كرم حامد

هو ابن امرأة من الأنفوشي وجني بحر. جمع في عافيته بين خصائص أهل البر، وخصائص أهل البحر. يختلف عن أهل بحري، يفوقهم في القوة والشجاعة والذكاء وحسن التصرف. يرفض معنى الخوف، إذا أظهرت الشجاعة أمام ما يُخيفك، فلن يؤذيَك.

عم سويلم أبو العلا غازل الشباك على شاطئ الأنفوشي، رأى — بعينيه — ذات فجر، ما رواه لزوجته، وائتمنها فلا تبوح به. نقلت المرأة ما رآه العجوز في الليلة نفسها. تناثرت الرواية من الأفواه، فعرفها الجميع، وإن لم يجرؤ أحد على مواجهته بما يعرفه: اعتادت المرأة نزول البحر في ساعات ما قبل الفجر. رآها جني اختار لإقامته مياه الساحل، داخل الأمواج وبين الصخور. استهواه جسدها الذي عرَّته المياه خلل فستانها. تجسَّد لها في صورة آدمي.

عانت تعثُّرَ خطوتها في الرمال المبتلة. اخترقت ورش القزق لتبعد عن طريقه. طالعها قبل أن تميل إلى شارع الكورنيش.

حاولت التملص من تحت ذراعه، لكنه هبط بها إلى الأرض التي اختلطت فيها الرمال ونشارة الخشب والأوساخ.

عدل كتفَيها في مواجهته، وأقبل عليها. سقطَا معًا. منع براحته صراخها. انهارت مقاومتها بتواصل المضاجعة، كأنها استغرقت في غيبوبة.

قال سويلم أبو العلا إنه شاهد الجني يتحول — لحظات مضاجعته للمرأة — من هيئته الإنسانية إلى هيئة الجني.

ظلت المرأة في موضعها فترة طويلة، قبل أن تُفيق، وتستعيد ما حدث.

بعد تسعة أشهر، عانت المرأة آلام الولادة بما لا تطيقه. نفضت الداية أم تركية يدَيها، وقالت في صوت متحشرج: هاتوا الطبيب!

كتمت أم كرم السرَّ في صدرها. لم تَبُح لإنسان بما جرى في داخل البحر. يعروها حزنٌ لأن صرخاتها لم ترتفع فتجتذب الناس، ولم تضمَّ ساقَيها بما يمنع اختراقها.

لم تَعُد تذهب ناحية البحر، وإن عانت حزنًا من انعدام رغبتها في زوجها. لا تعرف إن كان السبب هو الجنين الذي ينتسب إليها، وإلى أب غير زوجها، أب ليس من جنس البشر.

زادت معاناتها بربط الجن لزوجها، فهو لا يقربها. لن تعود إليه إلا إذا تركها الجن في حالها. هي تدري، وهو لا يدري. تعرف أن الجن يريد أن يظل هو وحده في جسدها، وفي بالها.

لاحظت سيسبان انكفاءها على الصمت وهزالها. أخفقَت في التعرف على ما تُعانيه المرأة، كأنها اطمأنَّت إلى اقتراب الموت. يحزنها — ويُخيفها — أن الجنين الذي تحمله في بطنها ليس إنسيًّا. هي أمه، والجني أبوه، تُعاني تصور الملامح، وكيفية حياته بين البشر. وحين لفظت آخر أنفاسها لحظة الولادة، فلأنها احتاجت إلى أضعاف قوة البشر.

طلبت الأم — من بين لهاث التعب — أن يلُقَى خلاص الوليد داخل البحر، بعيدًا، فلا تَصِل إليه يدُ إنس ولا جان.

علا الصوات من بيت حامد عبد الهادي. فطنت سيسبان إلى أن ما كانت تحدس وقوعه قد حدث، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

تسلل الجني — في تكوين أثيري — إلى حجرة كرم.

تأمل الطفل في فراشه. واتَته فكرة في أن يأخذه. يُسلمه إلى البحر، ترعاه جنيات، يربِّينه. أشفق مما لم يتبيَّنه.

وضع على جبهة المولود قبلة، وانصرف.

لولا أن سويلم أبو العلا شاهد ما حدث، كان السر سيظل حبيسَ صدر المرأة وجسدها حتى تلد.

لم يَعُد السرُّ سرًّا، بعد أن روى الرجل ما شاهده لزوجته. لكن البوح اقتصر على الهمس لا يفتضح بالجهارة.

أدرك سويلم أبو العلا أن الطفل الذي اقترنت ولادته بمتاعب وظواهر غير خافية، هو ابن للجني.

تابع سويلم ما حدث منذ بداياته: المخلوق المتقافز فوق الأمواج، كأنها شلال صغيرة. التحول إلى شبح، أو طيف، تحور إلى كائن إنساني لم يستطع تبيُّن ملامحه. غابت في ضبابية ما قبل طلوع الصبح، وفي ارتماء الكائن على المرأة الخارجة من الاستحمام، يُحيطها بعناقه. لم يمكنها من أن تتملص، أو تصرخ، أو تستغيث. شلَّ حركتها، وكتم صوتها. لم يرفع جسده إلا بعد أن أطفأ شهوته. عاود التقافز فوق التلال الصغيرة. تحوَّل إلى هيئة الشبح أو الطيف، ثم إلى المخلوق الذي يختلف عن البشر في تكوينه الجسدي، وملامحه.

قالت سيسبان إن أم كرم لم تكن تستحمُّ في البحر، ولا تقف على شاطئه. إذا كانت قد حملت من جني، فلأنه — هذا هو الأقرب للتصديق — زارها في النوم.

ما أقلق سيسبان — في حكاية أبي العلا — أن الصيادين لن يطمئنوا إلى سلسالهم. كرم ابن الجني بداية، ذرية من الجان، لها معتقداتها، وتقاليدها المغايرة، وتصرفاتها التي قد تؤذي.

رفض سعيد العدوي ما تبادله الناس، نقلًا عن رواية سويلم أبو العلا.

قال في لهجة رافضة: هل الجن حقيقة؟!

قال سويلم أبو العلا: مَن يؤمن بما جاء في القرآن يجب أن يؤمن بوجود الجن.

ثم في نبرة تأكيد: الجن مذكور في القرآن.

•••

قال الله وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. وقال أولياء الجن من كفار الإنس: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ.

الجن لا يتزوج الإنسان. العشق وارد، يعشق الجن إنسية، وتعشق الجنية إنسانًا، لا ينتج عن ذلك زواج، ولا فض بكارة، ولا إنجاب. عشق الجن للإنس وارد، لكنه يظل من طرف واحد، عشق بلا أمل ولا غاية، لا يمكن أن يصبح زواجًا، لأنه لا يمكن أن يُثمر ذرية.

الجن أصلٌ جامع للشيطان والعفريت والمارد المسلم من الجان. تسمية جان جن تعني كلَّ هؤلاء. سُمي الجن لتخفِّيَه وعدم ظهوره.

رجَّح الشيخ مجاهد كريشة أن يكون الجني الذي رآه سويلم أبو العلا من الجن المؤمنين، يدخلون الجنة، ويثابون كما يثاب الإنس.

قال الشيخ عبد الستار إن النوع الإنسي من الإنجاب يحدث في حالة زواج إنسي بجنية، والعكس غير صحيح. خلق الله الآدمي من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار.

تحفَّظ الشيخ رافع عبيد — دون أن يظهر اختلافه — على فتوى الشيخ عبد الستار بعدم جواز العلاقة الجسدية بين الجن والإنس، لاختلاف الجنس. الجن له القدرة على الزواج من الإنس، له القدرة على المضاجعة، وإنجاب البنين.

ذكَّر جلساء دكان جودة هلال بقول الرسول إن أحدَ أبوَي بلقيس كان جنيًّا. أضاف حجازي أيوب قول الجاحظ إن التناكح والتلاقح قد يقع بين الإنس والجن. في القرآن لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ. لو أن الجن لم يكن في فطرته، ولا تكوينه الجسدي، ما يفتض الآدميات، لما قال الله تعالى — في كتابه — هذا القول. وقال الشيخ مدين إنه من الصحيح، والمتاح، مجامعة رجل من الجن، وإنسية من البشر، والعكس صحيح، لا صلة للأمر بما قيل إن الجن من النار، والإنس من الطين. الإنس ليس من الطين حقيقة، والجن ليس من النار بالفعل.

لاحظَ النسوة من الجيران نموَّ كرم بما يختلف عن الأطفال في مثل سنِّه. رأينه يهبط من حضن جدته — في الشهر الثاني — إلى الأرض. رأينه — في الشهر الرابع وما أعقبه — يتأمل ما حوله بالاكتشاف والدهشة، وينطق كلمات يسهل فهمها، وينهض من حبوه دقائق قبل أن تستقيم خطواته في نهاية عامه الأول.

رعت الجدة تطورات أيامه بالرقى والأدعية.

بدا حرصها على ألَّا تقع الأعين عليه، وإن لم تستطع أن تُغلق باب البيت الخارجي على حوش واسع، تُحيط به، وفي الطابقين العلويَّين، حجرات، تسكنها أُسَر لها أطفال كثيرون.

كان حامد عبد الهادي — أبوه الذي يحمل اسمه — فريشًا في حلقة السمك. ما يحصل عليه في المزاد يطرحه على الفرشة. ينتهي يومه إذا انتهى من البيع.

بعد أن شبَّ كرم، ترك له أبوه أمرَ فرشته في الحلقة. يدخل المزاد، ويقف للبيع على الفرشة.

وهب الله كرم قوة تتجاوز قوة البشر، فلا يُخيفه أيُّ شيء، ولا يخشى الموت. قدراته في الجلاء البصري تُتيح له رؤية القوارب الصغيرة في خط الأفق، ومتابعة أسراب الطير في انطلاقها بعيدًا عن الساحل. ينزل البحر — عاريًا — في عز الشتاء، يعوم بسرعة لا يلحقه فيها أحد، يطول غوصه تحت المياه لمسافات طويلة، يدخل مباريات المصارعة، لا يترك الخصم حتى يُلقيَه على الأرض مغموسًا في رمل الشاطئ، يتسلق — كالوطواط — جدران قلعة قايتباي، يَثِق في قدرته على التصدي لكل المخلوقات، حتى تلك التي تُروى عنها الحكايات العجيبة. قوته الجسدية وحسن تصرفه، يكفلان له القيام بما يعدُّ من الخوارق. تعدَّد نقله لصخور الشاطئ — بمفرده — من مواضعها. إذا انغرس قارب في الرمال — وكان كرم قريبًا منه — دفع القارب بيدَيه إلى داخل البحر. يعتز بأنه ركب البحر من رأس التين إلى أبو قير، على جذع شجرة. اكتفى بذراعَيه مجدافَين يدفعان القارب. دخل شبان في منافسات معه. مَن تخذله قوته، يستغيث بالقارب المرافق، للعودة. يتوالى انسحاب المنافسين — يخلو المدى — في كل الجوانب، إلا من كرم حامد، وحده. ينادي على القارب، يطلب العودة.

رُوي أنه أوقف، براحة يده — لإثبات القوة — اندفاعةَ لنش، استقله سامي بهاء الدين. وقف في طريق الاندفاعة، حتى اصطدم اللنش باليد الممدودة. انتتر بهاء الدين من شدة الصدمة، بعيدًا عن القارب الذي علا، ثم انقلب على ظهره.

يدين له غريب أبو النجا بفضل إنقاذ أصغر أبنائه سميح.

تسلل الولد إلى لنش أبيه، في وقفته على مرسى المينا الشرقية. أدار الموتور، فانطلق اللنش في مساحة دائرية. لم يكن الولد يُجيد القيادة. لم يكن يعرف الخطوة التالية لإدارة اللنش. صرخ، وتنبَّه الواقفون على المرسى، وصرخوا. كرم وحده هو الذي قفز في البحر. سبَح بقوة، حتى اعترض اتجاه اللنش في الدائرة. قفز داخله، وأبطأ سيره، حتى أوقفه تمامًا.

ما كاد الولد سميح يطمئن إلى جلسته فوق «البنز»، حتى جذب اللجام. اندفع الحصان بآخر قوته. لم يعرف الولد كيف يتصرف، ماذا يقول، أو يفعل، ليُوقفه؟

لاذ الناسُ بالجدران، وداخل الدكاكين والبيوت، وألقَوا بأنفسهم على رمال الأنفوشي.

كان كرم جالسًا أمام دكان الحاج جودة هلال لحظة اندفاع الحصان ناحية السراي. اندفع وراءه حتى لحقه، قبل أن يدخل الحديقة الواسعة.

أضاف الناس ما حدث إلى أفعال كرم حامد التي لا يقوى عليها سواه.

قالت له علية عشماوي: لو أن البكباشي حمدي درويش حرَّضك على عراك الفتوَّات، لقضيت عليهم بلا معركة!

عرف قوته، وعرفها الفتوات.

حرص الفتوات على تجنُّبه، والدخول في كلام، أو معركة، معه. أهمل صداقتهم، وابتعد الفتوات — من ناحيتهم — عن ملاقاته، والدخول في مواجهات معه. رفض حتى أن يحمل مطواة صغيرة لمواجهة أي هجوم محتمل عليه من صبيان الفتوات.

كان يرى نفسه في سيرة عنترة التي يرويها الشاعر على قهوة الزردوني:

سَلِي يا عبل قومَكِ عن فعالي
ومَن حضر الوقيعة والطِّرادا
وردتُ الحربَ والأبطالُ حولي
تهزُّ أكفُّها السُّمرَ الصِّعادا
وخضتُ بمُهجتي بحرَ المنايا
ونارُ الحرب تتقد اتقادًا
وعدتُ مخضَّبًا بدمِ الأعادي
وكربُ الركضِ قد خضبَ الجَوادا

لم يكن في ملامحه ما يَشِي بانتسابه إلى الجن. هي كملامح البشر، وإن التمعَت عيناه اللوزيتان الواسعتان بوميض، واتسع صدرُه المغطَّى بالشعر، واصطبغَت بشرتُه السمراء بلون نحاسي.

أحاط وسطَه بحزام جلدي، ذي إبزيم فضي.

لم تُحدِّثه جدته، ولا أحدٌ من القريبين، عن قوته الخفية الخارقة، لكنه كان على يقين من هذه القوة، تتملكه، تسيطر على تصرفاته، تُسانده في مواجهة الأخطار، وإن لم يلحظ في نفسه ما يتحدث عنه الناس من اختلاف. حتى قول شوقي أبو سليمان — في لحظة غضب: يا ابن الجن! فسَّره كرم بأنه لفظة إعجاب من رجل في سن أبيه ومكانته.

أهمل مؤاخذة ماهر الصاوي له أنه يتقاعس عن التصدي للفتوات. قوته الجسدية تكفل له ردَّ الشر، لكنه يأخذ جانبًا، لا شأن له بمعارك الفتوات ولا تحرشاتهم، ولا ما يفرضونه على الناس من إتاوات.

قال: إذا عملت بنصيحتك … بماذا سأختلف عن الفتوات؟!

– تمنعهم من الفتونة.

وأطلق ضحكة قصيرة: فأُصبح أنا الفتوة!

قال له عبد الله أبو رواش مداعبًا: أيكما أقوى: أنت أم محمود فياض؟

قال كرم حامد: قوة فياض حققت له بطولة. أنا أحمد الله على رزق البحر!

كان ذا طبيعة صامتة، ولا يميل إلى التواصل. لم يحاول أن يرتبط بصداقات، أو يُنشئ علاقات مع أحد. وكان قليل المشاركة في المناقشات، ويُهمل الكثير من الأسئلة التي تُوجه إليه، أو يكتفي بهزة رأس، أو إيماءة بالعين، أو بكلمات مدغمة.

وعَت طفولته على أب يعرفه. الأب الحقيقي رآه عم سويلم وهو يحتضن المرأة، ويودع كرم أحشاءها.

انتظرَته نعمات — ذات صباح شتوي — في انحناءة الطريق من ميدان أبي العباس إلى الدحديرة خلف الجامع.

أشارت إلى الغلق على الأرض: ساعدني.

رفع الغلق. وضعه على رأسها.

حرصت على التلامس. لفحَت أنفاسها وجهه. همست بلهجة محرضة: لا أحب المعاكسة!

قال كرم وهو ينفض يديه مبتعدًا: لماذا تظنين أني أعاكسك؟!

تحوَّل — بما بلغها عنه — إلى فضول. الأحاديث لا تنتهي عن القوة التي ليست من البشر. الرياح والنوات والأعاصير والرعود والأمطار الهاطلة. تابعَته في شوارع بحري، في جلسته على قهوة الزردوني، داخل حلقة السمك، تُهيئه لركوب البحر. لجأت إلى ما تُتقنه من غمزة العين، وتعبيرات اليد، والكلمات الموحية.

ظل كرم على هدوئه. لم يصدر عنه ردُّ فعل ما، كأنه لا يرى ما يلفت النظر. غاظها إخفاق التصور أنها على معرفة بالرجال. لجأت إلى شحاتة عبد الكريم، فيجعل من أفعال السحر ما يستميل به كرم. طلب الرجل أن تكنس شعرات من أرضية دكان جودة هلال، بعد أن يحلق كرم. يأخذ منها للتعويذة حتى يميل كرم إليها.

ثم صارحها جودة — في نفاد حيلة — أن أفعاله. رغم حرصها على الخير. عجزت عن التمكن من كرم.

عزَّت نعمات نفسها بما استمعت إليه من علية عشماوي، إن الرجل القوي البدن ليس فحلًا بالضرورة، والعكس صحيح.

أشارت — وهي تكتم ضحكتها — إلى الكراديسي. تُدرك أن رواد قهوة الزردوني يعرفون طلوعه — قرب الفجر — إلى شقتها.

إذا هاج البحر — في غير أوقات النوة — وارتفعت الأمواج، فسَّر الناس ما حدث بأن «كرم» يضاجع زوجته. الشقة في الطابق الأول من البيت رقم سبعة، بشارع ابن الصباغ.

أَلِف الناس اهتزازات البيوت، وإن ظلوا على خوفهم من انهيارها: تلاقيه كرم. يعرفون أنه — في تلك اللحظة — يضاجع زوجته.

البيوت في السيالة من طابقين أو ثلاثة، الأسقف خشبية متعددة المستويات، حتى يتماسك المبنى. تُعاني القدم، ونشع الجدران. يسقط البيت. تتداعى البيوت المتلاصقة. تتحول الأنقاض إلى خرابة، تُلقى فيها الزبالة، وتستتر قعدات الحشيش والعلاقات الجنسية. تتحول الخرابة — بتأثير شكاوى البيوت القريبة — إلى أرض خلاء، تُقيم فيها فرق الكرة مبارياتها.

المسافة قريبة من شاطئ البحر، بعيدة من أفقه البعيد. تلاحُم تأوهات كرم بصراخ المرأة يصل إلى شاطئ البحر. ربما امتد إلى الداخل. يتحرك البحر الحصيرة، تستيقظ الأمواج من غفوتها، تثور، تتلاعب بالبلانسات والقوارب، تعلو، ويتوالى المد والجزر بما يُدرك أهل بحري معناه، لتوالي حدوثه وتوقيته.

شهقَت سيسبان بعدم تصديق: من المستحيل تصور أن المرأة التي يخترقها زلزال كرم من جنس البشر.

التقَت به في زحام شارع الميدان.

قالت وهي تُربت صدره: خذ امرأتك إلى بعيد، حتى لا تنهدَّ البيوت فوق رءوسنا!

رمقها كرم بنظرة استياء، وواصل سيره.

لم تكن المرأة تشكو لحظات مراجعة كرم لها. لم تكن تتحدث عمَّا يجري في حجرة نومها من أصله، ولا تدلق الماء أمام البيت — صباح المضاجعة — للتباهي. علَّمها كرم أن أسرار الليل هي ملك لليل وحده، وملكهما. من العيب أن يعرف بها ثالث.

كسَت الحمرة وجه المرأة، وظلت ساكنة، حين سألَتها علية عشماوي: كل بحري يشعر بما يحدث … هل تتحملين الرجل؟!

اجتذبَته ملامح صفاء بنت بائعة الخضر في تقاطع رأس التين والميدان. كأنها تنتمي إلى دنيا أخرى، غير الدنيا التي تتحرك من حولها.

أشاحَت المرأة بيدها: مَن يقوى عليك؟!

لم يناقش المرأة، ولا حاول إقناعها، أو استمالةَ الفتاة. مضى ناحية المينا الشرقية.

رآها جالسةً على الكورنيش الحجري، تتأمل جذب الجرافة. اختارت موضعًا يبتعد عن لمة الواقفين لمشاهدة عملية الصيد، منذ إلقاء الشباك، وانطلاق البلانس بها في دائرة داخل البحر، وسحب الجرافة بما حملَته من صيد إلى مساحة الرمال الصغيرة، أسفل مصدات الأسمنت.

رنا إلى ملامحها الساكنة: تركَت شعرها منسدلًا، فتطاير على عنقها وكتفَيها. لها عينان واسعتان، صريحتان، وبشرة موردة، وأنف أقنى صغير. لم يؤثر الزَّغَب الناعم على صفاء بشرتها. أضافت الغمازتان إلى عذوبة ملامحها. ترتدي جلبابًا قطنيًّا بلون السماء، عليه نقوش كثيرة لزهور متعددة الألوان.

احتواه قبولها.

قال: تعالَي!

مضى، بتوقُّع أنها ستتبعه. لم يسأل عن اسمها، ولا ماذا تعمل، ولا لماذا هي في جلستها المنفردة على الكورنيش؟

سارت وراءه بالفعل.

اتجه إلى الناحية المقابلة. مال من شارع التتويج إلى ميدان أبي العباس.

جلسا على الدكة الخشبية، داخل كشك مأذون شياخة السيالة. الستارة القماش تبين عن خلو الميدان ساعة القيلولة. أشعة الشمس دارَت فوق الجدران. اتجهت إلى الناحية المقابلة. النسمات تأتي من ناحية البحر هادئة، تبقى على حصيرة الموج، تلسع أوراق النخيل، فتصدر عنها أصواتٌ كالوسوسة. تسبح في الجو روائحُ البخور والمعسل والتمباك، وثمة متصوفة ومتسولون تمددوا لصق جدار أبي العباس، وحنطور — أوسط الميدان — دسَّ حصانه خطمه في مخلاة العلف. يُعمق السكونَ صرخةُ طائر تتناهى من موضع قريب.

قال كرم دون أن يلتفت ناحية الفتاة: أريد أن تُزوجنا.

قال المأذون: والشهود؟

في نفاد حيلة: تصرَّف.

لم تكن من بحري، ولا رآها أحد من أبناء السيالة، قبل أن يخترق بها كرم الشوارع الضيقة، المتشابكة، ويدفع باب البيت رقم ٨ بشارع سيدي نصر الدين.

تعددت الروايات حول أصل الزوجة. تهامست بالتخمينات، وإن لم يبلغ الأمر حد الجهارة.

روى شحاتة عبد الكريم أنه شاهد كرم وزوجته في صحراء المتراس — قبل أشهر من زواجهما — يحملان أكياسًا وحقائب جلدية. وقال جودة هلال إن أول تعرف كرم إلى زوجته لما اجتذبته دعواتها، وهي تطوف حول مقام السلطان. وقال غريب أبو النجا إن كرم سافر إلى مدينة قريبة — لعلها رشيد — بمفرده. لم يتكلم عن وجهته، ثم عاد تتبعه المرأة. صحبها إلى مأذون السيالة، التماسًا لبركة السلطان، ثم صحبته إلى البيت. وقالت علية عشماوي إن المرأة بلا أصل ولا فصل، وإن كرم استهواه جمالها. عقد عليها دون أن يدفع مهرًا ولا صداقًا. وقال عمران الخولي إنه من الأصوب سؤال الشيخ حماد الغزالي مأذون أبي العباس، عمَّا إذا كان قد عقد على كرم والمرأة، أم أنه يعاشرها في الحرام. وقالت سيسبان: إن المرأة ليست إنسية، لكنها تنتسب إلى دنيا الجان، فلا يستطيع كرم الزواج إلا منها.

اكتفى الناس بما قاله كرم لأبيه، ونقله أبوه عنه: هذه زوجتي.

تعددت عمليات الصيد بالديناميت. طفت الأسماك الميتة بالألوف، فوق مياه المينا الشرقية. قلَّت أعداد السمك، انقرضت منه أنواع كثيرة.

ألقى الصيادون الجرافات والطراحات. طالت قعداتهم — في انتظار جذبة السنارة — على المصدات الأسمنتية. كأن البحر قد خلا من الأسماك تمامًا. ليس إلا الأعشاب والطحالب والأوساخ.

استعاد الصيادون تحذيرات المعلم غريب أبي النجا من خطورة وسائل الصيد الحديثة: السم والألغام والغزل الضيق الشِّباك. غاب المثل: احييني النهاردة وموتني بكره. لماذا لا نحيا أوقات الحياة، ونموت عندما يأتي أوان الموت؟

غادر كرم البيت قبل أن يؤذن للفجر، اللحظات التي تعمق فيها ظلمة الليل. تلمس طريقه على المكعبات الحجرية، حتى لامست قدماه الماء. خاض في الموج الساكن. غطَّت المياه جسدَه إلى قرب صدره.

شلَّح جلبابه، وأحاطت راحتُه بقضيبه. رافقت الفعل تأوهات مكتومة، فلا تلفت الانتباه. حتى الأمواج تظل في سكونها، وتصمت طيور البحر عن صراخها. يثق أن ما تحققه الرجفة سيعيد الأسماك إلى مياه المينا الشرقية.

•••

تكررت حوادث تحطيم المارد — في مدخل البوغاز — للبلانسات الكبيرة، وابتلاعه الدناجل واللنشات واللواتس والفلوكات والصيادين. نزل كرم حامد من البلانس «أنيس الجليس» بالقرب من موضع المارد. توالى غوصه في البحر بقدرة — لا يمتلكها سواه — على البقاء داخل الأمواج.

حين رأى كرم المارد مشغولًا بقضم لنش تساقط ركابه في قلب البحر. سبح ناحيته دون أن يُحدث صوتًا.

لم يشغله الشعر الكثيف حول ساقه، ولا ارتفاع الساق بعلو مئذنة. ضغط بكل أسنانه، بآخر ما في أسنانه من قوة، حتى اقتطع من لحم ساق المارد ما تعثَّر به في وقفته، وسقط. لحقه الرجال بلنشاتهم الصغيرة، السريعة. ألقوا بشعلات النيران في فم المارد المفتوح على الصراخ. سرت النيران في جوف المارد، تصاعدت من جوفه، وغطَّت جسده، حتى تفحم تمامًا.

وضعت عروس البحر عينها على كرم حامد.

تكررت محاولاتها لاجتذابه. لجأت إلى ما تعرفه من حيل. اخترعت حيلًا جديدة. حتى خيط الدم المتسرب من جسدها، تركته في موضعه على الصخرة. يراه كرم، فيدرك الأذى الذي لحق بمن أحبته، وكانت تملك أذيته.

لما عانت اليأس من أن تُخضع كرم لإرادتها، وتنزل به إلى دنياها، أثارت الأمواج كما لم يحدث من قبل. جاوز الأمرُ حدَّ العاصفة. علَت الأمواج كالجبال. بدا كرم حامد في فلوكة الطرَّاحة خارج البوغاز بلا حول.

فطنت جنِّية البحر إلى أن كرم أفلت — بإشفاقها عليه — في المرات السابقة. لم يرتفع صوتها بأغنيات الجذب والغواية، ولا سلَّطت نظراتها عليه بما يشلُّ إرادته، ولا أحكمت قرصة البحر بما يجعله كالمريد بين يدَي قطبه، كالميت بين يدَي غاسله.

شدَّت الأغنيات الداعية، وأجادت رمقه بنظراتها، وزادت من القرصة، بحيث سرى الخدر في جسده. بدا كالمنوم في هبوطه — وراءها — إلى الأعماق السحرية، لا يتلفت، ولا يسأل، ولا يُبدي مشاعر من أي نوع.

عاد إلى نفسه، في دنيا أخرى لم يكن شاهدها.

ما حدث يتكرر في الإسكندرية. النوة تختلف عما اعتاده الناس من نوات، لها مواعيدها، ويعرفون تأثيراتها.

سمِّيت نوة الكرم. تأتي في موعد اختفاء كرم حامد.

يثق المعلم بدوي الحريري أن النوة من فعل كرم حامد. لا شأن لها بجنية البحر. لم يصرفه العز الذي يحياه في الأعماق، عن الحنين إلى بحري. تعكس الأمواج تأثيرات مشابهة لما كان يحدث — في ليالٍ يتذكرونها — قبل أن يختفيَ كرم.

•••

انظر: جني البحر، بدوي الحريري، رافع عبيد، سيسبان، شحاتة عبد الكريم، عبد الستار، عروس البحر، علية عشماوي، غريب أبو النجا، المارد، نعمات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤