهزة — تحت الماء، دقائق متواصلة. يصعد إلى السطح في لحظة تطلُّع طاقم البلانس ناحية موضع غوصه، في سكونه السادر.

عرف متعة العوم تحت المياه، والغطس إلى القاع. صار مولعًا بالغوص، يغوص في أوقات متقاربة، وإلى أبعد عمق يصل إليه. ليس لمجرد أن يصل إلى الأعماق. هو يغوص للغوص، لرؤية ما في قاع البحر. يسلِّم عينَيه لما يرى. تهمُّه المشاهدة، والتعرف على تضاريس البحر والمخلوقات التي تعيش في أعماقه: الأسماك المختلفة الأشكال والأحجام والألوان والقشريات والأعشاب والطحالب والقواقع والأصداف ونجوم البحر وقنافذ البحر وزنابق البحر.

يصعد بما يصادفه، أو يكتفي بالفرجة.

علَّمه الغطس أن يتنفس — بانتظام — ليحصل على أكبر قدر من أوكسجين الأسطوانة المحمولة على ظهره. أن يجيد التحكم في الحركة، فيتأمل مخلوقات البحر دون أن يدفعها للفرار.

قلَّت، أو غابت، الوسائل البدائية والتقليدية: البوصلة، السكين، الزعانف، النظارة، منظِّم الهواء، خيط الوصل بين الغواص واللنش المرافق، الصفارة البحرية.

تعددت أجهزة الغوص، وتطورت.

أجاد استعمال الأجهزة الحديثة — للاستشعار عن بُعد — في تحديد المواقع: فاحص الأعماق بواسطة الصدى، قياس المدى، كاشف المعادن، قياس المدى المطور، جهاز رصد وتحديد المواقع، المتصل بالأقمار الصناعية، أو بالأطباق في عمق البحر، المزود بالأضواء الكاشفة، ونوافذ الرؤية، وأذرع التحكم من داخل المركبة.

تكررت حالات نجاته من الغرق. يغوص، ويُنقذ نفسه، أو يُنقذه طاقم المركب.

شيء ما يجذبه من قدمه، قوة خفية تجذبه إلى الأعماق، كأنه إسفنجة تشبَّعت بالماء، ينجذب إلى قاع البحر.

شعر — في المرة الأولى — بالخوف، وأنه في مواجهة خطر كبير، اقتحم الخوف أعماقه، خوف حقيقي، يفزعه بالغموض وعدم الفهم. لا يدري ما هو، ولا لماذا، وما تأثيراته المتوقعة؟

حاول أن يحرك كلَّ جسده، رأسه، صدره، ذراعَيه، ساقَيه، لكي يطفوَ. حبس أنفاسه حتى لا يبتلعَ المياه، أو تدخل الملوحة أنفه.

جاهد للطلوع، ثم جذبته القوة الخفية ثانية، صعد وهبط. شعر بخدر غريب في ذراعَيه، تهدَّلَا إلى جانبه، لا يستطيع تحريكَهما. تحوَّل جسده إلى أشلاء متناثرة، ثم فقد الإحساس تمامًا.

غاب الزمان والمكان. لم يَعُد سوى المطلق.

تلفَّت — بعد أن فتح عينَيه — حوله. سطح المركب ونظرات القلق والمعدات والأمواج والأفق.

لم يكن الشعور بالخوف يعرف الطريقَ إلى قلبه. الرجل، الرجل، يواجه الخطر، ولا يخافه!

•••

تعددت اكتشافات كامل أبي السعادات في أعماق البحر.

أجمع علماء الآثار أنه مارس الغطس — بحثًا عن الآثار — أفضل ممن سبقوه، بدايةً من الفرنسي «جونديه» في ١٩١٢م. هو أشهر من قام بأعمال الغطس والاستكشاف في ساحل البحر الأحمر، وفي مناطق الشعب المرجانية. ألف كيلومتر من تيران في الشمال إلى برنيس في الجنوب، ومن أول العقبة حتى جزر الأخوين.

بدأ أبو السعادات الغوص للبحث عن الآثار الغارقة في ١٩٦٢م. لم يَعُد ينزل البحر للفرجة وحدها. هو يبحث، وينقِّب، ويقلب. يدخل المغارات والكهوف العشبية، لا يكتفي بالتطلُّع إليها، ولا تأمُّلها، ولا العوم وسط الأسماك والمخلوقات البحرية. أكثر من ٤٢ موقعَ غطس، في أعماقها هياكل سفن غارقة، وبقايا أثاث، ومعدات، وأسلحة، وسلاحف اتخذت السفن المهجورة سكنًا لها.

صادف في ساحل البحر الأبيض على منار الإسكندرية القديم، تمثالَ الرجل الروماني خلف قلعة قايتباي، أرصفةً حجرية، تماثيل، توابيتَ حجرية، مجموعاتٍ من أواني البازلت، أجزاءً من مسلات، عرشًا من الحجر، تماثيل، تيجان، قواعد، توابيت هائلة، أعمدةً مكسورة، قواريرَ عطور، أدوات مائدة، أطباقًا فخارية، عملاتٍ من الذهب والفضة والبرونز، مجموعات من حروف الطباعة، جرارًا هائلة، قِطَعَ فخار، سبائكَ من الذهب والرصاص، أوعيةً من البرونز، منطقة أثرية كاملة تحت مياه المينا الشرقية. بعد أن يتبين موقع الأثر، يعيِّنه بالتحديد، يتركه لعمال الآثار، يربطون الأثر جيدًا، يسحبه الونش البحري إلى داخل البوغاز.

قال له حجازي أيوب: القارئ لتاريخ الإسكندرية يُدرك أن معظم تاريخ المدينة في أعماق المينا الشرقية!

خليج المينا الشرقية يضم ٢١٤ موقعًا أثريًّا. وضعَ له خريطةً علمية، هي مدخل بوابة إلى اكتشافات أثرية، وحفائر لا نهاية لها: عند سفح قلعة قايتباي، المينا الشرقية، السلسلة والشاطبي، خليج أبو قير. اكتشف في أبي قير — بعد ذلك — حاجزًا بحريًّا بطول ٢٥ مترًا، ومرافئَ حجرية، وأرصفة حول جزيرة «نلسون»، طولها ثلاثمائة متر، وتمتد في كل الاتجاهات.

لما عثر — في قاع المينا الشرقية — على تمثال ضخم، من الجرانيت الأسود، لملكة بطلمية، في هيئة الإلهة إيزيس، هتف لحظةَ صعوده فوق الماء: يبدو أني أعدتُ الزوجة إلى زوجها.

ونظر إلى نقطة بعيدة، غير محددة: منذ اكتشاف تمثال أوزوريس، ظل وحيدًا ينتظر لقاء زوجته!

استطرد في لهجة متلكئة: تأخَّر لقاء الزوجين (وعدَّ على أصابعه) ٣٣ سنة!

حدَّد مناطق الحي الملكي في مناطق التومنيوم وإنتريودوس ورأس لوكياس. حدَّد المواقع القديمة. عاونه العلماء المصريون والفرنسيون في وضع خرائط أثرية، علمية، لها.

اختفى هذا الجزء من المدينة الملكية تحت البحر، بتأثير سلسلة الزلازل، وموجات السيول التي أغرقت المنطقة المتاخمة للبوغاز، ودمرت المعابد والقصور.

ظل كامل يبحث، وينقِّب، ويكتشف الآثار المطمورة في قاع البحر. في المينا الشرقية، وعند السلسلة، وخلف قلعة قايتباي، وفي ساحلَي المعمورة وأبي قير، والساحل الشمالي. استهواه التعبير: الإسكندرية أعظم المواني الغارقة. وجد الكثير من الآثار في أعماق المينا الشرقية: أجزاء من قصور بطلمية، جزيرة «إنتربرودس»، بقايا قصر كليوباترة ذي الأعمدة الجرانيتية والرخام والموزاييك، الميناء الملكي، معبد إيزيس الصغير، سفينة البوغاز الملكية، قصر مارك أنطونيو، شعلات منارة الإسكندرية، معبد بوسيدون، هيكل الفلاسفة، تماثيل لأبي الهول.

عانَى التلوث، من المجاري، والصرف الصحي، وأرهقَته مصدات الأمواج.

قال أبو حلاوة: كنا نستحم في المينا الشرقية، ونرى — بالعين المجردة — بقايا قصر كليوباترة.

وأشار ناحية البحر: حوَّلت المحافظة مياه المجاري إلى الميناء الشرقية، فأغرقَتها، ولم نَعُد نرى شيئًا!

قال خليفة كاسب: الغوص إذن لن يأتيَ بنتيجة.

اقترح أن يُبنى سدٌّ حول المينا الشرقية. تُسحب من داخله المياه، فتظهر المدينة القديمة كلها.

وهو يخلص الآثار مما عَلِق بها من أصداف وطحالب وأعشاب وأوساخ، تنبَّه لسقوط جسم معدني صغير. التقطه، وقرَّبه من عينَيه.

عرف أنه خاتم مُطفأ اللون. تفحَّصه. قرأ الحروف في الإطار الداخلي: ف. ف. ١٩٣٨م.

قال خليل الفحام: لعل الحرفين هما فاروق وفريدة. تزوجَا في سنة ١٩٣٨م.

وشرد في الأفق: كيف سقط الخاتم في هذه المنطقة؟!

واصل كامل الغوصَ حتى رأس الحكمة بمرسى مطروح. اكتشف فيها سفينةً رومانية غارقة، بداخلها كمياتٌ هائلة من أواني الأنفورا.

أعد — بتوالي الغوص والاكتشافات — خريطةً كاملة للآثار المطمورة في مياه الإسكندرية. سُجلت الاكتشافات — باسمه — في مراجع منظمة اليونسكو.

درس الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية. تعلَّم الكثير عن صناعة السفن، وتاريخ بناء السفينة التي غاص فيها، وتاريخ غرقها. يدرس — قبل الغوص — رسمَ بنائها الداخلي. يطمئن إلى المعدات، وما ينبغي فعله: بذلة الغطس، أسطوانة الهواء، حزام الأثقال، أنبوبة التنفس، ماسك الأنف، الحراب، السكين، كمية الهواء في البندقية. يُثبت النظارة فلا يتسرَّب الماء، يحرِّك رجلَيه بالزعانف يتأكد من تثبيتها، يهزُّ البندقية، فيهتز حبل الحربة المتصل بها.

يعرف موقع الآثار من الزبد السابح فوق المياه. هو نتيجة اصطدام الموج بما يغطس للبحث عنه. يتخلل طبقات الأمواج. يتمشَّى — داخل السفينة الغارقة — بين الدهاليز والممرات والقمرات والظلمة. هذا هو العالم الذي أَلِفه: الأسماك — بكثرة أنواعها — والقواقع، والأصداف، والأعشاب، والطحالب، والصخور، والكهوف، والأخاديد، والجحور، والمغارات، والفتحات المظلمة، وبقايا السفن الغارقة، والحطام، والتاريخ، والآثار، والغموض، والسحر، والأسطورة.

كان يتردد على منطقة عمود السواري. يشاهد تمثال الآلهة إيزيس ذي الأطنان الخمسة والعشرين، والأمتار السبعة. هو الذي اكتشفه، ودل على موضعه.

لما سأله خليل الفحَّام، إن كان قد شاهد قبر الإسكندر، أنكر أنه شاهد القبر — تحت المياه — أو ما يدل عليه. اطمأن إلى القراءات التي حددت القبر في منطقة النبي دانيال. الإسكندرية الحالية هي الطابق الثالث فوق إسكندريَّتَين سابقتَين. أعماق البحر لا تمثِّل سوى طابق وحيد، آثاره متفرقة.

الخريطة التي وضعها — بعد أن شارك مبعوث اليونسكو أونر فروست في عمليات التنقيب عن آثار المينا الشرقية — أثبتت أن المنطقة هي الامتداد الطبيعي لمنطقة المنشآت الأثرية، المدفونة تحت الرمال.

أفادت من اكتشافاته وأبحاثه وتقاريره، معظم الهيئات الدولية للبحث تحت الماء.

غاص في ناحية أبي قير — بتكليف من شركة خاصة — لانتشال ما كانت تضمُّه باخرةٌ غارقة، تابعة للشركة. نزل أبو السعادات إلى موضع الباخرة الغارقة. صعودُه المفاجئ كاد يفجِّر شرايين دماغه. نسيَ ما يعلِّمه هو نفسه للغواصين الجدد، ولهواة الغوص. لم يتحدث عن رؤيته للمخلوق الغريب داخل الباخرة الغارقة. خشيَ البوح حتى لا يعاقبَه الجنيُّ (هكذا استقرت قناعته) إذا هبط ثانيةً في عمق البحر.

عمل — في أيامه الأخيرة — على باخرة الأبحاث الفرنسية «بون باستير»، مهمتُها البحثُ عن بقايا أسطول نابليون في أبي قير. تضم ١٢ عالمًا فرنسيًّا تخصصوا في هندسة الكومبيوتر والآثار والغطس والمساجد وتنظيف عمق البحر.

شاهد آثار الهزيمة الفرنسية أمام أسطول الإنجليز. لم يؤثِّر توالي العقود في تذكُّر ما حدث، في نهايات القرن الثامن عشر. أسطول نيلسون يترصد لأسطول نابليون. انطلقَت قذائفه بلا توقُّف حتى أسكت مدافع أسطول نابليون، وأغرقَت مراكبه.

آخر ما وصل إليه السفينة «لوريان»، غائرة في رمال أبي قير، وفوقها مدفعٌ وزنُه حوالي سبعة أطنان، وطوله خمسة أمتار.

لم تَعُد مهنة الغوص لصيد الإسفنج على ازدهارها القديم. قلَّت أعداد غواصي الإسفنج، بعد أن حلَّت البدائل الصناعية محلَّ الإسفنج الطبيعي.

ظل غوصُ كامل أبو السعادات للبحث عن الآثار في أعماق البحر.

•••

هل قُتِل كامل أبو السعادات، أو أنه مات ميتة ربه؟

تُجمِع الروايات — أو تكاد — على أن الرجل قُتل في مؤامرة. هل لأنه عرف أكثر مما يجب؟ أو لأنه أصرَّ أن تظل آثار الإسكندرية داخل المدينة؟

أثبت تقرير الطبيب الشرعي أن كامل أبو السعادات مات بإسفسكيا الغرق. رجح التقرير أن ما حدث كان للفرار من خطر واجهه أبو السعادات في أعماق البحر. كثرَت مرات غوصه. جاوزت إمكانية العد. صادق ما تحت الماء من أعشاب وأصداف وأسماك وقواقع وطحالب. حتى المخلوقات العجيبة أَلِف رؤيتها، وأَلِفت وجوده.

•••

انظر: الإسكندر الأكبر، حجازي أيوب، خليل الفحام، خليفة كاسب، فاروق الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤